أمل الكردفاني- الجامعة كعالم خيالي

الجامعة كعالم خيالي، وهي كذلك لأنها تفصل بين الحياة المعيشة، والمتوقعة. وغالباً ما تمثل أحد أسلحة الصراع الإنساني، فهي تُقيَّم تقييماً عالياً ربما أكبر من حجمها بكثير. صحيح أن الجامعة تعطي الطالب أدوات معرفة متخصصة إلى حد ما، لكنها في الواقع تفصله لسنوات عن البيئة الحقيقية التي يعمل فيها ذلك التخصص. وإذا قسنا سنواتها كسنوات تأهيل للسوق، فإننا سنجدها تؤهلنا ذهنياً ولكنها لا تؤهلنا عملياً، لأن الواقع العملي لا يحتاج فقط للمعرفة بل للبيئة الإنسانية التي تشتغل فيها تلك المعرفة. البيئة الجحيمية، التي يجب أن نختلط فيها بالكائن البشري كآلة تحتاج لها أكثر مما تحتاج هي لك. زملاء الجامعة لا يحتاجون لك ولا تحتاج لهم بالقدر الذي ستحتاج فيه في بيئة العمل الحقيقي للآخرين، وخاصة في بداية المشوار، حيث ستجد تنوعاً كبيراً في تلك البيئة التي هي بيئة تصارعية أكثر من كونها بيئة تعاونية. وهنا ستبدأ عمليات تبادل الأحكام الأولية المهمة جدا في سيرورتك المهنية، فالبيئة العدائية يمكن أن تحجم من قدراتك وعليك -في الغالب- أن تفترض غلبة البيئة العدائية، وأن تكون حذراً جداً. وهذا ما لا تنتجه البيئة الجامعية مهما بلغت عداواتها، إذ أنها بيئة تتذبذب فكرة التنافس فيها بحسب الإرادة الشخصية، بل ويمكن تجاهلها. هذا هو العالم الخيالي للجامعة، حيث يمكن فرز نفسك أو الاندماج بها دون أن يشكل ذلك خسائر كبيرة، خلافاً للبيئة الواقعية، وهي البيئة التي تعلمك حِرَفيات السلوك لا المعرفة المجردة.
إن بيئة التجارة أهم من البيئة الأكاديمية، فهي البيئة التي ترسخ داخلك حرفيات السلوك والانفعال والاستجابات العصبية والنفسية وسرعة البديهة والتروي والصبر والطموح، وغلبة روح الكسب والربح المادي، كما تفضي بيئة التجارة إلى تطوير قدرات الفرد على اختراق الأفراد والمجموعات والمجتمعات بسرعة في حين تفضي البيئة الأكاديمية إلى العزلة وتقوقع الشخصية، كما أن البيئة الأكاديمة باعتبارها تنتج عن منظومة فهي بيئة طاعة لا بيئة مبادرة، وبيئة كفاية لا اقتحام. إن الجامعة تربي الفرد على أن يعمل موظفاً لا رائداً وهذه هي أكبر المشكلات، لأنها تعود الفرد على انتظار وتتبع حركة المنظومة السياسية والاقتصادية ليقتنص منها فرصة واحدة. أما بيئة التجارة فهي تدرب الفرد على صناعة الفرص، وليس فقط اقتناصها، وتعوِّد الفرد على المرونة مع كل التقلبات السياسية والاقتصادية، وامتصاص المشكلات عبر استيعابها وتحويلها لأبواب كسب جديدة. ففي الوقت الذي تمثل فيه الحروب خسارة للكثير من الأكاديميين، فإن التجار يعرفون كيف يستفيدوا من الحرب نفسها بل وداخلها، والانهيارات الاقتصادية للدول ستمثل فرصاً للكثير من التجار للتكسب من الآثار السلبية لتلك الانهيارات. أما البيئة الأكاديمية فهي تعلم الفرد كيف يطيع المنظومة بالكامل، لأنه كلما أطاع المنظومة كلما استطاع تأمين مصدر رزقه، لذلك فعالم الجامعة هو الذي يصنع الموظفين، أما عالم التجارة فهو الذي يصنع من يصنعون الفرص للموظفين. سيستمر الموظف قانعاً براتبه الشهري، وهذا ما لن يكون مريحاً للتاجر.
دعنا نتأمل مشكلة المرتب. إن المرتب الشهري مهما زاد باستمرار لكنه في النهاية سيزيد عبر استهلاكك الجسدي والنفسي، ولذلك فهو يأكل منك ومعه ستزداد حاجاتك الشخصية والتي قد لا يتمكن المرتب من إشباعها باستمرار، غير أن الموظف لا يملك سوى راتبه هذا. في حين لا يملك التاجر أي ضمان شهري، فقد تنهار تجارته ويفلس فجأة، مع ذلك فهو لا يصاب بالذعر من هذا التصور، خلافاً للموظف الذي يظل دائما تحت رحمة الراتب الشهري، ويصاب بالذعر إذا تصور خسارته لهذا الراتب، نتيجة للإقالة، إذ عليه أن يبدأ في التفتيش داخل متاهات المنظومة عن فرصة تشبهه. التاجر لا يفتش عما يشبهه، بل يجعل نفسه شبيهاً بالفرص. يغير جلده ولونه بسرعة، يغامر، ويحذف صورة العصفورة ويقلبها إلى حرف (x) كما فعل آيلون ماسك. وعندما يحقق خسائر فهو يستفيد من ذلك عبر تنويع أنشطته التجارية، ويفرض شروطه بحسب قوته وضعفه. فهل يستطيع الموظف فعل ذلك؟
لا
لا يملك الموظف هامش مناورة عالٍ؛ بل يميل إلى منطقة الارتياح، ويخاف من الخروج منها، ويبذل قصارى جهده لتطوير قدراته من أجل الاحتفاظ بموقعه في تلك المنطقة.
رأيت الكثير ممن تمت إقالتهم من وظائفهم وهم يدخلون في حالة إكتآب، وعندما يجدوا وظيفة يعلنون عن ذلك كرفع كأس العالم في المباراة النهائية الأخيرة. وهذا يشير إلى مدى درجة استحكام فكرة الخضوع للمنظومات عند خريجي المؤسسات الأكاديمية. ولذلك هم يرون أن صراعاتهم خطرة جداً، في حين أنها في الواقع تافهة جداً في نظر أصغر تاجر. إن صراعات التجار قد تفضي إلى الإفلاس والسجن وخسارة الملايين، مع ذلك فعالم التجارة يحتاج إلى المغامرين والمقامرين وليس الموظفين والأكاديميين.
للأسف أغلبنا لم تكن ذهنيته ذهنية (البزنس مان) لأن المدارس هي مصنع الخاضعين، وتجهز عليك الجامعة، ثم الدراسات الأكاديمية العليا، بحيث تستنزف فكرة المغامرة والاقتحام. ما الذي يفعله الاستاذ الجامعي؟ إنه يظل يدرس نفس المؤلفات لسنوات، مع بضعة أبحاث ينتجها خلال سنوات حياته، في الغالب لا تحقق حتى إضافات علمية حقيقية. ولذلك كان التوجه الرأسمالي هو ربط الجامعات (الموظف الخاضع) بالمؤسسات الرأسمالية (التي توفر فرصاً للموظف الخاضع). وقد استنكر الكثير من المفكرين الأمريكيين ذلك، ولكن من ناحية أخرى وهي أن الجامعات لا تنتج مثقفين بل عمال. ولكنني أرى أن الثقافة نفسها مصطلع فضفاض وشديد السيولة، ولكنه في كل الأحوال شخصي جداً، وأعتقد أن المثقف هو أكبر مُحتال على الحقائق، فضلاً عن كونه الأقل إنتاجا حقيقياً، اذا اعتبرنا أن كلمة (حقيقياً) تعني القيمة المضافة سوقياً.
مع ذلك فالجامعة كعالم خيالي، ضرورية، لأن الرأسمالية تحتاج لموظفين، تحتاج لخاضعين، لمتفانين مذعورين يحاولون باستماتة الحفاظ على ضمانات الراتب الشهري.

___

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى