د. نور الدين السد - الراهن والمشروع البديل -1 -

-1-

حصل لي شرف اللقاء بمعظم مشاريع المفكرين العرب، لقاء قراءة، ولقاء مباشر، وخاصة الذين يشتغلون على مشاريع فكرية تبحث في ترقية الأمة وتنميتها وتقدمها ، من خلال حفريات دراسية عميقة في تكوين العقل ومرجعياته وبنياته، وطرائق تحليله، ومعضلاته، وراهنه، وتطلعاته، وبدائله..

1709583187112.jpeg

ومعظم تلك المشاريع استأنست بمنظومات نقدية وتحليلية، وهي:
1- إما مشاريع اعتمدت آليات تراثية لم تتجاوز حدود منجزات الأولين وعلاجهم القضايا التي كانت وليدة زمانهم، وجعلت من المنجز في تراث الأولين قدوة من خلال اعتماد منظوماتهم وآلياتهم في التحليل وتقديم البديل، ومعالجة مشكلات الراهن بآليات الماضي السحيق، ومعظم بدائل هذه المشاريع قياسية أو انطباعية تمجيدية، لا تكاد تخرج من عباءة الماضي، والتمحور حوله لأن فيه حسبها خلاص الأمة، وحفاظها على خصوصيتها، مع ما يقره الواقع بتضييع معالمها، وانسلاخها من جلدتها، وهو تحول فرضته أسيقة تاريخية، وقوى استعمارية، وعوامل داخلية وخارجية، تؤكد هذه القابلية للتحول المائع الباهت، بعد ثورات عارمة أظهرت استجابة الشعوب، وقابليتها التضحية من أجل الحرية والعدل والمثل السامية..
2- أو مشاريع تقرأ منجز العقل العربي على تنوعه، وتسعى لتقديم رؤاها ومقترحاتها في التنمية والتقدم بمناهج ومقاربات غربية صرفة لها خصوصيتها، ولها فرضياتها وتصوراتها، وضوابطها، دون مراعاة أن آليات المقاربات الغربية خلصت إلى نتائج تخص أسيقة الغرب التاريخية والحضارية ومرجعياته الفلسفية والفكرية والثقافية، ورؤاه الكولونيالية، والملاحظ أن مشاريع المفكرين العرب التي اتخذت من منظومات المنجز الغربي وآلياتها واقتباساتها واستعاراتها وسيلة لتشريح المنجز العربي الإسلامي بتنوعه، هيمن عليها تجريحه، ومعارضته، والنزول عليه باللائمة، باعتباره سببا في ما هو عليه راهن الأمة من التخلف، والضعف والهوان، والخذلان، ومن(....) النقاط المابين قوسين تشير إلى كلمة محذوفة قصدا، شعرت أنها تخدش الحياء إذا ذكرتها، فعدلت عن ذكرها، فانتهت هذه المشاريع إلى تجريح المنجز في التراث الفكري العربي بتنوعه، واتهامه بعرقلة السيرورة التاريخية في مواكبة المنجز الإنساني، وعدم القدرة على متابعة حركية التقدم، لعجز في مكوناته البنيوية والوظيفية، وهي تدعي الموضوعية والتجرد والحياد في تشريح المنجز العربي ماضيا وحاضرا، ومن أين لها بالحياد والموضوعية، وهي لا تكاد تخرج من عباءة المنجز الأيديولوجي الغربي توجها ومنهجا وآليات إجرائية في التحليل والتصور والمآلات..
3- وإما مشاريع اعتمدت آليات تلفيقية عفوا توفيقية تسعى إلى الجمع بين آليات منجز العقل العربي الإسلامي، ومناهج وآليات منجز العقل الغربي بتنوعه، على ما بين المنجزين من فروق، وعدم انسجام في الغالب الأعم..
والمستخلص من معظم هذه المشاريع المعتمدة على تضايف الآليات التراثية وغير التراثية العربية ، والآليات المنهجية الغربية على تعددها وتنوعها، رؤية ومنهجا وإجراء، وغاية هذا التوجه في تأطير مشروعه هو بسط المنجز التراثي الفلسفي والفكري والسياسي والفقهي والأدبي والعلمي وتشريحه بالآليات المتاحة من المنجزين، والجمع بينهما في منظومة واحدة تعتمد في مقاربة العقل العربي منذ التأسيس إلى راهنه، والخروج من ذلك بالتأييد والمناصرة والمنافحة والدعوة إلى الاندماج بحكم عوامل امتلاك الغرب آليات التطور العلمي والتكنولوجي والفكري والعسكري والسياسي، دون التخلص من ملامح الهوية الثقافية العربية الإسلامية، والانتماء للمنجز الحضاري العربي الإسلامي وعدم التنكر له.. وأساس هذا التوجه هو الأخذ من كل شيء بطرف على غرار ما كان يقول البحاثة العرب القدماء، وإن كان جمعا لمتناقضات، وهذا المشروع سار في ركاب الجمع والتلفيق أو التوفيق بمبرر أن المنجز المنهجي والفكري والعلمي إنساني، يمكن تداوله، واستعماله في تحليل المنجز العربي واعتماده بديلا للنهوض والتنمية والتقدم، والأخذ بذلك على أنه إضافة في لحظته للمتراكم في التراث الإنساني، بغض النظر عن تاريخيته وسياقاته وميدانه..
وفي غمرة هذه المشاريع على تنوعها، وجهود أصحابها، وما قدموا من بدائل وتصورات، وما أسسوا من توجهات، وما أحيطوا به من أتباع ومريدين؛ ظلت أعمالهم ومشاريعهم رهينة أدراج المكتبات، وفي أحسن الظروف ، اتخذت منها الجامعات مدوانات لبحوث، ودراسات أكاديمية، بقيت هي ذاتها رهينة أدراج المكتبات، ولا تتجاوز حدود قرائها على قلتهم، وهم ممن نعدهم قراء نخبة إذا جاز لنا ذلك، وإن سأل أحدهم عن مدى تأثير هذه المشاريع الفكرية في راهننا، ومدى تأثيرها في تطوير واقعنا، وإصلاح أوضاعنا، نقول أنك لا تجد لذلك أثرا يذكر، ولا أبالغ إذا قلت بأن معظم من نعدهم «نخبا»؛ لم يعكفوا على قراءة هذه المشاريع، قراءة وافية، كما أنه لم يتم التريج لهذه المشاريع، كما تقتضي فنون الترويج وعلومه، لا في مراكز البحوث، أو الجامعات، أو وسائل الإعلام بأنواعها، ولم تتخذ منها الأنظمة والسياسات عمدة في تقويم منظوماتها، فظلت هذه المشاريع الفكرية النقدية على محدوديتها في عداد المعزولة، بل تعرض معظمها للهجران، من أهل البهتان..
وأضيف أن معظم أصحاب هذه المشاريع تعرضوا للاغتيال، وبعضهم مات هما ونكدا وألما وحزنا على أوضاع الأمة وحالها..
وإن سأل أحدهم عن أصحاب هذه المشاريع التي ذكرت أقول من بينهم؛ أحمد أمين، ومحمد عبده، والطاهر بن عاشور، وجمال الدين الأفغاني، وعبدالحميد بن باديس، وسيد قطب، وحسن البنا، ومالك بن نبي، وعبدالرحمن طه، ومحمد باقر الصدر، وأبو الأعلى المودودي، وحسن حنفي، ونصر حامد أبوزيد، ومحمد أركون، وحسين مروة، والطيب تيزيني، وبرهان غليون، ومهدي المنجرة، ، ومحمد عابد الجابري، إدوارد سعيد، ومهدي عامل وسواهم من المفكرين والباحثين في البلاد العربية، وفي المهاجر على إختلاف توجهاتهم ومرجعياتهم ...
وقد يسأل أحدهم ما المشروع المناسب والبديل!؟ أقول قراءة هذه المشاريع وسواها،والاستئناس بها كفيل باكتشاف الحقائق، وإن كان لهذه المشاريع ملامح انعكاسها في الواقع العربي، بتأثير أقل إدراكا وعمقا، كالمتجلي منها في تيارات وأحزاب سياسية تراوح بين دينية وعلمانية، وديمقراطية، ويسارية اشتراكية، وقومية، وليبرالية، ووطنية، ومعظمها أريد لها أن تكون فاقدة لتمثلاتها الفكرية، وغير مترجمة لأفكارها ميدانيا، فغلب عليها التنظير وتاهت ملامحها الحقيقية، وبقيت هذه المشاريع رهينة مسارات التبعية لدوائر ولوبيات، وعصب، وولاءات، ولم تحقق أهدافها، ولم تبلغ مرامها، بسبب فقدان ممارسة الحرية، وتقييد أنشطة روادها، وعدم احتوائها من جهات الحكم، التي يبقى بينها وبين تمثل روح المواطنة الحقة وتجسيدها بون شاسع، إضافة إلى فقدان عامل الثقة في المثقف والمفكر النزيه، ولذلك لم تلق معظم المشاريع المشار إليها الاستجابة المستحقة، والتبني والترويج المستحق..
ومع ذلك نقول إن الأمل باق، ولا نعدم في هذه الأجيال من أبناء الأمة الإرادة، والعزم، والتصميم على الإصلاح والنهوض، والتقدم، ومواجهة تحديات الراهن والمستقبل بآليات العصر وعلومه، والقادم أفضل ...

نورالدين السد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى