كاهنة عباس - في العلاقة الملتبسة بين اللغة والتجربة في الثقافة العربية الاسلامية

التجربة هي اكتساب الإنسان لأية خبرة ، حنكة ، دراية ، وهي أيضا النتائج التي نلمحها أو نستخلصها عند إنجاز فعل ما ، فقد ورد في لسان العرب لابن منظور: أن المجرب هو من عرف الأمور وجربها فهو بالفتح مضرس قد جربته الأمور وأحكمته، والمجرب مثل المجرب والمضرس قد جربته الأمور (1).
ويمكن اختزال معناها اللغوي في كونها تارة اختبار وطورا دراية ومعرفة ، ذلك أنها تتمثل في فعل أو ممارسة من شأنه الكشف عن إمكانيات الإنسان أو عن جانب ما من الواقع ومعنى ذلك أنها سبيل من سبل اكتساب المعرفة ،فمن وجهة نظر علمية هي الاختبار المنظم لظاهرة أو ظواهر يراد ملاحظاتها بدقة، للكشف عما أفضى إليه احتكاكها بمحيط ما أو شيء ما.
ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نطرح السؤال التالي: هل تعتبر التجربة مصدرا من مصادر القيم ومن مصادر المعرفة، أليست القيم الاجتماعية هي تراكم لتجارب الأجيال المتعاقبة، ألا تعتبر التقاليد والعادات في مجتمع ما، نتاج تلك التجارب ؟
إذا ما استندنا إلى الثقافة العربية الإسلامية باعتبارها المرجع الأساسي للقيم بعناصرها المختلفة من علوم اللغة وفقه باتجاهاته وأصوله ، والفنون مثل الأدب والهندسة المعمارية ، ألا يشكل الدين الإسلامي المرجعية الأساسية لتحديد ما هو: الحلال والحرام والمباح والمكروه ،سواء بالنسبة للفرد أو للمجتمع دون أن يكون مصدرها الوحيد، إذ يحدد القانون بدوره ما هو محظور وجائز ومجال الحريات الممنوحة سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، كما تضع العادات والتقاليد بدورها عدة قواعد متوارثة عبر الأجيال لتنظيم مراحل حياة الشخص في علاقته مع المجموعة.
وقد تتقاطع هذه المصادر فما يحرمه الدين من أفعال مثل قتل وسرقة وعنف يجرمه القانون ويضع له العقوبات المناسبة، قد ترسخها العادات والتقاليد باعتبارها أفعالا محظورة أيضا.
الإشكالية المطروحة هي علاقة ثقافة العربية الإسلامية بالتجربة كمصدر للقيم ،هل يجب الاكتفاء بالتفسير والتأويل اللغوي للنص الديني في غياب أي سياق تاريخي أو الواقعي باعتبار أن القراءة الوحيدة الممكنة هي قراءة لغوية ،أي لا تخرج عن معاني النص وبالتالي لا تأخذ بعين الاعتبار الظرف المكاني والزمني الذي جاء فيه ؟
هل يمكن الفصل بين النص وسياقه التاريخي ، هل تكتفي اللغة بما تقول بأن تبقى صالحة لكل مكان وزمان في غياب التجربة أي ما أثبتته الممارسة أي التطبيق ،فإن كانت اللغة حسب نظرية عالم اللسانيات فارديناند دي سوسير : واقعة اجتماعية وخصوصياتها ليست مجردة بل واقعة بالفعل في عقول الناس ، بعبارة أخرى فهي مجموع كلي متكامل كامن ليس في عقل واحد بل في عقول جمع الافراد الناطقين بلسان معين (2) وبالتالي فهي نظام متكامل من العلامات التي ما انفكت تتفاعل باستمرار مع المجتمع، يمكنها أن تكشف لنا القيم الاجتماعية والعلاقات الشخصية والبناء الاجتماعي بالرجوع الى علم اللسان الاجتماعي ( 3)،فكيف يمكن لنص يشرع قاعدة إما أخلاقية أو قانونية أو حكما شرعيا ،أن يبقى منفصلا عن التجربة الإنسانية أي ممارسة الاجتماعية ،أن لا يتخذها كمرجع؟
فإن كان الأمر كذلك ، كيف يمكن ربط التجربة بسياقها الزمني والمكاني أي بالواقع الذي أنتجها ، وهو ما يجعلنا نطرح السؤال الموالي : هل للتجارب صبغة جماعية بحيث يمكن تعميمها أم هي خاصة بمن عاشها ومارسها ؟
وكيف يمكن النظر للعالم من منظور المخزون اللغوي المشترك بين جماعة ما دون الالتجاء إلى العلوم مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء ثم إخضاع جميع الفرضيات المنبثقة عنها إلى التجربة لمعرفة مدى صحتها ؟
فالتجربة ، باعتبارها سلوكا يضعنا في مواجهة مع الواقع كما هو ، هي الكفيلة بأن تخبرنا بصحة وحقيقة ما تعلمنا وما خبرنا من قيم عن طريق التربية ، أو ما وصلنا من معلومات سواء عن طريقة اللغة أو بواسطة الفرضيات العلمية والنظريات التي هي تصورات وتمثل لذلك الواقع .
وما وصلنا من أخبار وأحاديث حول تطبيق النصوص الدينية من المسلمين الأوائل، كان متصلا بظروف تاريخية معينة، مثل الأحكام المتعلقة بالجهاد والرق وتطبيق الحدود ، ولا يمكن قراءتها طبق مقاييسنا المعاصرة ، علاوة على ضرورة إعادة النظر فيها من وجهة نظر موضوعية، علمية ،تاريخية .
إلا أنها اعتبرت مرجعا متمما للنصوص الدينية من حيث التطبيق ،خاصة بالنسبة للمذهب السني، وترتب عن ذلك كله، مفهوم معين للحقيقة وهي أنها لا يمكن أن تخرج عن النص وعلى كيفية تطبيقه زمن انبعاثه وهي حقيقة تعتمد على اللغة لان مصدرها هو الوحي الإلهي .
لذلك تأسس مفهوم الحقيقة في الثقافة العربية الإسلامية على اللغة في مفهومه الشامل الذي يتجاوز الدين ، وأصبح مرتبطا بنص ما، يكون له بمثابة المصدر أي المرجع الضروري لفهمه وتأويله ،والنتيجة الحتمية لذلك، هو أن يصبح الخطاب في أي مجال كان، مكتفيا بفحواه اللغوي ،دون حاجة إلى إخضاعه إلى التجربة أو الانجاز أو الفعل .
لذلك ، يوجد بين الخطب التي نسمعها سواء الصادرة عن مؤسسات رسمية أو غير الرسمية والواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مجتمعنا هوة سحيقة، والأمثلة عديدة على ذلك يمكن الاستناد إليها بالرجوع على سبيل المثال إلى ارتفاع نسبة الانحراف والإجرام وهيمنة الخطاب الأخلاقي والديني ،وهي هوة نلاحظها أيضا بين النظريات والعلوم التي تدرس في المدارس والجامعات ومدى تطبيقها أو الاستفادة منها ، بين الخطاب السياسي المتعلق بحقوق الفرد السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتهميش الفئات الفقيرة وحرمانها من تلك الحقوق ،
كل هذه العوامل تفسر لنا ذلك الانفصام الذي نعيشه بين ما هو فعل وسلوك وما هو خطاب وقول حتى عند ممارسة الطقوس الدينية ،مثل الصيام الذي يهدف إلى تهذيب النفس وجعلها تتحرر من قيود المادة ومن الشهوات وذلك بارتفاع ظاهرة العنف وكذلك نسبة استهلاك المواد الغذائية .
فما هي القيم والمعاني التي يمكن أن تنتجها ثقافة ما، في صورة انفصال اللغة عن التجربة باعتبار أن الأولى هي المصدر الأساسي للحقيقة ؟
إذا عجزت ثقافة ما عن إنتاج قيم قابلة للتطبيق وتشبثت بمفاهيمها اللغوية، فإن تلك المفاهيم تصبح فاقدة لكل معنى، باعتبارها لا تدخل حيز الفعل ولا تندمج في الواقع للتفاعل معه وإحداث التغييرات اللازمة .
والنتائج المترتبة عن ذلك ، هو عجزنا عن إدراك ذلك الواقع وسوء فهمه وعدم الاستفادة من التجارب السابقة ، إعادة إنتاج لغة منفصلة عن واقعها لا تنقل منه إلا ظاهره دون سبر أغواره ، عزوفنا عن التأسيس لرؤية علمية للعالم، تتجاوز اللغة مثل تطوير النظريات في مجال العلوم الطبيعية والصحيحة ثم السعي إلى تطبيقها لمعرفة مدى صحتها .
ومع ذلك ،علينا أن نشير إلى أن الهوة الفاصلة بين الجانب النظري والتطبيقي في تاريخ الفكر الإنساني وبين اللغة والتجربة أي بين القول والفعل ليست حكرا على ثقافة العربية الإسلامية ،بل هي موجودة في كل الثقافات بدرجات متفاوتة ، يبقى أن تقديرها متصل بمدى ارتباطهما العضوي أو انفصالهما الكلي أو الجزئي .
لذلك علينا التفكير في قيمة التجربة أي في ما هو فعل وإنجاز ، أن لا نكتفي بما تمنحه اللغة من إمكانيات، لأنها إذا ما انفصلت عن التجربة والانجاز، أضحت فاقدة للجزء الأكبر من معانيها ولم تعد متصلة بالواقع .

كاهنة عباس .
المراجع :
(1)لسان العرب، الرابط: فعل جرب http://wiki.dorar-aliraq.net/lisan-

alarab/%D8%AC%D8%B1%D8%A8
(2)مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماستر في اللغة والادب العربي، عن الجامعة تلمسان، كلية الاداب واللغات ، الجمهورية الجزائرية ، بعنوان :الدرس اللساني بين فرديناند دي سوسير وهلمسلف، دراسة مقارنة ، الصفحة 35، إعداد ابتسام صمود إشراف آمال بناصر، العام الجامعي 2018/2019 الرابط :
http://dspace.univ-tlemcen.dz/bitstream/112/15426/1/Hamoude-Ibtissame.pdf
(3) نفس المصدر ، أي المذكرة المقدمة لنيل شهادة الماستر في اللغة والادب العربي، عن الجامعة تلمسان، كلية الاداب واللغات ، الجمهورية الجزائرية ، بعنوان :الدرس اللساني بين فرديناند دي سوسير وهلمسلف، دراسة مقارنة ، الصفحة 16و17( بتصرف )، إعداد ابتسام صمود إشراف آمال بناصر، العام الجامعي 2018/2019 الرابط :
http://dspace.univ-tlemcen.dz/bitstream/112/15426/1/Hamoude-Ibtissame.pdf

نشر هذا المقال بمجلة ميريت بعددها 51 الصادر في مارس 2023 .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى