مصطفى الحاج حسين - ديوان (سعف السراب)

[HEADING=1]@ قراءة في..[/HEADING]
(سعف السراب)..
- مصطفى الحاج حسين -
تقديم: غزلان شرفي..


قالوا قديما: (الإبداع هو أن يخرج الإنسان من وحل الفشل إلى إنسان يُضرب به المثل)، والأستاذ مصطفى الحاج حسين خير مثال، وأحسن قدوة يُحتذى بها في مجابهة صعوبات الحياة، و مثبطات العيش... فمن الانسحاب من مقاعد الدراسة في سن مبكرة إلى التربع على عرش التميز والفصاحة والتمكن: شعرا ونثرا، وهذا لا يختلف عليه اثنان ممن خبروا دهاليز كتاباته، وتذوقوا جمالية مداده.
لطالما كانت لغة الشعر حالمة، محلقة في الخيال، جانحة للانفصال عن الحقيقة، لكنها مع ذ. مصطفى مشدودة إلى الواقع المر، كونه اهتم بالجانب الراصد لهموم بلده، وهواجس ذاته، المنغمسة في بحر لجي، لا قرار له ولا شاطئ، زادت الغربة من تعميق جراحاته، فجاءت قوافل حروفه تقودها نار الوجد، وتظللها سماء الحنين في صحارى الفقد.. وستظل هاته الجراح تلهم شاعرنا للبوح الصافي بمكنونات القلب المنفطر، والروح الثكلى، مادام يعيش حالة من الامتداد في الزمن، والتمدد في المكان، بين إسطنبول وحلب.. هذا الحبل السري الذي لم ينقطع بعد رغم أن رحم الأم (حلب) لفظه (قسرا) خارجه، فلا زال يتغذى بآهاتها، ويرتوي من وديان دمائها، وما أشبع نهمه، ولا أطفأ عطشه.. فالحنين يشاركه صحنه، والشوق ينهل من مورده.. ليبقى دوما في حالة تعطش ورغبة لا تنتهيان .....
وأنا أتجول بين مروج الديوان، وأتنقل من قصيد لآخر، استشعرت طعم المرارة والخذلان اللذين عبر عنهما الشاعر بأبلغ بيان، إذ تُحسه جزءً لا يتجزأ من خارطة الوطن الذي أحاطته عيون الإخوة بنظرات التنكر، عوض المساندة والمؤازرة، فكانت الخيانة مزدوجة، داخليا وخارجيا، الكل فيها سواء، من جار أو صديق، وقد أفرد الشاعر أكثر من نص في هذا الموضوع.
لكل نبضة شعر في هذا الديوان نٓفٓس من أنفاس الشاعر، يؤرخ للحظات ألم اكتنفت مشوار حياته، فحاول ترجمتها حروفا علّها تخفف من لظى ناره .. فمن رحم المحنة، كانت منحة الإبداع والتميز التي طبعت كتابات شاعرنا الحصيف، الذي امتلك نواصي التعبير، وطوّع القلم بكل تيسير، فما كان حلمه سرابا، ولا أمله يباباً.. فها هو اليوم يؤسس لتيار شعري مميز، يحتل مكانة وسطا بين الوجداني والملحمي في تزاوج رائق ؛ فالشاعر لم ينفصل ولو للحظة عن هموم وطنه، ولا عن انشغالات بلده، رغم أنه استشعر العنف ضده، وضد أمثاله من شعراء السلام.. هذه القسوة التي جعلته يخاصم ذاته في أكثر من موضع، ويستنجد بما يحيط من عناصر تؤثث المحيط الخارجي قصد مشاركته إحساسه بالتشرد والضياع، حتى انه جعل للسراب سعفا، وهل يكون لسراب سعفٌ؟ السعف للنخلة بمعنى الجريد، وللعروس بمعنى الجهاز، وللبيت بمعنى الأثاث.. فما يكون بالنسبة للسراب؟ وهل للسراب وجود من أصله؟ وهل له كينونة؟ .. كل شيء ممكن مع شاعرنا الذي اعتاد تكثيف المعاني، والنزوح إلى الرمزية دون كثير تعقيد.. وما اختيار عنوان هذه القصيدة بالذات، جاء اعتباطا، وإنما كونها تحمل قبسا من نور، وفجوة من أمل في سلام بعيد المنال، هذا علاوة على تميزها بصور وانزياحات من الحبكة بمكان لا نملك إلا التماهي مع معانيها إلى أبعد الحدود
.. ذات الأمل تطالعنا به قصيدة(راية الياسمين) فلا نملك إلا التعاطف مع الشاعر، وكلنا رغبة في أن تزداد كوة الأمل اتساعا ليعم النور أرجاء الروح المكلومة التي تداوي خيباتها من خلال الصرير المبحوح ليراع سخر مداده لخدمة الهدف المنشود.. يراع قلم يجود به الزمن، له من السحر ما يجعل القارئ يمتطي صهوة الجمال، ويحلق في سموات الأصالة اللفظية والمعاني المتجلية بمنتهى الدلال.. ثم يعود ليبحر في ثراء الانزياحات، وكثافة المجازات، فيتسربل بالإبداع في أبهى حلله، حتى إني لأكاد أجزم أنه الشاعر المعاصر الوحيد الذي أقرأ له (آلاما) (باستمتاع)، وأتجرع معه (المرارة) (بتلذذ).. ليس انفصالاعن واقع مر سطرته أنامله المبدعة، وإنما ان
غماسا كليا في ديجور طاغ أخاذ، بحثا معه عن نجوم متفرقة هنا وهناك.. عساها تنير دواخل شاعرنا، ودواخلنا كقراء ولو بخيط رفيع من نور..
غزلان شرفي/فاس حزيران/يونيو 2020
* دفـاترُ صمتي..
على مقربةٍ منَ النِّسيانِ
وجدتني
أحدِّقُ بوجهِ الضَّبابِ
لأَتَبَيَّنَ دربَ غربتي
من قبري الباكي
كانتْ ذاكرتي
تقارعُ جراحَها الهائجةَ
وكانَ اسمي
ينخلعُ عن جلدي
وقصيدتي
تشعِلُ النـَّارَ بأصابعي
أَمْسَكْتُ عنِّي الانهيارَ
اِستَنَدتُ على جذعِ حَيرتي
ورحتُ أسألُ المَدى
عن مكانٍ يتهجَّى خُطَايَ
ويَتَذَكَّرُ خربشاتِ قلبي
على خَدِّ النَّدى
نسيتُ شفتيَّ على عنقِ الهمسةِ
نسيتُ يديَّ على خصرِ الياسمينِ
وتركتُ عن غيرِ قصدٍ
نبضي يتسلَّقُ أغصانَ التَّنهُّداتِ
أمشي إلى اللا زمنٍ
وطني يتشبَّثُ بدمعتي
أجُرُّ الوراءَ وطفولتي
ونوافذَ بيتي
وأُمِّي تحملُ تعبي
وتشيلُ حقيبةَ ألعابي
ودفاترَ صمتي.*
إسطنبول
* فَضـَاءُ أسطُرِي..
أَمشِي
عَلَى أَطـرَافِ صَمتِي
أَعبُرُ دَمعَتِي بِحَذَرٍ
كَي لَا أُوقِظَ النّـارَ..
وَأَتَسَلَّلُ إِلَى شَاهِقَاتِ أَسئِلَتِي:
إِلَامَ الجـُّرحُ يَمتَدُّ فِي لُغَتِي؟!
وَقَصِيدَتِي تُكَلِّلُنِي بِالرَجفَـةِ
وَأَنَا أَتَعَثَّرُ بِفَضِاءِ أَسطُرِي
أَكتُـبُ مَا لَم يُدرِكْـهُ الحُبرُ
وَالوَقتُ يَأكُلُ حَوَافَ أَشرِعَتِي..
تَسبِقُنِي العُتمَةُ
وَأَنَا أُشعِلُ مَطَرَ الكَلِمَاتِ
يَرتَابُ مِنِّي الدَّربُ
حِينَ يَمتَطِينِي حَنِينِي
أَمشِي
فِي صَحرَاءِ عَطَشِي
يَشرَبُنِي قَيظُ السَّرَابِ
وَيَجُرُّنِي الرَّمـلُ مِن لُهَـاثِي
يَمسِكُنِي دَبَقُ الجِّهَـاتِ
وَأَنَا أُقَاوِمُ اِنتِظَارِي
وَأَلِجُ فِي مِحرَابِ ظِلِّي
لِيَتَفَيَّأَ بِيَ اِنكِسَارِي
وَتَضحَكُ مِنِّي تِلَالُ الصَّدَى
حِينَ المَدَى يَجثِمُ عَلَى صَرخَتِي
يَا سَمَاءَ الخَاسِرِينَ وَالتَّائِهِينَ
مُدِّي إِلَيَّ هَمَسَاتِ النَّدَى
أَعطِينِي أَذيَالَ الأُفُقِ
زَوِّدِينِي بِجُرعَةِ تَنَفُّسٍ
لِأُجَهِّزَ لِمَوتِي مَا يَستَحِقُّ
مِن جَسَدٍ كَانَ يُقَاوِمُ
فِي دُرُوبِ العَمَاءِ.*
إسطنبول
* مجيء الغياب..
على عتباتِ الموتِ
تركتُ نهاري
ورحتُ أحصدُ ماءَ أيّامي
وكتبتُ في دفترِ الفضاءِ
أجْملَ دمعةٍ أحرقتني
من حروفِ الشّوقِ
التي تثغو إلى حليبِ الذّكريات
بالأمسِ كانوا يرشُّونَ
فوقَ جراحي
رذاذَ الأغنياتِ
ويسكبونَ الضّوءَ في أوردتي
وكانَ ترابَ الضّحكةِ
يورقُ ويتفتَّحُ وينمو
عصافيرَ حنطةٍ
وأجنحةَ موجٍ في صدري
أنا فقدتُ خطواتي
لمّا سرقَ منّي الدّربُ وجهتي
أين أمضي باختناقي؟!
ومن يدلُّني على صوتي
بكتْ عليَّ السّماءُ
حينَ تعثّرتْ بناري
وأمسكتْ بيدي الرّيحُ
لمّا الظّلامُ صارَ يزاحمني
أمشي ويعلقُ بي السّرابُ
أركضُ ويلعقني الضّياعُ
تخلَّفتْ عنّي روحي
وغدرتْ بي أمنياتي
ياأيّها العابرُ مهلاً
خذني إلى حضنِ قصيدتي
عطشٌ وريدي إلى نافذةِ الكلامِ
وكم أنا محتاجٌ لجدرانِ صمتي؟
خذني أيّها الجحيمُ
إلى بوّابةِالشّروقِ
عساني أصادفُ هناكَ لغتي
لأبدأَ بتلمُّسِ مأساتي.*
إسطنبول
* مـوجُ اليباسِ..
اِقتطِفْ من دمعتي
أجنحةَ الصَّفـاءِ
ولَملـِمْ من حطامِ ضحكتي
مطـرَ النَّقـاءِ
و اصعـَد سلالِـمَ آهتي
لِتُوصِلَني لأفقِ الغنـاءِ
رَتـِّل سُــورَةَ بوحي
والتَمِس لجمرِ قلبي
سَكِينةَ الأنبيـاءِ
اسقني من راحتيكَ
شُرُفـَاتِ المـدى
أعطني أشرعةَ الحلمِ
زوِّدني بغاباتِ الصّدى
وزِّع على جراحي
لمساتِ النّدى
كُن شاهداً على اْندلاعِ
الموجِ من يبـاسي
وَتَفَتُّحِ أزاهيرِ القصيدةِ
أنا قامةُ الحروفِ
في حضرةِ صَوتِكَ
أحصنةُ أوتارِ بحرِكَ
نافذةُ أصابعِكَ
لفضاءِ سحرِكَ
كُن أسوارَ انتظاري
وبوّابةَ الضُّحى
في أشعـاري
دعِ الأفـلاكَ
تقطفُ ثمـاري؛
وحدَكَ أنـتَ
مَن وهَبني انتصاري
لأنَّكَ أنـتَ
صهوةُ اختياري.*
إسطنبول
* حضنُ النّعيمِ..
أَعِدِّدُ هزائمي أمامَ عينَيكِ
أُحصي عَدَدَ الرّمْلِ
وأُضِيفُ ما في الكَونِ
من مَساحاتٍ
فأجد ما يُوازي خَسَائري
لو أنَّ البحرَ يَغْسِلُ ناري
لو أنَّ الفضاءَ
يحتوي ما بداخلي
من صَرخاتِ النِّداءِ
لو أنَّ يديكِ
تَمْسَحانِ عنّيَ انهياري
لوَجَدْتُ الدّروبَ تنتهي
عندَ جراحي
والسّماءَ تخيّمُ فوقَ خيبتي
وَتَمْتَدُّ الصّحارى
إلى عُمقِ وحشتي
أحبُّكِ
لكنَّ الحبَّ يورقُ في جهنّمَ
أجتازُ السّعيرَ
فيصطادني لهيبُ صمتِكِ
وأنا بكاملِ موتي
وعنفوانِ عطشي
أطرقُ اخضرارَكِ
وأرتمي عندَ عتباتِ نبضِكِ
أنا المسجّى
خارجَ أسوارِ ظلالِكِ
تحملُني إليكِ دمعتي
تقذفُني أمواجُ العشقِ
أطلُّ على شهوقِكِ بأوجاعي
أشتهي لمسةً من سحابِكِ
جرعةَ فضاءٍ من ترابِكِ
يا أمَّ خطايَ
في صحراءِ عمري
يا نبضَ وجودي
على قارعاتِ الرُّؤى
خذي عنّيَ اغترابي
واسكني قفارَ أنفاسي
شيِّدي من صلصالِ لهفتي
عرشَ مجدِكِ
لكِ الزّمانُ ينحني
لكِ التّكوينُ يخضعُ
ولكِ الأشجارُ تثمرُ الفتنةَ
يا كوثرَ النّدى
ومهجةَ الياقوتِ
يا سحابةَ التَّفتُّحِ
ويا زمرّدَ المعنى
إنِّي أحبُّكِ
أكثرَ ممَّا يظنُّ الأزلُ
وأريدُكِ
أكثرَ ممَّا يتصوَّرُ الأبدُ
وَحْدَكِ
من خصَّكِ اللهُ بالخليقةِ
وَوَحْدَكِ
من تغنَّتْ بها السّماءُ
يا حُضْنَ النَّعيمِ يا حلبُ.*
إسطنبول
* السّادةُ الأفذاذ..
وعليكَ أن تكونَ
وأن تبقى
وألَّا تموتَ بسهامِهِم
ولا بنصالِهِم
فأنتَ الخطرُ الوحيدُ
الذي كشفَ عن ضعفِهِم
ومدى ضآلَتِهِم
هُم كانوا من غيرِكَ
يتحرَّكونَ وسطَ العتمةِ
جهارى الصَّوتِ
يحصدونَ الزَّيفَ والجَعجَعَةَ
ويتبارونَ في امتدادِ قاماتِهِم
طواويسُ كلامٍ
يثيرونَ الغبارَ أينما حلُّوا
ويصفِّقُ لهُم الفراغُ
كانوا يَنعَمُونَ بِصَمتِكَ
فرحينَ بغيابِكَ
ظنُّوا صوتَكَ تيبَّسَ
وقصائِدَكَ قدِ اْنقرضت
كم أسعدهُم انشغالُكَ!
حفروا لكَ القبرَ
قبلَ أن تموتَ
نَعَوكَ وأنتَ تتعافى
أهالوا على روحِكَ التُّرابَ
وأنتَ تزهو
هُم دلُّوا على بابِكَ الموت
هُم سلَّطوا عليكَ الأفاعي
لُدِغتَ من ألفِ جحرٍ
أمطروكَ بالخياناتِ والمشاكِلِ
كتبوا نهايتَكَ بأياديهِم
وانطلقوا
يتسلَّقونَ موضعَ أقدامِكَ
ليعلنوا عن تواجِدِهِم
وكانوا يشكرونَ الشّيطانَ
على ما حلَّ بكَ من مصائبَ
ومن عذاباتٍ ومتاعبَ
وصَفَّقَ لهُم الحميرُ
حينَ اعتلوا المنابر.*
إسطنبول
* بوَّابةُ القيامةِ..
نثرَتنا الدُّروبُ
على قارعاتِ الرَّملِ
فُرادى..
يستفردُ بنا الضَّيمُ
ويسحلُ تطلُّعاتِ روحِنا
وَيَدُكُّ قلوبَنا باليباسِ
الهواءُ يعبثُ بارتحالِنا
كأوراقِ الصَّدى
ننادي على أخوةِ السَّرابِ
على أصدقاءِ الوَهمِ
يطالعُنا اْزدراءُ التَّصحُّرِ
وجلفُ الماءِ
يُغدِقُ في فمِنا كثبانَ المرارةِ
أسودٌ وجهُكَ يا ضوءُ
الأرضُ أفعى تطاردُ تعثُّرَنا
وفي السَّماءِ تتزاحمُ المشانقُ
فأينَ نتَّجهُ؟!
والنَّدى يُصَوِّبُ نحوَنا المقابرَ
والنَّسمةُ مدجَّجةٌ بالبارودِ
والسَّحابُ يتوعَّدُنا بانفجارٍ مباغتٍ
نركضُ صوبَ اللهِ
الجهاتُ تنصبُ لنا المكامنَ
نتَّجهُ نحوَ البحرِ
تتسابقُ نحوَنا الحيتانُ
الرَّصاصُ ينامُ داخلَ أجسادِنا
يستريحُ من عِبْءِ التَّنقُّلِ
والاختناقُ يختبئُ في حناجرِنا
والموتُ..
هذا الماكرُ الخبيثُ
دائماً
يخرجُ علينا من جيوبِنا
هذا الكونُ مصيدةٌ
لكلِّ مواطنٍ سوريٍّ أعزلَ
هذا العالمُ جهنَّمٌ
على مَن يتلمَّسُ أجنحتَهُ
حضارتُنا تزدهرُ بالتوحُّشِ
كلُّ الدِّياناتِ قيدَ الاعتقالِ
والفكرُ في إجازةٍ
إنَّما الأخلاقُ مرميَّةٌ
في جوفِ مزبلةٍ
تُوَدِّعُنا الرِّيحُ
يشيُّعُنا الظَّلامُ
وترثينا العناكبُ
والقصيدةُ تشعلُ دمعتَها
لا أحدَ يا اللهُ
يهتمُّ بمصيرِ سوريَّةَ
وكأنَّ النَّهارَ
لم ينبتْ من أراضينا!!
وكأنَّ المطرَ
لم تشربْ من دفاترِنا!!
هُم لا يدركونَ
من أينَ ستبدأ القيامة.*
إسطنبول
* مثوى الماء..
ستكونُ يدي ماءً
ترشُّ على الصّحارى
ملحَ لغتي
فتنْبتُ على شفاهِ الأفقِ
نارُ الولادةِ
وتنمو أجنحةُ الدّروبُ
فوقَ أغصانِ الرّحيلِ
تسافرُ في وميضِ الشّوقِ
مطرٌ من الأمنياتِ
تحتضنُ هسيسَ الذّكرياتِ
وتعانقُ فضاءَ الموجِ
وتكونُ الأرضُ أكثرَ سعةً
لقصائدَ تقطفُ العسلَ
من عناقيدِ العودةِ
وتنتشي الرّيحُ من عبقِ القبلاتِ
تمتدُّ الأغاني لتلفَّ الأسوارَ
تكونُ الرّايةُ نسمةَ ضوءٍ
والنّدى يتغلغلُ في الجُرحِ
يداوي صقيعَ الخرابِ
ويحنو على حشرجةِ الوردِ
وسأجعلُ من رمادِ جثّتي
خبزاً للصهيلِ
أطعمُ السّرابَ أشرعةَ مجيئي
وأرفعُ عن روحي
أنقاضَ الدّمعِ
أنا انتحارُ الكلامِ
نزيفُ الزّمانِ
بكاءُ الحجارةِ التي تهدَّمتْ
وانغمستْ في غصّتي
وَبَنَتْ من حطامِ دهشتي
جسورَ العدمِ
لتعْبرَ الهزيمة إلى مثواي.*
إسطنبول
* سعف السّراب..
... ويقولُ ليَ الماءُ
تَزَوَّدْ بالصحارى
وسعفِ السّرابِ
وتكحَّلْ بالهجيرِ
وَنَمْ عالياً
في أقاصي الرّمادِ
وَكُنْ لِلسرمدِ مأوىً
وللأفقِ ظلَّاً
كُنْ للموتِ بَابَاً
يفتحُ على البلادِ
لتحاورَ آثامَهَا
وَتَصْلُبَ سُقُوْطَهَا
وترضعَ الأطفالَ
من رَمْلِ القهرِ
وَاذْهَبْ إلى مَجْمَرِ الدّمعِ
تَسَلَّقْ عرائشَ الدَّمِ
واقْطُفْ غيمةً
من عناقيدِ الغناءِ
خُذْ مِنْ شَتَاْئِلِ قَبْرِكَ
سَلَالِمَ الدُّروبِ
وانهَضْ مِنْ حِضْنِ العَمَاءِ
دَعِ السَّماءَ تَنْفَلِتْ
مِنْ خَيْمَتِكَ
واعطِ للشمسِ ما تحتاجُ
من ضوءٍ وأمانٍ
وللريحِ من أنفاسٍ وجهاتٍ
وَقُلْ لبراري جرحِكَ
توضَّئي بالصبرِ
وقاومْ عتمةَ الاغترابِ
ستأتيكَ المسافاتُ لِتَنْكَسِرِ
عندَ أعتابِ خطاكَ
وَيَنْبُتَ على شفتيكَ
أفقُ الابتسامِ
وتقولُ الحربُ
سَلَّمْتُ مفاتيحي
لأيادي السَّلامِ.*
إسطنبول
* أشرعةُ الغرام..
... بَلْ كانَ وجهُكِ
يطلُّ من دمعتي
وعيناكِ تنادياني بلا توقفٍ
في صوتِكِ دروبٌ
تأخذُني إلى مجاهلِ حنيني
أمشي في غصَّتي
أعبرُ أنفاقَ الصَّليلِ
أحملُ ما تبقى من جسدي
أقتربُ من همسِكِ
أتلمَّسُ أمواجَ أنوثتِكِ
تغمرُني رائحةُ نبضِكِ الحارِّ
وتصرخُ حولي هزائمي
لا تنغمسْ في السَّرابِ
ولا تدخلْ فضاءَ الهذيانِ
تلكَ التي تغريكَ بالاقترابِ
مَنِيَّتُكَ الحمقاءُ
لمنْ تنادي
وَقَدْ تَهَدَّمَ سياجُ الرَّحيقِ؟!
أينَ تذهبُ
وَلَقَدْ باعوا ضفائرَها للنارِ؟!
اِبْتَعِدْ عن رمادِ روحِكَ
ولا تَقْتَرِبْ
من شَدَقِ الظلمةِ
أجُرُّ المسافاتِ وأهربُ
إلى فيءِ الذّكرياتِ
كانتْ أصابعي تعبثُ بفتْنَتِكِ
وشفاهي لا تفارقُ وردَكِ
وكنتِ تَتَغَلْغَلِيْنَ في فضائي
وتَزْحَفيِْنَ برموشِكِ
فوقَ أشرعتي
تقرئينَ أبْجَدِيَّةَ هواجسي
وكانتِ الأرضُ تَثْمُلُ
برعشاتِ أغصانِنا المُتَشَابكةِ
والنَّدى يُرَفْرِفُ باللَهَبِ.*
إسطنبول
* دمُ النَّدى..
من إبريقِ الموتِ
تسكبُني النّارُ وتشربُ لهفتي
وأراني بلا جدرانٍ
تسيُّجُ دمعتي
أسترقُ فِتْنَةَ البوحِ
وأرتشفُ لهاثَ الجمرِ
إنِّي أتعبَّدُ سحرَ الدّروبِ
وأصبو إلى بياضِ الهمسِ
وأعلنُ اشتهائي لاقتحامِ اللهبِ
أمسكتُ باختناقي
عن فضاءِ الرَّغباتِ
وأسرجتُ قصيدتي
لأجنحةِ المدى
وطُفْتُ على وجعي
في كلِّ صرخةٍ
تنبعثُ من شهقةِ الجرحِ
تترامى أمامي قفارُ نزيفي
وتناديني استغاثاتي
لألجأَ إلى آهاتي
أستظلُّ بلهاثي
وأنا أسبرُ خفايايَ
عمَّنْ أفتِّشُ في دمي؟!
ودمعتي تغمرُ قامتي
أركضُ صوبَ عمائي
أحملُ قنديلاً من الذّكرياتِ
سأنيرُ قبَّةَ الرُّوحِ
وأغتسلُ بأمواجِ الهتافاتِ
هنا على عشبِ أنفاسي
سالَ دمُ النّدى
واحترقتْ مداخلُ قصيدتي
وتعلَّقتْ على الأبوابِ
رقابُ أحصنتي مشنوقةَ الصَّهيلِ
هنا في جوفِ صمتي
خبأتُ رحيلي عنِ الجهاتِ
والماءُ يشربُ من لغتي
أشْرعةَ العودةِ
لألتقي بالنَّجمةِ حَلَب.*
إسطنبول
* عشـقُ الجحيمِ..
النـَّارُ أنـثى
وأنا أضطرمُ بالأبجديَّةِ
وتشتعلُ مساحاتُ رؤايَ
أحتضنُ سعيرَ الرَّغبةِ
وأمضي إلى انصهارِ اللمساتِ
لأعانقَ لظى الهمسِ
وأذوبَ في بُحَّةِ النَّبضِ
الصَّاعدِ من خلجاتِ الموجِ
المُتدفِّقِ مِن صحارى الأصابعِ
أعشقُ زغـبَ النَّدى
أُلامسُ عبقَ الضَّوءِ
أتغلغلُ في حضنِ النَّسمةِ
وأعانقُ أغصانَ الفِتنَةِ
إنَّهُ الحـبُّ
الموجِعُ لتنهُّداتِ الدَّمِ
المُضنيُّ لأنفاسِ القصيدةِ
الحارقُ لأمطارِ الحُلُمِ
ذَهَبَتْ
وتركَتْ من جسدي الرَّمادَ
وخَلَّفَتْ مقابرَ في روحي ..
وحشرجات الغمامِ في قلبي
مَضَتْ
إلى جهةٍ خامسةٍ
لا تعرفُها الدُّروبُ
تَرَكَتْ موتي يَعدُو
في جحيمِ الذِّكرَياتِ
غَـابَتْ
حتَّى غـابَ الكَونُ.*
إسطنبول
* روحُ المـاء..
…والقمرُ يَمُدُّ لي يَـدَهُ
لِأَصعَـدَ دَرَجَ العِشقِ
أَرنُو إلى مَفَاتِنِ النَّدَى
ألفُ سَمَاءٍ تُحِيْطُ الدَّربَ!
وَأَموَاجُ احتِرَاقٍ
تَهطِلُ مِنْ مُهجَتِي!
أَعِدُّ خُطُوَاتِ صَوتِي
أَلفَ عَامٍ والمَسَافَةُ تَتَّسِعُ
لِشُمُوسٍ سَتَسبِقُنِي
إلى مَدَارَاتِهَا!
وَعَيْنَاهَا تَذخُرَانِ بِأَلفِ بَحرٍ
فَكَيْفَ لِهَمسَتِي أَنْ تَصِلَ
وَقَصِيدَتِي مُعَفَّرَةُ الأبجَدِيَّةِ؟!
أُنَادِي على الجِهَاتِ
أَنْ تُوقِفَ مَدَّهَا
وَأَطلُبُ مِنَ الكَونِ
أَنْ يَحسُرَ طُغيَانَ أُنُوثَتِهَا
أَسأَلُ الآفَاقَ
أَنْ تُقَرِّبَنِي مِنْ كَوثَرِ عِطرِهَا
هِيَ الحـُبُّ المُحـَالُ
هِيَ نَجـمَةُ التَكوِينُ
زَهـرَةُ السَّرمَدِ
تُفـَاحَةُ الجَنَّةِ
رُوحُ المـَاءِ
وَأَنَا خَرَابُ الكَلِمَاتِ
أَحتَطِبُ حُلُمِي
وَأَمضِي
فِي سَرَادِيبِ الخَيالِ.*
إسطنبول
* صرخاتُ السَّراب..
حـافياً..
يمشي الطَّريقُ فوقَ غُصَّتي
فتكتوي أحجارُهُ بحنيني
وتنزفُ منهُ المنعطفاتُ
صرخاتِ السَّرابِ التَّائهةِ
ويمرُّ بالقربِ من عطشي
نهرٌ من أنفاسِ الحبيبةِ
أنادي الظِّلالَ
وفيءَ القبلةِ
فتنثالُ الصَّحارى فوقَ لهفتي
كَأَنَّ السَّماءَ عُصِرَتْ مِنْ ثديَيْها
وما عادَ في النَّدى غيرُ المرارةِ
الجهاتُ تبكي على تشرُّدي
وهي لا تعرفُ أينَ تأوي
الفضاءُ يقضِمُ الملحَ
والأرضُ تمضغُ أوجاعَ السَّديمِ
مِنْ هُنا كانَ يمكنُ لي
أنْ أدخُلَ إلى وطني
لكنَّ جهنَّمَ استولتْ على الأسوارِ
وأفلَتَتْ في ساحاتهِ الثَّعابينَ
الشَّمسُ باتَتْ بلا سماءٍ
أراها تتعلَّقُ في كهوفِ
وحشتي
وتَسرحُ مع خفافيشِ قصيدتي
والليلُ لمَّا جاعَ
ظنَّ القمرَ رغيفاً
وماتَتِ الدُّنيا
وبقيتُ وحيداً
أبحثُ عن وطنٍ
يسكُنَنِي
أطعمُهُ نبضي
أُلبِسُهُ بسمتي
وأُسقِيهِ لهاثي.*
إسطنبول
* شـحوبُ الوقتِ..
يابسٌ هذا المدى
يحلِّقُ فيهِ الوجومُ
وتعلوهُ انكساراتي
مثلَ قمرٍ يَهِيمُ
بينَ الغيومِ
وتفتحُ لهُ الأرضُ ذراعَيها
ليسقُطَ في حضنِ بُكَائِهَا
علَّهُ يُمَشِّطُ نَضَارَتَهَا
ويرسِمُ على آهاتِهَا
أشجارَ النَّدى
ورائحَة النُّجومِ
ثَقِيلَةٌ خُطُواتُ الوقتِ
يُبحِرُ بلا مراكبٍ
يُوزِّعُ مَلابِسَهِ على اللافِتَاتِ
ويبقى عارياً أمامَ المدائنِ
فَتَهرُبُ مِنهُ النَّوافِذُ
وتَخجَلُ مِنْ عَورَتِهِ المَرَايا
وتُغمِضُ الوردةُ عَينَيهَا
في حِيْنِ
يَخلَعُ السَّرابُ عَبَـاءَتَهُ
وَيُغَطِّيهِ لِأجلِ الحِشمَةِ
وبدافعِ الثَّوابِ
كَمَا أنَّ الرَّملَ
يُخَيِّمُ فَوقَهُ لِيَحجُبَ الرُّويَا
رَتِيْبٌ قُدُومُ الضَّوءِ
يَتَعَثَّرُ بِأنفَاسِ الظِّلالِ
لا يَقْوى أنْ يُبْصِرَ دَربَـهُ
يَتَعَكَّزُ على شُحُوبِهِ
مُنْهَك الآمال
يَتَهَاوى في أوَّلِ سردَابٍ
يُصَادِفُـهُ
فَيَرقُدُ تحتَ الغُبَارِ
لا حَرَاكَ إلَّا لِلمَوتِ
يُقبِلُ نَحوَ المَدِيْنَةِ
فاغِرَاً شَهِيَّتَـهِ
يَنْقَضُّ على القَصِيْدَةِ
مِنْ كُلِّ الجَوانِبِ
لا أحدَ يوقِفُ زَحفَهُ
لا أحدَ يَعبأُ بِمَا يَفعَلُ
مَوتٌ يَتَسَلَّقُ الجِدرَانَ
مَوتٌ يُورِقُ مِنَ الرَّاياتِ السُّودِ
مَوتٌ يَنْسَابُ
يَتَرَقْرَقُ
يَتَدَفَّقُ
وَيَتَفَجَّرُ في السَّاحَاتِ
كَأَنَّهُ مَطَرٌ جَارِفٌ
يُحَطِّمُ أَبوابَ السَّلامِ
مَوتٌ يُحَمْحِمُ فَوقَ الأسطِحَةِ
يُرَدِّدُ فَوقَ أَعنَاقِنَا المَذبُوحَةِ
نَشِيْدُنَا الوَطَنِيُّ
وَأَشْلاؤُنَا تُصَفِّقُ لَهُ بِضَرَاوَةٍ.*
إسطنبول
* عَورَةُ الحربِ..
ماتَ الهواءُ
وتَكَسَّرَ الفراغُ
فوقَ مخبئِنا
وانحنتْ قامةُ الذِّكرياتِ
الأرضُ تائهةٌ بينَ ذنوبِنا
والشَّجرُ يجتثُ رائحتَهُ ويرحلُ
السَّماءُ حبلى بالاستغاثاتِ
والبحرُ يتسلَّقُ الشَّفقَ
نركضُ صوبَ السَّدِيمِ
نتسابقُ لحضنِ الهاويةِ
والرِّيحُ تمسِكُ بلهاثِنا
وتَجُرُّ خطانا نحو الجحيمِ
هي لعنةُ الضَّوءِ
حَلَّتْ على نُعاسِنا
أيقظَتْنا رعودُ السُّخطِ
صارتْ قصائدُنا مقابرَ
والقلبُ ينبحُ بشهوتِهِ
يريدُ أنثى من خُبزٍ
وضِحكةٍ من حليبٍ
نحنُ مَن كنَّا نذبحُ الوردَ
لنشتمَّ رائحةَ الدَّمِ
نَتَعَطَّرُ بالضغينةِ
وَنَلْبَسُ ديباجَ الموتِ
أحرَقْنا سروالَ الحياةِ
وانكشفتْ عَورةُ الحربِ
نَقْتَتِلُ
لأنَّنا نجهلُ المُصافَحَةَ
ونقطعُ الأعناقَ
لأنَّنا لا نجيدُ القُبَلَ.*
إسطنبول
* شواطئُ الانصهار..
... وأرى المطرَ ينتعلُ دمعتي
ويمشي فوقَ جفافِ الهديلِ
يمضي في شقوقِ الضَّوءِ
يابسَ اللغةِ
متحجِّرَ الأنفاسِ
لهُ أجنحةٌ من رمادٍ
يحملُ الدَّربَ على ظهرِهِ
ويطوفُ على جداولِ الجمرِ
ليشربَ من صليلِ الحجرِ
المطرُ هَرِمٌ متساقطُ الشَّعرِ
متجعِّدُ الرُّؤيا
واهنُ الاحتضارِ
ينزفُ آهتي
من علياءِ انكساري
وأراهُ محمَّلاً بغربتي
يدقُّ أبوابَ الانتحار
ويبلِّلُ حنجرةَ الانتظار
يرسمُ للجرحِ أشرعةً
وَيُطَيُّرُ لوعتي
في مدى ترنُّحي
كأنَّهُ سنابلُ عشقٍ
مضَغَها الانهيارُ
أراهُ يمرُّ من أوردتي
يحلِّقُ في ظلامي
يتَّكئُ على جدرانِ الغبارِ
يتلمَّسُ سُخطَ القحلِ
وأشواكَ النَّوافذِ
وعتمةَ الرَّجاءِ
وينسابُ من وحشتي
ليسقيَ ركامَ الموتِ
في نبضيَ الهاطلِ
وحنينيَ الأخرسِ
في بقايا جسدي المهمَّشِ
بينَ قارعاتِ الصَّمتِ
وشواطئِ الانصهار.*
إسطنبول
* الدُّبُ..
...وَأَنَا
أَنظُرُ إلى انكسارِ السَّماءِ
مِنْ نَافِذَةِ هُرُوبِي
تَتَهَاوى أَبجَدِيَّةُ الأَضْوَاءِ
وَتَسقُطُ دَمعَاتُ القَمَر
فوقَ عُشبِ آهَاتِ دُرُوبِي
بَرقٌ يَصطَدِمُ بأنفَاسِي
رعدٌ يُدوِّي في سُفوحِ لُهَاثِي
أينَ الأرضُ
لأحطَّ عَلَيْهَا أولى خُطُوَاتِي؟!
أينَ الفضاءُ
لأرسمَ على جَبِيْنِهِ النَّدى؟!
أينَ لُغَتِي
لأستودعَ على أغصَانِهَا
قَصِيْدَتِي
موتٌ يتفتَّحُ على شُطآنِ دَمِي
وَجَنَازاتٌ تَعدُو فَوقَ أَرصِفَةِ
دَهشَتِي
أَمضِي إلى حُدُودِ أَوجَاعِي
زَوَّادَتِي
كُسرَةُ أُفقٍ
وَفُتَاتُ مَطَرٍ
وبقايا ذِكرَياتٍ
لكنَّ جُثَّتِي تَعجَزُ
عَنْ حَملِ نَظَرَاتِي
وتنامُ بداخلي الهَاوِيَةُ
تُؤرِّقُنِي الجَحِيمُ
وَهِيَ تَمُدُّ لِسَانَهَا
صَوبَ عَطَشِي اليَابِسِ
عَالَمٌ يَحبُو على جَسَدِ ثُعبَانٍ
شَيْطَانٌ هُوَ الوَقتُ
ودُبٌّ قطبيٌّ
يُطَارِدُ أَسمَاكَ بِلادِي.*
إسطنبول
* رَذَاذُ الهَمـسِ..
... وأراكِ
في تنهداتِ الصَّباحِ
عِطراً يَلْبِسُ النَّدى
أو فراشةً
تُثمِرُ الضَّوءَ
يا عُنْقَ المَطَرِ
على جِيْـدِكِ ضَيَّعتُ فضائي
يا رذاذَ الهمسِ
أينَ بقايا أنفاسي؟!
أتوقُ لموتٍ يُلامِسُنِي بأصابِعِكِ
وأهفو لارتحالٍ
إلى أقاصي مَدَاكِ
أنتِ أعشابُ روحي
حينما المطرُ يهمي على وحدتي
مجنونُكِ قلبي
وقصيدتي تفتحُ لهُ الأبوابَ
وأنا بالكادِ أتبعُهُمَا
تُسَانِدُني العصافيرُ
وتأخُذُ بيدي الدُّروبُ
أُحِـبُّكِ..
والأرضُ تَسلِبُني الينابيعَ
أُحِـبُّكِ..
والسَّمـاءُ تأخذُ عنِّي الرِّفعَةَ
والشَّجَرُ يُثمِرُ كُلَّما كَتَبتُ عنكِ
والقمرُ يضيءُ
لَحظَةَ أذكُرُ اسمَـكِ
فأينَ أبحثُ عنكِ؟!
وأنتِ في كُلِّ نسمةٍ
تَتَواجدينَ
لكنَّكِ لا تُمسَكِينَ.*
إسطنبول
* أوجـاعُ الصَّهيلِ..
يناديني التُّرابُ
يرسمُ على الشَّجَرِ بسمتي
ويكتُبُ على النَّسمةِ
أغصانَ ضَوئي
ويهمُسُ لدمعِ خُطَايَ
أنْ أقتَرِبَ
لينفِضَ عن حنيني
أوجـاعَ الصَّهيلِ
أصابِعُهُ تُمَسِّدُ ناري
رائحتُـهُ تَسري في دمي
صَوتُـهُ ينسـابُ في ضلوعي
وأنا أزحفُ فوقَ آهتي
أتَمَسَّكُ بخيوطِ النَّدى
وَأَجُـرُّ رمـادَ ينابيعي
الغربةُ قَصَمَتْ آفاقَ قصيدتي
وبعثرَتْ أقاصي كَلامي
أَرَانِي بلا موجٍ
أنزِفُ أيَّامي على الكثبانِ
الموتُ يُسَوِّرُ لهفتي
الشَّمسُ تودِّعُ مراكبي
والرِّيحُ تأكُل ظِلِّي
وأسألُ الصَّحارى عن أمِّي
أقولُ:
هِيَ تشْبهُ الأشرِعَةَ
في قلبِـها ينمو الياسمينُ
وفي عينَيها بَوحُ السَّحابِ
أُمِّي..
شَتَائلُ المَـدى
في حُضنِهَا ينامُ الحمامُ
ومِنْ يدَيهَا يَنْثَالُ الأمانُ.*
إسطنبول
* المُعتَقَل..
أيَّتُهَا النَّسمَةُ
نَاشَدتُكِ النَّدَى
اقتَرِبِي من نَافِذَتِنَا
المُغلَقَةِ
دَعيِ الزُّجَاجَ يَتَبَارَكُ بِكِ
وَيفصحُ لَنَا عَمَّا يَرَاهُ
هُنَا السَّجَّانُ
يَنهَالُ على الصَّمتِ بِهَرَاوَتِهِ
وَلا شَيءَ يَعلُو
على حَشْرَجَاتِ اختِنَاقِنَا
أَيَّتُهَا النَّسمَةُ
تَذَكَّرِيْنَا وَأَنْتِ تَتَقَافَزِيْنَ
فَوقَ أَرصِفَةِ الحُرِّيَةِ
وَقُولِي لِلْضَاحِكِيْنَ
أُخوَتُكُم
تَفَتَّتْ عِظَامُهُم في العُتْمَةِ
هُنَا.. في الزَّنْزَانَةِ
كَأسُ مَاءٍ
يُعَادِلُ نَدَى الفَجرِ
(سِيْجَارَةٌ)
تُسَاوِي آفَاقَ الدُّنْيَا
(مِرحَاضَ)
يُوَازِي مَا أَنْتُمُ عَلَيْهِ
مِنْ حَضَارَةٍ وَأَنَفَةٍ
أَيَّتُهَا النَّسمَةُ
تَوَسَّعِي تَوَسَّعِي
كُونِي بِحَجمِ غُصَّتِنَا
عَلَّ السَّجَّانَ
يَعجَزُ عَنْ مُحَاصَرَتِهَا.*
إسطنبول
* المُغْتَصَبَة..
ماذا أقولُ للماءِ
إنْ أردتُ التَّطهرَ منكَ؟!
وَخَلايايَ تَتَقَأ رِجسَكَ
وأنفاسِي مُلَوَّثَةُ الأجنِحَةِ
تَتَضَوَّرُ لِلنَّقَاءِ
وجَسَدِي يَستَجِيرُ بالاضمِحلالِ
وروحي تَعدُو بعيدَةً عنِّي
دَمِي يَشْمَئِزُّ مِنْ أوردَتِي
وقَلبِي يُرَفْرِفُ كَطَائِرٍ ذَبِيْحٍ
كَانَتْ عَيْنَاكَ مُتَوَهِّجَتَينِ بِالحَقَارَةِ
وَيَدَاكَ الشَّوكِيَّتَانِ
تَخنُقَانِ كَرَامَتِي
وَمِنْ فَمِكَ يَتَدَفَّقُ المَوتُ
حِيْنَ كَانَ يَنْهَشُ شَرَفِي
الأرضُ امتَعَضَتْ مِنْ لُهَاثِكَ
الجُدرانُ انتابَهَا قَرَفٌ شديدٌ
والسَّقفُ تَقَوَّضَتْ قِوَاهُ
حتى البابُ سَخَطَ على قِفْلِهِ
تَوَسُّلاتِي أبكَتْ صَدَاهَا
وأنتَ وحشٌ جَامِحُ الشَّهوَةِ
كَلبٌ يَلعَقُ ذُعرِي
سَيَبْصِقُ عَلَيْكَ التُّرَابُ
أينما مَشَيْتَ
وَسَيَلعَنُكَ الهواءُ
كُلَّمَا لَمَحَتْكَ نَسمَةٌ
وَسَيَنْتَقِمُ مِنْكَ النَّهَارُ
الذي هَلَّتْ تَبَاشِيْرُهُ
على أرضِ بِلادِي.*
إسطنبول
* الوَضِيْعُ...
... وَلا سِيَّمَا أَنْتَ
تَحدِيْدَاً
بِالذَّاتِ أنْتَ
أَسرَفْتَ فِي قَتْلِي
آلَمتَنِي أَكْثَرَ مِنَ المَوتِ
مِنَ الصَّعبِ عَلَيَّ مُسَامَحَتُكَ
يُؤلِمُنِي أَنْ تَكُونَ
هَكَذَا النِّهَايَةُ
وَأَنَا لا أَستَطِيْعُ الشَّكْوى مِنْكَ
لا أَقْدِرُ أَنْ أُفْشِيَ
بِاسمِ مَنْ مَزَّقَ رُوحِي
وَأَحرَقَ بَسمَتِي
وَأَعدَمَ نَبْضِي
لِسَانِي لا يُطَاوِعُنِي
قَلبِي يَخْجَلُ مِنْ نَزِيْفِي
أُفَضِّلُ لِمَوتِي
أَنْ لا يَرتَبِطَ بِكَ
وَلِذَاكِرَتِي العَمَاءَ
حَتَّى لا تَفُوحَ بِرَائِحَتِكَ
سَيُكَذِّبُونَنِي
إنْ تَجَاسَرتُ على قَولِ الحَقِيْقَةِ
فَهُمْ يَعتَبِرُونَ
أَنَّ صَدَاقَتَنَا لا مَثِيْلَ لَهَا
وَلا يَرقَى إلِيْهَا الشَّكُ
سَأَتْرُكُكَ تَمضِي عَنِّي
وَسَأَتْرُكَ لِجُثَّتِي خَيَارَ
الصَّمتِ
اِذْهَبْ بِلا عِتَابٍ
تَسَتَّرْ عَلَى جَرِيْمَتِكَ
قَدرَ مَا تَستَطِيْعُ
الخَوفُ أَنْ تَفْضَحَ فِعلَتَكَ
فَلا تَبْقَى فِي الدُّنيَا
صَدَاقَةٌ
وَيَعِيْشُ النَّاسُ
فِي بَردٍ حَالِكٍ
يُطبِقُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
لِلأَبَدِ.*
إسطنبول
* عَوِيْـلُ المِلْحِ..
يَنَـامُ التُّرَابُ
فِي حَلْقِ الدَّمعِ
وَتَتَقَمَّصُ الصَّحَارَى
قَامَةَ الشُّطآنِ
أَرنُو إلى عَوِيْلِ المِلْحِ
فِي ذَاكِرَةِ الخَوفِ
وَأَشُقُّ دَربَاً لِلْصَمتِ
أَقْتَرِبُ مِنْ رَائِحَةِ الصَّدَى
لِأَدُقَّ مِسمَـارَاً فِي لُغَتِي
يُلاحِقُني نَعشِي
وَيُطَالِعُنِي وَجهُ العَمَاءِ
أَنَا مَنْ أَضَاعَ وَرِيْدَهُ
وَرُحتُ أَتَسَلَّقُ عَطَشِي
تَرَكْتُ عِنْدَ نَافِذَتِي
مِفْتَاحَ خُطَايَ
وَصِرتُ أَحبُو عَلَى حَبْلِ الانتِظَارِ
أَجُوبُ أَزِقَّةَ الجَحِيْمِ
أَقرَأُ لافِتَاتِ الرَّحِيْلِ
وَيَمُرُّ بِيَ القَهرُ
فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ أَرَى هَزِيْمَتِي
مُعَلَّقَةً عَلَى جُدرَانِ أَنْفَاسِي
تَتَرَبَّعُ على سُخرِيَةِ المَارَّةِ
تَرمِي السَّلامَ بِصَوتٍ خَفِيْضٍ
وَلا يَرُدُّ الغُبارِ.*
إسطنبول
* رايةُ الياسمينِ..
أَتَسَلَّحُ بَالمَدَى
وَأَحفُرُ نَفَقَاً فِي وَجَعَي
جِرَاحِي تُسَانِدُنِي
دَمِي يُؤازِرُنِي
وَقَلبِي يُرَتِّقُ السَّاعَاتِ
سَأَعبُرُ أَرضَ العَدَمِ
وَأَمشِي فِي خِضَمِّ النَّارِ
أَحمِلُ رُفَاتَ الهَزِيْمَةِ
وَأَمضِي بِأَموَاجِ لَهفَتِي
إلى مَفَاتِيْحِ النَّسَائِمِ
وَأَملأُ جُيُوبَ أَيَّامِي
بِقُطُوفِ النَّدَى
لن أتركَ عَلَى الأرضِ آهَةً
لَنْ أَسمَحَ لِلْمَسَافَاتِ التَّبَاعُدَ
وَلَنْ أُعطِيَ لِلانتِظَارِ سَبَبَاً لِلْمُرَاوَغَةِ
سَأُزِيْلُ عَنِ الحَربِ حَرفَ الرَّاءِ
لِتَبْقَى خَلِيْعَةُ الفَوَاجِعِ
وَسَأَتْرُكُ عَلَى كُلِّ بَابٍ
رَايَةَ اليَاسَمِيْنِ
هُنَا.. فِي هَذَا البَلَدِ
سَيَكُونُ خُبْزَنَا الغِنَاءُ
وَشَرَابَنَا نَبِيْذُ الأُفُقِ
وَسَنَرجُمُ القَهرَ
خَارِجَ أَسوَارِ الحَيَاةِ
لَنْ يَدخُلَ عَلَيْنَا
سِوَى هَمَسَاتِ الفَجرِ
وَلَنْ نُصَافِحَ
إلَّا الحُلُم.*
إسطنبول
* لا خبزَ ولا ملحَ..
تَتَفَقَدُنِي يَدِي
تَتَلَمَّسُ وِحدَتِي
وَتَنْفُضُ الغُبَارَ
عَنْ كَاهِلِ غِيَابِي
وَتَرُشُّ الضَّوءَ
عَلَى أموَاجِ صَمتِي
تُدَثِّرُنِي بِرَعشَةِ الأصَابِعِ
وَتُنْهِضُ عَنِّي ذُكْرَيَاتِي
تُلَمْلِمُ بَقَايَا خَرَابِي
وَتَمسَحُ عَنْ قَلْبِي
عَوِيْلَ المَاضِي
العُمُرُ صَارَ سِردَاباً
يَختَبِئُ فِيْهِ الدَّمعُ
وَتَسكُنُهُ أشبَاحُ الهَزَائِمِ
وَتَطفُو على لُغَتِي
دَهْشَةُ المَغْدُورِ
وَأَسرَابُ الخِيَانَاتِ
قَتَلَتْنِي أَيَادٍ
أَسْلَمْتُهَا فَضَائِي
وَأَشْعَلَتْ حَلْقِي صَحَارى
غَدَرَتْ ظُلْمَتُهُمْ قَصِيْدَتِي
حَاصَرُوا بَسمَتِي بِالْمَخَالِبِ
هُمْ..
رَمَّدُوا يَنَابِيْعِي
نَثَرُوا على أَغْصَانِي يَبَاسَهُمْ
أَصدِقَاءُ الأمسِ
يَغْتَالُونَ امتِدَادِي
وَيَدِي تُشْفِقُ عَلَيْهِمْ
مِنَ الاقتِلاعِ.*
إسطنبول
* أَعطُونِي بَيَاضَكُمْ لِأَخُونَكُمْ..
يَخُونُنِي الصَبـَاحُ
يَخُونُنِي المَسَـاءُ
وَمَا بَيْنَ النَّسمَةِ وَالوَردَةِ
لا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الخِيَانَةِ
وَالغُيُومُ البِيضُ فِي سَمَائِنَا
هِيَ لَيْسَتْ لِأَرضِنَا
تَنَازَلْنَا عَنْهَا
بِمُوجَبِ عَقْدِ الخِيَانَةِ
فِيْ الحَربِ تَسبِقُنَا الخِيَانَاتُ
فِيْ صِنَاعَةِ الخُبْزِ
تَأْكُلُنَا الخِيَانَةُ
والمَوتُ دَائِمَاً مُغَلَّفٌ بِالخِيَانَةِ
يَخُونُكَ الأَخُ
الصَّدِيْقُ
الجَارُ
الزَّوجَةُ
الإبنُ
المُعـَلِّمُ
التُّلْمِيْذُ
وَتَنْتَهِي الدُّرُوبُ
وَلا تَنْتَهِي الخِيَانَةُ
وَرَاءَ كُلِّ شَهِيْدٍ، خَائِن ٌ
خَلْفَ كُلّ شَجَرَةٍ يَابِسَةٍ خَائِن ٌ
الجُوعُ مِنْ فِعلِ الخِيَانَةِ
الجَهلُ رَبِيْبُ الخِيَانَةِ
وَطَنٌ مُسَوَّرٌ بِالخِيَانَاتِ
نَهْرٌ يَتَدَفَّقُ بِالضَغِيْنَةِ
يَسقِي أَشْوَاكَ الصَّحَارَى
لِتَنْمُوَ الخِيَانَةُ
عَلَى أَطرَافِ تَوَحُّـدِنا
الخِيَانَةُ تَتَوَسَّطُ مَوَائِدَنَا
تُشَارِكُنَا غُرَفَ النَّومِ
نَتَنَفَّسُ مِنْ نَوَافِذِهَا
نَكْتُبُ بِأَبْجَدِيَّتِهَا
نَرسِمُ بِأَلْواْنِهَا
وَنَعِيْشُ عَلَى وُعُودِهَا
مَفْتُوحَةُ المَدَى
وَاسِعَةُ الصَّدَى
ضَارِبَةُ الجُذُورِ فِيْنَا
كَانَتْ قَبْلَ أَنْ نَأْتِيَ
وَسَتَبْقَى بَعدَ أَنْ نَزُولَ
هِيَ الهَوَاءُ
هِيَ المَاءُ
هَيَ شَمْسُ حَقِيْقَتِنا
نَحنُ - عَرَبَ الخِيَانَةِ -
نَخُونُ مَنْ نُحِبُّ
وَنَغدِرُ بِمَنْ يُسَلِّمُنَا بَيَاضَـهُ
فَأَعطِنِي سِـرَّكَ لِأَخُونَكَ صَدِيْقِي
أَعطِنِي يَا وَطَنِي مَفَاتِيْحـَكَ لِأَبِيْعَـهَا
أَعطُونِي البَيَاضَ لِأُعطِيْكُمُ السَّوَادَ
أَعطُونِي المَاءَ لِأُسقِيْكُمُ العَطَشَ
أَعطُونِي القِيَادَةَ
لِأُدخِل َ عَلَيْكُمُ جَحَافُلَ الأَعدَاءِ
وَأُفَجِّرَ مِنْ تَحتِكُم الفَاجِعَةَ
فَكُلٌّ مِنَّا يَخُونُ وَطَنَـهُ
عَلَى طَرِيْقَتِهِ
وَنَتَّهِمُ الخِيَانَةَ بِالخِيانَةِ!*
إسطنبول
* زَمَنُ المَوتِ..
وَيَنْبَثِقُ مِنْ هَشِيْمِ الدَّمعِ
عَرَاءُ الانْتِظَارِ
يَتَدَفَّقُ يَبَاسُ الرُّوحِ
فِي أَصَابِعِ القَصِيْدَةِ
وَتَنْمُو عَلَى أَطرَافِ الاحتِرَاقِ
بَوَّابَاتُ الانتِحَارِ
أُفُقٌ يَأكُلُهُ الاختِنَاقُ
بَحرٌ تَنْثُرُهُ الصَّحَارَى
والغَيْمُ مَرَاكِبُ الهَزِيْمَةِ
أَدنُو مِنْ حَافَّةِ انكِسَارِي
أَتَلَمَّسُ جُثْمَانَ الرُّؤى
أَحتَضِنُ صَرِيْرَ القَلْبِ
تُغْلَقُ عَلَى الجِهَاتِ نَوَافِذُ الصَّهِيْلِ
وَتَرتَمِي السَّمَاءُ فِي مُستَنْقَعَاتِ العَوِيْلِ
الأرضُ تَلْهَثُ خَلْفَ الجَنَازَاتِ
القَمَرُ يَرفَعُ رَايَةَ السُّقُوطِ
كُلُّ الفَوَاجِعِ تَسْكُنُ هَوَاجِسِي
وَأَنَا أُنَادِي عَلَى حِصَارِي
لَقَدْ أَيْنَعَتِ الفُصُولُ خَرَابَنَا
وَصِرنَا بِلا أَركَانٍ
يَتَعَلَّقُ بِأَذيَالِنَا النَّعِيْقُ
وَجَعٌ يَسكُنُ دَربَنَا
عَمَاءٌ يَلْتَفُّ عَلَى قَامَتِنَا
وَسُخْطُ الجَحِيْمِ يَقُودُ ارتِحَالَنَا
أَيْنَ تَتَّجِهُ الشَّمسُ
وَتَتْرُكُنَا بِلآ دَلِيْلٍ؟!
نَحنُ الدَّاخِليْنَ فِي حَربٍ
مَعَ الفَنَاءِ
نَحنُ الصَّاعِدِيْنَ إلى حَتْفِنَا
وَنَحنُ الرَّاحِلِيْنَ إلى عُمقِ المَوتِ
تَوَحَّدَتْ أَعَاصِيْرُ الهَلاكِ
وَعَلَيْنَا أَنْ نُوَاجِهَ الانطِفَاءَ
بِلا خُبزٍ سَوَاعِدُنَا
بِلا مَاءٍ إرَادَتُنَا
وَبِلا مِلحٍ وُجْهَتُنَا
كأَنَّا خُلِقْنَا فِي قَاعِ الجَحِيْمِ
مِنْ رَحمِ الخَطِيْئَةِ
لا أَحَدَ يَسنُدُ رَمَادَنَا
لا أَحَدَ يُصَافِحُ قَصَائِدَنَا
وَردٌ يُوَاجِهُ المُجَنْزَرَاتِ
فَرَاشَاتٌ تُعَارِكُ الدُّبَبَةَ
هَمَسَاتٌ تَتَصَدَّى لِلانفِجَارَاتِ
وَنَسَائِمٌ عَلَيْهَا أَنْ تَقْتَلِعَ الجِبَالَ
كُلُّ الأرضِ انفَصَلَتْ عَنْ سُورِيَّة
وَالكَونُ تَنَصَّلَ مِنِ اْسمِنَا
الأخوَةُ دَهَسُوا أَصَابِعَنَا
والأَصدِقَاءُ صَنَعُوا مِنْ جُلُودِنَا
بَوَّابَاتِ قِلاعِهِمْ.*
إسطنبول
* درعا..
صَارَ المَوتُ خُبزُنَا اليَومِيِّ
يَأكُلُ مَافِي دَمِنَا مِنْ نَوَافِذَ
وَمَافِي أنفَاسِنَا مِنْ حُقُولٍ
وَيُطعِمُنَا سُعَالَنَا وَارتِجَافَنَا
وَمَا تَنْبِتُهُ السَّكَاكِيْنُ
نَأكِلُ عَلْقَمَ أوجَاعِنَا
وَنَشْرَبُ جَفَافَ الحُلُمِ
في كُلِّ صَبَاحٍ يُطَلِعُنَا وَجْهُ المَوتِ
وفي كُلِّ مَسَاءٍ نَتَكَوَّرُ في حُضْنِهِ
الهَوَاءُ مُفْعَمٌ بِرَائِحَتِهِ
السَّمَاءُ مُشْبِعَةٌ بِصَوتِهِ
والنَّدَى يَسْتَجِيْرُ بِالقَذِيْفَةِ
يَا اللهُ!!!
كَمْ لِلْمَوْتِ مِنْ أذرُعٍ؟!
وَكَمْ لِمَسَاحَاتِهِ مِنْ مَسَافَاتٍ؟!
أجنِحَتُهُ غَطَّتِ البلادَ
وَكُلَّ الدُّرُوْبِ مَنَحَتْهُ أحضَانَهَا
وَكُلَّ المُدُنِ أعطَتْهُ رَايَاتِهَا
العَالَمُ يَتَغَاضَى عَنْ بَطشِهِ
نَحْنُ طَحِيْنُهُ!!!
نَحْنُ وَقُوْدُهُ!!!
لَمْ تَتَشَفَّعْ لَنَا الأبجَدِيَّةُ
وَلا أغَانِي اليَاسَمِيْنِ
دُوَلٌ بَاعَتْنَا بِشُسْعِ حَافِرٍ
القُوا بِنَا فِي بِئْرِ الظَّلامِ
سَلَّطُوا عَلَيْنَا أنيَابَ العَدَمِ
طَارَدُونَا..
شَرَّدُونَا..
وَبِالجُوعِ والمَذَلَّةِ حَاصَرُونَا
هَدَّمُوا قِلاعَ الدِّفءِ
مَزَّقُوا هَمْسَ الضَّوءِ
أحرَقُوا لَنَا ابتِسَامَاتِنَا
عَلَّقُوا أمواجَنَا عَلَى خَازُوقٍ
واغتَصَبُوا يَفَاعَةَ الوَردِ
وَسَرَقُوا فُستَانَ المَطَرِ
يُرَاهِنُون على يَبَاسِنَا
وعَلَى إِنْحِنَائِنَا لِلْبُغَاةِ
وَعَلَى صَمْتِ مَرَاكِبُنَا
نُوْلَدُ بِلا أسمَاءٍ
نَعِيْشُ مِنْ دُوْنِ آفَاقٍ
وَنَجْهَلُ طَعْمَ الكَرَامَةِ
يَا مَوْتُ
سَتُطَارِدُكَ جَنَازَاتُنَا
سَنَرْمِيْكَ بِرُؤسِنَا المَقْطُوْعَةِ
قَسَمَاً
قُبُوْرُنَا سَتُحَاصِرُكَ
وَسَنَحْشُو سَوَادَكَ فِي جَوفِ الهَزِيْمَةِ
وَتُؤَدِّي الشَّمْسُ التَّحِيَّةَ
لِسُوْرِيَّا الجَدِيْدَةَ.*
إسطنبول
* صَوَارِي الشّتاتِ..
كَانَتْ أَصَابِعُكِ
تَشْبُكُ قَلْبِي
وَتَهِيْمُ في طُرُقَاتِ الغَرَامِ
دَمِي يَحتَضِنُ بَهْجَتَكِ
وَرُوْحِي تَتَدَلَّى مِنْ أَنْفَاسِكِ
ضُحكَتُكِ
كَانَتْ مَلَاذاً لِلْيَاسَمِيْنِ
وَكُنْتُ أَعُدُّ خَلايَا شَهْقَتِكِ
وَتَغْفُو هَمَسَاتِي
في رَيَاحِيْنِ شَعْرِكِ
آهٍ كَمْ عَانَقْتُ الفَجرَ
البَازِغَ مِنْ عَيْنَيْكِ
وَكَمْ مُتُّ
على أَعتَابِ صَمْتِكِ
وَحَلَّقْتُ إلى أعالي المَوجِ
في بَوحِكِ المَاطِرِ
حِيْنَ كُنْتُ بَصُحبَتِكِ
كَانَتْ تَحسُدُنِي أيَّامِي المَاضِيَةُ
وَأنتِ لَمْ تَبْخَلِي عَلَى طُفُوْلَتِي
بِالشَوَاطِئِ
أَبْحَرتُ في وَمِيْضِكِ
وَاصْطَدْتُ مِنْ أَعمَاقِكِ
الهَنَاءَ
فأَيْنَ المَوجُ ألقَى بِي؟!
وَأَيْنَ صَارَتْ
حُدُودُ مَمْلَكَتِي؟!
وَأَنَا الآنَ هَرِمٌ
أَتَعَكَّزُ عَلَى لَهِيْبِي.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
الفهرس:
=======================
01 - مقدمة للأستاذة: غزلان شرفي.
02 - دفاتر صمتي
03 - فضاء أسطري
04 - مجيء الغياب
05 - موج اليباسِ
06 - حضن النعيم
07 - السادة الأفذاذ
08 - بوابة القيامة
09 - مثوى الماء
10 - سعف السراب
11 - أشرعة الغرام
12 - دم النّدى
13 - عشق الجحيم
14 - روح الماء
15 - صرخات السراب
16 - شحوب الوقت
17 - عورة الحرب
18 - شواطئ الانصهار
19 - الدّب
20 - رذاذ الهمس
21 - أوجاع الصهيل
22 - المعتقل
23 - المغتصبة
24 - الوضيع
25 - عويل الملح
26 - راية الياسمين
27 - لا خبز ولا ملح
28 - أعطوني بياضكم لأخونكم
29 - زمن الموت
30 - درعا
31 - صواري الشتات
--------------------------------------------
مصطفى الحاج حسين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى