غياث المرزوق - ذٰلِكَ ٱلْغَبَاْءُ ٱلْقَهْرِيُّ ٱلْتَّكْرَاْرِيُّ: طُغَاْةُ ٱلْتَّقَدُّمِ أَمْ بُغَاْةُ ٱلْتَّهَدُّمِ؟ (11)

إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ ٱلْسَّاعَةِ ٱلْهَرْجَ.
قِيلَ: وَمَا ٱلْهَرْجُ؟ قَالَ: ٱلْكَذِبُ وَٱلْقَتْلُ [أَيْضًا].
قَالُوا: أَكْثَرَ مِمَّا نَقْتُلُ ٱلْآنَ؟
قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمْ [أَعْدَاءً]، وَلٰكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا!
ٱلْرَّسُولُ مُحَمَّدٌ

(11)

مرَّةً أُخرى، قلتُ من قبيل التوكيدِ الشديدِ قبلًا، في نهاية القسمِ الآنِفِ من هٰذا المقالِ، إنَّ كلًّا من ذَيْنِك المشهدَيْنِ الثوريَّيْنِ الشَّعْبِيَّيْنِ، في السُّودانِ وفي الجَزائرِ، لَمْ يَزَلْ إذَّاك سَائِرًا دَؤُوبًا في مَسَارِ ثَوَرَانِهِ السِّلْمِيِّ الجَلِيلِ حتَّى بَادِئِ ذاك الاجتياحِ «الكورُونيِّ» المُرِيعِ بتقطُّعَاتِهِ الزَّمَانِيَّةِ وَ/أوِ المَكَانِيَّةِ، لَمْ يَزَلْ سَائِرًا دَؤُوبًا على قَدَمٍ وسَاقٍ قَوِيمَيْنِ ثابِتَيْنِ بكلِّ مَا يقتضيهِ السَّيْرُ المَعْنِيُّ منْ عَزْمٍ ومنْ حَزْمٍ لا يعرفانِ أيَّ معنًى لقيدٍ من القُيُودِ من معنًى سَليلٍ، ولا حتَّى يعرفانِ أيَّ مغزًى للخُمُولِ أوِ الخُمُودِ أوِ الحُيُودِ من مغزًى غَلِيلٍ، وبالرَّغمِ منْ كلِّ أشكالِ ذٰلك التَّدْوِيمِ الاصطناعيِّ الدَّخِيلِ واللادَخيلِ، تدويمِ طورِ الثَّوَرَانِ المُضَادِّ كطورٍ ذَمِيمٍ دَميمٍ بِسِيمَائِهِ اللااستثنائيِّ «الضَّلِيلِ»، وعَلى الرَّغمِ من كلِّ مَا ينجُمُ عنهُمَا عِلاوَةً عَلى ذٰلك كُلِّهِ منْ حَالاتِ الاِسْتِعْصَاءِ الاِستثنائيِّ المُسْتَطِيلِ. فالثَّائراتُ السُّودَانيَّاتُ والثَّائرُونَ السُّودَانيُّونَ، من طَرَفِهِمْ، كانوا يواصلونَ سَعْيَهُمْ بسَائِرِ أطيافِهِمْ مطالبينَ بكلِّ إصْرَارٍ وإلحَاحٍ، على أقلِّ تقديرٍ، بتسليمِ «مقاليدِ» الحُكْمِ العسكريِّ إلى نظيرٍ مدنيٍّ قلبًا وقالِبًا، ولٰكِنْ بتمثيلٍ رَمْزِيٍّ من الجَيْشِ جِدِّ مَحْدُودٍ لأسبابٍ بَيِّنَةٍ بَدَهِيَّةٍ تخُصُّ المَجْلِسَ السِّيَاديَّ بهَيْكَلِهِ الأخيرِ، مَهْمَا حاولتْ عناصرُ من ذاك «المجلس العسكري الانتقالي» أفَّاكَةً في تَسْوِيفِ التفاوُضِ الجَادِّ تشبُّثًا بهٰكذا «مقاليدِ»، من جهةٍ أولى، ومَهْمَا حاولتْ كذاك عناصرُ من «قوات الدعم السريع»، تيك الشَّبِيهَةِ جِدًّا بقُطْعَانِ «الشَّبِّيحَةِ» الأسديَّةِ، فَتَّاكَةً بالقوَّةِ، أو حتَّى بالفِعْلِ، في استخدامِ العُنْفِ بارتدادِهِ العَكْسِيِّ تشبُّثًا أكثرَ حتَّى بذاتِ «المقاليدِ» ذاتِهَا، من جهةٍ أخرى. وكذاك الثَّائراتُ الجَزَائِرِيَّاتُ والثَّائرُونَ الجَزَائِرِيُّونَ، من طَرَفِهِمْ (وقدِ احتفَوْا مؤخَّرًا بالذكرى الخامسةِ من ثورتِهِمِ الشعبيةِ التي اندلعتْ في اليوم الثاني والعشرين من شهرِ شباطَ عامَ 2019)، وكذاك كانوا يُتَابِعُونَ جَهْدَهُمْ بكافَّةِ أطيافِهِمْ أيضًا، مطالبينَ بكلِّ إصْرَارٍ وإلحَاحٍ كذاك، في الحَدِّ الأدنى من الدستورِ الجزائريِّ بالذَّاتِ، وذاك بتفعيلٍ جَادٍّ لِكلٍّ من المادةِ (7) التي تنصُّ على أَنَّ «الشَّعْبَ مَصْدرُ كلِّ سُلْطَةٍ» والمادةِ (8) التي تنصُّ على أَنَّ «السُّلْطَةَ التأسيسيَّةَ مِلْكٌ للشَّعْبِ»، من ناحيةٍ أولى، وبترحيلِ أَجَدَّ لِكُلٍّ مِمَّا تبقَّى من «أشلاءِ» النظامِ الفاشيِّ المَافْيَويِّ الهَرِمِ المُتَهَرِّئِ الهِرْدَبَّةِ الهِرْشَفَّةِ الآسِنِ حتَّى القِحْفِ من الرَّأسِ في مستنقعاتِ الفسَادِ والرَّذيلةِ والمُحَابَاةِ والمحسوبِيَّاتِ بكلِّ أشكالِهَا، من ناحيةٍ أخرى. وقدْ قِيلَ قَوْلًا مُؤَكِّدًا تأكيدًا شديدًا كذٰلك، إنَّهُ لَمِنَ الخَطَأِ الفادِحِ أن يلجأَ «التحليلُ السياسيُّ»، أيًّا كانَ بالنَّوْعِ الفكريِّ أوِ العَقَدِيِّ (أوِ الإيديولوجيِّ)، مَحْثُوثًا أَيَّمَا إحْثَاثٍ بذٰلك «الحَمَاسِ الثوريِّ» المُفْرِطِ إفراطًا إلى حَدِّ الافتعالِ حتَّى (ذٰلك المُسَمَّى عَمْدًا هناك تَسْمِيَةً نفسَانِيَّةً بِـ«الحَمَاسِ فوقَ-الثوريِّ» Hyper-Revolutionary Fervour)، فيلجأَ مِنْ ثَمَّ مَحْثُوثًا إحْثَاثًا أَشَدَّ إلى استخدامِ فَيْضٍ منْ بلاغيَّاتِ اللِّسَانِ التَّخْيِيريِّ، ومَا تَنْطَوِي عليهِ بدورِهَا منْ دلالاتٍ تمييزيةٍ، أو منْ دلالاتٍ تفضيليَّةٍ – لا بل جِدِّ تفضيليَّةٍ، في مَعْرِضِ الحَدِيثِ عن «إنجازاتِ» ثورةٍ شعبيةٍ عربيةٍ مَا (كالشقيقةِ السُّودَانيَّةِ، مثلًا) دونَ الأَخْذِ بعَيْنِ الاعتبارِ بَتَّةً مَا يُنَاظرُ هٰذِهِ الـ«إنجازاتِ»، في الأصْلِ، منْ أَسَاسٍ مَادِّيٍّ (تاريخيٍّ) وَ/أوْ لامَادِّيٍّ (لاتاريخيٍّ) تأسَّسَتْ عليهِ بنحوٍ أوْ بآخَرَ أيَّةُ ثورةٍ شعبيةٍ عربيةٍ أُخرى، سَوَاءً كانتْ هٰذِهِ الثورةُ قد عاصرتْها في الهَيَجَانِ والغَلَيَانِ (كالشقيقةِ الجزائريَّةِ، بسَيْرِهَا) أمْ كانتْ قدْ سَبَقَتْهَا بمرحلةٍ أو أكثرَ في الزَّمَانِ والمَكَانِ (كالشقيقةِ السُّوريَّةِ، وغَيْرِهَا)، كما رأيتُما كُلًّا في مَظِنَّتِهِ – نَاهِيكُمَا، بطبيعِةِ الحَالِ، عن أنَّ هٰذا الخَطَأَ المُتَكَلَّمَ عنهُ منْ هٰكذا خُصُوصٍ إنَّمَا يزدادُ فَدَاحَةً أكثرَ فأكثرَ حينمَا يصدُرُ هٰكذا «تحليلٌ سياسيٌّ» اِنتقائيٌّ اِصطفائيٌّ (حَائِدٌ) عن مصدرٍ مَرْبُوصٍ عَلى «اليسارِ العربيِّ»، سواءً كانَ هٰذا المصدرُ ماركسيًّا أوْ لَاماركسيًّا أوْ حتَّى بَيْنَ بَيْنَ. وقدْ أُشيرَ كذاك، في القسمَيْنِ الثامنِ والتاسعِ منْ هٰذا المقالِ، إلى شيءٍ منْ بلاغيَّاتِ اللِّسَانِ التَّخْيِيريِّ التي تَنْجُمُ عن ذٰلك «الحَمَاسِ فوقَ-الثوريِّ» عَلى المُسْتَوَيَيْنِ الجَمْعِيِّ والفَرْدِيِّ، عَلى سَبيلِ المِثالِ لا الحَصْرِ، في كُلٍّ من مقالِ الباحثِ الجامعيِّ «الماركسيِّ»، جلبير الأشقر (اُنْظُرَا تقريرَهُ المعنيَّ، «التضامنُ مع الثورةِ السودانيةِ ملحٌّ!»، القدس العربي، 23 نيسان 2019)، ومقال الكاتبِ الرِّوَائيِّ إلياس خوري (اُنْظُرَا تقريرَهُ المعنيَّ أيضًا، «السودانُ والربيعُ العربيُّ»، القدس العربي، 6 أيار 2019)، ومقالِ الكاتبِ الرِّوَائيِّ واسيني الأعرج، (اُنْظُرَا تقريرَهُ المعنيَّ كذٰلك، «أيقوناتُ الثوراتِ العربيةِ، والحراكُ السلميُّ؟»، القدس العربي، 21 أيار 2019). أقولُ هٰذا الكلامَ الاِحْتِرَاسِيَّ والتحرُّزيَّ وذاك بكُلِّ تأكيدٍ شديدٍ هٰهُنَا، لمَاذا؟ – لِأَنَّنَا، نحنُ الجَاثِمَاتِ والجَاثمينَ في هٰذا المَكَانِ الكئيبِ وفي هٰذا الزَّمَانِ العَصِيبِ، قُدَّامَ مَرْحَلَةٍ تاريخيَّةٍ فريدةٍ بكلِّ المَعَايِيرِ من ثوراتٍ شعبيَّةٍ عربيَّةٍ ليسَ لنَا إلَّا أنْ ننظرَ إليهَا كَافَّةً بمثابةِ «ثورةٍ شعبيَّةٍ عربيَّةٍ واحدةٍ» (فَلْيَذْهَبْ إلى الجَحِيمِ، دَرَكِ الجَحِيمِ، ذٰلك الشِّعَارُ الذي يَرِنُّ، لَا بَلْ يَئِنُّ، بالصَّوتِ والإِيقَاعِ رَنًّا مَرْنُونًا في الأَسْمَاعِ من أولٰئك «البَعْثِيِّينَ» الاِزدواجيِّينَ والاِنهزاميِّينَ والاِنتهازيِّينَ في الدَّاخِلِ من سوريا والعراقِ وفي الخَارِجِ منهمَا، كذٰلك)، ليسَ لنَا إلَّا أنْ ننظرَ إليهَا كَافَّةً، في كُلٍّ من أوقاتِ النَّدَاوَةِ والجَفَافِ، ننظرَ إليهَا جَسَدًا وروحًا لا ينفصِلانِ عن بعضهِمَا البعضِ ملتهبَيْنِ التِهَابًا مَوْزُونًا بميزَانٍ مُتَوازِنٍ مُتَعَدِّدِ الكِفَافِ، ولَا شَكَّ في هٰذا: فَثَمَّةَ كِفَّةٌ سُودَانِيَّةٌ وثَمَّةَ كِفَّةٌ جَزَائِرِيَّةٌ وثَمَّةَ كِفَّةٌ سُورِيَّةٌ وثَمَّةَ كِفَّةٌ فلسطينيَّةٌ وثَمَّةَ كِفَّةٌ لبنانِيَّةٌ وثَمَّةَ كِفَّةٌ يَمَانِيَّةٌ، وهَلُمَّ جَرًّا. فإذا رَجَحَتْ كِفَّةٌ أو أكثرَ من هٰذِهِ الكِفَافِ في حَالٍ (صُورِيَّةٍ أو شكليَّةٍ) استثنائيَّةٍ لَا مَنَاصَ منهَا، كما هي الحَالُ الآنَ في كُلٍّ من الكِفَّتَيْنِ السُّودَانِيَّةِ والجَزَائِرِيَّةِ في مُقَابِلِ أُخْتَيْهِمَا الكِفَّتَيْنِ السُّورِيَّةِ واللبنانِيَّةِ (أو حتَّى في مُقَابِلِ أُخْتِهِنَّ الكِفَّةِ الفلسطينيَّةِ هٰذِهِ – ومَا تقدِّمُهُ الآنَ من بُطولَاتٍ «طُوفَانِيَّةٍ أَقْصَوِيَّةٍ» أسطوريَّةٍ، لٰكِنْ باهظةُ المُقَابِلِ في تلك الأروَاحِ التي قَضَتْ من سَائرِ الأعمَارِ، فضلًا عن ذٰلك الدَّمَارِ الجَحِيمِيِّ في المَبَاني والمَسَاجدِ والكنائسِ والمَدَارسِ والمَخَابزِ وحتى المَشافي، من لَدُن جيشِ العدوانِ الصهيونيِّ الهمجيِّ والإجرَاميِّ بدعم أمريكيٍّ وأوروبيٍّ أشدَّ هَمَجِيَّةً وإجرَاميَّةً)، فإنَّ هٰذا الرُّجْحَانَ القَائمَ لا يعني البَتَّةَ اختلالًا بنيويًّا باطنيًّا في الميزَانِ المُتَوازِنِ ذاك بقَدْرِ مَا يعني اختلالًا بنيويًّا ظاهريًّا يتبدَّى تَبَدِّيًا مُؤقَّتًا كجُزْءٍ من سَيرُورَةِ ذٰلك التَّدْوِيمِ الدَّخِيلِ واللادَخيلِ، تدويمِ طورِ الثَّوَرَانِ المُضَادِّ الذَّمِيمِ والدَّمِيمِ المُشَارِ إليهِ قبلَ قليلٍ.

ومِنْ أسبابِ هٰذا الاِختلالِ البنيويِّ الظاهريِّ في الميزَانِ المُتَوازِنِ المَعْنِيِّ هٰهُنَا أيضًا (لكي يُعَادَ الكلامُ للتأكيدِ الشديدِ ثانيةً كذٰلك) إِنَّمَا يكمُنُ، قبلَ كلِّ شيءٍ، في الموقعِ الإستيراتيجيِّ (أو الجيو-سِيَاسيِّ، بالقمينِ) للبَلَدِ العربيِّ المعنيِّ الذي اندلعتْ فيهِ ثورةُ الشَّعْبِ على طُغيانِ النظامِ الحَاكِمِ الفاشيِّ المُصْطَنَعِ، أوْ طَبَقَتِهِ كُلِّيًّا، كمثلِ سُوريا ومَا تمتازُ بِهِ منْ جِوَارٍ جغرافيٍّ شديدٍ للكيانِ الصهيونيِّ المُسْتَتِبِّ أَيَّمَا اسْتِتْبَابٍ في وَسْطِ إسرائيلَ، بوَصْفِ هٰذِهِ الـ«إسرائيلِ» المَخْلُوقَةِ بالعُنُوِّ في هٰذا الجِوَارِ بالذاتِ «نَشِيئةَ» بريطانيا مَصُوغَةً في المقامِ الأوَّلِ وبوَصْفِهَا «ربيبةَ» أمريكا مَسْبُوكَةً في المقامِ الثاني – نَاهِيكُمَا، بطبيعةِ الحَالِ كذاك، عن كَوْنِهَا قبلَ ذاك كُلِّهِ «مَهِيدَةَ» عُصْبَةٍ أو عِصَابةٍ منْ كلابٍ «عربيةٍ» متوحِّشةٍ مَسِيخةٍ مَهينةٍ ليسَ لهَا سِوَى أنْ تُمَهِّدَ السَّبيلَ عندَ الطَّلَبِ شيئًا فشيئًا تحتَ أقدامِ أَسْيَادِهَا منْ هٰذا الغربِ الإمبرياليِّ دونَ غيرِهِ منْ أَشْتَاتِ الغربِ «الديمقراطيِّ» و«الليبراليِّ» و«الخَيِّرِيِّ»، ليسَ لهَا سِوَى أنْ تُمَهِّدَ السَّبيلَ كُلَّهُ تمهيدًا حَثيثًا لاحتلالِ أجزاءٍ ومناطقَ إسْتيراتيجيةٍ (أو جيو-سِيَاسيَّةٍ) هامَّةٍ بدأتْ مدارسَتُها باهتمامٍ كبيرٍ منذُ بداياتِ مَا كانَ يُسمَّى بـ«الثورة العربية الكبرى» التي اندلعتْ بمبادرةٍ شخصيةٍ أو حتى مَا يُشْبِهُهَا ضِدَّ سياسةِ التتريكِ من لَدُنِ العثمانيينَ الاتِّحَاديِّينَ في اليومِ العاشرِ من شهرِ حزيرانَ عامَ 1916 (وعلى فكرةٍ، فإنَّ مَا يُعْرَفُ بـ«حزبِ الاتِّحَادِ والتَّرَقِّي» كانَ قدْ نَشَأَ إِذَّاك بمثابةِ تنظيمٍ «ثوريٍّ» سِرِّيٍّ باسمِ «جمعيةِ الاتِّحَادِ العثمانيِّ» في مدينةِ إسطنبولَ بالذاتِ، وذٰلك في اليومِ السَّادِسِ من شهرِ شباطَ عامَ 1889). فكما أنَّ عِصَابةَ أولٰئك الطُّغاةِ العُتَاةِ الفاشيِّينَ المُصْطَنَعِينَ وَقْتَئِذٍ كانوا قدْ مَهَّدُوا السَّبِيلَ بجُيوشِهِمِ «العربيةِ» أَيَّمَا تمهيدٍ لاحتلالِ بقاعِ فلسطينَ قُبَيْلَ وبُعَيْدَ اليومِ الخامسَ عَشَرَ من شهرِ أَيَّارَ عامَ 1948، فإِنَّ أَشْبَاهَهُمْ منْ عِصَابةِ هٰذِهِ الكلابِ المتوحِّشةِ المَسِيخةِ المَهينةِ تبتغي الآنَ ابتغاءً (وكانت قدِ ابْتَغَتْ بالفعلِ) أن تكرِّرَ الشيءَ الشنيعَ الفظيعَ ذاتَهُ، وأَشَدَّ منهُ حتى، منْ خلالِ التدخُّلِ العسكريِّ «العربيِّ» اِسْمًا بدلًا من التواجُدِ العسكريِّ الأمريكيِّ رَسْمًا في فُراتِ سُوريا، مثلًا لا حَصْرًا، وذٰلك في مُقَابِلِ «لُهَاثِهِمِ الأَبَدَيِّ والإِذلَالِيِّ المُذِلِّ» وَرَاءَ مقاليدِ السُّلْطةِ المُطْلَقَةِ، حتَّى لو أدَّى هٰذا «اللُّهَاثُ الأَبَدَيُّ» بهِمْ إلى التطبيعِ الخَنُوعِ مَعَ هٰذِهِ الـ«إسرائيلِ» كَلْبًا مَكْلُوبًا بعدَ كَلْبٍ أَكْلَبَ حتى. وهٰكذا، في حَالِ نظامِ السُّحْتِ الفاشيِّ المَافْيَوِيِّ الإِجْرَامِيِّ العَمِيلِ في سُوريا في حَدِّ ذَاتِهَا، مَا إنْ شَرَعَتْ أطيافٌ أبِيَّةٌ من رَحِمِ الشَّعْبِ السُّوريِّ في حَرَاكِهَا السِّلْمِيِّ الأسطوريِّ الجَلِيلِ هُنا وهُناك منهَا، ذٰلك الحَرَاكِ السِّلْمِيِّ الذي كانَ، ولَمَّا يَزَلْ، يشهدُ لهُ كلُّ مَنْ كانَ وكانتْ شاهدَيِ العَيْنِ على مَاجَرَيَاتِهِ منذُ البدايةِ، حتى شَرَعَتْ بِحَمِيَّةٍ عُصَابيةٍ أَنْجَاسُ هٰذا النظامِ، نظامِ السُّحْتِ الفاشيِّ المَافْيَوِيِّ الإِجْرَامِيِّ العَمِيلِ، بإيعازٍ جَلِيٍّ منْ إيرانَ قبلئذٍ وبإيعَازٍ أَجْلَى منْ رُوسيا بعدئذٍ وبإشرافٍ خَفِيٍّ وأَخْفَى كذاك منْ ذاك الغربِ الإمبرياليِّ (بمَا فيهِ إسرائيلُ ذاتُهَا)، حتى شَرَعَتْ أَنْجَاسُ هٰذا النظامِ في اللجُوءِ الرِّعْدِيدِ إلى قوَّةِ النَّارِ والحَدِيدِ بشتَّى سِلاحِهَا الثَّقيلِ والأَثْقَلِ و«المُحَلَّلِ» والمُحَرَّمِ بَرًّا وبَحْرًا وجَوًّا (وشَرًّا وعُهْرًا)، وذٰلك منْ أَجْلِ العَمَلِ العَنِيدِ على الحَيْلُولةِ والحُؤُولِ القَطْعِيَّيْنِ قَطْعًا بَاتًّا دونَ استمرَارِ ذاك الحَرَاكِ السِّلْمِيِّ الأسطوريِّ الجَلِيلِ قلبًا وقالبًا، ومنْ أَجْلِ القَضَاءِ المُتَعَمَّدِ عَلَى هٰكذا حَرَاكٍ قَضَاءً وَحْشِيًّا هَمَجِيًّا حُوشِيًّا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مُذَّاكَ مَثِيلٌ – وللضَّميرِ الإنسانيِّ، في هٰذا الزَّمَانِ الفقيرِ كُلَّ الفَقْرِ إلى الضَّميرِ الإنسانيِّ الحقيقيِّ، أنْ يتصَوَّرَ هٰهُنا، إنْ كانَ في الوَاقِعِ أو حتَّى في الخَيَالِ كَائِنًا مُسْتَطِيعًا مُطِيعًا للتَّصَوُّرِ، كلَّ مَا ارتكبتْهُ قُطْعَانُ «الشَّبِّيحَةِ» و«النَّبِيحَةِ» وأَقْطَاعُ العَسْكَرِ والأَمْنِ والمُخَابراتِ «القَبِّيحَةِ» منْ مَجَازِرَ أو مَذَابِحَ أو من شَنَائعَ أو فَظَائعَ منْ كَافَّةِ الصُّنُوفِ بحَقِّ السُّوريَّاتِ البريئاتِ والسُّوريِّينَ الأبرياءِ، عَلى اختلافِ أَعْمَارِهِنَّ وأَعْمَارِهِمْ كذٰلك. ولَمْ يَقِفْ إِجْرَامُ النظامِ، نظامِ السُّحْتِ الفاشيِّ المَافْيَوِيِّ الإِجْرَامِيِّ العَمِيلِ، عندَ هٰذا الحدِّ ذَاتًا: كانَ قدْ حَدَا بِهِ الإِجْرَامُ البَهِيمِيُّ، لا بلْ مَا دُونَ-البَهِيمِيُّ، كذاك أيَّامَئِذٍ، وبالإيعازِ الجَلِيِّ والأَجْلَى ذاتِهِ وبالإشرافِ الخَفِيِّ والأَخْفَى ذاتِهِ أيضًا، كانَ قدْ حَدَا بِهِ إلى إطلاقِ سَرَاحِ كافَّةِ السُّجَناءِ (أوْ حتى جُلِّهِمْ) منْ أولٰئك الإسلاميِّينَ و«المُتَأسْلِمِينَ» الأصوليِّينَ المُتَطرِّفِينَ، عَلى اختلافِ تَحَزُّبَاتِهِم وتَكَتُّلاتِهِمْ هُمُ الآخَرُونَ أيضًا، وعَلى الأَخَصِّ أولٰئك الإسلاميِّينَ و«المُتَأسْلِمِينَ» الذينَ سَرْعَانَ مَا اسْتَهْدَفَتْهُمْ بالدَّعْمِ التمويليِّ والتسليحِيِّ أَرْجَاسُ الظَّلامِ والشَّرِّ والعُهْرِ منْ «عُرْبَانِ» المملكاتِ والإماراتِ، وبذاتِ الإشرافِ الخَفِيِّ والأَخْفَى ذاتِهِ منْ ذاك الغربِ الإمبرياليِّ (بما فيهِ إسرائيلُ) كذٰلك. كلُّ هٰذا الإجراءِ البَرَاحِ «المَحْرُوسِ» في هٰذا الإطلاقِ، إطلاقِ السَّرَاحِ «المَدْرُوسِ»، إِنَّمَا كانتْ، ومَا زالتْ، غايتُهُ الأولى والأخيرةُ، ولا شَكَّ فيهَا، تتمَثَّلُ في سَعْيِ النظامِ، نظامِ السُّحْتِ الفاشيِّ المَافْيَوِيِّ الإِجْرَامِيِّ العَمِيلِ، إلى إيهَامِ العَالَمِ العربيِّ، خَاصَّةً، وإلى إيهَامِ العَالَمِ الإسلاميِّ، عَامَّةً، بأَنَّهُ يخُوضُ الآنَ بعدَ الآنِ، في سَاحَاتِ الوَغَى منْ كلِّ الجِهَاتِ قَاطِبَةً، بأَنَّهُ يخُوضُ غِمَارَ حَرْبٍ شَعْوَاءَ مُزْدَوَجَةٍ خَوْضَ «الأشَاوسِ» و«البَوَاسِلِ» معَ كلِّ أشكالِ الإرهابِ الجِهَاديِّ (والتكفيريِّ)، منْ طَرَفٍ أَوَّلَ، ومعَ كلِّ أَشْتَاتِ الغربِ الإمبرياليِّ (والتطهيريِّ)، منْ طَرَفٍ آخَرَ. وعَلَى الرَّغمِ من ذٰلك كُلِّهِ، أيَّتُهَا القارئةُ اللبِيبَةُ وأيُّهَا القارئُ اللبِيبُ، لَمْ نبرحْ في هٰذا الآنِ وفي هٰذا الأَوَانِ نرى مثقَّفَاتٍ جِدَّ لامعاتٍ ومثقَّفينَ جِدَّ لامعينَ – ومَا أَكْثَرَهُنَّ ومَا أَكْثَرَهُمْ، مِنْ مثقَّفَاتٍ مَرْبُوصَاتٍ ومِنْ مثقَّفينَ مَرْبُوصِينَ على عَيْنِ «اليسارِ العربيِّ» ماركسيًّا كانَ أَمْ لاماركسيًّا أَمْ حتَّى بَيْنَ بَيْنَ، وبغضِّ الطَّرْفِ كذاك عن ذٰلك «اليسارِ العربيِّ» المُتَذَبْذِبِ كُلَّ التَّذَبْذُبِ في مُنَاوَرَاتِهِ وفي مُحَاوَرَاتِهِ وفي مُؤَازَرَاتِهِ بَيْنَ أَنْجَاسِ النظامِ الطُّغْيَانيِّ وبَيْنَ أَرْجَاسِ الظَّلامِ «الإسلاميِّ» أَو حتى «المَتَأَسْلِمِ»، لمْ نبرحْ نَرَاهُنَّ يتشدَّقْنَ ونَرَاهُمْ يتشدَّقونَ بعباراتِ «النقدِ الثوريِّ البَنَّاءِ» وعباراتِ «النقدِ التَّمَرُّدِيِّ النَّاصِحِ والجَادِّ» تشدُّقًا دُونَمَا أَيِّ تَحَفُّظٍ بِالإِنْحَاءِ بِاللَّوْمِ، هٰكذا كَيْفَمَا اتَّفَقَ، عَلى ذَوَاتِ السُّوريَّاتِ والسُّوريِّينَ جُلِّهِمْ، إِنْحَاءً مُسْتَتِرًا ومُبَطَّنًا ومَلْغُومًا بأَنَّهُنَّ وأَنَّهُمْ ثائراتٌ وثائرونَ «فاشِلُونَ» يفتقرونَ أَيَّمَا افتقارٍ إلى أَيَّةٍ منْ تلك «الأيقوناتِ الثوريةِ» السَّاطعةِ، وبأَنَّهُنَّ وأَنَّهُمْ ثائراتٌ وثائرونَ «فاشِلُونَ» يفتقرونَ كذاك إلى أَيٍّ من ذاك «الحُضُورِ القيَاديِّ الثوريِّ» الأَشَدِّ سُطُوعًا بإزاءِ أَنْظِمَةٍ طُغْيَانِيَّةٍ غايَةٍ في الوَحْشِيَّةِ والحُوشِيَّةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وإزاءَ أَيَّةٍ من أمثالِهَا الهَمَجِيَّةِ والإجراميةِ بلا اِستثناءٍ.

مَرَّةً إِضَافِيَّةً في هٰكذا حَيِّزٍ كذٰلك، لقد قلتُ بالتَّأْكِيدِ الشَّدِيدِ كذاك قَبْلَئِذٍ، في القسمَيْنِ الآنِفَيْنِ منْ هٰذا المقالِ (في القسمَيْنِ التاسعِ والعاشرِ منهُ)، وعَلى الأخصِّ هناك في قرينةِ الكلامِ النَّقْدِيِّ (والبَنَّاءِ، طبعًا) بشيءٍ من التَّفْصِيلِ والتَّمْثِيلِ عَمَّا سَمَّيْتُهُ حِينَذَاك تَسْمِيَةً نَفْسَانِيَّةً بـ«الحَمَاسِ فوقَ-الثوريِّ» Hyper-Revolutionary Fervour (كي يُعادَ التذكيرُ لمَنْ يَنْفَعُهُنَّ ويَنْفَعُهُمْ هُنَا)، قلتُ إنَّهُ لَمِنَ الخَطَأِ الفادِحِ بالفِعْلِ أنْ يلجأَ جِنْسُ «التَّحْلِيلِ السِّيَاسِيِّ»، أيًّا كانَ نوعُهُ الفكريُّ أو العَقَدِيُّ، مُحَفَّزًا بِزَخْمِ هٰذا «الحَمَاسِ فوقَ-الثوريِّ» بالذاتِ أيَّمَا تحفيزٍ إلى استعمالِ فَيْضٍ (أو حتَّى فُيُوضٍ) منْ بلاغيَّاتِ ذٰلك اللِّسَانِ التَّخْيِيريِّ بالعينِ، ومَا تَنْطَوِي عليهِ هٰذِهِ البلاغيَّاتُ بدورِهَا منْ دلالاتٍ تمييزيةٍ، أوْ حتى منْ دلالاتٍ تفضيليَّةٍ – لا بَلْ جِدِّ تفضيليَّةٍ، في مَعْرِضِ «التَّحْلِيلِ السِّيَاسِيِّ» المَعْنِيِّ مَاسًّا بذٰلك مِسَاسَ التَّحْلِيلِ الجَادِّ فعلًا بـ«إنجازاتِ» ثورةٍ شعبيةٍ عربيةٍ دُونَ سِوَاهَا (كالشقيقةِ السُّودَانِيَّةِ، مثلًا)، ودُونَمَا الأَخْذِ بعَيْنِ الاعتبارِ بَتَّةً مَا يُنَاظِرُ هٰذِهِ الـ«إنجازاتِ»، في الأَصْلِ، منْ أسَاسٍ مَادِّيٍّ (تاريخيٍّ) وَ/أوْ لامَادِّيٍّ (لاتاريخيٍّ) تأَسَّسَتْ عليهِ بنحوٍ أوْ بآخَرَ أيَّةُ ثورةٍ شعبيةٍ عربيةٍ أُخرى، سَوَاءً كانتْ هٰذِهِ الثورةُ قدْ وَاكَبَتْهَا في الهَيَجَانِ والغَلَيَانِ (كالشقيقةِ الجزائريَّةِ، بسَيْرِهَا) أمْ كانتْ قدْ سَبَقَتْهَا بمرحلةٍ أوْ أكثرَ في الزَّمَانِ والمَكَانِ (كالشقيقةِ السُّوريَّةِ، وغَيْرِهَا)، كما رأيتُما كُلًّا في مَظِنَّتِهِ إذَّاكَ – نَاهِيكُمَا، بطَبِيعَةِ الحَالِ، عنْ أنَّ هٰذا الخَطَأَ المُتَكَلَّمَ عنهُ منْ هٰكذا مَنْظُورٍ خاصٍّ إنَّمَا يزدادُ فَدَاحَةً أكثرَ فأكثرَ حينمَا يَصْدُرُ هٰكذا «تحليلٌ سياسيٌّ» اِنتقائيٌّ اِصطفائيٌّ (جِدُّ حَائِدٍ) عنْ مَصْدَرٍ مَرْبُوصٍ عَلَى «اليسارِ العربيِّ» الماركسيِّ أوِ اللاماركسيِّ أوْ حتَّى مَا بَيْنَ بَيْنَ. ومعَ ذٰلك، وعلاوةً عَلَى مَا تَمَّتِ الإِشَارَةُ إليهِ منْ تمثيلٍ مَلْمُوسٍ ومَحْسُوسٍ يُبَيِّنُ قُدَّامَ كِلْتَا العَيْنَيْنِ البَصَرِيَّةِ والعَقْلِيَّةِ مَا يكْفِي منْ بلاغيَّاتِ اللِّسَانِ التَّخْيِيريِّ التي تَنْجُمُ عن ذٰلك الحَمَاسِ فوقَ-الثوريِّ عَلى كِلَا المُسْتَوَيَيْنِ الجَمْعِيِّ والفَرْدِيِّ، لَمْ نَزَلْ نَرَى مِنْ بينِ أولئك المُحَلِّلِينَ السياسيِّينَ والكَتَبَةِ الصِّحَافِيِّينَ رَأْيًا ورُؤْيَةً بهٰتَيْنِ العَيْنَيْنِ البَصَرِيَّةِ والعَقْلِيَّةِ ذَاتَيْهِمَا، لَمْ نَزَلْ نَرَى مِنْ بينِهِمْ مَنْ يتحدَّثُونَ جَادِّينَ كُلَّ الجِدِّ عنْ «أَسْرَارِ التَّفَوُّقِ والتَّمَيُّزِ» تيك في المشهدِ الثوريِّ الشَّعْبِيِّ السُّودَانيِّ، أو حتَّى عنْ «أَسْبَابِ الإخْفَاقِ والإحْبَاطِ» تلك في سَائِرِ مَا خَلاهُ منْ مشاهِدَ ثوريَّةٍ عربيَّةٍ كانتْ قدْ تأجَّجتْ منْ قبلُ في المقابلِ، يتحدَّثُونَ جَادِّينَ بذاتِ الزَّخْمِ الرِّوَائِيِّ، أو «الشِّعْرِيِّ»، الدِّعَائيِّ والدِّعَاوِيِّ الذي تختصُّ بهِ وسَائِلُ الإعلامِ الغَنِيَّةُ عن التعريفِ في أَصْقَاعِ الشَّرْقِ قبلَ أَرْجَاءِ الغَرْبِ – وبالأخَصِّ منْ حيثُ قُدْرَتُهَا الوَلائِيَّةُ كُلًّا عَلَى مَدَى الإشْهَارِ، إشْهَارِ فَرْدٍ أو جَمَاعَةٍ في حِينٍ، ومنْ حيثُ قُدْرَتُهَا العَدَائِيَّةُ كُلًّا كذاك عَلَى مِيدَاءِ الإغْمَارِ، إغْمَارِ هٰذا الفردِ أو هٰذِهِ الجَمَاعَةِ، أو حتَّى عَلَى الإفْنَاءِ، إفْنَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا إفْنَاءً كُلِّيًّا، في حِينٍ آخَرَ. فإذا كانتِ الحُجَّةُ المُثْلَى عندَ هؤلاءِ المتحدِّثِينَ الجَادِّينَ، في أغلبِ الظَّنِّ تارةً، أنَّ الحَرَاكَ الشَّعْبِيَّ السِّلْمِيَّ في السُّودانِ كانَ يمتازُ امتيازًا حينئذٍ بوُجُودِ قيادةٍ ثوريَّةٍ تَنْظِيمِيَّةٍ يقودُهَا قادةُ ذٰلك الائتلافِ المدنيِّ المُسَمَّى إِذَّاك بـ«قوى إعلان الحرية والتغيير»، مدعومينَ تحتَ لوائِهِمْ، إنِ اقتضى الحَالُ (التَّنْظِيمِيُّ)، مِنْ لَدُنْ قادَاتِ تَحَالُفَاتٍ مدنيَّةٍ أُخرى، كذٰلك التَّحَالُفِ المدنيِّ المَدْعُوِّ كذاك بـ«تجمُّع المِهَنِيِّينَ السُّودانِيِّينَ» أو غيرِهِ، فإنَّ قرارَ مَا كانَ يَحْدُثُ إبَّانَئِذٍ منْ عِصْيَانٍ مدنيٍّ عَلَى نطاقٍ واسعٍ كادَ أَنْ يكونَ شاملًا في طُولِ البلادِ وعَرْضِهَا إنَّمَا هو، أوَّلًا وآخِرًا، قرارٌ مُتَّخَذٌ منْ طَرَفِ الشعبِ السُّودانيِّ الصَّعْتَرِيِّ الخِنْذِيذِ بوَعْيٍ جَمْعِيٍّ بوُجُودِهِ السَّليبِ، سَوَاءً تمسَّكَ بهٰذا القرارِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (أو حتَّى بأيِّمَا قرارٍ سِوَاهُ، إِلَى ذاتِ الأَجَلِ المُسمَّى) قادةُ هٰذا الائتلافِ المدنيِّ أو حتى أَيٌّ منْ قادَاتِ تلك التَّحَالُفَاتِ المدنيَّةِ أَمْ لَمْ يتمسَّكُوا بِهِ إِلَى أَيِّمَا أجَلٍ مُسَمًّى آخَرَ بَتَّةً، وسَواءً كانَ القادةُ المَعْنِيُّونَ أو حتى أَيٌّ من القادَاتِ المَعْنِيِّينَ مجتمعينَ عَلى التفاوضِ (الجَادِّ والحَادِّ) منْ أمَامِ قادةِ «المجلسِ العسكريِّ الانتقاليِّ» أَمْ كانوا حتَّى متفرِّقينَ فيما بَيْنَهُمْ، وقدْ كانوا كذٰلك وَقْتَئِذٍ، في واقعِ الأمرِ. ذٰلك لأنَّ جَذْوَةَ، أو حتى جِذَاءَ، العِصْيَانِ المدنيِّ المُتَكَلَّمِ عنهُ، هٰهُنَا ذاتًا، كانتْ تشتدُّ اتِّقَادًا وتوهُّجًا في ألْبَابِ السُّودانِيَّاتِ النَّاقِمَاتِ والسُّودانِيِّينَ النَّاقِمينَ، ومَا زَالتْ تشتدُّ في قلوبِهِنَّ وفي قلوبِهِمْ، حتَّى قبلَ أَنْ لَجَأَتْ في مطلعِ ذٰلك الشهرِ القائظِ أَيَّمَا قَيْظٍ، شهرِ حزيرانَ من ذاك العَامِ «الثَّوَرَانِيِّ» 2019، حتَّى قبلَ أَنْ لَجَأَتْ عناصرُ لاإنْسِيَّةٌ مَا دُونَ-بَهيمِيَّةٌ منْ «قواتِ الدعمِ السريعِ» (أو منْ «ميليشياتِ الجَنْجَويدِ» الشَّبِيهَةِ بـ«الشَّبِّيحَةِ»، سَابقًا)، بإيعازٍ مَرْئِيٍّ منْ فَلِّ الطُّغَاةِ الفُسَلَاءِ طُغَاةِ الثوَرَانِ المُضَادِّ من المملكاتِ والإماراتِ (بما فيها مصرُ، وقدْ كانَ الحَبْلُ البحرينِيُّ والعثمَانيُّ عَلَى الجَرَّارِ)، وبإشرافٍ لامَرْئِيٍّ كذاك منْ أسيادِ هٰؤلاءِ الطُّغَاةِ الفُسَلَاءِ الفِسَالِ منْ ذاك الغربِ الإمبرياليِّ الرُّوسِيِّ والأمريكيِّ والفرنسيِّ والإنكليزيِّ الأَشَدِّ فُسُولَةً والأَشَدِّ فَسَالَةً (بما فيهِ إسرائيلُ، وقدْ كانَ الحَبْلُ الصِّينِيُّ والإيرانيُّ عَلَى الجَرَّارِ، كذٰلك)، حتى قبلَ أَنْ لجأتْ عناصرُ لاإنْسِيَّةٌ مَا دُونَ-بَهيمِيَّةٌ كهٰذِهِ إِلَى ارتكابِ تلك الجَرَائِرِ النَّكْرَاءِ والمَجَازِرِ الشَّنْعَاءِ بحَقِّ مَنْ كانوا يعْتَصِمُونَ، ومَنْ كُنَّ يعْتَصِمْنَ، اعْتِصَامًا سِلْمِيًّا في الخَارجِ من مَقَرِّ الدِّفَاعِ بالذاتِ، مِمَّا أَسْفَرَ عنْ عَشَراتٍ من القَتْلى قابلةٍ للزِّيَادَةِ حَتْمًا وعنْ مِئَاتٍ من الجَرْحَى كذاك قابلةٍ للنُّقْصَانِ لكيمَا تزدادَ العَشَرَاتُ الأولى حتَّى المعنيَّاتِ من تيك اللحظاتِ بالذاتِ أكثرَ فأكثرَ – وهٰذِهِ الجَرَائِرُ النَّكْرَاءُ والمَجَازِرُ الشَّنْعَاءُ بغَايَاتِهَا الجَلِيَّةِ في فَضِّ الاِعتصَامِ السِّلْمِيِّ ذاك باستخدامِ قوَّةِ النارِ والحديدِ، في حَدِّ ذاتِهَا وذَوَاتِهَا، ليسَ لَهَا إِلَّا أَنْ تُذَكِّرَ تذكيرًا بَدْئِيًّا دُونَ لَبْسٍ أَوِ التِبَاسٍ بنظيراتِهَا الدَّمَوِيَّاتِ أَيَّامَ ميدانِ اللؤلؤةِ في البحرين في أَوَائِلِ شهرِ آذارَ عامَ 2011 (وبارْتِكَابِهَا بالعَمْدِ، فضلًا عن ذٰلك كُلِّهِ، عَلَى أيدي عناصرَ لاإنْسِيَّةٍ مَا دُونَ-بَهيمِيَّةٍ نظيرةٍ منْ أَرْجَاسِ السُّعُودِيِّينَ والنَّهْيَانِيِّينَ وأذنابِهِمْ)، منْ جهةٍ أولى، وأَنْ تُذَكِّرَ تذكيرًا بَدْئِيًّا أيضًا بمثيلاتِهَا الأكثرِ دَمَويَّةً حتى أَيَّامَ سَاحَةِ رابعةَ العدويةِ في مصرَ في أَوَاسِطِ شهرِ تمُّوزَ عامَ 2013 (وباقْتِرَافِهَا بالقَصْدِ، عِلاوَةً عَلَى ذٰلك كُلِّهِ كذاك، عَلَى أيدي عناصرَ لاإنْسِيَّةٍ مَا دُونَ-بَهيمِيَّةٍ مثيلةٍ من أَنْجَاسِ السِّيسِيِّينَ وأذْيَالِهِمْ)، من جهةٍ أخرى.

وإذا كانتِ الحُجَّةُ المُثْلَى عندَ أولٰئك المتحدِّثِينَ الجَادِّينَ كُلَّ الجِدِّ كذاك، في أغلبِ الظَّنِّ طَوْرًا، أَنَّ الحَرَاكَ الشَّعْبِيَّ السِّلْمِيَّ في السُّودانِ كانَ قدِ انفردَ انفرادًا بحُضُورِ دَوْرٍ طليعيٍّ ملحوظٍ كانتْ تلعبُهُ قيادةٌ، أو حتى قياداتٌ، لِذٰلك الحزبِ السِّيَاسِيِّ اليَسَارِيِّ الفِعْلِيِّ المَوْسُومِ منذُ نشأتِهِ إِذَّاك عامَ 1946 بـ«الحزبِ الشيوعيِّ السُّودانيِّ»، عَلَى اعتبارِهِ حينذاكَ بمَعِيَّةِ صِنْوِهِ السِّيَاسِيِّ اليَسَارِيِّ العَدِيلِ، أَيِ «الحزبِ الشيوعيِّ العراقيِّ» حتَّى ذٰلك العامِ المشؤومِ، عامِ الانْحِسَارِ العَقَدِيِّ (أو الإيديولوجيِّ) المَزْؤُومِ، عامَ 1971 تحديدًا، عَلَى اعتبارِهِ إِذَّاكَ أكبرَ حزبٍ ماركسيٍّ كَمًّا وكَيْفًا في أَنْحَاءِ العَالَمِ العربيِّ بأَسْرِهِ – وهٰذا عَلَى الرَّغْمِ مِنْ كافَّةِ المَحْدُودِيَّاتِ المَادِّيَّةِ والمَعْنَوِيَّةِ تيك لَدَى نُشُوءِ «طبقةٍ عاملةٍ» سُودانيَّةٍ كُلًّا كانتْ قدِ اقترنتْ أَيَّمَا اقترانٍ بِهٰذا الحزبِ الماركسيِّ بالذاتِ، وذٰلك في أعقابِ تَمَرْكُزِ «أَزْلَامِ» الاستعمارِ الإنكليزيِّ مِنْ تِلْقَاءِ ذوَاتِهِمْ واتِّكَائِهِمْ مِنْ ثَمَّ بِنِعَالِ تيك البَسَاطِيرِ الثِّقَالِ عَلَى جُلِّ الرِّقَابِ مِنْ أَنْذَالِ الجيشِ المصريِّ بالعَيْنِ، فإنَّ ذٰلك الاِنقلابَ المدرُوسَ الشَّهِيرَ الذي قدْ قامَ بِهِ (في ذٰلك العامِ تحديدًا كذاك) بعضٌ من أولٰئك الأعضاءِ القادةِ والأعضاءِ غَيْرِ القادةِ مِنْ تلك القيادةِ، أو حتى مِنْ تلك القياداتِ الأُخرى، قَدْ قَامُوا بِهِ جَمْعًا عَلَى ذٰلك العسكريِّ «اليَسَارِيِّ» اللاماركسيِّ، جعفر النميري، وذاك بعدَ استعانتِهِمْ واستئناسِهِمْ بعسكريَّتِهِ «المَتِينَةِ»، حَسْبَمَا أَمْلَاهُ عَلَيْهِمْ ظَنُّهُمْ إبَّانَئِذٍ (وهو، عَلى فكرةٍ، اِنقلابٌ مَدْرُوسٌ بعنايةٍ مُثْلَى إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يتكلَّلْ بأكاليلِ النَّجَاحِ خَلَا أَيَّامٍ معدُودَاتٍ، ثلاثةٍ أَوْ يزيدُ، قبلَ قيامِ هٰذا العسكريِّ «اليَسَارِيِّ» اللاماركسيِّ، منْ طَرَفِهِ هو الآخَرُ، بانقلابِهِ المَدْرُوسِ «المُضَادِّ» الأكثرِ شُهْرَةً)، فإنَّهُ لَا يختلفُ مِنْ حيثُ المبدأُ، ولَا حتَّى مِنْ حيثُ المَنْهَى، عن أَيٍّ مِنْ تلك الانقلابَاتِ السِّيَاسِيَّةِ، أو حتى مِنْ تلك الانقلابَاتِ العسكريَّةِ، التي قدْ قِيمَ بِهَا في أَجْزَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ ومُخْتَلِفَةٍ منْ هٰذا العَالَمِ العربيِّ الحَزِينِ منذُ ذٰلك الحينِ: فَثَمَّةَ فارقٌ جَوْهَرِيٌّ جِدُّ كبيرٍ، والحَالُ هٰذِهِ، بينَ عَيْنِ «الثورةِ السِّيَاسِيَّةِ»، دَعْكُمَا مِنْ ذِكْرِ «الثورةِ العسكريَّةِ» إنْ جَازَ استعمَالُ المُفْرَدَةِ الأولى في هٰذِهِ القرينةِ، وبينَ عَيْنِ «الثورةِ الاِجْتمَاعِيَّةِ» التي نحنُ بصَدَدِ الكلامِ المُحَاوَلِ بالجهدِ عَنْهَا الآنَ، في هٰذا المشهدِ الثوريِّ الشَّعْبِيِّ السُّودَانيِّ بالذاتِ – ذٰلك الفارقُ الجَوْهَرِيُّ الذي يتبدَّى لِنَاظِرِ البَدَاهةِ حَسْبَمَا كانَ يُسْتَنْبَطُ استنباطًا خَفِيًّا منْ خلالِ مبادئِ التنظيرِ الماركسيِّ عَيْنِهِ، وحَسْبَمَا كانَ يُسْتَقْرَأُ استقراءً حَفِيًّا كذاك منْ جَرَّاءِ مَنَاهِي التنظيرِ التروتسكِيِّ في حَدِّ ذاتِهِ. ولٰكِنْ، ولٰكِنْ، وبالرَّغْمِ مِنْ كلِّ مَا قدْ بَانَ، هُنَا وهُنَاكَ، مِنْ إرْهَاصَاتِ المُتَوَارَثِ مِنْ ذٰلك العامِ المشؤومِ، عامِ الانْحِسَارِ العَقَدِيِّ (أو الإيديولوجيِّ) المَزْؤُومِ، وعَلَى الرَّغمِ منْ كلِّ تلك الأَحَابِيلِ والأَبَاطِيلِ التي باتَ عناصِرُ قادةٌ أو حتى عناصرُ غيرُ قادةٍ من ذاتِ «المجلسِ العسكريِّ الانتقاليِّ» (أوْ، وِفَاقًا لِرَسْمِ تَسْمِيَتِهِ بالعُرْفِ والاصْطِلاحِ المُعَارِضَيْنِ كذاك، بـ«المجلسِ العسكريِّ الانقلابيِّ»)، بَاتُوا ومَا بَرِحُوا يَخْتَلِقُونَها اخْتِلاقَ أَسْلَافِهِمْ من الطُّغَاةِ العُتَاةِ الفاشيِّينَ المُصْطَنَعِينَ الذينَ «سَادُوا» وَ/أَوْ بَادُوا، وبَاتُوا ومَا فَتِئُوا يَجْتَرِحُونَهَا مِنْ ثَمَّ اجْتِرَاحَ مُعاصِرِيهِمْ منهُمْ، مِنْ أَجْلِ إِخْمَادِ لَهَبَانِ هٰذا الثَّوَرَانِ الشَّعْبِيِّ كُلًّا ومنْ أَجْلِ القَضَاءِ عَليهِ كُلًّا وكُلِّيَّةً كذاك بأَسْرَعِ مَا يُمْكِنُ لَهُمْ زَمَانًا (وبالإيعازِ «المَحَلِّيِّ» المَرْئِيِّ وبالإشرافِ الدُّوَلِيِّ اللامَرْئِيِّ، كَمَا أُشِيرَ إليهِمَا قبلَ قليلٍ)، إِلَّا أَنَّهُ لا بُدَّ من القَوْلِ بالإِشَادَةِ والاسْتِحْسَانِ المُوَائِمَيْنِ، دُونَمَا الإِغْرَاقِ الشديدِ في أَيٍّ منهُمَا، ودُونَمَا الوُقُوعِ الوَكِيدِ بالتَّالي في شَرَكِ «الحَمَاسِ فوقَ-الثوريِّ» المُتَحَدَّثِ عنهُ، هٰهُنَا أيضًا، فيمَا لَهُ مِسَاسٌ بالدَّوْرِ الذي كانَ، ولَمْ يَزَلْ، يقومُ بِهِ أعضاءٌ قياديُّونَ، أو حتى أعضاءٌ غيرُ قياديِّينَ، مِنْ «الحزبِ الشيوعيِّ السُّودانيِّ» بالذاتِ في سَيْرُورَةِ الحَرَاكِ الشَّعْبِيِّ السِّلْمِيِّ عَيْنِهِ في البلادِ، وفي اسْتِمْرَارِيَّةِ هٰذا الحَرَاكِ الشَّعْبِيِّ عَلَى أكثرَ منْ صَعِيدٍ (وذٰلك قبلَ ذاك الاجتياحِ «الكورُوني» المُريعِ وَقْتَئِذٍ)، ذٰلك الدَّوْرِ اللَّافتِ للانتبَاهِ الذي يَكادُ أَنْ يتفرَّدَ بِهِ تَفَرُّدًا هٰكذا حزبٌ يَسَارِيٌّ ماركسيٌّ بالاِسمِ والمُسَمَّى منْ بينِ كافَّةِ الأحزابِ اليَسَارِيَّةِ الماركسيَّةِ بالاثنَيْنِ كذاك في أَصْقَاعِ العَالَمِ العربيِّ كافَّتِهَا، والذي يكادُ أَنْ يَتَرَجَّحَ بالكِفَافِ تَرَجُّحًا أَلْفَتَ للانتبَاهِ حتى عَلَى عَيْنِ النَّظِيرِ اليَسَارِيِّ الماركسيِّ في تونسَ المَعْرُوفِ الآنَ إِفْرَادًا وإِجْمَاعًا بـ«الاتحادِ العامِّ التونسيِّ للشغلِ»، Union Générale Tunisienne du Travail (UGTT)، والضَّامِّ كذاك بمعيَّةِ النَّظِيرِ اليَسَارِيِّ الماركسيِّ الآخَرِ المَدْعُوِّ إِفْرَادًا وإِجْمَاعًا أيضًا بـ«حزب العُمَّالِ الشيوعيِّ التونسيِّ»، والضَّامِّ وُجُودًا طُلَّابِيًّا من الأَهميَّةِ بمَكَانٍ مِنْ صُلْبِ ذٰلك الاتحادِ المَعْنيِّ بـ«الاتحادِ العامِّ لطلبةِ تونسَ»، في حَدِّ ذاتِهِ. وبالأَخْذِ بِلُبِّ الحُسْبَانِ هٰكذا دَوْرًا لافتًا للانتبَاهِ لهٰكذا حزبٍ يَسَارِيٍّ ماركسيٍّ منْ كلِّ جَانبٍ مُمْكِنٍ، وبالأَخْذِ بِعَيْنِ الاِعْتِبَارِ كذاك، إضافةً إليهِ، مَا قدْ تَرَتَّبَ عَلَى تلك الجَرَائِرِ النَّكْرَاءِ وتيك المَجَازِرِ الشَّنْعَاءِ التي ارتكبتهَا المؤسَّسةُ العسكريَّةُ السُّودانيَّةُ (بالإيعازِ «المَحَلِّيِّ» المَرْئِيِّ وبالإشرافِ الدُّوَلِيِّ اللامَرْئِيِّ ذاتَيْهِمَا)، وبغَايَاتِهَا الجَلِيَّةِ قبلَ كلِّ شيءٍ في فَضِّ الحَرَاكِ الشَّعْبِيِّ السِّلْمِيِّ في غِرَارِهِ الاِعتصَامِيِّ ذاك باستخدامِ قوَّةِ النارِ والحَدِيدِ، صَارَ واضِحًا للعِيَانِ أكثرَ منْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى أَنَّ كُلَّ الأحزابِ اليَسَارِيَّةِ الماركسيَّةِ واللاماركسيَّةِ وكذاك مَا بَيْنَ بَيْنَ، وعَلَى الأَخَصِّ تلك الأحزابَ التي كانتْ، ومَا انْفَكَّتْ، تبتغي برغبتِهَا المِلْحَاحِ ابتغاءً نوعَيِ التباحُثِ والتفاوُضِ الجَادَّيْنِ بُغْيَةَ التَّوَصُّلِ إلى أنواعِ التَّسْوِيَاتِ الأَجَدِّ مَعَ هٰذِهِ المؤسَّسةِ العسكريَّةِ عَيْنِهَا، إنَّمَا هي الآنَ هنا في موقفٍ قراريٍّ ليسَ لَهَا فيهِ سِوَى أَنْ تَنْخَرِطَ بالحَشْدِ انخراطًا في حُشُودِ أولٰئك المُعْتَصِمَاتِ السُّودانيَّاتِ وأولٰئك المُعْتَصِمِينَ السُّودانيِّينَ طُرًّا، وليسَ لَهَا فيهِ كذاك، في آخِرِ المَطافِ، سِوَى أَنْ تَتَمَاهَى، عنْ سَبِيلِ «المَنَابِ الإنسَانيِّ الفَرْدِيِّ» الكَنِينِ في سَرِيرَةِ كُلٍّ منْ أَعْضَائِهَا، تَتَمَاهَى فِيمَا سُمِّيَ في موضعٍ آخَرَ بـ«المَنَابِ الإنسَانيِّ الجَمْعِيِّ» Collective Human Agency، وبِخَاصَّةٍ حِينَمَا يكونُ هٰذا المَنَابُ مُدَجَّجًا بقُوَّةِ الإِرَادَةِ الإنسَانيَّةِ الجَامِعَةِ – وللتذكيرِ، هٰهُنا أيضًا، بمَا قِيلَ وَقْتَئِذٍ في هٰذا الصَّدَدِ: حتىَّ أفراخُ الطَّيرِ بالعَيْنِ تستطيعُ أَنْ تُحَلِّقَ في السَّمَاءِ أَعْلَى مِمَّا تستطيعُ (أَنْ «تُحَلِّقَ» عَلَى الأرضِ، ولا رَيْبَ) بقُوَّةِ الإرادَةِ في حَدِّ ذاتِهَا، لا بقُوَّةِ الجَنَاحَيْنِ، كَمَا كَانَ الحُكَمَاءُ القُدَامَى يقولونَ وقدْ كانوا عَلَى يَقِينٍ مُطْلَقٍ مِنْ هٰذا القَوْلِ، وأَوَّلُهُمْ كُونْفُوشْيُوسْ.

غَيْرَ أَنَّ الفارقَ «الموضُوعيَّ» الوحيدَ الذي يَبْدُو هُنَا أَنَّهُ قدْ غَابَ غِيَابًا كُلِّيًّا عنْ أذْهَانِ الكثيرِ الجَمِّ من أولٰئك المُحَلِّلِينَ السِّيَاسِيِّينَ والكَتَبَةِ الصِّحَافِيِّينَ المَعْنِيِّينَ (بمنْ فيهِمْ كذاك أولٰئك المُحَلِّلُونَ «الماركسيُّونَ المُخَضْرَمُونَ» المَعْنِيُّونَ، عَلى الأقلِّ آنًا أو حتى شيئًا من آنٍ حتَّى لحظةِ نَقْرِ مِفْتاحِ هٰذِهِ «النُّونِ» التفريقيَّةِ الأخيرةِ بالذاتِ)، إِنَّمَا يَتَكَمَّنُ في ذٰلك الفارقِ الجَوْهَرِيِّ تَكَمُّنًا بينَ التَّسْيِيبِ «النَّاسِخِ» للسِّلاحِ الآلِيِّ والعَتَادِيِّ وبينَ التَّسْيِيبِ «المَنْسُوخِ» للإسْلامِ المَالِيِّ والجِهَادِيِّ. وهٰكذا، فإِنَّ غَبَاءَ الطَّاغِيَتَيْنِ العسكريَّيْنِ الفاشيَّيْنِ المُصْطَنَعَيْنِ المَعْنِيَّيْنِ في زَمَنٍ مِثْلَ هٰذا الزَّمَانِ، أَيْ عبد الفتاحِ البرهان وسَاعِدُهُ اليَمِينِيُّ محمد الـ«حمدان» الـ«دقليُّ» ذُو اللقبِ العَامِّيِّ الغَنِيِّ عنِ الذِّكْرِ «حميدتي» (أَيْ كذاك دَاجِرُ أَرْدَأِ التُّمُورِ وتاجِرُ البُعْرَانِ المَأْجُورِ، بالتَّحْدِيدِ)، إنَّهُ لَغَبَاءٌ مُطْبِقٌ لَا يَطْفِرُ هٰكذا، دُونَمَا سَابِقِ إيمَاءَةٍ، طَفْرًا فُجَائِيًّا، أو بالحَرِيِّ «طُفْرَانًا اِفْتِجَائِيًّا» Abrupt Mutation، لَا يَطْفِرُ عنْ ذٰلك الغَبَاءِ القَهْرِيِّ التَّكْرَارِيِّ الذي يتحلَّى بِهِ الآخَرُونَ من فَلِّ الطُّغَاةِ العُتَاةِ الفاشيِّينَ المُصْطَنَعِينَ الإِجْرَامِيِّينَ، بُغَاةِ التَّهَدُّمِ لَا بُنَاةِ التَّقَدُّمِ، حتى يَلْجَأَ كِلَاهُمَا طَافِرَيْنِ بامتيازٍ إلى تلك الأَحَابِيلِ والأَبَاطِيلِ الدَّنِيَّةِ والدَّنِيئَةِ كَيْمَا يُوقِعَا إيقاعًا مُتَعَمَّدًا أَشْتَاتَ الأُبَاةِ العُصَاةِ من المَدَنِيَّاتِ والمَدَنِيِّينَ ذَوَاتِهِمْ في شَرَكِ الجَرِّ والاِجترارِ كذاك إلى سَائِرِ أَوْكارِ العِصْيَانِ المُسَلَّحِ، في المُقَابِلِ: فالتَّسْيِيبُ «النَّاسِخُ» للسِّلاحِ الآلِيِّ والعَتَادِيِّ في البُيُوتِ والمَيَادِينِ، كَمَا يكونُ المَآلُ في ذٰلك اليومِ في المَشْهَدِ الثوريِّ الشَّعْبِيِّ السُّودانِيِّ، شَيْءٌ، والتَّسْيِيبُ «المَنْسُوخُ» للإسْلامِ المَالِيِّ والجِهَادِيِّ من السُّجُونِ والزَّنَازِينِ، كَمَا كانَ الآلُ بالأمسِ في المَشْهَدِ الثوريِّ الشَّعْبِيِّ السُّورِيِّ، شَيْءٌ آخَرُ قَدْ تَمَّ استغلَالُهُ قبلَ تِيكَ «السَّنَوَاتِ العِجَافِ» بالذوَاتِ مِنْ لَدُنْ أَنْظِمَةٍ طُغْيَانِيَّةٍ أَشَدَّ هَمَجِيَّةً وأَشَدَّ بَرْبَرِيَّةً وَأَشَدَّ دَمَوِيَّةً وَأَشَدَّ وَحْشِيَّةً وحُوشِيَّةً – ولِهٰذَا الكَلَامِ، فِيمَا بَعْدُ، بَقِيَّةٌ!


[انتهى القسم الحادي عشر من هٰذا المقال ويليه القسم الثاني عشر]


*** *** ***

لندن (إنكلترا)،

28 شباط 2024


/ تحديثًا عن الحوار المتمدن

غياث المرزوق - ذٰلِكَ ٱلْغَبَاْءُ ٱلْقَهْرِيُّ ٱلْتَّكْرَاْرِيُّ: طُغَاْةُ ٱلْتَّقَدُّمِ أَمْ بُغَاْةُ ٱلْتَّهَدُّمِ؟ (11)

غياث المرزوق - ذٰلِكَ ٱلْغَبَاْءُ ٱلْقَهْرِيُّ ٱلْتَّكْرَاْرِيُّ: طُغَاْةُ ٱلْتَّقَدُّمِ أَمْ بُغَاْةُ ٱلْتَّهَدُّمِ؟ (11) (ahewar.org)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى