د. محمد الهادي الطاهري - صورة المرأة في رواية شط الأرواح لآمنة الرميلي

تمهيد:

ظهرت "شط الأرواح" في طبعتها الأولى سنة 2020، ولآمنة الرميلي، قبل هذه الرواية وبعدها، روايات أخرى وأقاصيص كثيرة فضلا عن كتاباتها الأكاديمية. بدأت آمنة الرميلي رحلتها مع الكتابة الروائية سنة 2003 برواية "جمر وماء" التي نالت جائزة الكومار الذهبي، وظهرت لها، سنة 2013، رواية ثانية بعنوان "الباقي"، وقد نالت هي الأخرى جائزة الكومار الذهبي لسنة 2014، ثم رواية ثالثة بعنوان "توجان" سنة 2016 تقاسمت بها جائزة الكومار الذهبي مع الكاتبة نبيهة العيسى وروايتها "مرايا الغياب". رحلة في عالم الكتابة تُوّجت بشط الأرواح سنة 2020. وسنكتفي في هذا المقال لقصير برصد صور المرأة في هذه الرواية وبيان أبعادها ودلالاتها. ولكن هذا لا يمنعنا من إشارات خاطفة إلى بنيتي الرواية الخارجية والداخلية لصلتهما المتينة بمجمل الصور التي رسمتها الكاتبة للمرأة، وإلى عالم هذه الرواية الذي احتلّت فيه المرأة المكانة الأوسع والأعلى درجة من مكانة الشخصيات الأخرى.

1. بنية الرواية:

· شط الأرواح رواية تتألّف من أربعة عشر فصلا، لكل فصل منها عنوان يميزه. واللافت للانتباه في عناوين هذه الفصول هو عنوان الفصل الأخير وهو (ثانيا: إجهاض). نظرت في قائمة العناوين لعلّني أقف على ( أوّلا) فلم أجد أثرا لذلك. وأمام هذا الغياب، نعتقد أن الرواية في مجملها تدور بين الحمل والإجهاض، وهذا ما يمنحها بنية ضدّية، فالحمل أولا والإجهاض ثانيا، حالتان متناقضتان في المعنى متعاقبتان في الزمان، وإذا كان الحمل يقتضي أن يؤول في النهاية إلى وضع أو ولادة، فقد آل إلى "إجهاض" بخلاف ما تقتضيه العادة. مآل كريه يقتضي أن يكون الحمل أولا كريها إما لأنّه غير شرعيّ أو لأنّه غير مراد أو لأنّه غير مناسب لجسد من حملت. وفي كل هذه الأحوال هو حمل مخالف لكل منطق، منطق الدين /القانون أو منطق العلم / الطب، أو منطق الذات الحاملة. وليس في الرواية من علامة على أنه كان حملا مخالفا للمنطقين الأول والثاني، وفيها في المقابل علامة على أنه مخالف للمنطق الثالث. وبهذا فالحمل والإجهاض وضعيتان وجوديتان عاشتهما بطلة الرواية ولا ندري إن كانت راضية بهما أو غير راضية، أو راضية بواحدة منهما غير راضية بالأخرى. ولكن الكاتبة اختارتهما وضعيتين، الأولى وضعية بداية والثانية وضعية نهاية. بين نص الوجود الذي ترويه البطلة الساردة، ووجود النص الذي صنعته الكاتبة بخيالها تضاد صريح يذكرنا بالتضاد بين الحمل والإجهاض، فالبطلة الساردة امرأة لا ندري إن كانت قد اختارت الحمل والإجهاض أو اختارت أحدهما دون الآخر، ولكن الكاتبة امرأة اختارت وضعية بداية هي الحمل ووضعية نهاية هي الإجهاض.

· ذلك هو بناء الرواية من الخارج. أمّا بناؤها من الداخل فسمته الرئيسية في ذلك التداخل بين صوتين ساردين نلمسه في التمايز بين شكلين من أشكال الخط على صفحات الرواية، فصوت البطلة الساردة بخط مستقيم هو الغالب على نص الرواية، وصوت البطل الثاني "خير الدين المنسي" بخط مائل يخترق صفحات الروايات من حين إلى آخر. ومن شأن هذا التداخل بين الصوتين مع تمايز واضح بين خطين أن يجعل نص الرواية نصا مركّبا من قصّتين هما قصة باهية العمراني وقصة خير الدين المنسي، والقصتان تتداخلان لنجد أنفسنا في عالم قصصي معقود على ما بين باهية وخير الدين من اتصال وانفصال. بناء لن يتولد عنه كسر الزمن، بما في هذا الكسر من استرجاع واستشراف ومد وجزر وتقديم وتأخير وما ينشأ عن ذلك كله من إمتاع وتشويق، بل سيتولد عنه بالأخص ضرب من ضروب المتاهة يقع فيها القارئ فلا يدري إن كان يمضي قدما أو يعود القهقرى. وإذا كانت القراءة المتلهفة لمعرفة ما سيأتي في قادم الصفحات قفزا حقيقيا يمارسه القارئ بأنامله وهو يقلب صفحات الرواية، فقد صنعت الكاتبة بتقنيات البدء والعود أو الوصل والفصل نصا متشابك الخيوط، وأشبه ما يكون بالمتاهة يفقد فيها القارئ الاتجاهات. إن هذه المتاهة في بنية الرواية الداخلية هي نفسها المتاهة التي وقعت فيها بطلة الرواية باهية العمراني. ومن هنا تحديدا يكون فعل القراءة نظيرا كليا لفعل الكتابة. هل يعني ذلك أن قراءة هذا النص تعني تدرُّبا على الخلاص من التيه تماما كما يعني فعل الكتابة تدرّبا على الموت كما يقول رولان بارت؟ الجواب هو نعم. فنص الرواية الذي بين أيدينا هو نفسه نص الحكاية التي ترويها البطلة الساردة بلا تمييز يكاد يذكر بين آمنة وباهية. وباهية هذه قررت أن تكتب قصتها "تحت نخلة... في ركن من أركان مقبرة". وهو قرار لمواجهة الموت كاد يخطف حياتها ولكنها نجحت في الخلاص منه بأعجوبة.

2. عالم الرواية:

· شط الأرواح عالم رائع ومربع، فكل ما في هذا الكون اللغوي الشاخص على صفحات الورق ينفتح على كون متخيل منسوج من تفاصيل حياتنا الحلوة والمرة. بدا لي العنوان أول مرة غريبا وغير مناسب. هل تكتب أستاذة جامعية مشبعة بالعقلانية عن الأرواح بمعناها الخرافي أو حتى الديني؟ لابد أن للأرواح في هذا النص الطويل المتشابك معنى فلسفيا أو صوفيا. ولكن الفرضية سقطت منذ الصفحات الأولى. الأرواح المعنية صراحة هي أرواح الموتى ينهضون من جديد أو هي صور وخيالات ابتدعها رأس إنسان أنهكته الحياة فتهاوى إلى أعماق أعماقه وما ترسب فيها من مشاعر مكتومة وأفكار مقموعة يجمعها وينثرها على غير نظام. لهذه الرواية نظام نعم ولكنه نظام كلا نظام. تبدأ الرواية بحمل وتنتهي بإجهاض. وبين الحمل والإجهاض تلد القصة. والقصة قصة امرأة اسمها الباهية تسلم جسدها للطبيبة تفحصه. في هذا الجسد الملقى على طاولة الفحص بقعة بعينها هي منبت الحكاية كلها. هنالك في موضع الرحم شيء ما لم يتسن للعقل الطبي أن يفهمه. شيء مخيف مرعب غير معقول. وتمتد الحكاية لنعرف في النهاية أنه ما كان حملا. كان شيئا آخر ولابد من إزالته. إزالته تطهير للرحم وتخليص للجسد مما سكنه وتحرير للعقل مما اجتاحه من خيالات وأوهام.

· وشط الأرواح عالم منسوج بلغة دامية دامعة. البطلة الساردة تروي قصتها وكل من حولها، وهم في الغالب نساء، يروون نتفا من قصصهم. قصص مبتورة متناثرة من أول صفحة إلى آخرها بما في ذلك قصة باهية ولابد للقارئ من تجميعها. والقراءة حينئذ ذهاب وإياب غدو ورواح على صفحات الورق.

· وعالم شط الأرواح عالم أنثوي بالكامل. والذكور فيه أشباه رجال، فمدير الصحيفة نذل متحرش وانتهازي لا شيء يعنيه سوى الربح. ومراد زوج باهية السابق رجل أناني حريص على ثروته ولا همّ له سوى أن ينجب من باهية ولدا يرثه. أمّا بقية الرجال فهم عابرون لا يظهرون في تفاصيل الرواية إلا في معرض قصة هذه المرأة أو تلك. وهم متشابهون في توحشهم وتيبسهم، وكلهم تقريبا بوجه واحد، فأسنانهم مكسورة وتلك علامة انتمائهم إلى عصابات المهربين والقتلة. لم يسلم أحد منهم من جريمة، تجار بشر أو تجار دين. رجلان فقط يشذان عن هذه القاعدة وهما خير الدين المنسي وسالم ابن عمه. أمّا المانع، وهو مساعد خير الدين في المقبرة فقد بدا شخصيّة معقّدة، صورته المادية تقرّبه من سائر الشخصيات الذكورية لما اتّصف به من غلظة وتيبّس، وصورته المعنوية تكاد تكون كذلك لولا رفقته لخير الدين. والغموض الأكبر في هذه الشخصية أنّها استبدلت في خواتيم النص بشخصية أخرى فإذا هو ابن خير الدين لا رفيقه أو مساعده.

· خير الدين المنسي هو في الرواية كلها أقرب إلى شبح منه إلى رجل حقيقي. هو في مخيلة باهية رجل ساحر، لغز من ألغاز هذا العالم المتخيل، انجذبت إليه باهية ودخلت عالمه الغامض. هو رجل طيف عثرت عليه باهية في العالم الافتراضي وهي تتصيد أخبار المهربين. نشأت بينهما علاقة حب افتراضية جنت منها باهية قصصا كثيرة عمن لفظهم البحر ودفنوا في مقبرة شط الأرواح التي يعتني بها خير الدين المنسي. بعد ثلاث سنوات قررت باهية زيارته على عين المكان بدافعين اثنين، دافع مهني استقصائي ودافع ذاتي عاطفي. وكان للزيارة نتيجتان. غرق باهية في حب خير الدين وغرقها في شط الأرواح، مقبرته ومحميته وما فيهما من أسرار وكوابيس وقصص ومآس. وفجأة يختفي الرجل. تبحث عنه باهية في العالمين الافتراضي والواقعي فلا تجد له أثرا. والأغرب من ذلك ما قيل لها عنه في مركز الحرس الوطني. رجل اختفى منذ ثلاث سنوات أو أكثر. هو إذن شخصية مختلفة وهمية صنعتها باهية من عندها واتهمت بالجنون والمرض. ليس الأمر ببعيد. فباهية هذه عانت من قبل من اكتئاب ولم تشف منه إلا بعد عناء طويل.

· ولكن، للحكاية وجه آخر فقد ظهر الرجل في قاعة العلاج حيث كانت باهية غائبة عن الوعي من أثر البنج في عملية إجهاض غريبة. قالت الطبيبة لقد زارها وجلس إلى سريرها وتأمّل صورتها وغادر. هذا الرجل أكذوبة أو أعجوبة أو محض خيال. ولكنه كان منبع القصص والحكايات والحقائق والأسرار. دوخ باهية فدوختنا بما ترويه عنه.

3. صورة المرأة:

· وأما عالم النساء فهو بخلاف عالم الذكور. هو عالم محوره باهية وتدور حول هذا المحور نساء كثيرات وهن فاطوماتو السينغالية التي فقدت أحد ابنيها وهي تصعد قارب التهريب، ونجود الطبيبة السورية الهاربة من إدلب بعد مقتل زوجها ودمار ببتها واغتصابها ، ورهف الطفلة السورية المغتصبة ، وحياة التونسية الهاربة من السرطان بعد امتناع علاجها في بلدها.

· كل واحدة من هؤلاء النساء هي بُعد من أبعاد باهية. وفي كل واحدة منها خصلة من خصالها. والجامع بينهن القدرة على الاحتمال، والصبر على المكاره، والنقمة على الحياة، والأمل في الخلاص. قصصهن جميعا محزنة مخزية، لقد أخرجتهن الساردة في صورة الضحايا، ضحايا العنف والإرهاب والفقر والابتزاز العاطفي والجنسي. وباهية مجمع حكاياتهن كلها.

· باهية سيدة تونسية لا تعشق شيئا غير عملها. مولعة بالتقصي، دفعها عشقها للاستقصاء إلى الإشراف على الجنون أو الموت. تنكرت في هيئة امرأة منقبة لتخترق شبكة لتسفير الجهاديين إلى سوريا وشبكة لترويج المخدرات ثم شبكة لتهريب البشر من جنوب المتوسط إلى شماله. من أين أتتها هذه الجرأة على المخاطر والمهالك؟ كيف كانت امرأة واحدة بوجهين اثنين؟ مفعمة بالحب والأنوثة والرقة، عنيفة عصبية بذيئة اللسان؟ لا شيء في الرواية يفيدنا علما بمنشأ هذه الشخصية على هذا النحو. هل يعود الأمر إلى طفولتها الأولى؟ ربما. تقول باهية في سياق القفز الدائم بين أزمنة متباعدة إن أباها لم يكن يحبها. لا تذكر أنه قبلها مرة واحدة، وتقول عن معلمتها إنها بيضاء سمينة وتشبعها ضربا في حصة الرسم لأنها لا ترسم بقلم الرصاص بل بقلم الحبر. ما عدا هاتين الإضاءتين الخاطفتين لا نعثر في الرواية على شيء يساعدنا على الحفر في شخصية باهية. ومع ذلك يمكن أن نصوغ من مجمل قصصها مع أمها وأبيها ومعلمتها الأولى وزوجها مراد ومديرها في العمل وخير الدين المنسي ومساعده المانع ومع الطبيبة وأعوان الحرس ومع سالم ابن عم خير الدين المنسي صورتها كاملة.

· لقد اختارت الكاتبة أن ترسم هذه الصور بتقنيات تتعدى تقنيات الوصف رغم حضورها البارز. وإذا كان الوصف في فن السرد عادة تصويرا بالكلمات ويشمل بعدي الشخصية المادي والمعنوي، فقد أولت الكاتبة عناية أكبر بصور النساء المعنوية على حساب صورهن المادية. فباهية مثلا لا نعلم عن تفاصيل جسدها إلاّ القليل، وكذلك النساء الأخريات. والأطرف من ذلك أنّ الصور المعنوية لكل هؤلاء النساء لا نلتقطها عبر الوصف بل عبر السرد. فكلّ امرأة منهن اختارت لها الكاتبة أن تظهر في العتمة في قلب المحمية، فاطوماتو مثلا نسمعها تحكي جوانب من قصّتها ولا ندري تفاصيل صورتها المادية، وكذلك نجود السورية، ورهف الطفلة السورية المغتصبة لا نعلم شيئا من تفاصيل صورتها المادية سوى نظرات العينين الحزينة. والأمر نفسه مع حياة التونسية. كل هؤلاء النساء، باستثناء الطفلة، يروين قصصهن فيعلم القارئ منها سماتهن. وكل واحدة منهن بارعة في السرد، تتقن الحديث وتتفنّن في تصوير أحوالها وهي تُغتصب أو وهي تفقد ابنها أو زوجها أو أملها في الحياة.

· ذلك ملمح أول من ملامح هؤلاء النساء. أمّا الملمح الثاني فللقارئ أن يبنيه من أطوار كلّ قصّة ترويها هذه أو تلك. إذ في كل قصّة علامة على قوّة تظهر في الصبر على الشدائد وفي الأمل بالخلاص رغم كل العراقيل. هن ضحايا نعم، ولكنّ بكاءهن وهنّ يروين حكاياتهن فيه نبرة صراخ عالية تجعلنا ننسى ضعفهن ونلتفت إلى نقمتهن الشديدة على من اعتدى عليهن وابتزّهن بكل وسيلة. لقد صنعت باهية منهنّ بطلات تحدّين الصعاب ونجون من الموت الذي وقع فيه رجال كثيرون.

· وأمّا الملمح الثالث من ملامح المرأة التي أرادت الكاتبة أن تبرزه فتختص به باهية العمراني دون سائر النساء اللواتي تحدّثت إليهن أو تحدّثت عنهن. ونلمس هذا الملمح بالخصوص لا في تقنية السرد بل في تقنية الحوار. فأغلب ردود باهية في المقاطع الحوارية صيغت بألفاظ عاميّة مشحونة بكميّة هائلة من الحدة والعنف. نقرأ ذلك في كلمات من قبيل (وينك، لعنة الله عليك وعلى ولديك) وهي تنادي المانع، أو في قولها وهي تصفه (ذلك الحطبة، مغرفة العود، عود الطابونة شافّ؟) أو قولها وهي تتحدث إلى خير الدين حين اختفى عنها وهما في الماء ( موش خلّيتك غادي يا سخطة) وقبل ذلك وهما يستعدان للعوم ( لم فمّك)، وبعدها وهي تتمنع عن العوم ( يا خرا، يا لصقة، يا همّ ما نحبّش نعوم).

· في كلّ هذه الردود، وأمثالها كثيرة، قدر من البذاءة يفوق الحدود أحيانا، ومن هذه البذاءة نفهم باهية، إنها امرأة سليطة اللسان عنيدة عنيفة، وبهذا اللسان السليط البذيء استطاعت أن تقاوم وأن تفرض حضورها في مقر عملها أولا ثم في قصتها مع خير الدين بعد ذلك.

· والملمح الرابع من ملامح المرأة في هذه الرواية هو رقة المشاعر. والرقة صفة نلمسها في دموع باهية وشكواها وهي تتخبّط في مكتبة غريبة تركها خير الدين فيها واختفى، نسمعها تصليّ تطلب من الله أن ينقذها، ونسمعها تشكو ضعفها وهوانها وهي في مركز الحرس تتهم بالجنون. إن هذا الفيض من المشاعر الرقيقة يعيد إليها أنوثتها التي كادت البذاءة تحجبه عنّا، كما تعود هذه الأنوثة المفعمة بالحب والشوق في لحظات البوح بحبّ مكتوم لا تريد له أن يظهر كأنها تخشى أن يقودها الاعتراف إلى الهاوية. فباهية لم تفصح لخير الدين عن حبها له، وتصرفت معه في حضوره بالكثير من الحذر وبعض الخوف وبشيء الغمز الخفي يعرفه خير الدين ولكن سلاطة لسانها وعنادها وتمسكها بمهمتها الأساسية التي قادتها إلى شط الأرواح حجبا ذلك الحب وخبّآه في الصدر. حبّ مخبوء يتسرب في أوقات الوحدة، أو في الحلم أو في لحظة اعتراف خاطفة. ماذا نسمّي هذا؟ نسميه لعبا. هي امرأة لعوب، نعم، ولكنّها وقعت لعبة بين يدي خير الدين. لعبها حبّ وجنون، ولعبه تيه وضياع.

· وباهية امرأة اجتمعت فيها كل المتناقضات. هي مجمع للشجاعة والخوف، والقوة والضعف، والفصاحة والبذاءة، والعقل والجنون. وباختصار هي الحياة بكل تقلباتها. أن تكوني امرأة يعني أن تجمعي بين الأضداد. لا يعني ذلك مرضا أو اختلالا أو ما شئنا من الصفات السلبية لأن اجتماع الضد بالضد في قلب واحد أو في دماغ واحد أو حتى في صورة جسد واحد يعني فلسفيا أن يكون هذا القلب أو ذلك الدماغ أو الجسد مجمعا محيطا، تأليفا أو توليفا أو أكثر من ذلك انفتاحا على كل شيء. أن يكون المرء رجلا أو امرأة يعني في العادة أن يكون في نسق أن يحيا حياته لا كما يحب ويشتهي بل كما يمليه عليه النسق، الفكري والاجتماعي والثقافي. أما إذا فاض عن النسق فقد كسره. وباهية امرأة كسرت كل الأنساق. كسور نلمحها بوضوح لا في تعدد وجوهها ولا في تقلبات حياتها فقط بل في لغتها التي تروي بها قصتها. في لغة الرواية الراقية الرقيقة تتسرب لغة أخرى بذيئة هابطة واللغتان معا لامرأة واحدة. ما هذا؟ إنها العلامة الأوضح على فلسفة تأبى التحجر في نسق مغلق. حقا إن البذاءة في اللسان ثورة على السلطة. بسلاطة اللسان تسقط السلطة. وتنكسر القيود.

خاتمة:

لقد بدا عالم شط الأرواح في نظر الكثير ممن كتبوا عن هذه الرواية عالما متخيّلا في بنيته السطحية، واقعيا في بنيته العميقة، وهو ما جعلهم يصفون الرواية بالاستقصائية. نعم في الرواية استقصاء للحقائق وسعي للكشف عن أسرار ولكن هذا الاستقصاء ليس مادّة روائية ولا صفة من صفات البطلة الساردة. إنه وشاح يتّشح به نص الرواية كما اتّشحت به باهية وتحت هذا الوشاح سبر لأغوار النساء وكشف عمّا تكون به المرأة امرأة حقا. لين في غير ضعف وشدّة في غير بأس.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى