محمد بن ماضي السبيعي - الحرية عند سيينوزا

الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677) من بين الفلاسفة الأكثر إشكالاً في تاريخ الفلسفة؛ فهو مشكل أولاً عند محاولة تصنيفه لأي من المدارس الفلسفية الكبرى كالمثالية أو الواقعية.. إذ يتم تصنيفه مثالياً لعقلانيته وديكارتيته عند بعض المشتغلين بالتأريخ، وأنا لا أتفق مع هذا التصنيف؛ فهو وإن كان عقلانياً كأستاذه ديكارت.. إلا أنه في الحقيقة ثار على فكرة ديكارات في الثنائية، فهو يقول بالجوهر الواحد الذي لا مكان فيه لأي ثنائية، ومن طبيعة الجوهر أن يكون واحداً كذلك لأنه غير محدود، فإن قلنا أن هناك جوهر آخر خارجه أصبح كل منهما محدود بالآخر، أي أنه يصبح لا نهائياً؛ وهذا مما لا يستقيم، فالجوهر لا بد أن يكون لا نهائياً بحسب تعريفه. وبعد إثبات واحدية الجوهر بين أن له صفات لا محدودة، ولا نعرف منها إلا صفتا الفكر والامتداد. ولهذه الصفات أحوال؛ وهي كذلك غير متناهية، ولأنها أحوال فهي غير ثابتة بل يسري عليها التحول والتغير، الولادة والفناء؛ والإنسان من ضمن هذه الأحوال.

من البداية يؤكد سبينوزا في كتابه علم الأخلاق ص 145 على أن الإنسان ليس دولة داخل دولة .. أي أن الإنسان حال من ضمن أحوال الطبيعة، وهذه الطبيعة لها عدد غير محدود من الصفات، إلا أننا لا نعرف إلا صفتان فقط من بينها، هما صفة الفكر وصفة الامتداد، وهذا القصور المعرفي يذكرنا بحدود العقل عند كانط،؛ إلا إنه قصور يمكن دائما تقليصه وليس نهائياً عند سبينوزا. والمعرفة تشكل حجر الرحى في مجمل فلسفة سبينوزا؛ من أحل ذلك يرى أن الجهل عبودية، والمعرفة تحرر. والمعرفة التامة لديه هي المعرفة الحدسية العقلية، والمعرفة الاستنباطية.. ويستبعد من هذه المعرفة كل من المعرفة السماعية، وكذلك المعرفة الاستقرائية لأنها ناقصة بطبيعتها.

إن الطبيعة مثل العملة واحدة ولها وجهان؛ فهي من جهة فكر لا محدود، ومن جهة آخرى امتداد غير محدود.. وهي فكر بناء على القوانين التي تنتظمها ويسميها طبيعة طابعة، وهي امتداد بناء على المادة التي تتشكل وفق هذه القوانين ويسمي هذه الطبيعة المادية بالطبيعة المطبوعة.. والإنسان ليس كيانا ًمختلفاً في كل ذلك، فهو حال من أحوال الطبيعة، أي أنه حال من الفكر وحال من الامتداد كذلك.. الفكر ناظم للامتداد الجسدي فيه، والجسد يستبطن في كل أجزائه هذا الفكر. والإنسان يسعى في الحقيقة للمحافظة على هذا الكيان ويسمي سبينوزا هذا السعي بـ "بكونانوس. وسبينوزا يعتبر أن ماهية الإنسان شهوة أو رغبة، والشهوة هي ذاتها الرغبة؛ أي أن الرغبة هي شهوة تعي ذاتها. الإنسان يشتهي، وعندما يعي هذا الاشتهاء يتحول إلى رغبة.. يشتهي ماذا؟ كل شهوة سواء كانت تابعة لعمرفة تامة أو غير تامة هي من تصب في النهاية في مصلحة " الكوناتوس" المذكور. وعندما تتحقق معرفة تامة لدى الفكر الذي يستبطن هذه الجسد بشكل كامل - أي تصبح لديه معرفة تامة فإنه يصبح فاعلاً؛ فالإرادة ليست شيء غير الإدراك أو الفهم في الأساس.

الإنسان المدخن -مثلا- يتوقف عن عادة ضارة كالتدخين،
ذلك لأنه أدرك إدراكاً تاماً أن هذه العادة تهدد وجوده أو جودة هذا الوجود، وهو يرغب في المحافظة على هذا الوجود.. إذن دافع توقفه هو الرغبة في حفظ كيانه معززاً بمعرفة تامة بأن التدخين يهدد إشباع هذه الرغبة.
هل توقف بناء على إرادته فقط؟
أم على إدراكه التام بضرر التدخين عليه؟
سبينوزا لا يقول بحرية الإرادة، هو يقول إن الإرادة التي تتحدثون عنها ليست في الحقيقة إلا مدى فهمنا أو إدراكنا أو معرفتنا، أي أن قيام معرفة تامة لدينا عن شيء بأنه يهدد بقائنا يعزز رغبتنا في حفظ هذا الكيان بالتوقف عنه كما في التدخين، ومعرفتنا التامة بأن هذا الشيء يعزز كياننا ويحافظ على بقائه كافٍ لتعزيز رغبتنا الأولية في البقاء يدفعنا بالرغبة فيه.

والإنسان يكون فاعلاً كلما كانت معرفته تامه ( تذكروا أن سبينوزا يؤكد على أن المعرفة أو الإدراك هو في الحقيقة مانسميه إرادة) وعندما تكون معرفتنا غير تامة نكون منفعلين. وسبينوزا في الحقيقة لا يسأل عن كوننا أحرار أم لا؛ بمقدار سؤاله عن كيف نتحرر.. والتحرر هو مقدار الجهد المعرفي الذي نبذله لنكتشف المنظومة التي تحكمنا، مثلما تحكم كل شيء في الطبيعة.
يقول الدكتور زيد عباس كريم: " إن السؤال الذي يضعه سبينوزا لا يتمثل في: هل أنا حر أم لا؟ وإنما هو : كيف أصير حراً؟
حيث يرى أن الإنسان لا يولد عاقلاً أو حراً؛ بل إن التعقل والتحرر هو وليد مسيرة فيقول ( سنلاحظ بيسر الفرق بين الإنسان الذي ينقاد فقط وفق الاحساس أو الظن- معرفة غير تامة- وذلك الذي يقوده العقل - معرفة تامة-؛ فالأول أراد أم كره يقوم بأشياء يجهل فيها الشيء المثير، بينما الثاني ينظم نمط حياته بالتعويل على ذاته فحسب، فيعي بذلك القيمة الأصلية لما ينجزه، اذ يتمثل له على أنه مرغوب فيه إلى اقصى حد، وذلك هو السبب الذي يجعلني ادعو الأول إنساناً مستعبداً والثاني إنسان حر" اسبينوزا الفلسفة الأخلاقية ص 217 و 218.

يقول سبينوزا: في كتاب الأخلاق ص 158" إننا لا نسعى إلى شيء، ولا نريده ولا نشتهيه ولا نرغب فيه لكوننا نعتقده خيراً؛ بل نحن على العكس من ذلك؛ نعتبره خيراً لكوننا نسعى إليه ونريده ونشتهيه ونرغب فيه"

نحن لا نرغب في ممارسة الرياضة -مثلاً- لأنها خير كما تدفعنا لذلك المعرفة السماعية غير التامة، بل هي خير لأن لدينا معرفة تامة بأنها تعزز وتقوي كياننا وتقويته وفق التسلسل التالي:
لدي معرفة تامة بأن الرياضة تعزز حفظ هذا الكيان وتقويه.
أنا أرغب دائما في كل ما يعزز هذا الكيان.
إذن الرياضة خير
وهذا الشخص ذاته قد يكون لديه معرفة تامة كذلك بعدم مناسبة الرياضة له كأن يجد أن جسده لا يتحمل ذلك، فهو في هذه الحالة يضرب بالاعتقاد الشائع عن فائدة الرياضة عرض الحائط، فاقتران معرفته التامة بضرر الرياضة له مع رغبته في حفظ كيانه تجعله يرى أن الرياضة شر.

الإنسان إذن حال من أحوال الطبيعة، وله من صفتها الفكر والامتداد، إلا إن الأحوال ليس من طبيعتها الديمومة والثبات، هي متحولة ومتغيرة، وهي كما في حال الإنسان تولد وتموت.. والإنسان محكوم بقوانين الطبيعة، وكل مايصدر منه لا يمكن أن يخالف هذه القوانين.. والإنسان كائن يرغب، ورغبته القصوى هو في حفظ كيانه المتجسد في مختلف مساعيه أثناء حياته، بناء على مايتحصل لديه من معارف، ومعارفه التامة تجعله فاعلاً أي حراً، ومعارفه غير التامة تجعله منفعلاً أي عبداً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى