رسائل الأدباء ثلاث رسائل من عبدالوهاب الأسواني إلي يوسف الشاروني

من عبدالوهاب الأسواني إلي يوسف الشاروني


الرسالة الأولي




أخي الكبير الحبيب الفنان العالم: يوسف الشاروني.. أعزه الله.


تأخرت في الكتابة إليك- تأخرت أكثر مما يجب.. منذ مدة طويلة وأنا أتحرق شوقاً إلي الكتابة إليك.. المسألة بيد عمرو وليس بيدي.. عمرو هنا هو كل الهموم الحياتية مضافة إليها الهموم الأدبية.. وقد اكتشفت- الآن– أنني يجب أن أعيش خمسمائة سنة- علي الأقل- حتي أتمكن من قراءة ما يجب أن أقرأه وكتابة ما أحن إلي التعبير عنه!.. إنني أبحث عن حل- يا أستاذ يوسف.. لهذه المشكلة العويصة فلا أجد!.. عندك لها حل؟!
كان بودي أن أتحدث إليك عن الزحام .. أو أن أعلق علي مقالك بالهلال.. أو أخبرك عما أنجزته أخيراً.. وكل حاجة من هذه الحاجات في حاجة إلي رسالة خاصة (ملحوظة: تكرار الحاجات كانت مقصودة.. علي طريقتك في الزحام !) ولما كان الوقت يمضي.. وفي كل يوم تضاف مشاغل جديدة للإنسان- وبالذات العبدلله!- فقد قررت الليلة أن أنطلق في هذه الرسالة كيفما اتفق علي طريقة أستاذنا يحيي حقي حينما يلوح بعصاه ويقول خليها علي الله .
شوف يا عم!.. صلاتك علي الزين- كما يقول قومنا فوق صخور أسوان.. قصة الزحام بالذات عملت لي وشاً في رأسي!.. قرأتها أول ما قرأتها في مجموعة قصص معاصرة .. أفسدت عليّ متعة ركوب الأتوبيس!.. ما أن أنحشر في لمة حتي أتخيل نفسي فتحي عبدالرسول!.. لا تظن أنني أفرح.. هذه هي الحقيقة.. تبرز القصة أمامي بكل تفاصيلها كلما وجدت نفسي محشوراً في أتوبيس.. مثلما تبرز المشرق عليك ينتحبان كلما تذكرت وصف موت مصطفي كامل.. أذكر هذا وأتعجب من خطورة الفن.. كيف يفعل بنا كل هذه الأفاعيل؟.. ما سره؟.. إن كل ما قيل- أو ما قرأته وسمعته فيه.. غير مقنع.. خطورته في حاجة إلي من يبرزها لنا أكثر.
أحسن نقد للمجموعة كان الأخير.. نقد صبري حافظ.. هذا ولد جدع وأيم الحق!.. هو يفهمك جيداً يا أستاذ يوسف.. حديثه عن مكرك الفني في طريقة بناء القصة كان رائعاً.. جلست منذ أيام وحاولت أن أقلد في السر طريقة بنائك، ولما فشلت المحاولة قذفت بالورق بعيداً وقلت بلا قلبة دماغ! .. لمحات موجود ابن آل عبدالموجود نبهتني إلي نفسي.. اتضح لي فعلاً أنني لا أطمئن إلا إذا كنت خائفاً.. من غير المعقول أن أطمئن إلي شيءوأنا أري أهلي من حولي يقهقهون ثم يمسحون عيونهم ويسكتون فجأة ويقولون في وجوم: اللهم اجعله خير.
نظرية الجلدة الفاسدة قرأتها أول مرة في القطار الذاهب إلي أسوان عام 1966.. أعجب ما في الأمر أن القصة تدور في قطار وأنا أقرأها في القطار.. لا أذكر في أي شهر كان ذلك.. أذكر أنها كانت في مجلة المجلة.. وأذكر أنها أعجبتني جداً وقتها.. ولا أدري لماذا يخيل إليّ أن بها نكهة خاصة تختلف عن كل قصصك.. حاولت أن أعرفها لكنني لم أستطع.. لكن إحساسي كان قوياً بأنها مختلفة في شيء ما لم أعثر عليه بعد.
أنا أعتبر أنها نبهت بكارثة 5 يونيو.. لست أدري لماذا لم يقل ذلك صبري حافظ في نقده.. يجب أن أحاسبه علي هذا عندما ألتقي به.. هذا الولد الجدع تفوته أشياء مهمة في بعض الأحيان.
مشتاق إليك جداً.. جداً.. كتبت رواية بعنوان العيون الزرق وبدأت في أخري لم أختر لها اسماً بعد.. الرواية الثانية مكملة للأولي.. الأحداث تدور في الإسكندرية تصور العلاقات التي كانت قائمة بين الأجانب من سكان منطقة رمل الإسكندرية والوطنيين من أهل البلاد قبل عام 1956.. بما في ذلك الصراع الاقتصادي بين المصانع الصغيرة.. أرجو أن يوفقني الله في هذا.
بعد عدة شهور سأحمل إليك الجزءين.. معلهش.. اتعب معي قليلاً.. فأنت الوحيد تقريباً الذي تابعتني، وتستطيع أن تحكم عليّ فعلاً.
كتبت قصصاً قصيرة كثيرة.. بعضها نشر وبعضها في الأدراج السبعة!.. لكن القصة التي أتمني أن أكتبها لم تكتب بعد.. ولا أعتقد أنها ستكتب.
كلمتك في الهلال كانت معقولة.. موضوعية.. لا أذكر هل حدثتك عن كتابك عن أدب اللا معقول أم لا.. أعتقد أننا التقينا بعد صدوره.. ذاكرتي هذه الايام مثل الغربال، حتي بعد ان قويتها بالسمك الروسي الذي تبيعه الجمعيات التعاونية عندنا لازالت كالغربال!.. السبب أنني أقرأ كثيرا هذه الايام.. في كل الاتجاهات.. ابتداء من محاولات عمنا العظيم في اسواق اثينا الي تصريحات عمتنا العظيمة سعاد حسني!.. لا أدري هل أنا استوعب ما أقرأه أم انني تاركها علي الله كما يقول استاذنا يحيي حقي.. في آخر لقاء لي معه قلت له علي طريقة العالمين ببواطن الأمور ان كلمة شارل ديجول معناها شارل الغالي نسبة للغال سكان فرنسا الاصليون.. فكلمة جول معناها الغال وكلمة دي هي ياء النسبة.. ضحك استاذنا يحيي وقال لي: علي كده.. بقي.. أنت تبقي عبدالوهاب دي أسوان!!
مشتاق اليك جدا.. جدا.. بالذات الي تلك الابتسامة الطيبة الحنون.. منذ عدة شهور لم أزر القاهرة.. سأسعي إليك عند أول زيارة بإذن الله.

ودمت لأخيك المعجب المحب

عبدالوهاب الأسواني
الاسكندرية 9-11-1970


*****

الرسالة الثانية


فناننا الكبير العالم.. وعالمنا الكبير الفنان الاستاذ يوسف الشاروني.

لا تظن بي الظنون ارجوك.. الله وحده يعلم بما تمثله أنت بالنسبة لي.. في الفترة الأخيرة اصبت بحالة من الكآبة عزلتني عن العالم تماما.. قررت ان انتهزها فرصة لمراجعة النفس ومحاولة تطويرها.. لست ادري هل هي تطورت الي الأحسن أو الي الأسوأ.. تستطيع ان تقول ان سبب الكآبة يرجع الي تجربة عاطفية.. كانت صعبة جدا وحادة جدا وخرجت منها مهزوما يا أخي العزيز.. أجمل ما في الموضوع أنني تكبرت علي الشكوي وانكببت علي القراءة والكتابة.. وان كنت لا أعرف حتي الآن هل استوعبت ما قرأت وهل ما أكتبه يستحق القراءة أم لا.. إذ لم أجد مهربا غير هذا.. من الاشياء التي أسعدتني أنني عدت أقرأ لك من جديد.. عثرت علي بضعة سطور لك وقف لها شعر رأسي كما يقولون.. خيل لي أنها كتبت الآن فقط، وكتبت خصيصا من أجلي!.. كانت تقول ما معناه: ان اللحظات التي نبقي مع المحبين هي اللحظات القليلة التي تسبق فراقهم الايدي.. ان كانت جميلة فينسحب الجمال علي ذكري العلاقة كلها وان كانت حادة فلن تبقي من الذكري غير الكراهية.. لعلني افسدت الآن معني كلماتك يا أخي بصياغتي هذه التي أحس الآن وانا اكتب اليك انها ركيكة فثقتي بنفسي ضاءت ولا ادري ان كنت سأستعيدها يوما ام لا.. استعدت كلماتك ورحت افتش عن التفاصيل الصغيرة لحظة الفراق.. بعد جهد لم استطع ان احكم ان كانت الذكري تندرج تحت الجمال ام سيكون عنوانها كاملة الكراهية .. كل ما اذكره انني حاولت ان أتقمص شخصية النبيل لست ادري ان كان الطرف الآخر قد قرر هذا أم ظن أنني أمثل.. ليكن ما يكون علي كل حال.. فقد هربت الي ما اسميته بالقراءة والكتابة كما قلت لك.. ربما بدأت أفيق خلال هذا الاسبوع.. الدليل انني وضعت نسخة من سلمي الاسوانية وقصتين قصيرتين في مظروف لارسالهما الي الأستاذ جونسون ديفير!.. رسالتك معهم في داخل المظروف.. ؟؟؟ في ابريل من العام الماضي! قلت لجونسون ديفيز ما معناه مررت بفترة عصيبة.. لا يهم أن كنت انتهيت من ترجمة المجموعة أم لم تنته.. إليك القصص وأنت حر التصرف.
علي كل حال أشكرك يا أخي العزيز علي ما تفعله من أجلي.. وإن كان إحساسي – والله وحده يعلم – إن ما تفعله واجب عليك!.. ربما بسبب العشرة الطويلة بيننا وأعني بها من جانبي في متابعتي لك وقيام ما يمكن أن يسمي بالصداقة بين كاتب وقاريء هي التي أملت – لاشعورياً – هذا الإحساس، من عيوب الفترة الماضية أنني عجزت حتي عن الرد علي الرسائل التي ترد من الأصدقاء والأقارب.. أغلبهم طبعا يظنون بي الظنون الآن.. من عيوبها أنني ابتعدت عن الناس.. كنت أجلس بينهم مكتئبا فخفت العاقبة.. الناس يفسرون كآبة المكتئب علي أنها موقف منهم.. إما أن يشكو إليهم أو أن يتكلف السعادة، وإلا اعتبروه يأخذ موقفا منهم.. لم أستطع تكلف السعادة ولم تطق نفسي الشكوي ولم تكن لي رغبة في الكلام إطلاقا.. رأيت من الخير أن أنعزل فانعزلت.. حاولت في البداية أن أزعم أنني مشغول بشيء، لكن ضايقتني الاسئلة حول ما يشغلني.. قررت في النهاية مقاطعة كل الناس إلا في الحدود التي ترغمني عليها الحياة.. أمام هؤلاء كانت ترن في أذني كلمات لك قرأتها أخيرا.. للمرة الثانية أو الثالثة وهي الفترة الأخيرة التي نحن بصددها لكنها لم تبارح بؤرة الشعور هذه المرة.. نقول ما معناه إن المطلوب من الإنسان أن يبدو تافها في نظر رؤسائه كي يبعدوا عنه ، فقمت بدور التافه خير قيام، وقد ساعدني علي هذا الدور فقدان الثقة الذي حدثتك عنه.. من الأشياء اللطيفة – خفيفة الدم – التي حدثت في هذه الفترة، أن ذاكرتي أصبحت لا تعي أي شيء وأنا ذاكرتي ضعيفة أصلاً فتعرضت لمواقف غاية في خفة الدم.. كانت ترفه عني والله. أدير قرص التليفون لأطلب صديقاً، وحينما يرد علي ألو أكون قد نسيت من طلبت، فأغلق السكة!.
أركب الأتوبيس فأفاجأ بالكمساري يطالبني بالأجرة مرة أخري، فإذا قلت له أنني قطعت ، قال لي أنني قطعت ونحن رايحين أما الآن فإننا راجعين !
لا تؤاخذني علي اضطراب الجمل في هذه الرسالة يا أخي العزيز.. وأرجو أن أزورك خلال شهر علي الأكثر ومعي العيون الزرق – الرواية الجديدة – التي أكاد أكون قد انتهيت منها، وإن كنت لا أدري هل حسنتها .. لكثرة التعديل فيها.. أم أفسدتها علي حد تعبيرك عن نفسك بالنسبة لقصصك.. هذه التعديلات التي تصل إلي حد إفساد العمل الفني هي بعض ما عندكم كما يقول ظرفاء قومنا.. إلي اللقاء يا أخي العزيز.

أخوك عبدالوهاب الأسواني




*****


الرسالة الثالثة
أخي وصديقي وأستاذي الفنان الكبير يوسف الشاروني

وصلتني رسالتك الطيبة.. خففت عني الشعور بالغربة.. والشعور بالغربة هنا له مذاق جاد رغم أنني في بلد عربي يتكلم أصحابه نفس لغتنا، ورغم أنني أمام أناس يحبون مصر وكل ما يأتي من مصر الي حد العشق، لكنا لا نلتقي بهم إلا لماما.. فالمناخ العام هنا لا يعطي فرصة للاختلاط.. الناس إما في السيارات التي تسير بسرعة غريبة، وأما في داخل البيوت المغلقة – دائما لحرارة الجو- علي أجهزة التكييف.
في البداية ظننت -لسذاجتي – أنني سأخرج برواية.. ولو قصيرة – فإذا بي أجد نفسي إما راكبا، وإما نائما، وإما مشخبطا علي الورق ما تحتاجه الصحيفة.
إذا مشيت في الشارع علي قدميك ستبدو شاذا.. لأنك.. ستكون الشخص الوحيد الذي يمشي علي قدميه.. فما بالك بإنسان يعشق المشي ولا يقل ما يمشيه يومياً عن ساعتين؟ إذا دخلت الأسواق لشراء شيء. لن تجد لسانا عربيا يخاطبك.. اللهم إلا اللسان الإيراني، أو اللسان الهندي الذي يمثل أصحابه طبقة البروليتاريا .
أعيش بمفردي في شقة تشبه الفيلا، أحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا الأعاجم، وأصحاب العمل مستعدون لاعطائي شقة أحسن إذا ما أحضرت أولادي، كذلك هم مستعدون لإعطائي لشراء سيارة، لكن شيئا ما في داخلي يقول لي: لا تشتر سيارة، ولا تحضر أولادك كيلا تبعد عن مصر أكثر من سنة.
من الناحيتين العقلية والثقافية، فإنني أتخلف يوما بعد يوم.. الكتب التي أريدها لا أجدها، والدوريات الأدبية لا أعثر إلا علي بعضها وبعد جهد، والمثقفون هنا يمتازون في المناقشات، لكنك لن تجد ذلك الذي يمسك بالقلم ويرسم الكلمات علي الورق كما يجب أن تكون اللهم إلا ثلاثة أو أربعة، والقصة القصيرة لازالت في مرحلة تشبه مرحلة الثلاثينيات عندنا، أما الرواية فلم تظهر بعد، وأستثني الشعر الذي للغتنا فيه تراث عريق.
أهل قطر أنفسهم طيبون جدا تحس فيهم الوداعة والاستعداد للصداقة لكنهم قليلو العدد اذا ما قورنوا بالجاليات الاخري، ثم إنك لا تراهم الا – كما قلت -في داخل السيارات التي تجري بأقصي سرعتها بلا سبب.
يتملكني شعور بأنني اذا غبت عن القاهرة أكثر من سنة سأنتهي، علي الرغم من ان القاهرة أصبحت مدينة لا تطاق لزحامها وصراعاتها الصغيرة، وفساد خدماتها علي كل حال الايام القليلة القادمة هي التي ستحسم الصراع الذي في داخلي أو ربما عدت قبل ان تكْمُل السنة.
وصلتني دراستك بالأخبار أبقاك الله لي أخا وصديقا، وأستاذا كما وصلتني القصة المترجمة وأعطيتها – بعد أن استمتعت بها -للصديق عبدالقادر حميدة لتنشر في الدوحة لأسباب رأيتها وجيهة أرويها لك عندما نلتقي ان شاء الله.
تحياتي الحارة للأخوين صبحي ويعقوب.. يعقوب بالذات قل له إن لوحاتك العظيمة وشرحها الجميل أوحشني.. تحياتي الي أخي العزيز نهاد شريف،والصديق الاستاذ فوزي العنتيل.. وإذا كان الصديقان صلاح عبدالسيد ورفقي بدوي يحضران عندك فأرجو ابلاغهما سلامي الحار.
سلامي للمدام وكل من تحب وإلي اللقاء في رسالة قادمة – هذا اذا لم أكن أنا نفسي الرسالة القادمة.

أخوك عبدالوهاب الأسواني

الراية القطرية 25-6-1979

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى