محمود سيف الدين الإيراني - الرصاصة الأخيرة

"كان لا بد من هزّة كبيرة، بل هي الرجّة الشاملة من الرأس إلى القدم، لكي نصحو من نوم القرون".. هكذا كان يتحدّث ذلك الرجل. لا أدري أين رأيته. أتراني رأيته فعلاً؟ هؤلاء الناس يتشابهون. البدلة الثمينة الجديدة، ربطة العنق المحكمة، القميص الأبيض الناصع، الشعر المسرّح بعناية، المشية المتّزنة، والكلمات التي تقال باتّئاد.. تخرج بطيئة من دخان السيكارة في الهواء.. دائماً هذه الكلمات تقال للصحاب والجلساء في رحاب فندق كبير أو مقهى أنيق. والآخرون أيضاً ينفخون مع سكائرهم كلمات.. كلمات.. كان هذا متوقّعاً.. كل شيء ينذر بالنكسة.. الكارثة.. النكبة.. كلمات، كلمات.. ومعها أحياناً ابتسامات ما أغربها! لا أستطيع أن أفهم كلّ شيء، وهذه الكلمات تذهلني، وأكثر منها الابتسامات.. عاد الرجل يقول بوقار: "كان لا بدّ من هزّة.. بل رجّة لكي..." وكنت قد حملت صينيّة المشروب، والكؤوس الفارغة فوقها، وكان لا بدّ أن أدير ظهري وأمشي.. هم متشابهون في شرفات وأبهاء الفنادق، هنا في عمّان وهناك في القدس يوم كانت القدس لنا.. "يجب أن أكون سعيداً." هكذا قيل لي.. قالها رجل من أولئك، ربّما كان في الخمسين أو دونها أو فوقها. من الصعب أن يميز الإنسان أعمارهم وإنّما البدلة هي الجيّدة دائماً، وربطة العنق الثمينة، والشعر المسرّح وتلك الكلمات.. والابتسامات وهزّة الرأس أحياناً. يجب أن أكون سعيداً لماذا؟
قال بهدوء، وهو يشعر بأهميته وحكمته: من حسن حظّك أنّك وجدت عملاً بعد أن نزحت..
ثقوا أنّه رجل طيّب وقور، يقول كلمات من ذهبٍ ولا ريب، ولكن لماذا يجب أن أكون سعيداً؟ ألأنّي فقدت بيتي هناك.. في القدس؟.. كنت أحبّ حاكورة ذلك البيت. هي والبيت ملكي. ورثتها عن أبي، وأبي عن جدّي.. وجدّي عن أبيه وجدّه.. كانت أمّي تزرع الحاكورة، وكانت تسخو بأيّامها القليلة المتبقيّة لها في الدنيا، لذلك البيت الأخضر ولتلك الزهور الندية.كان بيتنا يضحك دائماً ضحكة مع كلّ نبتةوزهرة، وكانت أمّي العجوز الطيّبة تضحك هي الأخرى في جلستها عصر كل يوم في طرف الحاكورة، وأنبوب الأركيلة في فمها، وماؤها يتقلّب ويقرقر، وتصعد أوراق الورد فيه وتهبط مع كلّ نَفَس.. تضحك أمّي، واضحك أنا، ويضحك أبنائي، ويضحك البيت كلّه. أحد هؤلاء الأبناء –أحمد- قتلته شظيّة قنبلة هناك على حافّة الحاكورة، لمّا دخل اليهود القدس. وعندما نزحنا لم يكن أحمد معنا، كان قد مات ودفن بسرعة، كأنّه شيء محظور، ولم تكن أمّي معنا.. ماتت قبل أن ترى كلّ ما حدث.. قبل أن يذهب البيت والحاكورة..
عملتُ طويلاً خادماً في المقهى، مقاهي القدس وحاراتها وأزّقتها ودروبها الكثيرة الصاعدة والهابطة. كنت أصعد درجة حارة النصارى، وأهبط منه كلّ يوم مرّات، وأرى دائماً رهباناً وراهبات، وأسمع قرع النواقيس.. في أحيان كثيرة كان جيبي يطفح بالقروش، هبات الزبائن، ومع الأيام غدوت "غرسوناً" في الفنادق، مرّة في "الأوريانت" مرّة في "الامبسادور" ومرّة في "الوطني".. وبقيت أرى أولئك السادة، وأسمع الكلمات المصنوعة من ذهب، وأقدّم الطلبات، وأرجع بالكؤوس الفارغة تماماً.. كان الفراغ صورة حيّة أكاد ألمسها بيدي..
كيف تراني تركت مدينتي؟ من يصدّق أنّي كنت سأفعل هذا؟ كان يخيّل إلي دائماً، كأنّني حجر قديم في أسوارها. كان دكّان أبي صغيراً جداً، ضيقاً جداً، لا يكاد يتّسع إلا له، ولبسطته التي تحمل خضراً وفواكه.. وسلّة بيض في ركن من الدّكان دائماً.. كان يعتزّ –رحمه الله- بأنّه يبيع بيضاً طازجاً، كبير الحجم ليس كمثله بيض.. ومن الدّكان الصغير الضيّق كنت تستطيع أن تسير يساراً، فتجد دكاكين أخرى كدكّان أبي، وبسطات وسلاّت بيض، ثم تجد دكاكين النحّاسين والمنجّدين، وبعدها سوق السقط حيث تباع الأطراف والكرش والرؤوس والطحال والمعاليق.. يوم كان يعود أبي بعد الغروب، ومعه رأس وأطراف كنت أنطّ من الفرح، وأروح أتخيّل سلفاً بركة صغيرة من مرقة ولحم، تلك الفتة ما كان أحلاها وأشهاها! حتى لكنت أمصمص أصابعي بعدها وأتلمّظ طويلاً.. أما عن يمين الدكّان فبضع خطوات كافية لتجد نفسك وسط الطريق الرحب، الذي يفضي من باب صغير واطئ إلى ساحة كنيسة القيامة. وفي هذا الطريق يمرّ أكثر السيّاح، ويشترون أشياء للذكرى: مسابح، وأيقونات، وصلباناً، وقوافل جمال صغيرة، وكتباً مقدّسة مغلقة بالصدف، وأشياء كثيرة مصنوعة في القدس، وبيت لحم، من خشب الزيتون والصدف والفضّة أحياناً..
كم مرّة كنت أهمّ أن أروي لأولئك السادة كيف أنفقت طفولتي في حارات القدس، ودروبها، وأزقّتها، حافياً مشعّث الشعر، أرتدي قمبازاً مهلهلاً، أو قميص نوم فقد لونه.. كم مرّة كنت أهمّ أن أضع الكؤوس الفارغة تماماً، في ناحية. لأذكر لهم ما كنت أحسّه في تلك الرحاب، رحاب المسجد الأقصى، وبرك الماء هناك ونوافيره، وقبّة الصخرة العالية، وأصداء تلاوة القرآن، وتسابيح المصلّين، وأذان المؤذّنين، وترتيل المرتّلين في القيامة، والشموع المضاءة، وقرع النواقيس، وجموع الزوّار والسيّاح من كلّ لون وجنس. كم أحببت أن أحدّثهم عن رفاقي، صبية القدس: محمود ويوسف وعلي وصالح.. وعن لعبنا، وركضنا، ومرحنا، وصخبنا، وإحساسنا بأنّ القدس بقبابها ومآذنها ومساجدها وكنائسها، ودورها وأزقّتها ودروبها وأسوارها، هي ملكنا، هي دارنا.. وفي كل مرّة كنت أرتدّ واجماً متهيّباً.. كانت كلماتهم، التي ينفخونها مع دخان سجائرهم تلجمني، تقطع عليّ الطريق إلى قلوبهم.. فأستدير يائساً، وأعود بالكؤوس الفارغة تماماً. قال ذلك الرجل يجب أن أكون سعيداً. مرّة واحدة تجرأت، وقلت له:
-ولماذا أكون سعيداً يا سيّدي؟
-لأنّك نجوت بنفسك، ووجدت عملاً.
-ولكنّ ابني أحمد مات.. قُتل هناك.
-ونجوت أنت.. هذه سعادة.
-وتركت بيتي والحاكورة، والزهر الذي كانت تغرسه أمّي.
-لا يهمّ.. سيعود إليك بيتك.
-متى يا سيّدي؟
-سيعود يوماً.
-إن شاء الله.. الله يسمع منك.
-كان لا بدّ من هزّة.. من رجّة كبيرة لكي..
ولم أقف لأسمع بقيّة العبارة.. مضيت بالكؤوس الفارغة تماماً. واشتهيت أن أروي له حكاية عشتها.. ولكنّه لمّا أخذ يقول تلك الكلمات وينفخها في الهواء، مع دخان سيجارته وجمت، وحبست حكايتي في صدري.. أحببت أن أقول له إن ذلك كان في حزيران الماضي، في يوم كهذا اليوم يوم دخل اليهود القدس.. ويومها جاءت شظيّة قنبلة قتلت أحمد، عند حافّة الحاكورة، لا يهم أن أتحدّث عن نفسي. يومها حاربت مع الرفاق ساعات، استطعنا أن نقتل بعضهم.. ضربنا رصاصاً وقنابلُ واجهنا الموت مراراً.. ولمّا تدفّقوا بآلاتهم الجهنميّة، انسحبنا، خلّفنا سلاحنا وذخيرتنا.. لم يكن في المستطاع أن نواصل القتال.. كان قد انتهى الأمر بسرعة، بقي بعض جنودنا في مرابضهم فوق الأسوار، لم يكونوا أكثر من ثلاثة أو أربعة.. كنت أحبّ أن أروي هذه الحكاية لذلك السيّد الوقور.. كنت أحبّ أن أقول له إنّني في المكان الذي اختبأت فيه رأيت تلك المعركة.. شاهدها الكثيرون مثلي.. صبّوا نيرانهم وقنابلهم على الواغلين.. مئة جندي إسرائيلي.. قل أكثر.. رأيتهم مذعورين، يفرّ منهم من يفرّ، ويقتل من يقتل، ويبقى من يبقى.. وتأتيهم نجدات.. ورصاص أولئك الفتية لا ينفكّ يزمجر ويصفر ويقتل.. والواغلون يسلّطون مدافعهم الرشّاشة، وصواريخهم، ونارهم كلّها، على مرابض أولئك الفتية.. ويتعالى صراخ الواغلين وأنينهم.. كانوا، والله، يستغيثون بكلمات من لغتنا.. ثلاثة أو أربعة من جندنا أشعلوا نار تلك المعركة الرهيبة.. وغسلوا الأرض بدماء الواغلين.. وعلى حين غرّة، شاهدت أحدهم –أحد فتيتنا- يصوّب سلاحه إلى رأسه، ويطلق رصاصة واحدة. تهاوى بعدها ملتصقاً بجدار السور. وفهمت فوراً: تلك كانت الرصاصة الأخيرة في حوزته، ادّخرها لهذه اللحظة.. لكي لا يقع حيّاً في أيدي الواغلين.. أخفيت وجهي براحتيّ الاثنتين، وبكيت وأنا أعضّ على أصابعي.. بكيت كأنّي طفل صغير.. لم أبك على أحد، مثلما بكيت في تلك اللحظة.. إيه تلك الساعات لا تنسى... ولما هدأت العاصفة تماماً، أدركت ما حدث لكلّ زملاء ذلك الفتى الجندي.. ربّما كانوا من الكرك، من الطفيلة، من جنين، من نابلس، الله أعلم.. كانت في حوزة كلّ منهم رصاصة أخيرة..
كنت أحبّ أن أروي هذه الحكاية لذلك السيّد الذي يقول كلمات كبيرة، ينفخها مع دخان سيجارته في الهواء ويقول –وهو يضع رجلاً فوق رجل- ويغوص في المقعد الطري المريح: يجب أن أكون سعيداً.
وأحاول أنا أن أحدّثه، فتردّني كلماته.. فأعود أحمل الكؤوس الفارغة.. الفارغة تماماً وألوي قدمي وأمضي..
أعلى