أنطوان بطرس الخويري - بمناسبة مرور 82 سنة على وفاتها.. مَيّ زياده أعجوبة عصرها

"مَيّ زیادہ"، أديبة الفكر والثقافة وسيّدة الكلمة الثائرة، التي انتعش البيان ببلاغتها، وانتهض الأدب بفضل قلمها من جموده، وهي ترصف كتاباتها رَصْف الشَّبعان من ثَدَيَي المعرفة والحقيقة.

مَيّ زياده التي اكتنفت حياتَها الأسرار، وغَلَّفتها العزلة والوحدة والكآبة الممزوجة برومانسيّة تأمّليّة وتساؤليّة بين الشك واليقين، بحثاً عن حقيقة الحياة والمصير والموت، وطلباً للسّكينة والاستقرار، متعلّقة بحبّ السّماء، ومستغرقة في حالة من التصوّف والتجلّي، من دون أن تتوانى يوماً عن واجب الالتزام الانسانيّ، والدعوة إلى النهضة والتجدّد في حياة الأمّة وتحقيق العدالة والمساواة، والدفاع عن الوطن و المجتمع وبخاصّة حقوق المرأة.

كانت "مَيّ" غزيرة العلم والثقافة، مُلمّة بالفنون والفلسفة والموسيقی، و"فريدة عصرها" كما عرفها خليل مطران. و "ملكة دولة الإلهام" کما رآها وليّ الدين يكن. و"ملكة الفكر والبلاغة" في رأي يعقوب صرّوف. و"سيّدة القلم العربيّ" كما سمّاها مصطفى صادق الرافعي. وكاتبة العصر" و"نادرة الدهر " کما وصفها شكيب إرسلان. و"حِلْيَة الزمان» في نظر الأب أنستاس الكرملي. و"نابغة بلادي" كما ناداها شبلي الملّاط!..

ولقد امتازت "مَيّ" بموهبة الخطابة ونَظم الشعر باللُّغَتَيْن الفرنسيّة والعربيّة منذ كانت تلميذة في مدرسة «راهبات الزّيارة" في بلد عينطوره – كسروان. ويُروى عنها أنه كان لها زميلتان، هما : هيلانة غسطین من بلدة حمّانا، وکتّورة الرّهبان من بلدة زغرتا، وكتّورة هذه كانت رقيقة القلب لطيفة المعشر، فراحت تُلاطف أحد المستخدمين في المدرسة و يُدعی جرجورة، فتعلّق بحبّها وحاول مُلازمتها ومُشاركتها التلاطف ما استطاع!.. الأمر الذي وجَدَت فيه مَيّ طرافةً وموضوعاً للتندّر، فنظمت هذه الأبیات:

« Enfants d' Antoura Regardez Jarjoura
L' Ami de Kattoura Oh qu’il est beau
Jarjoura je t'admire j'aime à le dire
Oh quel sourire ! Oh quel museau !»

ذلك أنّ جرجورة المذكور كان له "بوز" مستطيل يُشبه الخرطوم، ينطبق عليه وصفه بـ"museau".

أتقنت "مَيّ" فنّ الشعر والخطابة منذ أيام الدراسة، وكانت خطيبة المدرسة في كلّ مناسبة نظراً لحسن إلقائها وجودة فصاحتها. ويوم ألقت كلمة جبران خليل جبران في حفلة تكريم شاعر القُطرَين خلیل مطران، أدْهَشَت الحضور بأدائها الفصيح وحضورها المميّز، وبخاصّة عندما أتبعتها بكلمة لها بليغة ومؤثّرة. وعُرفت فيما بعد بأنّها أخطب العرب!

وكما في الشعر و الخطابة، نالت أيضاً شهرة واسعة في أدب المقالة العربيّة الحديثة، بحيث غدا إنتاجها الفكريّ والأدبيّ يتمتّع بدور كبير في تحقيق النهضة الأدبيّة العربيّة التي كانت مّيّ تصبو إليها.


مراحل من حياة "مَيّ"

ولدت "مَيّ" في بلدة "النّاصرة" بفلسطين في اليوم الحادي عشر من شهر شباط سنة 1886، من أب لبنانيّ هو الياس زخّور زيادة من قرية شحتول في فتوح کسروان، ومن أمّ فلسطينيّة هي نزهة خليل معمّر من قرية النّاصرة.

تَلَقَّنت "مَيّ" مبادئ القراءة والكتابة والتعليم المسيحيّ في مدارس راهبات مار يوسف للظهور في النّاصرة . ولمّا بلغت الثالثة عشرة من عمرها في سنة 1899 انتقلت مع والديها إلى قرية شحتول مسقط رأس والدها في لبنان، حيث نعمت بهدوء الطبيعة وسحرها ، ومَتّعت ناظريها بجمال الحقول المنتشرة في الجلالي المتماوجة بالسنابل والزهر والعطر بين الصخور الرماديّة المنتصبة في حضن تلك الروابي الشامخة، وفي هدأة من السّكون السّاجي هناك للتأمّل والمناجاة. وفي تلك السنة التحقت بالقسم الداخلي في مدرسة راهباث الزيارة في بلدة عينطوره - کسروان حيث بدأت تتفتح مواهبها الفكريّة والأدبيّة وتظهر براعتها في اللّغة الفرنسيّة التي نظمت فيها أوّل أشعارها. وفي سنة 1904 انتقلت إلى مدرسة راهبات المحبّة اللعازاريّات في بيروت حيث قضت سنة دراسيّة واحدة قبل أن تعود مع أهلها إلى مسقط رأسها في بلدة الناصرة – فلسطين.

ولما بدأت تسطع بمواهبها الفكريّة والأدبيّة والموسيقيّة، سافرت مع والديها الی مصر سنة 1907 حيث بدأت تتعرّف الی نخبة من الأدباء والمثقّفين الذين كانت تَلْتَقيهم في مكتب جريدة "المحروسة" التي أنشأها والدها، في الوقت الذي كانت فيه تزيد من ثقافتها العربيّة، واللّغتين الإنكليزيّة والألمانيّة. وبدأت تكتب في صحف : " الهلال"، و"المقتطف"، و"الأهرام"، و"السّياسة الأسبوعيّة".

اتصف أدب مَيّ زياده بمضامين خاصّة وجماليّة فريدة، ونقاوة شفّافة مُستمدّة من مشاعر إنسانيّة وأحاسيس وجدانيّة، تَغَلْغَلَت في كیانها منذ شُغِفَت بطبيعة قرى لبنان الزمرّديّة وحُسنها الفتّان بالزهر والعطر واللون، وبنقاء سمائها، وعذوبَة مياهها، وبسموّ أخلاق أبنائها...، وتأثّراً بطبيعة النّاصرة أيضاً تلك القرية الفلسطينيّة الوادعة والزّاخرة بطهر القداسة وعظمة الإيمان، وإعجاباً بأرض مصر الخيّرة المعطاء، ومياه نيلها الرّقراق، وبتراث حضارتها التاريخيّة العريقة...، فإذا نثيرها الشّفيف أقرب إلى نظمها الرّهيف! ومن المعروف أن الكثير من شعرها الجميل لم يُنشر، وإنّما كان يُسمع في "صالونها الأدبيّ" ويحفظ!

وتميّزت"مَيّ" بريادة أدبيّة في الأسلوب والتعبير، وبتأثير عميق في التحليل العقليّ من خلال فنّ المقالة والخطابة والرسالة والأبحاث التاريخيّة والإجتماعيّة، ومن خلال الدراسة والترجمة والبحث والنَّقد، فغدت في طليعة المحدثين فكراً وثقافة، وأولى المُسْهمين في نهضة الأدب العربيّ، وأولى المدافعات عن حريّة المرأة الشرقيّة وحقوقها والمُطالبة بتحريرها...

وفي الخلاصة، إنّ "مَيّ" نابغة من لبنان مُنجذبة إلى الشعلة الإلهيّة، ومُلتهبة بروحها الإنسانيّة، استلّت رؤاها من نياط القلب ووشَّتها بلهب العاطفة على رخاء نورانيّ.

صالون "مَيّ"

تَمَيَّز صالون "مَيّ"، وطوال ثمانية عشر عاماً، بلقاءات فكريّة وثقافيّة عالميّة، بحيث كانت تعقد ندوةً أدبيّةً مساء كلّ يوم ثلاثاء في "صالونها الأدبيّ" تستقبل فيها كبار الشّعراء والأدباء والفنّانين والسّياسيّين، فانطلقت حينها في مصر حركة فكريّة مشهودة كان لها الأثر البعيد في التزام قضايا العصر ورسالة الإنطلاق والتحرّر. وما أكثر ما قیل فيها مِمَّن تَتَيَّمَ بهواها العذريّ، وافْتَتَن بجمال روحها، وحُسن طَلْعَتِها، وحلاوة حديثها، وعمق ثقافتها، واكتفى بعضهم بالنّظرات والإبتسامات، وانسرح البعض الآخر وراء الأمنيات والخيال...، وها هو مثلاً الدكتور شبلي الشميّل بالرغم من شیخوخته ينظم قصائد غزليّة في "مَيّ"، ويتبعه الشاعر المصريّ الكبير اسماعيل صبري فينظم فيها شعراً رقيقاً يدلّ على هواه المُتَيَّم بحبّها، وتعليل نفسه بلقائها كلّ يوم ثلاثاء، فيقول:

"روحي علی بعض دور الحيّ حائمةٌ = كظامِئ الطَّير حَوَّاماً على الماءِ
إن لم أُمَتّع بِـــمَيّ ناظــــــري غــداً = أنكرتُ صُبحَكَ يا يومَ الثلاثاءِ."

- وتجلّى هيام الشاعر الثّائر وليّ الدين يكن بِمَيّ، عندما أهدی إليها صورته، وعليها هذا البيت من الشعر:

"كلّ شيء يا مَيّ عندك غالٍ = غير أَنّي وحدي لَدَيْكِ رخيصُ".

- أما أمير الشعراء أحمد شوقي، فكان يتردد على ندوة " مَيّ " ويجلس متأثراً بفتون لَحظها و لَفظها، ومأخوذاً بسحر حديثها وروعة شخصيتها، فأنشد فيها يقول :

"أُسائِلُ خاطري عمّا سَباني = أَحُسْنُ الخُلق أم حُسْنُ البيانِ
رأيت تنافُسَ الحُسنَيْن فيها == كأنّما لِمـَيَّةَ عاشــــــــقانِ
إذا نَطَقَت، صَبا عقلي إليها = وان بَسَمَت إليّ، صَبا جناني
وما أدري أتبسمُ عن حنینٍ = إليّ بقلبها أم عن حَنـــانِ
أم أنَّ شبابها راثَ شبابي = وما أوهی زماني من كياني."

- وكان من المعجبين بـ "مَيّ" وشخصيتها الأدبيّة الشيخ أمين تقي الدين الذي قال فيها:

" مَيّ وما مَيّ سوى قُبَسٍ = للحُسْن مَزَّق نورُه الشُّهُبا
إنّي أُحَيِّي فكِ نابغةً = حَسَد الأعاجمُ عندها العَرَبا."

- ومن أدباء لبنان وشعرائه كثيرون مِمَّن تغزّلوا بـ "مَيّ" أو راسلوها حبّاً وإعجاباً وفي طليعة هؤلاء جبران، والدكتور نقولا فيّاض، و أمين الريحاني وشبلي ملّاط الذي قال فيها:

" ألا حَمَلوا إليك حديث مَيّ = کأزهارِ الجَنائنِ في شَذاها
كأنّ الله مِن سِحْرٍ ودُرٍّ = أتاحَ لِمَيّ لاحظةً وفاها
وشاوَرَ أمّها لمّا بــَـراها = وشاورَ يومَ كَوَّنَها أباها
فجاءتْ مَيّ مُعجزةً تَنَاهی = من المَعنى إليها ما تناهی
رويدك إنّ بنت الأرز مَيّ = وحَسْب الأرز أن يُدعى أباها"

- وبدوره نظم الدكتور نقولا فيّاض قصيدة غزل في "مَيّ" جاء في مَطْلَعِها هذا البيت:

"يا "مَيَ" هذي ساعةُ الميعادِ = فسَلْي فؤادَكِ عن خُفوقِ فؤادي".

ولو أردنا أن نعرف حقيقة ما كان في قلب "مَيّ" من مَوَدّة نحو أيّ من تلك القلوب الحَوّامة حولها، لتبيّن لنا أنها لم تكن لتبخل او تضنّ بالمودّة على أيّ مفكّر أو شاعر أو أديب، ولكنّها مودّة صداقة واحترام مألوفة، وهي لم تتعلّق بواحد ممّن كانوا يحضرون ندوتها او عرفوها، إلَا انه من الثابت أن "مَيّ" أحبّت جبران أدیبها المفضّل، حبّاً رومنسيّاً فريداً، كما ظهر ذلك في الرسائل المتبادلة ما بينهما والمتأجّجة بالأشواق والمناجاة والحنين والمعاناة، ومن صورها التي أرسلتها إليه ، وقد كَبَّر إحداها بريشته فجاءت تحفة فنيّة رائعة لكثرة ما أسبغ عليها من أحاسيس الشَّوق والهيام. وكانت "مَيّ" تحتفظ بصورة لجبران وتستشفّ من خلالها الحبيب كما تخيّلته. حتى وُجِدَت صورة له بين أوراقها، وتحتها هذه العبارة: "هذا سبب عِلَّتي و شقائي من زمان طويل".

وممّن شُغِفوا بحبّ "مَيّ" إلى حدّ العشق: أحمد شوقي أمير الشّعراء، خليل مطران شاعر القُطرَين، حافظ إبراهيم شاعر النِّيل، مصطفى صادق الرافعي، عبّاس محمود العقّاد، الصحافي سلامه موسى، طه حسين عميد الأدب العربي، أحمد لطفي السيّد، عبد العزيز فهمي، الصحافي يعقوب صرّوف، منصور فهمي، الدكتور زكي مبارك، الشيخ علي عبد الرزّاق، ابراهيم المازني، محمد التابعي، الشيخ انطون الجميّل، سلیم سركیس، داوود بركات، شبلي الشميّل، أحمد زكي باشا، الأمير مصطفى الشهابيّ، هدی الشعراوي المصريّة، إيميه خير، ومَيّ شكّور اللبنانيّتَين.

تعدّدت مواهب "مَيّ" في الكتابة بالعربيّة والترجمة الى الأجنبيّة، وفي النَّقد الدقيق والصَّريح، وفي الرَّسائل الناطقة بالفكر العميق وبالمودّة والإخلاص، وقد جعلت جبران خليل جبران يُعلّق على إحداها بعدما حصل على صورة لها قائلاً : " إن وراء هذه الجَبْهَة قُوَّة غريبة ستُظهرها الأيّام، ووراء هذا الثَّغر أغنية ستُرسلُها الليالي". وقد كتب لها يوماً يقول: " ما أجمل رسائلك وما أشهاها، فهي كنهر من الرَّحيق يتدفَّق من الأعالي". وفي رسالة منه بتاريخ 12 کانون الثاني 1925، أرسل لها رسم "الشُّعلة الزّرقاء" دلالة على حُبّهما الأبديّ. وأعقب ذلك مراسلات عديدة بينهما زاخرة بالكلام عن الحبّ والصّداقة، والروح والجسد، والزواج الذي حُرم منه كلاهما! وكانت "مَيّ" كجبران قد صُدِمَت بالحبّ منذ صِباها، حين خُطِبَت قسْراً لنسيبها نعوم زياده من قرية جديدة غزير الكسروانيّة، في حين كانت هي تميل برغبة إلى أخيه جوزف منذ كانت طالبة في مدرسة الراهبات في بلدة عينطوره الكسروانيّة. وبالرّغم من كثرة المُعجَبين بها والمُتودّدین لها في "صالونها الأدبيّ"، فلم يظفر أحد بقلبها، سوی جبران وحده و عبر الأثير، وقد نال كلّ حبّها السَّامي وعشقها الروحي، و قد كتبت له يوماً رسالةً عن الحبّ، جاء فيها:

"الحبّ الذي يجعل العالم هيكلاً حيث تتّسع النفوس فتجثو للعبادة والصلاة والاتحاد الروحيّ مع جميع قوى الكون، هو الحبّ الذي نعنيه عندما نتكلم عن الحبّ، ونُعظّم عواطف الحبّ".

فأجابها بكلمات قليلة تختصر كلّ معاني الحبّ: " أنتِ تُحْيين فِيَّ وأنا أَحيا فيكِ". أحبّ جبران "مَيّ" بروحه وقلبه حُبّاً حقيقيّاً صافياً رغم ما كان يعتصره من أَلَم ووَحْشة غُربة، فكتب إليها شاكياً مُلْتاعاً من المرأة، رغم أنها " تفتح النّوافذ في صدري والأبواب في روحي". وكان جوابها في رسالة له : "أعرف أنَّك محبوبي، لكنّي أخاف الحبّ ... الحمد لله أّنّي أكتبه على الورق ولا أتلفّظ به".

مآسي "مَيّ"!..

لم تكن "مَيّ" سعيدة في حياتها، ولا هانئة بالشُّهرة التي أحرزتها في دنيا العرب ولا حتى بالعرش الذي احتلّته في قلوب محبّيها وعارفيها وقادریها، بل عاشت متاعبها وهمومها وآلامها بصمت مُدهش، مضحّية بشبابها الغضّ وروحها المتوثّبة في سبيل الرسالة الأدبيّة والفكريّة السّامية.

وتَتَالَت المصائب على "مَيّ" فَفَقَدَت والدها سنة 1929، ثمّ جبران صديقها في الفكر والرو ح سنة 1931، وبعدهما أمّها سنة 1932، فحزنت حزناً شديداً إذ باتت وحيدة في حياة موحشة محرومة من حنان الأهل، ومحبّة الزّوج، وسعادة الأمومة، فَفَقَدَت كل أمل، وانْطَوَت على نفسها تُعاني مرارة الوحشة واليأس، فاعتلّت صحّتها، وأصيبت بانهيار عصبيّ. ثمّ تعرّضت لمضايقات من أحد أنسبائها إلى حدّ التَجَنّي عليها واتّهامها بالجنون، فقضى إدخالها مصحّ العصفوريّة بمساعدة أحد النّافذين في الدولة اللبنانيّة بعد الاستحصال على إفادات طبيّة مزوّرة...، فاعتلّت صحّتها، وأنهكت نفسيّتها، فاستسلمت إلى اليأس والكآبة والخَيْبة، وبخاصّة بعدما فقدت أصدقاءها وتَفَرَّق مَن كان حَولها، ونُهِبت أموالها وكلّ ما تملكه من تحف نادرة وهدايا ثمينة...

ولمّا بلغت الخمسين من عمرها، وكان قد وصل بها التشاؤم والكَبْت والحرمان الى حدّ اليأس بعد أن فَقَدَت والِدَيْها وكثيرين ممّن أحبّتهم ولا سيّما جبران، وانصرف عنها الذين كانوا يحضرون ندوتها في أمسيات الثلاثاء، بدأت تُعاني التجربة القاسية والمريرة، فلا صديق، ولا قريب، ولا زوج، ولا حبيب، وهي تقترب من الشيخوخة ... فأضْرَبَت عن الكتابة وقطعت صِلَتَها بالناس، فأُشيع أنّها مصابة بمسّ في عقلها، فزاد ذلك في تأزّم نفسيّتها وتوتّر أعصابها، فضاقت بها الحياة من غدر الناس ومن تَعَدّي الأقرب إليها نَسَباً، طَمَعاً بما كانت تملُكُه من مالٍ وحِلَى وهدايا وكُتُب وأشياء ثمينة، فكانت تبكي وتضحك في آن، وتلجأ الی الصّمت المطبق والنظرات الغاضبة والقلقة والحائرة، ممّا ساعد نسيباً لها، قيل إنه كان من عُشّاقها، على إطلاق شائعة الهستيريا والجنون عليها، بعدما قصدها الى مصر، وأغراها بالعودة إلى وطن الأرز للاستراحة فيه ولو لأيّام فقط. وعقب وصولها الى لبنان، تمكّن من إدخالها عنوة الى مستشفى "العصفورية" حيث كتبت مذكّراتها : "ليالي العصفورية"، وبعدئذ هبّت الصّحافة الادبيّة الى نصرتها وإنقاذها من محنتها ورفع الظّلم عنها، وفي الطليعة فيلسوف الفريكة أمين الريحاني الذي ساعدها كثيراً على استرجاع حرّيّتها وكرامتها!

لقد كان وراء كلّ ما حَلَّ في "مَيّ" من مآسٍ، نسيبها الدكتور جوزف زياده الذي كان يطمع بثروتها وممتلكاتها، فاغتنم الوضع الذي وصلت إليه، وكان هو وراءه، فراح يَتَوَدّد لها، ويُظهر اهتمامه بصحّتها والعناية بها، حتى تمكّن من الحصول منها على وكالة عامّة لإدارة شؤونها، ثم اتّهمها بالجنون. وسرعان ما انتفض عدد من الأدباء والمفكّرين لنُصرة "مَيّ" وإنقاذها، وفي طليعتهم صديقها الكبير أمين الريحاني، ومارون غانم، وبهيج تقيّ الدين، وحبيب أبي شهلا، واستطاعوا نقلها من مصحّ العصفوريّة إلى مستشفى ربيز، ثم إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة، وبعدها إلى منزل صغير في محلّة رأس بيروت، ومنه إلى ضيافة صديقها أمين الريحاني في الفريكة لبضعة أسابيع قبل أن تعود إلى مصر.

وفي أثناء وجودها في الفريكة راح الأصدقاء والأدباء والمُعجَبون بفكرها وأدبها يُقنعونها بقبول الدعوة لإلقاء محاضرة في الجامعة الأميركية في بيروت حول موضوع "رسالة الأديب الى العالم العربي"، فاستجابت لتلك الدعوة، ووقفت في حشد من الناس جاءوا بقلوب واجِفَة خوفاً عليها من الفَشَل، واذا بـ"مَيّ" هي "مَيّ" تعتلي المنبر بثقة وإباء وشموخ، وتعود خشباته لتهتزّ تحت قَدَمَيْها في وقفة ملؤها الرّصانة والكرامة والاعتزاز، ولتُوَفَّق كعادتها في الإحاطة الشاملة بالموضوع، ولتحرص أبداً على سُطوع مِشعل العبقرية الذي حملته طوال حياتها، فأدْهَشَت مَن أدهَشَت، وسَحَرت مَن سَحَرت، وخَرَجَت من مُحاضرتها منتصرةً على نفسها وعلى الذين ظلموها واتهموها بالجنون!

عودة "مَيّ" إلى مصر ...

عادت "مَيّ" الى مصر بعد ثلاثة أعوام من المعاناة الظالمة والقاسية، فَتَلَقّاها البعض باللّامبالاة، والبعض الآخر بالترحيب ومنهم الكاتب طاهر الطناحي عميد مجلّة الهلال بقصيدة جاء فيها :

"عودي الى مصر مثل الشمس ساطعةً = تُزجي ضِياءَك آیاتٍ وعرفانا
کم قد حَزِنّا لِبـُعـْدٍ طال مَوْعِدُه = وكم حَسَدنا على الأيام لُبنانا."

وما لَبِثَت "مَيّ" أن اعتزلت الناس إثر انتشار شائعة جنونها المزعوم في صُحُف القاهرة وغيرها، فَمَزَّقَها الحزن والألم والوحشة والكآبة، فلازمَت سريرَها وانْطَوَت على نفسها تُقاسي اللّوعة بعد اللّوعة حتى وفاتها في التاسع عشر من تشرين الأول 1941، ولها من العُمر خمسة وخمسون سنة.

وقد قال العقّاد في رثائه لها :

" أَيْنَ في المحفل "مَيّ” يا صِحاب = عَوَّدَتنا ها هنا فَصلَ الخِطاب
شيَمٌ غُرٌّ رَضِيّاتٌ عذاب = وحِجىً يَنفُذُ بالرأي الصَّواب
وذكاءٌ ألمَعِيٌّ كالشباب = وجمالٌ قُدُسيٌّ لا يُعـــــــــاب
كلّ هذا في التراب، آهٍ من التراب ".

قَدَر "مّيّ" وجبران سرّ خفيّ

تبقى الإشارة إلى أنّ ارتباط القَدَر بالأحلام والأسباب والزّمان، هو أحد أسرار الحياة والكون، في المصادفة أحياناً وفي الواقع والحقيقة أحياناً أخرى. ومن المُصادفات رُجوعُ جبران من بوسطن إلى لبنان، والتحاقُهُ بمدرسة "الحكمة" في بيروت لإتقان اللغّة العربيّة، ورُجوعُ "مّيّ" إلى مدرسة "راهبات الزيارة" في عينطوره – كسروان لاستكمال تَحْصيلها العلميّ. فالإثنان إذاً نَهلا من مَعينٍ واحد، مَعينِ الفكر اللّبنانيّ اللّبنانيّ، والثقافة اللبنانيّة المكنوزة بالمعرفة والحضارة، فَطَلَعا على الدنيا نابغَتَيْن حَلَّقا في ثُنائيّة جواء، ولكن في وحدانيّة نُبوغ وإبداع وعطاء!

لكن قدر "جبران ومَيّ" بقي مرتبطاً بسرّ خفيّ حملهما على العزلة والتأمّل، ومُغالبة شَجَن كَمين، نتيجة صِراعٍ وتفكيرٍ حائرٍ بين الشكّ واليقين، وحقيقة ذلك المُحرّك الإلهيّ الذي هزّ كيانهما فدخلا في حوار فكريّ عميق، مُتَخَيِّلَيْن نَفْسَيْهما في كَهْف أفلاطون يريان الدنيا من خلال الجمال الروحيّ الأسمى، فغرقا في أسرار الكون بفكرهما وتأمّلاتهما!

أمّا رسائل "مَيّ" إلی جبران، فلم يُعثر لها على أثر باستثناء بعض کلمات ومقاطع نشرتها المجلّات العربيّة في حينه، فيما مجموعة رسائل جبران الرومانسيّة التي بعث بها إلى "مَيّ" بين سنة 1914 وسنة 1939، وقد جمعها الدكتور سهيل بشروئي، والأديبة سلمى حفّار الكزبري في كتاب "الشعلة الزرقاء"، فهي تحمل في طيّاتها أروع قصّة حبّ عذريّ عرفها عاشقان لم يلتقيا يوماً إلّا عبر الأثير في مُساجلات روحيّة طريفة، وفي آراء فلسفيّة تصوّفيّة، وفي خيال ضبابيّ بعيد الرؤی يخفق بمشاعر سامية في عالمهما الروحيّ.

وإن ما تجدر الإشارة إليه هو أن "مَيّ" كانت في أحاسيسها المُرْهَفَة ومشاعرها المُلْتَهِبَة من أكبر الأدباء الإنسانيّين الذين مارسوا اكتناه الروح الإنسانيّة في الحياة والمجتمع وفي مظاهر الفكر والفنّ، وخير دليل على ذلك مؤلّفاتها واحداً بعد واحد، بدءاً بـ "أزاهير حلم"، "سوانح فتاة"، "ظلمات وأشعّة"، "كلمات وإشارات"، "المساواة"، و"بين الجَزْر والمَدّ"، وغيرها من كتبها ومحاضراتها، وبخاصة أدبها المثاليّ الذي تجلّت فيه مُصْلِحَة إجتماعيّة، وداعية حقّ للفكرة الوطنيّة والروح القوميّة، ورائدة للقِيَم الإنسانيّة كالخير والمحبّة والجمال، مُعَبِّرة عن روحها السّامية خير تعبير، فاسْتَهْوَت معظم العقول والنفوس للتّسامي بها، واحتلّت مكانة عالية بما أُوتيت من مواهب إبداعيّة في مقالاتها التحرّريّة والنّضاليّة الهادفة ومطارحاتها في النّقد والبيان، وفي أسلوبها الرومنطيقي الأخّاذ.

ومن خطبة لها في مصر سنة 1916، قالت: "لئن كان الإنسان أعجوبة الخَليقة، كما يقولون، وكان فكر الإنسان أعجب ما في الإنسان، فإنّ هذا الفكر قد أبدع عجائب ثلاثاً جعلت للحياة معنىً ورونقاً جديدَين، وتلك العجائب الإنسانيّة هي: "الكلمة والحرف والمطبعة".

ترى هل كانت "مَيّ" أعجوبة عَصرها بفكرها الذي أبْدَعَت فيه عجائبها؟!
أعلى