مصطفى فودة - قراءة فى ديوان (كانت هنا موسيقى) للشاعر جمال القصاص

كانت هنا موسيقى هو الديوان الخامس عشر للشاعر جمال القصاص عبر أربعين عاما من الشعر حيث صدر ديوانه الأول خصام الوردة عام 1984 وهو أحد كبار كتاب قصيدة النثر البارزين وكان أحد أعضاء جماعة إضاءة الشعرية والتى كان لها دور كبير فى تحديث القصيدة العربية ، يتكون الديوان من خمس قصائد طويلة كل قصيدة مقسمة إلى مقاطع شعرية ويقع فى مئة وست وتسعين صفحة وقد صدرعن دار بدائل ، عنوان الديوان به نوع من الحنين إلى الماضى وإشارة إلى موسيقى وهى أرفع الفنون وأرقاها ، وتنكيرها تعطى دلالة على الفنون عامة، كان الحنين هو الثيمة الرئيسية فى نصوص الديوان ، يظهر ذلك من عنوان الديوان ، كما يظهر ذلك الحنين فى النص الإستهلالى بالديوان " يوما ما / كنت طفلا / كنت أعرف أن رائحة الخبز تشبهنى ..." ، ويستحوذ الحنين على العديد من نصوص الديوان مثل : " الحنين طفلنا الأرعن / نوتتنا البيضاء/الخضراء/ الصفراء/ لارفَّ ينقذه من عبث الذكريات"ص181 ، "أحالنى الحنين للتقاعد/ من يومها وأنا أتحايل على الحياة/ برسم القلب"ص156، وينتهى الديوان بالحنين الأعظم إلى الأم بالمقطع الأخير من الديوان الذى يكاد أن يكون بكائية على الأم ولهفة وشوق وجوع إليها " صباح الخير يا أمى/ أكثر من ستين عاما وأنا أفتقدك ...يا أمى لا أملك صورة لك/ كل هذه السنين وأنا أحاول/ أصادق الأشياء من حولى/ أسألها عن أحوالكِ/ ...كل ما أعرفه أننى فى وحدتى/ صرت أكثر جنونًا لحضنك/ أنا طفل هذا النص/ أتوسل إلى الشعر أن يظل يردد اسمك/ يهبنى رائحتك/ يأخذ ما تبقى من عمرى/ ويقذفنى فى حجرك " ، وهى بكائية فريدة – فى رأيي- فى الشعر العربى الحديث فى الحنين واللهفة والشوق إلى الأم عبر عنها بتكرار أسلوب النداء (يا أمى) واستحضر الأم بأسلوب الخطاب وإلقاء تحية الصباح عليها كما عبر عن شوقه وحنينه إلي رائحتها وحضنها وحجرها ، وهى صور تعبر عن شعور ذاتى للشاعر حيث تُوفيت أمه وهو فى سن التاسعة وتكررت الإشارة إلى سن التاسعة بالنص أكثر من مرة ، والحنين إلى الأم ثيمة رئيسية تتكرر فى أكثر دوواينه الشعرية .
اتسم الديوان بكثير من الملامح منها النزوع إلى الصور والعبارات الغرائبية والفانتازية والإبتعاد عن الصور المألوفة والمستهلكة مثل تصويره للشمس بهذه الصورة الغريبة : أشفق على الشمس/ تأخرت كثيرًا/ وهى تبدل صندلها فى السوق/ لم يعد ملائما أن تمشى حافية/ كل يومٍ يصغرُ مقاسها ويكبر/ لا أعرف متى ستبلغ حد الفطام/ تصبح مواطنة صالحة فى الكوكب" ، وتصوير الأرض ذلك التصوير الفانتازى "الأرض تركت قصيدتها فوق المنصة/ نسيت الجغرافيا على باب المدرسة"ص117 " ، " نتذكر أن الخطيئة ذيل قطة / سنحاول أن نهزم صخرة/ نعلمها كيف تنط الحبل/ تقبل رشوة الزهر"
كما اتسم الديوان بأنسنة الأشياء وهى إضفاء الصفات الإنسانية على النبات والحيوان والجماد حيث يمنح الأشياء أفقًا وأبعادًا إنسانية كبيرة " لا تسألينى لماذا تبكى هذه الشجرة/ أمس كانت تخاصر غيمة/ تعلمها كيف تجتاز السور/ تلاعبُ الأطفال فى حوش أدم" ، ومثل أنسنة القصيدة " أيتها القصيدة/ ياطفلتى النزقة/ لا تغلقى عينيك/ تذكرى/ أن فوق سريرنا/ دائمًا تولد الحياة "
كما قام بإستدعاء كثير من أصدقائه المقربين عبر تقنية الرسائل معبرا بأسمائهم وأهم صفاتهم وممازحا معهم ومعبرًا عن حبه لهم وبأفكارهم وفنونهم مثل الكاتب الليبى أحمد الفيتورى : "قلت لأحمد الفيتورى/ هذا يوم مولدك الذهبى" ، والروائية مى التلمسانى وروايتها هليوبوليس " يا مى / أصابع الماريونت أم شكاوى الفلاح الفصيح/ أيهما يبتكر الحبكة/ هليوبوليس لم تغير ضمائرالحكى/ لا تزال تشعل اللهفة/ " ص154 ، وإلى الناقد الاكايمى د يسرى عبد الله " يا صديقى الحصيف/ يا يسرى/ يا ابن عبد الله/ التاريخ صياد عجوز/ وحدك تملك تأويل النص/ تزفه للجمال/ للحرية / للقبح" ، وحمدى عابدين"يا صديقى الطيب" وروايته حجر جهنم ، والفنان التشكيلى محمد عبلة .
حفل الديوان بالتناص مع فيلم البوسطجى فى نص (أجرب أن أكون ساعى بريد) وهو من أهم وأفضل نصوص الديوان : "فى الفيلم/ لم يستطع البخار/ ولابراد الشاى/ ولا الممثل المحنك/ أن يفكوا اللغز " ، ورواية المسيح يصلب من جديد للروائى اليونانى كازنتزاكيس، ، كما حفل بالتناص مع عبارات قرآنية مثل تذكر أن لك جسد ولسانا وشفتين ، يتأبط ظل شاعر، تتأبط ظلكِ تتناص كنية الشاعر الجاهلى تأبط شرًا ، عبارة يحمل عصاه ويرحل تتناص مع كلمة ناصرية ضد الإستعمار أيام حقبة الستسنيات ، كما تناص مع مفردات نقدية مثل موت المؤلف والذاكرة حمالة أوجه ، انزياح المعنى ، وحدك تملك تأويل النص.
ومن ملامح الديوان التأثر بالفن التشكيلى مثل مفردات اللوحة ، الألون والظل "عجوز يثاءب فى طرطشة اللون/ فى أقصى اللوحة/ أقصى الفراغ/ اقصى الغبار" ، كما يرسل رسالة محبة إلى الفنان التشكيلى محمد عبلة :" قلت لمحمد عبلة/ وهو يظلل/ عنق السماء/ يتخلل الضوء فوق صدرها / على شفا حرف حرف/ أو لون/ أن يتوه الظل فى قدمى ..أتامل الألوان وهى تمرح فى أنامله/ تصطحب الخطوط فى نزهة على بحيرة قارون / كيف استوى على العرش/ بكل هذه البساطة ..سيقولون : أخيرًا انقذ نفسه / غرق فى محبة وجه/ يشبك أصابعه فى كف الألوان "ص
كان للمرأة حضور كبير بنصوص الديوان فهى الحبيبة يبث إليها حبه وأشواقه"هكذا يولد الحزن فى أناملنا/ يعشش كانه جدول ماأصادقه احيانًا/ أمتص براءته بعينيكِ الصافيتين/ ربما يتذكر أننى كنت طفلا فى التاسعة تمامًا/ أحالنى الحنين للتقاعد/ من يومها وأنا اتحايل على الحياة / برسم القلب/ أتخيلهامعجزة صغيرة/ تلهو فى كفكِ" ، " يمكننى أن أقيس حياتى/ بوجوه من أحب/ أخطف منة ملامحها أرغفة الطفولة/ أتعلم معنى الرضا/ أتذكر أننى حى/ أن ضحكتى/ كل يوم تصطاد الضياء/ حتى من رفة حزن " ويأخذ أحيانًا منحىً حسيا مثل " وهو يتشمم عطر امرأة /فاتها الباص الاخير" ، " أكثر من عام وأنت تحت جلدى/ تتجولين فى أعضائى كلها/ حين أنام/ لا أعرف كيف أطبق جفنى عليكِ/كيف أخونك/ أدعى أن لهفتكِ النزقة/ فشلت فى تعلم الطيران فوق شفتىَّ " ، وأحيانًا يكون التعبير بصوتها " أنا جوعانة/ بوسعنا أن نفعل شيئا/ فى ينى نهر/ فقط نم على صدرى/ خذنى كأوزة/ منذ زمن لم أفرد جناحى/لم أتحسس منطق الطير" .
يذكر الشاعر اسمه صراحة فى بعض النصوص "جيمى ياشاعرى الأجمل" وربما هو نوع من نرجسية الفنان ، ومثل" ماذا سيفعل جمال القصاص/ يحمل عصاه ويرحل/ يحمل عصاه ويرحل/ يكتب مرتين/ لحجر لم يحسن تربية الظل "وكأنه ينعى عدم استقبال شعره وتقديره بالطريقة التى تستحقه ، ويذكرنى ذلك بأفلام المخرج الأنجليزى هتشكوك الذى كان يظهر فى أحد مشاهد فيلمه كنوع من نرجسية الفنان أو كتقنية من تقنيات التشويق والإثارة .
اتسمت لغة وأسلوب الديوان بالحداثة والبحث عن صيغ ومفردات وصور غير تقليدية وغير مستهلكة فلم تكن صورًا وعبارات جاهزة بل مبتكرة ، واتسم أسلوبه فى مواضع كثيرة بالغرائبية والفانتازية محدثًا نوعا من الدهشة والتأمل والتخيل عند القارئ ، وتناص أحيانا مع عبارات تراثية وقرآنية كما ذكرنا سابقا محدثة نوعا من التواصل مع القديم والحديث ورغم أن الحنبن وربيبه الحزن كانا من الثيمات الرئيسية فى الديوان إلا أن الذات الشاعرة (نائبة الشاعر) كانت محبة وعاشقة للحياة وللمرأة بصفة خاصة .
ملاحظات : 1-فضلت كلمة قراءة لأنها أكثر إتساعا فى التعبير عن رؤية القارئ 2-أكثرت من ذكر الشواهد النصية من الديوان ليتعايش القارئ ويتذوق نصوص الديوان خاصة أن أكثر القُرَّاء ليس بين أيديهم الديوان ولم يطلعوا على نصوصه 3- قرأت جزءًا من هذه القراءة مساء أمس فى ندوة للإحتفاء بالديوان بمنتدى المستقبل للفكر والابداع فى مكتبة خالد محى الدين بحزب التجمع الوطنى بالقرب من ميدان طلعت حرب بالقاهرة .
مصطفى فودة
May be an image of text



All reactions:
2سمير الفيل and مصطفى البلكى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى