رسائل الأدباء تسع رسائل بين الأديبين عاشور الطويبي وسالم العوكلي

تروندهايم 24 سبتمبر 2017:

أمس بدأت في كتابة رسالة جديدة ثم توقفت. كتبت عن علامات وخصائص الأديب الأصيل. لم أستطع الاستمرار لأني اكتشفت أني لا أعرف الإجابة تماما وأن المسألة تسكن في البيت الرمادي

ثم صباح اليوم، بدى لي أن الكون جاء كنتيجة لفقدان عظيم وأن هذا الفقد له وجه فارغ، نحاول تعبئته لنتعرف عليه فنراه رأي العين.

كم حارقة وأليمة الأسئلة الوجودية
السديم انتهى من رفع المطر من على الأرض

the mist has long since
lifted the rain from the ground,
the fish in the pond
have grown limbs
and the nereids
have decided
to remain non-human.
opening up to the sea
and fearing the worst.

عاشور



*****



كارسا 25 سبتمير 2017:

مصطلح الأدب في حد ذاته بدأ يربكني، ما بالك بوصف الأصيل، وصرت أميل لوضع كل نشاط جمالي تحت تسمية الفن. لا أعرف من أين جاء هذا المصطلح لكن له وقع عتيق وساحر.

الفن إذا كان لا بدّ من وصفه بالأصيل فهو إتقان ما نفعل برؤية جمالية. الفنان قد يكون رسّاما أو شاعرا أو موسيقيا أو نجّارا أو سائق سيارة أو ممارس حب، أو صوفيا، أو حتى لصّا يده رشيقة.

ما هي الأسئلة الوجودية، لم نتفق عليها بعد. إنها أسئلة تقبع بين جرعة لقاح ضد الوباء وبين محاولة انتحار فيما بعد. في هذه المسافة يبحث الكائن الإنساني عن موضع قدمه، أو بالأحرى عن موضع سؤاله.

نجابه الموت بشراسة، نستسلم له بسكينة

وبالنظرة نفسها نحدّق إلى باقة زهر تنتظر عيد ميلاد

وباقة زهر تنتظر حفل تأبين

بالزهر نفسه نزين موكب عرس صاخبا

أو نزين قبرا صامتا في خلوته

وما يجمع الحالتين الإحساس بأن الجمال المتمثل في باقة زهر حري بالفرح وبالحزن، بالميلاد وبالموت، بالسرير وبالنعش.

حين كتبت قصيدة “سرير على حافة المأتم” كانت بإلهام تجربة وضعتني مبكرا في مواجهة سؤال وجودي سافر.

تلك الشهوة الجارفة التي عشتها أنا وعشيقتي القروية حين التقينا في حظيرة فوق القش بجانب مأتم في ذروته، كان عويل النساء وبكاؤهن الصادح يشكّل خلفية تلك الشهوة المجنونة التي لم أعهدها في لقاءات سابقة.

قرأت بعدها الشاعر الإنجليزي دي إتش لورنس وتلامست مع سؤاله الجوهري، أو بالأحرى محاولة الإجابة عن سؤاله الوجودي: مقارعة الموت بالجنس.. ذلك الإيقاع الحركي الأخّاذ الذي يملأ الكون كله، من الكائنات التي تعلق بفراغات أحذيتنا إلى الإنسان بكل نرجسيته، وذهبت فيما بعد إلى تقصّي هذا الإيقاع المضاد لفكرة الموت في كتاب بنات الغابة.

شاهدت فيلم “عشيق السيدة شاترلي” أكثر من عشر مرات ثم قرأت الرواية ل دي إتش لورنس، علاقة عاطفية محمومة كانت تمارس على تبن الإسطبل بين رجل من الطبقة العاملة وسيدة من الطبقة العليا، جمال الجسد الكادح كان سيّد الدراما و”يقال إن القصّة قد استوحاها لورنس من أحداث حياته الخاصة التعيسة، واستلهم موقع أحداث الكتاب من منطقة إيستوود في نوتينجهام، حيث نشأ وترعرع. وكما يرى بعض النقاد، فإن لورنس استلهم القصة أيضا من علاقة السيدة أوتولاين موريل مع عشيقها تايغر، وهو بنّاء شاب أتى لينحت قاعدة حجرية في حديقة تماثيلها. فكّر لورانس أن يسمى الرواية “حنان” وقام بتعديلات كبيرة في النص والقصة في عملية تكوينها.

حين أفكّر أني نتاج جانبي لرعشة جنسية لم أكن أنا المقصود بها أبدا أحسّ بخفّة العبث وفي الوقت نفسه بالجوهر الفني للوجود.

كل شخص يمر بجانبي هو رعشة غابرة تحولت إلى كائن يمشي في الأرض مرحا وكأن الرعشة مازالت في خلاياه، رعشة قد تأتي بمتسول يقضي يومه الكامل على الرصيف أو بملك أو طاغية يفتك بالملايين، قد تأتي بعازف موسيقى أو بصانع مقصلة.

أنا الآن متورط في الحياة وبالتالي متورط في الموت. نولد نبكي والآخرون حولنا يضحكون، ونموت والآخرون حولنا يبكون لذلك من المنطقي أن نموت ضاحكين.

فكرة العبث مضحكة، فكرة أن يكون هذا الكائن النرجسي المختال الفخور ناتج جانبي عن مطاردة لذة في خلوة، وأن يكون توقف عضلة هزيلة للقلب أو انحشار حبّة لوز في الحلق كاف لكي يرحل إلى الأبد.

المسافة بين هاتين المصادفتين هو ما نسميه الحياة، وهي التي نحاول أن نجعل لها معنى، والفن سبيل لجعل معنى لهذا السفر.

أصحو في الوقت الذي أكون فيه قد اكتفيت من النوم، وفي تلك اللحظة أعتبر أن الحياة كلها مختزلة في فنجان قهوة ولفافة تبغ، لا أفكّر في أي شيء آخر. ويمضي اليوم مليئا بعبث ساحر كله يحيل إلى مقومات الحياة، أنخرط في جمهور يبحث عن رغيف خبز، يشتمون الحياة ويخطّطون لمستقبل طويل، أسرح وسط طابور من الرعشات الجنسية التي حدثت في قلب ظلام أو في ظلام مطعون بضوء خافت.

يا للسيرة التافهة الساحرة. بويضة تختار أن تعبر قناة مجهرية صغيرة، في مكان آخر حيوان منوي يسبح وسط ملايين الحيوانات، تتأجج الشهوة وتتحرك في الجسدين آلاف الرسائل الكيميائية والهرمونات، يبدأ عناق (يحتاج المشهد إلى موسيقى خاصة) في ذروة العناق ينطلق ذلك الحيوان المنوي في ماراثون هائل ويصل، يخترق البويضة المنتظرة، يحدث انفجار نووي مجهري صغير والناتج (سالم العوكلي) أو عاشور الطويبي، يتجادلان بقلق حول الأدب والأسئلة الوجودية.

ما أجمل الحياة حين تكون الحياة برمتها مفارقة.

أنجبتني أمّي وحدها في دقائق معدودة، ووحدها قطعت حبلي السري وسلمتني لأكسجين الحياة. حين مكثت مرّة ساعات طويلة أنتظر أمام الشباك المزدحم للسجل المدني حتى أحصل على شهادة ميلادي ضحكت كثيرا، وكتبت يوما:

كان يكفيه خمس دقائق
ليولد على يد القابلة
وخمسة أيام
على درج السجل المدني
ليحصل على شهادة ميلاده.
وأدركت وقتها أن لا معنى للأسئلة الوجودية. المعنى الوحيد هي لرحلتنا الأرضية مع الأكسجين، ومحاولة ضبط نبضات القلب مع هذا الإيقاع الهائل للكون.

إذن الفن هو رسالتنا الوحيدة الممكنة تجاه الوجود، وأقول هذا؛ لأن لا كائن فوق الأرض لا علاقة له بالفن، من تلك الحشرات المضيئة فوق أعشاب الربيع إلى ذلك الضوء الخافت المتسرب من ملايين نوافذ غرف النوم في مدن العالم. من راع وحيد يعزف على مزمار في واد قصي إلى فرقة أوركسترا باذخة تعزف موزار في أحد مسارح أوروبا.

سالم


*****


تروندهايم 25 سبتمبر 2017:

مجهد كأنّي عبرت دهان مرزق!

*

أيّ طريق هذا الذي لم نره

يسلكه الناس وتسلكه الوحشة والأمل

نمضي إليه وهو وراءنا

نتوقف لنستريح فيلسعنا على ظهورنا بسوطه

ليس طريق بداية

بل طريق آخرة وانقطاع أنفاس.

يا لجمال رسالتك يا سالم، لقد أدخلت البهجة إلى قلبي! نعم لنطح بكلمة الأدب والأديب بعيدا، ونضع مكانهما الفن والفنان. يمكنني القول: إنّ الحديث عن الحزن يُحزن، والحديث عن الفرح يُفرح. الصمت فاه يتلقّف كليهما. أعجبني تسمية: كرسة هايم. هايم في اللغة النرويجية تعني: وطن. فلا شك لديّ رغم اعتقادي أنك ربما لا تشدّك الأمكنة بحنينها وصبواتها، أنّ كرسة وطنك الصغير، الذي تبحث فيه في صباحات الجراح عن خبز للأولاد وتتبادل الأحاديث مع نفسك المنهكة ومع نفوس الناس المنهكة أيضا. أنا كذلك لا أتشبث بالأمكنة، وإنما بشعرية الأمكنة، بفنّ المكان.

إليك يا صديقي هذه القصائد للشاعر غارثيا لوركا وهي ترشح بالفن والعذوبة والجمال. من ترجمتي:

النير

أرغب في العودة إلى الطفولة

ومن الطفولة إلى الظِلّ.

ذاهبٌ أنت أيضًا يا عندليبُ؟

امضِ!



أرغب في العودة إلى الظِلّ

ومن الظلّ إلى الزهرة.

ذاهبٌ أنت أيضاً يا عطرُ؟

امضِ!



أرغب في العودة إلى الزهرة

ومن الزهرة

إلى قلبي

ذاهبٌ أنت أيضاً يا حبُّ؟

وداعاً

قلبي العاري.



*

العودة

أعودُ

من أجل جناحيّ.

دعني أعودُ!

أريدُ الموتَ

آن يكون فجرا!

أريدُ الموتَ

آن يكون أمسا!

أعودُ

من أجل جناحيّ.

دعني أعودُ!

أريدُ الموتَ

آن يكون بدءا.

أريدُ الموتَ

بعيداً عن عيني البحر.



*

براحٌ تنقصه أغنية

سماءٌ زرقاء.

حقلٌ أصفر.

هضبةٌ زرقاء.

حقلٌ أصفر.

في البرية الجرداء الشاسعة

شجرةُ زيتونٍ واحدة

هائمة.

شجرةٌ واحدة.

*



أغنية مقفلة

ناموسٌ

فوق النهر.

طيورٌ

فوق الهواء. المتدفّق

(مساءٌ سابحٌ.)

يا هذي الزلزلة

في قلبي!

لا تخافي،

سأذهب بعيداً

كصدى.

سأذهب بعيداً

في زورقٍ

بلا شراعٍ

ولا مجداف.

يا هذي الزلزلة

في قلبي!

عاشور

*****



كارسا 26 سبتمبر 2017:

لوركا.. ذاك الفتى الغرناطي الذي تشي عيناه وشعره الأسود بأجداد قطعوا آلاف الأميال بحثا عن الجنة.. تأخر في النطق وتأخر في المشي، فجعلته عدم قدرته على اللعب مع الأطفال سيد الخيال والأحاسيس، كانت لعبته الوحيدة الخيال حتى أوصلته هذه اللعبة إلى حتفه. تأخر في المشي لكنه مشى إلى حتفه كملك ذاهب إلى كرسي التتويج.

أيّ شيطان في العالم يمكنه أن يقدم على إعدام هذا الكائن الذي من الممكن أن يخدشه النسيم، والذي وحده قادر على أن يرى شجرة “تفك ضفائر النسيم من الندى”.

أقرأ الآن رواية “قلم النجار” للروائي الأسباني، مانويل ريفاس، التي ترصد فترة إعدام السجناء المثقفين والفنانين على شاطئ البحر، لذلك كانوا يسمون اقتياد السجين إلى حتفه “التنزيه”، وكان أن مضى لوركا إلى نزهته ولم يعد أبدا، وربما في الطريق المعتم قال:

“يا هذي الزلزلة

في قلبي!

لا تخافي،

سأذهب بعيداً

كصدى”

الجلاد المطيع للآلهة، الذي لم ير يوما ضفائر النسيم، ولا ظل شجرة سرو في الريح، ولا شجرة زيتون هائمة، كان يقود الفتى الغرناطي، الشاعر، الرسام، عازف البيانو، المؤلف الموسيقي، الكاتب المسرحي، غارثيا لوركا، مثلما يقود بهيمة إلى المذبح، ولم يكن يعرف أنه يقود قلب إسبانيا وروح العالم:

دعني أعودُ

أريدُ الموتَ

آن يكون بدء.

أريدُ الموتَ

بعيداً عن عيني البحر

لكن الجلاد خلق بأذنين لا تسمع الشعر ولا الموسيقى، أذنان لا تسمعان إلا الأوامر وصوت الرصاص.

قلم النجار في الرواية كان يستخدمه الرسام في زنزانته لرسم الألم على وجوه رفاقه، مثلما استخدمه يوما لرسم النساء اللائي يغسلن الملابس على ضفة النهر.

وحين أطلق السجان الرصاص على الرسام على شاطئ البحر أخذ قلم النجار الذي سقط منه ووضعه فوق أذنه، وأصبح هذا القلم طوال الرواية يهمس للسجان ما لم يقله له الرسام، وكان يحدثه عن غاسلات الملابس الرسامات ذواتي الأيدي الوردية مثل أيدي الأطفال التي نزع الفرك والدلك سنوات عن جلودها وأكلت أحماض الصودا أظافرها.

“أذرعهن هي أذرع رياش الرسم، لها لون خشب أشجار جار الماء، لأنهن يتشكّلن أيضا جوار النهر. عندما يعصرن الثياب المبللة، تتوتر أذرعهن مثل جذور الضفة. الجبل مثل لوحة. امعِن النظر. إنهن يرسمن فوق شجيرات الجولق والعليق. الأشواك هي أفضل ملاقط للغسيل. هاهي هناك. لطخة طويلة من ملاءة بيضاء. وضربتين من جوربين أحمرين. والرعشة الخفيفة لألبسة داخلية. كل قطعة من الملابس، منشورة لتجف، تروي قصة”

وطوال الوقت كان قلم النجار يعذب الجلاد بالحديث عن الجمال.

وخطورة هذا الكائن الشفاف مثل النسيم، لوركا، أنه كان يعذّب فرانكو بالجمال، بالشعر، بالخيال..

ولم يكن لوركا وحده، لكنه جزء من جوقة تصدح بالشعر، وجزء من غسالات يرسمن بالملابس لوحاتهن المرتجلة على ضفة النهر، وجزء من آلاف الأصابع التي تعزف قرب (عرس الدم).

كل هذا يجعلني أبذل قصارى جهدي لأحمي نفسي من التبرم واليأس، ويجعلني مكتظا بالأمل وبجدوى الشعر، بجدوى الفن، الذي نمارسه في خلواتنا، لكننا معا نعزف أوركسترا صادحة تعذب أعداء الجمال.

“في فجر قرن آخر جديد، كتب صامويل كولريدج إلى صديقه وليم ووردزورث، قبل مائتي عام، في 1799، يقترح عليه أن ينهض لمقاومة حالة التبرم والنزعة السلبية السائدة: “أريد منك أن تكتب قصيدة من الشعر المرسل موجهة لهؤلاء الذين تخلوا، نتيجة الإخفاق الكامل للثورة الفرنسية، عن أي أمل في حياة جديدة ….”.

حين لاحظت تبرم ونزعة الكثير من أصدقائنا الشعراء السلبية، نشرت هذا المقطع (الذي قرأته في كتاب “نهاية اليوتوبيا” لراسل جاكوبي على صفحتي، وأضفت له هذا الدعاء:

أصدقائي الشعراء لا تدعوا هذا الإخفاق يسلبكم الحلم والمخيلة، اكتبوا شعرا عن الإخفاق وحتى عن اليأس، ستكتشفون أن ثمة ضوءاً سرياً يلمع فوق المجازات الداكنة، لا تفرطوا فيه وحدقوا جيدا في ذلك العشب العنيد الذي يبزغ من صدوع الصخر كخصلة شعر طائشة على جبين طفلة.

سالم



*****

كارسا 13 أكتوبر 2017:

أعتذر عزيزي عاشور على التأخير فالأيام الأخيرة مزعجة بشكل لا يحمد مكروهها ولا حتى مُحبذها. فيروز التي هي فاكهة البيت ونبيذه محاصرة منذ أسابيع في درنة ما يجعلني متوترا معظم الوقت وتائها.

أقرأ ما تبعثه لي من نصوص بمزيد من الغبطة والحيرة والامتنان لهذه القدرة على الكتابة بغزارة دون التفريط في الكيف والتنويع. لفت نظري تقنية الحوار في العديد من نصوصك وتعدد الأصوات داخلها، وكأن الوحدة تستدعي هذه الأشباح الحميمة التي تتبادل الكلام داخل القصيدة. تقنية الحوار في القصيدة ليست سهلة.

وفن التكرار الذي يصعد بالرؤية على درج حلزوني من أجل الاقتراب مرارا من أوضح زاوية للمشهد ومن ثم الرؤية، ليس سهلا أيضا.

كل نصوصك تحمل رسائل وأية رسائل، إنها موجهة للعالم ولأزمنة عدة حتى وإن كانت حول شجرة نخيل معزولة في الصحراء، أو أريكة بجوار شجرة التين، أو حائك أردية ملونة في عتمة دكان صغير.

لكني مازلت في مرحلة الانبهار بهذه النصوص الساخنة التي تأتي من قلب الجليد وكأني أرى بخار الثلج يتصاعد من مجازاتها.

“باب البحر، باب الريح” يا للروعة يا عاشور. لن أقول أكثر من ذلك.

لا تليق بمثل هذا الشعر سوى شهقة مدوية يعقبها ظل غيرة يلمع في العينين.

ستحل طرابلس كعشيقة قديمة مكان سفولبار النرويجية كزوجة غيورة يحدثها زوجها عن جمال سائحة قابلها في مقهى مظل على سرب من الضباب. سترميها من فوق سريرك وسيسري عطرها الشرقي في المكان دون أن تدري. كأي معشوقة عاشقة غيورة حد الأنانية لا يمكن لطرابلس إلا أن ترمي بإطار صورة المدينة الغريبة من فوق جدار قلبك وتعلق صورتها، إنه سحر المكان حين يكون في ذاكرة القلب وليس ذاكرة الوعي.

في قصيدتي “مكان” اقترح:

ترك المهاجر

ساعته على الحائط

حدق من بعيد

في شجرة الخروب الوحيدة

تنشق رائحة مربط الفرس

ومضى

****

من أجل توطيد المكان

نقيم طقوسنا في الغربة

وكالحلزون الرخو

نحمل بيوتنا فوق أكتافنا

***

زفاف للحنين

تلك الجثامين التي

تعود في الطائرات

إلى قراها البعيدة

***

الكوخ المهجور في سفح الجبل الحجري

يفرك كل صبح نوافذه الناعسة

يحدق في العشب

الذي غطى الطريق الوحيدة إليه

حتى يبتلعه الليل

بهدوء

قد نتخلص من عاداتنا أو نتخلص من أعضاء من أجسادنا وقد نتخلص حتى من أسمائنا القديمة، لكن المكان الذي تطورت فيه كيمياء هرموناتنا وعايش نمو أحلامنا لا يمكن التخلص منه. ويظل المنجم الدائم الذي نستخرج منه فحم قصائدنا.

أقرأ قصائدك فأعثر على تلك الومضات التي تدخل قصيدتك مثلما ما يدخل مكان غابر أحلامنا أثناء النوم، نحلم بوقائع راهنة لكنها تحدث في أول بيت سكناه. وهذا التلاعب الحلمي بالمكان والزمان يظهر في قصائدك بوضوح، وكأن رائحة بخور تجتاحك وأنت على مقعد في بار عتيق يتراكم الثلج على زجاج نوافذه.

كلما استسلمت لهدهدة نصك وأخذتني نشوة تشبه السِّنَة التي ترافق حكايات جداتنا، يوقظني جرس قوي لأستعيد انتباهي، هذا الجرس يتمثل في تلك الأسئلة الحارة التي تظهر فجأة في قلب نص كان يوحي وكأن الأشياء والمعاني بدأت في متناوله. أسئلة من قبيل:

“كم تحمل هذه البلدة من أيدي؟!”

أو

مزلاج الباب. من أقفله؟

أو

كيف إذن أتخفّفُ من شجاي؟

كيف أدوّر بين نفسي وكأسي أغنيتي الوحيدة؟

كيف لي ولهم طيّ موج بحرها على نهار كئيب؟

أسئلة وأسئلة تلوي عنق النص ليلتفت إلى مجاز عابر لم يمكث عنده أو يتشربه، وكأن السؤال قرصة أذن لقصيدة تقفز فوق مفردة أو معنى وهي تتلو كتاب الروح.

كتبت منذ يومين هذا النص:

الحب علبة ألوان

وللكراهية لون واحد

لم أكره بما يكفي لتوسل المغفرة

وعزفت مائة لحن على سلم الحب

بيادر القمح أخبرتني يوما أن ليس كل القمح حنطيا

سافرت حينها كثيرا بين بياض الثلج،

وذاك البياض الحائر يسيل من أجناب الرحى

على حوافه هالة زرقاء من أغاني أمي

رأيت في منامي زهراً أبيض ينمو على خصلات شعرها

وابتسامةً بيضاء بيضاء بين فكي الرحى.

في الإسكيمو يميزون أربعين لونا للبياض

في الصحراء يميزون مائة لون للرمال.

الطفل وحده يفهم أسرار الطيف

فيلون شعر البنت ورديا

والبحر أحمر

والسماء صفراء كعاصفة رملية

ارتبكَ الطفل فقط..

حين قالوا له لوّنْ الحب

فغطس فرشاته في الماء

وارتبك حين قالوا له لوّن الكراهية

فحدق في السماء.

*

شكرا لك صديقي عاشور لأنك تعيدني إلى الشعر.

سالم



****

تروندهايم 16 أكتوبر 2017:

أوّل مرّة أزور معرض فرانكفورت للكتاب. مشيت لين طاحوا رجليّا. عالم يفيض بالكتب والناشرين والكتاب ومصممي الكتب. أين نحن؟ بل مَن نحن؟! أجنحة كثيرة مخصّصة لكتاب الطفل.

كنتُ محظوظا في زيارتي فقد اتفقت على إقامة معرض للوحاتي العام المقبل في برلين. وأنا مشغول بهذا الأمر. كذلك تحصّلت على نسخة ورقية من كتاب: الترفّق في العطر للكِندي. كيف واتته الفكرة ليختار هذا العنوان: الترفّق في العطر بدلا من: الترفّق بالعطر؟! فالترفّق فيه وصفة له.

لدي بعض الأفكار لقصائد مستوحاة من هذا الترفق الجميل. الحادثة العجيبة في الرحلة: رحلة الطائرة من أوسلو إلى فرانكفورت كان من المفترض لها أن تقوم الساعة 12:25، لكننا بقينا داخل الطائرة وهي متوقفة في مطار أوسلو لمدة ساعتين ونصف ثم أعلن قائد الطائرة أن هناك خللا بالكومبيوتر ولا يستطيع السفر بهذه الطائرة. ربك سلّم يا سالم!

اليوم ترجمت لك قصيدة لشاعر كوري جنوبي يحبه الكوريون، عن السمكة العوراء. والحكاية تقول إن هناك من الأسماك سمك بعين واحدة، مما يضطر إلى العيش ملتصقا ببعضه طوال حياته كي تحصل كل سمكة على عينين.

One Eyed Fish’ Love

Ryu Shiva, 1958-



أرغبُ في العيش كالسمكة العوراء.

أرغبُ في العيش كالسمكة العوراء.

السمكات العوراء، Bi-Mok،

تلتصق ببعضها طوال حياتها

تحيا كسمكات ذوات العينين

أرغبُ أن أحبّ مثلها.



لدينا ما يكفي من الوقت. غير أننا في ذلك الوقت لا نحب بعضنا.

أرغبُ في العيش كالسمكة العوراء.

عندما تكون وحيدة،

الوحدة تكون بيّنة.

السمكة العوراء، Bi-Mok.

أرغبُ أن أحبّ مثلها

من أجل حياتي.



Ryu Shiva اسم كتابه وليس اسمه الحقيقي.

يا لجمال الشعر يا لجمال الإنسان يا لجمال السمك بعين واحدة وبعينين!

وأقتطف لك وصفة من وصفات الكِندي من كتابه: الترفّق في العطر:

“عود لا ينكر

تأخذ من الصندل مَنا أو أقلّ أو كثر وتَبره على بُراية العود سَواء وتنقعه في خمر عتيق أو نبيذ جيّد أو مطبوخ وتتركه أربعين يوما تبدّل له ذلك كلّ عشرة أيّام ويكون ذلك في غناء زجاج أو حجارة ثم تنظر إليه بعد ذلك فإنّكَ تجدُه قد أسودّ وصار في مثال العود الأسود. فطرّه كما يُطرّى العود على أيّ نحو أردتَ من التطْرية والعمل.”

يقول: عود لا ينكر، ويقصّه لا تنكره لأنه ينقع في الخمر. أيّ أريحية هذه وأي جمال!

طبعا لا ننس أنه صاحب كتب كثيرة في نظرية الموسيقى وأنه يرى أن الموسيقى إيقاع.

الكندي اسمه: يعقوب بن إسحاق! لم يكن أعرابيا مثل أعراب السياسة الليبية الذين يحتاجون إلى مائة سوط في اليوم. صارت رسائلك يا سالم شيئا ينعش روحي فلا تبخل عليّ.

عاشور



*****



كارسا 20 أكتوبر 2017:

أولا، الحمد لله على سلامتك، عن هذه الحادثة المواسية لكل ليبي ينزعج من تأخير الطائرات المستمر لدينا، خصوصا وهي تحدث في أكثر بقاع العالم سعادة. الطائرات تعطل حتى في مطار أوسلو وليس مطار لبرق أو معيتيقة فقط. ويظل الفارق كله في كون الطائرة عندنا تعطل في دولة عاطلة يديرها عاطلون وهو في العموم فارق زمني قد نتجاوزه يوما أو قرنا أو دهرا ما.

العالم يركض أمامنا بمسافات شاسعة لدرجة أننا ما عدنا نرى سوى غباره في المدى البعيد، الشيء الوحيد الذي ننافسه فيه هو الشعر، وهذه مفارقة تتعلق بالوجدان أكثر منها بالعقل. في الفن أحسّ أن دول العالم كلها بعين واحدة مثل أسماك الشاعر الكوري الجميل. وإلا ما الذي يجعل مؤرخا للرواية الأوربية مثل كونديرا ينتفض كحصان مقرور حين يطلع على الرواية في أمريكا اللاتينية وفي وآسيا وأفريقيا، ويندم على ما فاته لعقود كثيرة رأى فيها أن أوروبا هي مركز الرواية.

أقرأ قصائدك بغبطة لأنها من القصائد التي تجعلنا نركض بجانب قريحة الشعر العالمي دون إحساس بأننا هناك في الخلف.

مربك دخول معارض الكتب الضخمة مثل معرض فرانكفورت، لأنها تجعلنا كائنات ميكروسكوبية في محيط المعرفة، دخول المعارض إحدى أهم تمارين التواضع الذي لابد منه. الأجمل من ذلك إحساسك بأنك تساهم في بناء هذه الأهرامات من الكتب ولو بكتاب واحد أصدرته، وليس مجرد مستهلك.

دخلت بعض معارض الكتب العربية لكني اكتشف مرارا أن ما يحتاجه الإنسان في الفترة المتاحة له نظريا للعيش في الدنيا بعض مئات كتب محددة من هذه الأهرامات، كتب عظيمة حين تنتهي من قراءتها لن تكون الشخص نفسه الذي كان قبل قراءتها.

دخل مرة سقراط سوقا فشاهد كثرة البضائع المعروضة، فقال: ما أكثر الأشياء التي لا أحتاجها. تراودني هذه الجملة عادة عندما أدخل سوقا ضخما (مول) ولكنها تراودني أيضا عندما أدخل معرضا للكتاب: ما أكثر الكتب التي لا أحتاجها. لكن الجمال عموما يقبع في مساحة هذا العرض الجميل لحبر من عكفوا على المعرفة والجمال عبر الزمن وعلى امتداد الأرض. يشبه الأمر التجول في حديقة أو غابة شاسعة، وكونك لا تحتاج إلا إلى قليل من الزهور لتقطفها، أو بعض أوراق النباتات للتداوي بها، لا يُنقص من جمال الغابة أو الحديقة، ولا ينقص من روعة هذا التنوع الرائع في الذوق البشري، من شخص يلاحق الشعر والنثر، أو الفلسفة والفكر، في المعرض، إلى شخص يلاحق كتب الكومبيوتر، أو كتب السحر، أو الطبخ أو الأبراج. الجمال في المعارض، وأعيد أكرر التقاطة الشاعر الكوري المذهلة، أن جميع هذه الكتب بعين واحدة، تتجاور لترى العالم وتاريخه بشكل أفضل.

“الترفق في العطر” جمال العنوان يظهر لعبة حروف الجر الممتعة، كما يظهر روعة هذا التراث الزاخر بالترفق في كل شيء. الكِندي يطرح نظرية شاملة للجمال، لأن الترفق في العطر يحيلنا إلى الترفق في الشعر والترفق في الجنس وفي الرسم وفي كل صناعة تتعلق بشحذ الحواس.

شارع المتعة في طرايلس كان اسمه شارع الكندي، وأجمل فنادق بنغازي كان اسمه فندق عمر الخيام. والآن تستحوذ أسامي الشهداء على شوارعنا، وحتى شهداء الحرب الأهلية!!!!، من أجل أن نجعل العنف نصب أعيننا محتفظين بذكرياته على اللافتات الفوسفورية، نوع من التحنيط الرمزي لزمن الكراهية حتى لا يمضي بعيدا.

ألا يحتاج الشاعر إلى أن يسبح في بحيرة من النبيذ كي يترفق في صناعة قصيدته.

يذكرني ذلك بمهرجان طرابلس للشعر العالمي 2012 الذي أقمته أنت مع الشاعر خالد مطاوع وكنت معكما رغم أني لم أفعل شيئا ذا بال. يذكرني بالشاعر الأيرلندي الصعلوك، ماثيو سويني (Matthew Sweeney) الذي صادرت القبيلة المسيطرة على مطار طرابلس زجاجة النبيذ التي اصطحبها معه إلى ليبيا الجديدة. وأذكر الأمسية في غرفتي في الفندق التي كنتَ تترجم فيها الشعر فوريا من اللغتين، العربية والإنجليزية، وأذكر الشاعرة إيمان مرسال حين قالت لي: ما هذه القدرة العجيبة عند عاشور في الترجمة الفورية للشعر دون أن تخونه أكثر المفردات دقة ودلالة؟! وأذكر أني لحظتها شعرت بزهو كـ “ليبي” يتأكد أننا نثير الغبار مع شعراء العالم على طريق الفن الترابية الطويلة، ولسنا خلفهم نستنشق ما يثيرونه من غبار بعد زمن طويل.

أعود لقصيدة الشاعر الأيرلندي، ماثيو سويني، وأسباب نزولها، حيث قال ممهدا لها: شاركت في مئات المهرجانات الشعرية في العالم ولم يسبق لي أن كتبت قصيدة على هامش أي مهرجان، وهنا في ليبيا، وفي يومين، كتبت 10 قصائد. ثم أمسك بإحدى الأوراق وتلا قصيدته الجديدة التي يقول فيها، إن لم تخني الذاكرة، معلقا على مصادرة زجاجة النبيذ منه في بوابة الجحيم الليبي:

حين ذهبتْ زجاجة النبيذ في الجهاز

ظهر هيكلها العظمي على الشاشة

فقلت باي باي زجاجة نبيذي

في طريق المطار رأيت مزارع العنب

على اليمين وعلى اليسار

فقلت:

إذن ماذا يفعلون بالعنب؟

نعم ماذا نفعل بالعنب حين نمنع النبيذ؟ وماذا نفعل بالحب حين نمنع القبل في الحدائق؟ وماذا نفعل باللغة حين نمنع حرية التعبير؟ وماذا نفعل بأرواحنا حين نمنع الجسد من الرقص في الهواء الطلق؟

سالم



*****

تروندهايم، 28 أكتوبر 2017:

عزيزي سالم، استقبلت رسالتك وكانت بالنسبة لي فسحة نور وبهجة، طاقة عظيمة من الشعر والأدب الرفيعين. أرجو أن تكون فيروز بخير الآن، وأن حمل الخوف والقلق عليها قد انزاح عن كتفيك. لقد اشتغلت قليلا على كتاب الترفّق في الشعر للكندي والذي نشرته كيكا، لكن ليس بالشكل الذي أردته، هناك فراغات وجودها ضروري لقراءة النص بشكل صحيح، أو كما أردته أن يكون.

“عن الترفّق في العطر لأبي يعقوب إسحاق الكندي 801-873 ميلادية

الدهشة لا تنقطع.

لم أصدّق نفسي حين رأيتني وحيدًا أكسر الغبار!

فإذا اشتوى أُخرجَ وكُسِرَ على قَدر.

وينقّى عليه الغبار بأن يُركّب على الجام جام آخر.

تصبّ عليه من الماء أكثر من غمره

ثمّ توقد تحته بنار ليّنة حتى يغلي ويُخرجُ صَبغه،

ثمّ اسحقه ولا تسند يدكَ عليه،

ثمّ انخله

ثم ندّه بماء قليل قدرَ ما يجتمع

ثمّ جفّفه.

انزله في القارورة سبعة أيّام.

احملْ للواحد من هذا واحدا من مسك وبِعْه مَن شئت.

افتقْه بما شئت من المسك والعنبر.

حين لوّحت، لوّحت بعودٍ ُمُطرّى مِرارًا بعبق.

قَدر الزجاج وقَدر الطين أن يحملا العود والصندل والمسك والعنبر والأورس وكلّ طيب.

وحملتُ منه للواحد واحدا وبعتُ منه مراراً كثيرة من العطّارين فلم ينكره.

حامل المسك كفله يعلو، يا لثقل المسك في الكفل!

ثمّ قطّر عليه زنبقا خالصًا قليلا قَدر ما يكسر غباره،

ثمّ قرّصه وثقّبه وابسطه.

أطِلْ راحة يدك من الدهن.

لطيبك خذ من زبد البحر أوقية واخلطها بمسك.

فإذا انحلّ السكّر في الماء فالْقِ فيه الزعفران

ويكون الماء غمره وكُنّهُ من الغبار.

الزنبق: دهن الخلّ المربّب بالياسمين.

أظفار الطيب: ضربان حاران يابسان، تقف على دخانهما النساء.



الصندل: أصفر وأحمر وأبيض، يابس بارد.

جوز الطيب: سهل الكسر، رقيق القشر، طيّب الرائحة.

أنت تختار كيف تطرّي العود وعلى أي نحو تشاء.

ليكن فراش الصندل خمرا عتيقًا،

ينام فيه أربعين يوماً في إناء من زجاج أو حجارة.

يبدّل فراشه كلّ عشرة أيّام، إلى أن يسْودّ،

ثمّ طرّه على أي نحو شئت، يصر عجبًا.

– ماذا أخذ الطائر في فمه؟

– دقيق صندل وجوز طيب.

حمّسْتُ ليلي على النار بنضوح مُعتّقٍ وماء ورد.

إنْ أردتُ صباحًا حلو الرائحة، ألقيتُ فيه كافورا.

أوقد نارا لينة معتدلة بعود عود كالخلال

تكون النار كأنّها سراج.

ثمّ خذ حذرك أن تحتدّ النار وتشتدّ

واتخذْ موضعاً كنيناً من الريح.

هذا ركنك الذي هو جسد الغالية.

الأدهان والسرُج، الأزباد والريشُ، الطسوتُ والأنابيق، الدخان والعود.

إياك أن تُدخل النار من فوق على عطر.”

كيف استطاع هذا الكندي البديع أن يجعل من الشعر ومن المجاز الشعري وسيلته في كتابة وصفات لصنع العطور؟ ويأت الآن بعض الشعراء يقولون كتابة الأولين ناقصة متخلفة! ويحهم وما يقولون.

وإليك هذه ترجمتي لهذه القصيدة الجميلة لماثيو سويني:

“لا تقذف بالحجارة الإشارة

لا تقذف بالحجارة هذه الإشارة

المنتصبة هناك، في حقل الحجارة

على بعد رمية حجر من بحر

شاطئه مغطّى بأكداس الحصى

بعد أن سرقت رماله للبناء،

قليل من الناس يتهادون هناك،

قصبات الصيد في أيديهم، لا يصطادون شيئًا،

ولا حتى فردة حذاء – ربّما عليهم

قصف الأمواج بكرات الغولف،

أو الدخول في البحر ماسكين أنفاسهم،

أو الانحناء، كما يفعلون، ويقبضون على حفنة من الحصى

ليقذفوا بها الإشارة،

وفي كلّ مرة يصيبونها يهلّلون

ويكرعون مزيدًا من الجعة، خاصّة

ذاك الرجل الذي فكّر في الإشارة،

الذي أحضَر فرشاته وكتب

“لا تقذف بالحجارة الإشارة”

على قطعة خشب استلّها من هذا الحقل البائس،

ثم، يرقص ضاحكا في طريقه إلى بيت الجعة.”

صديقي سالم، لم أعد أفصل بين أحلامي، صارت كأنها حلم واحد عن ليل كالنهار ونهار كالليل.

صرت أفهم معضلة: ولوج الليل في النهار أم ولوج النهار في الليل؟

صرتُ أفهم أنّ الحزن شيء سهل. الفرح هو العملة الصعبة وسريعة الزوال.

صرتُ أفهم لماذا بكى الفراعنة، ولماذا بكى البابليون والسومريون، وعرب ما قبل الاسلام. البكاء بضاعة مزجاة يا عزيزي. لأعد لكتابتك يا سالم، أنت دائماً تختار البضاعة النادرة، البضاعة الغالية، الفرح والأمل والجمال. هي عصاك التي تتوكأ عليها وليس لك فيها مآرب أخرى.

أحيانا أقول، لماذا لا تتشظى هذه البلاد القفر؟! ألم يقولوا: توسيع الشرك مش باهي؟!

فلتكن ليبيا مائة ليبيا، فقط كي يشعر الناس ببعض راحة وببعض أمان.

هذه أيضا بضاعة مزجاة يا صديقي. أعذرني.

عزيزي سالم،

في بلاد البكّائين

تأتي الشمس على مهل، وتغيب على مهل

تختار بإصبعها

أيّ ريح تدخل النهار

وأيّ ريح تدخل الليل

تراود السلاحف عن غاباتها

تتقلّب في نومها على إيقاع راقص وحيد في الخلاء

تحزن لأن الطيور لم تعد تأتي مع الفجر

تعلم حين يفترُ جسدها

أنّ قد أزف وقت الزلزلة.

ما الذي يقوله الليل في شط بعيد؟

تسابيح للربّ وللعصفور

ما الذي تقوله سرطانات البحر عن شهقات المراكب؟

قصائد شِعر بعدد موجات البحر

ما الذي يقوله حفيف أثواب النساء الحالمات وحيدات في غرف مليئة بالعرق

مطر مطر مطر

عاشور



*****

كارسا 28 أكتوبر 2017:

سأبدأ من حيث أنهيت، القصيدة التي جعلتني أرتجف مثلما كان يفعل بي قوس قزح طفلا ومثلما يفعل بي الفن كهلا.

في بلاد البكائين العظام. ما أجمله من مستهل، يشرع نافذة بحجم السماء على تاريخ ذلك الندى المصحوب به البكاء.. الندى القادم من ينبوع أزلي لا يجف.. البكاء بالنسبة لي هو الإيمان الوحيد الجدير بالكائن البشري. والبكاءون العظام (وما أجمله من نعت) هم من طمروا تلك البذرة السحرية في الكائن البشري وهم من يدركون أن صناعة العطر شعر.

نعم تأتي الشمس على مهل وتغيب على مهل، وكأنها مربوطة برسن عتيق إلى صخرة الحزن الإنساني وكأنها تتواطأ مع تلك الغدة الخصبة في جسد يتظاهر بالنسيان.

هل يبدو أن البكاء مناقض للفرح؟ ربما في ظاهره، وربما في مكان آخر يعتقد جازما أن النقائض متضادة. لست أدري. لكن حين ألمس هذه الصورة الباذخة في القصيدة البكاءة بكل ما في البكاء من عظمة أدرك كم هذا الفرح الذي يلمع في عينيك كدمعة حائرة “ما الذي يقوله حفيف أثواب النساء الحالمات وحيدات في غرف مليئة بالعرق؟”

هذه الصورة المكتظة بكل هذا الجمال. الجمال معقدا ومخلوطا

حفيف الأثواب ـ شهقات المراكب. هذه المجازات الصوتية لا يمكن أن نسمعها إلا في الموسيقى أو في الصمت وعلى الشعر أن يتدبر أمره وهو ينصت للصمت بعيون متحفزة وهو يرى المشهد المقتنص في ثنايا جملة موسيقية. على الشعر أن يثمل كي تتضبب المشاهد وتفصح عن ما وراءها كزجاج يسترخي عليه ضباب؟

الشعر ثمالة أخي عاشور ولم يحدث أن رأيتك مرة دون أن تكون ثملا به. وكأنك تضع في جيب معطفك الداخلي قارورة الخمر المسطحة أو كأنك ولدت في خمار ممتدة على طول وعرض بستان عنب.

لا أذكر بالضبط ماذا قال العظيم جاستون باشلر عن هذه الحماقات المذهلة في كتابه شاعرية أحلام اليقظة. نسيته مثلما أنسى كل ما أقرأ، لكن من قال أن النسيان ضد الحضور، مثل هذه الكتب العظيمة تخطفنا من الغياب وتضعنا على ضفة أخرى وتغادر. لا أذكر عبارات باشلر لكنها تتلاطم الآن في داخلي وأنا أقرأ شعرك المنحول من أحلام يقظتك وأنا أتذكر عبرها ذاك السديم الباشلري مثلما نمر بلحظة ونشعر أن عشناها مرة ما قبل تلك المرة. لحظة غائمة لأنها قابعة في ذاكرة الروح التي تحيل كل ما مر بنا إلى سماء نرسم عليها بالغيوم. يحيل البعض هذه الحيرة إلى ما يسمونه الكارما حيث دورة الأرواح لها ذاكرة. وكثيرا ما أحس حين أقراك أنك تتبع أثر روحك التي كانت قبل ذلك في شجرة أو جندب أو نمر يطل من أعلى الجبل على سهل فسيح تركض فيه الغزالات.

يقول ويلفريد أوين مخاطبا الشعر وهو في عز مراهقته: ما من أحد سوى أولئك الذين منحتهم حق الصعود والجلوس معك باستمتاع شديد، وأنت تسمي نفسك خادمهم وصديقهم، ما من أحد أحبك حبا صافيا مثلي.

ويبدو أنه يعني ما يقول لأنه يرى أن عشاق الشعر العاديين يميلون إلى الكسل أو المضي صوب اهتمامات أخرى ويخلطون الشعر بكل منغصات اللغة، أو يستهلكون خيالهم في علاقات أخرى، أما هو فيقول: أنا لن أتوقف عن الحب ولن أرضى بالحب إلا من أجل المتع العابرة القادمة منك.

الحب هو الشعر، وكثيرا ما أعتنق ذلك لأن طوال ما التقينا كنت تحدثني عن الشعر كلما حدثتك عن الحب وأنت على يقين أنك لم تخرج عن الموضوع.

ما الذي تقوله سرطانات البحر عن شهقات المراكب؟

قصائد شِعر بعدد موجات البحر

نعم قصائد شعر بعدد موجات البحر التي لا عدد لها لأنها مجاز يأتي من كل رجفة للماء.

سالم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى