كتاب كامل مصطفى الحاج حسين - (راية النّدى).. أحاسيس:

مقدمة الأديبةوالشاعرة: نجاح إبراهيم.
شاعر يشفّ ندى..
هل أقولُ الحقيقة؟
وأعترفُ أنني أدمنتُ قمحَ قصائدِ الشاعر” مصطفى الحاج حسين” كما يدمنُ الجائعُ المهووس بخبزِ البلاد!
من أوّل قصيدةٍ له، أعلنتُ قسمي، ألا يبرحني صدقُ إحساسه، ولا نبلُ عواطفه، ولا ألمه العميق، ولا قلبه المحشو بالنقاء والجراح، ذو الملامح البريئة كقلب يمامة تشتهي الأمان.
لن أغادرَ قصائده وإن استعطفتني قصائد تأتي من جهات مختلفة، فهو الشّاعر المُجدّ، المواكبُ لكلّ نسمة تأتي بالبشارة ، فتزيل ما تراكم من على الأجفان.
كلُّ صباح أفتحُ عينيّ لأجدَ الشاعر منكباً ليله على نصّه ، يُطعمه آخرَ قطرةٍ من الرّوح، وفي المساء يختزلُ الوجعَ ليغزله نصاً جديداً يرسله في آخر الأوقات المستغيثة بحفنة هدأة، وهكذا دواليك..فكيف أغادرُ هذا الترف الموجع؟ على الرّغم من أنّ قلبي رهيف لا يحتمل الألم، فما فيه يفيضُويتنابعُ؟ فإلى أين أذهب من هذا الحصار الندي؟ وكيف أغادر الاحتفاءات؟ مرات استقبلتُ ما يرسلُ بكاءً صامتاً، يصعبُ أن أحدّ سيله بأصابع مرتعشة!
ومراتٍ حاربتُ ذلك، بالتجاهل المتعمّد إلى حين، كي أصونَ هذا القلب الصغير من الوجع:
” الآن عرفت
لماذا القمر يدور حول الأرض
إنه يلاحقك
أبصرته كان يسترقُ النظر
يراقب تحركاتك باستماتة
ويلتقط لك صوراً..”
وما كنتُ أدري أنني أبتعدُ عن الدواء إلى داءٍ، وما كان الدّاء إلا الدواء!.
وحين كان يتأخرُ بريده وقتاً ، أتذرعُ بالصّبر وأفشلُ في تحمله، أتذرعُ بالكتابة وأفشلُ، ليس فيها وإنّما بنسيان ما أنتظر، علماً أنني أدرك أنّ الذي أخّر البريد هو بكاء الشاعر، وتعاظم اغتراباته، وحنينه المغروس في الحبر صفصافاً يدقُّ أجراسه، ليعزفَ سيمفونية القهر والشوق والغُصص، وأعرفُ أنه- كما كلّ مرّة- في حوار مع نحيبِ الجهات، يحاصره الخرابُ الرّوحي، وأنه يحاولُ أن يصالحَ نفسه لتتواطأ مع ما يشعر به، لتنبلج قصيدة تسافرُ منه إليّ:
” حاور نحيبَ الجهات
تكدّس خرابُ الأفقِ
في صوتك
وتراكمت المسافاتُ الخائبة
من أجنحتك العرجاء
وهامتْ بك الأوجاع..”
أعرف أنك في هذه الدّائرة، وأتجاهلُ ما أعرفُ، لأصبرَ وأنضحَ شوقاً لما يجيئ.
أريد للصفصاف أن يعلن قياماته مع الرّيح، وللكرزِ أن يُزهرَ، وللضوء أن يُثمرَ.
لهذا أودُّ أن أهمسَ في أذنِ الشّاعر، وأكتبَ بشكلٍ غير متعارف عليه في كتابة المقدّمات، ليشكلَ همسي شاطئناً، أو جسراً يمتدُّ من دهشةِ ما بين عينيّ ودمي اللاهب ، وما بين القصائد المتطرفة بالألم والرغبة في السلام، وأصداف من أريج محبّة،وأسراب يمامٍ يعلو، ويعلو، ثمّ يحطّ على قلعة الإباء، يشي بما حمّله الشاعر المنفي بسربالِ الاحتماء إلى أمانٍ مفقود، وداليةِ شوقٍ، وشجرةِ بيلسان تسّاقط شموساً
وفراشات وصوتاً معشّقاً بالحبّ، وكفين فيهما من سنابل البلاد.. يا للبلاد! كم فيها من رائحةٍ تعبقُ في قصائده، تجعلُ القارئ يسجدُ عند عتباتِها، وفي الصدر تتلى سِيَرٌ، تبدأُ من أوّل رُقمٍ طينيّ، إلى ما بعد دواوين الدّم الظامئ لملحمة الهوية، والوطن الذي يبقى ما بقي الإبداع:
” كلُّ المدائن
خُلقتْ من ضلعكَ
سيقولُ المؤرخُ:
كانت عصية على الغناء..”
فالشاعر يمضي حاملاً الجرحَ ساريةً، يقبعُ الحزنُ في حنجرته، ويكثر الشوكُ في طريقه، وعيناه يَسكنهما الصّمتُ، ويبقى كالقديسين في محراب القصيدة، يؤرّث عسلَ الكلام، أميراً للحرف في زمنِ انهياراتِ القيم ، يستمطرُ من نداه كلّ برهةٍ قصيدة، تنقذُ ما يتماوتُ فيه، تحيي رميمَ الوقت، ولكن لابدّ من المرورِ بأزقةِ الموت، ودهاليز الألم كي يدلج إلى ساحات الحياة. لا بدّ من العتمة لكي يبهرنا مطلعُ الشمس، لا بدّ من الظمأ كي ندرك عذوبة الفرات، فيا:
” قلب النور
ستنتهي المأساة بالفرحة
ويعمُّ الغناء..”
وأنا لستُ أنظرُ أمام مواتك وانبعاثاتك أيّها الشاعر ،وإنّما هي روحي المؤمنة بك ، وبما يتقاطرُ من مداد قصائدك من ندىً، فسيّد الانثيالات أنت، وحامل راية الندى. وزّع علينا من غدقكَ ما يجعلنا ندهَش:
” وزّع عسلَ الشهقة
على جسم التلعثم الباكي
سيّد العشق أنت
إذ تمطر بالاكتواء
ناسك العفّة الوارفة بالياسمين
ذائع الحبّ النبيل..”
هي قصيدتك المكتظةِ بالوهج، ونبضك الممتلئ بالشوق، وقدَرك تمشيه فوق الجراح ، يكتبُ لك طريقاً ممتدّاً فوق الدّمع، لتغني القصيدة الحلم، وتمشط شعرَ الشمس.
فمن منكما يستطيعُ مغادرةَ الآخر، وقد سكنتك كأنثاك، وأنت تسكنها خالقاً وباعثاً؟
كلاكما يحتفي بوطنٍ سُقي بروح الله، لهذا تسامى فيكما، ورحتما معاً تتباريان على رسمه، فيجيئُ الوطنُ راعفاُ بالدّمع، وتارة بالقضاء والقدر وبآياتٍ من طهر، وأخرى من ضوءٍ وعشقٍ وعشبٍ وجرح و..و.. ياااه!
مصطفى الحاج حسين!
أيّها الشاعرُ الصّامت، المُضمخُ بحزنٍ عميقٍ ، تشهد عليه أخاديدُ الوجه، ومساربُ القلب، والمسافات التي يناظرها كلّ صبح، والحلم الذي يشكله عند مطالعه، والوحدة التي تدعوه لأن يكتب. هذا ما جعلك قادراً على سكب ما في ذاتك في القصيدة، يا أيها الشاعر، الذي يسكب ذاته في قصيدة! فتبعثُ فيها إثارة ودهشة وشمولية، تبحثُ في كلّ منها عن شكلٍ جديدٍ، أنت الذي تسألني عقب كلّ قصيدة: هل جئتُ بجديد؟ أظنك تقطف الإجابة من سؤالك لأنه مأزوم مثلك، ولاهثٌ إلى شرفات الشروق. إنك لتأتي بما هو جميل ، شكلاً ومضموناً، وتُلبس كلّ قصيدة وشاحاً ملوّناً. بالله عليك كم عدد الأوشحة التي صارت في حوزتك
؟! هل وصلت الألف؟ قد اكتمل المهر إذن.. اعقدها واصنع أفقاً من ألوانٍ تضاهي به ألوانَ قوسِ قزحٍ، لنزفّك إلى حورية الإلهام التي تنتظرك في (حلب)، فتؤجج الحدائق والغابات التي تتحرك أمام عيني كلّ متلقٍ؟ أجدك تسأل غير مصدقٍ، أنّ قصائدك تحرّك غابة من الدّهشة والشفافية؟! هي على شفافيتها متعددة الطبقات النصيّة، قابلة لأن توقظ الرّؤى، فتنثالُ القصائد رائحة ولوناً، بحيث تأخذ المتلقي إلى فضاءاتٍ من ألوان راقصة:
” يا طائر الفينيق عجّلْ
هذا الرّماد فتنة بلادي
هذا الدّم نزيفُ دهشتنا..
امدد يدك لرائحةِ النهار
فكّ أزرار الشهوة الرّعناء
حطمْ أغلال الموج..”
ثقْ بي ولا تكنْ مثلَ “ماكبث” الذي ظنّ أنّ غابة “بريام” ثابتة، في حين أنها كانت تتحرّك! وهل كانت زرقاء اليمامة تكذبُ؟!.
تلك قصيدة مصطفى حاج حسين. تقرع أبوابَ الرّوح، فتُدخِل إلينا الفرحَ، والضوءَ، والنبيذَ والوجدَ، تدفعنا لأن نفتحَ أعيننا المندهشة.
وتلك ذاته الشاعرة، المفعمة بصورِ البّهاءِ والجمالِ ،والتي تقفُ حارساً أمام بوّاباتِ الحَرفِ النبيلِ، والغابات التي تتحرّك فينا، فهل صدّقت كيف تتحرّك الغابة أيّها الشاعر؟إنك تعتلي رايةً من ندى ، تبحثُ في كلّ نصّ عنطريقة للخلاصِ والأملِ، والرّغبة في التوحّد مع النصف الآخر، مع المرأة والاتحاد بها، لتشكلا كوناً مفعماً بالرّوح والأسرار.
هي رغبتك واشتهاؤك الأكيد، بشغفٍ تكتبُ عنها، تمتطي حلمَ اللقاء، وصولاً إليها، إذ لطالما بوّأتها مكانة رفيعة، فحضورها يُشبه رؤية ليلةَ القدر، لتأتي القصيدة هاتفة بسحرِها، تدفع كأس نذرها، نخب الألوهة العابق:
” ينحني لك نبضي
بخشوعٍ جمّ
يُقبّلُ أصابعَ عطرِك
ويقعدُ فوقَ سجّادة الابتهال
يرنو لعينيك
بعطشٍ طائشٍ
أيتها الأنثى
المخلوقة من نور
في راحتيك يسكنُ لهاثي
ومن على بُعد المدى
يتناهى إليّ ما فيك من بهاء..”
هي المرأة المغايرة، التي تأتي فتأتي معها الأقمار والنجومُ والهمسُ المقدّسُ، والفرح بلونِ عشبٍ مندّى، لا تستطيع فصلها عن عشقك الآخر /الوطن الذي صعب علينا أن نفرّق بينه وبينك، وبين حبيبتك.
الوطن الذي شكّل لديك هاجساً يتعدّى المسافات تتراءى لنا نغمات ترصدُ صوراً لداخلك، إشعاعاً يتنافرُ إلى الخارج، إلى جسدِ القصيدة، رافلة به،هاجساً كان بذرة، ثم نبتت، فأورقت، وتجذرت مما ألمَّ بالوطن وبك، فأثر كلُّ ذلك فيك تأثيراً عميقاً، ولم تستطعْ أن تواربَ تلك الموجات أو تسترها، حتى تراكمت وانفجرت. تلك هي رحلة هاجسك الأليم، أن يعود الوطن إليه الأمان، والبهجة إلى المهجة، أن يعود إلى أبنائه، إليك، طاوياً كلّ اغتراب وغُصّة وضياع.
أجدك تصلي مغمضَ العينين، تقولُ في سرّك: ليت هذا يكون.
ولكنه لن يكون إلاّ كما أردتَ أن يكون ، في الشكل الذي ترتئيه، والصياغة التي حلمتَ بها. لكن سيبقى الهاجسُ متنامياً، فما لديكَ من نماءٍ غريبٍ في داخلك لن يضمحل، هاجسك اللا ينفك يتوالد، آنى له أن يغادرك؟!.
أتدري لم؟ لأنك شاعرٌ مسكونٌ بالأوجاع وبالندى.
ولأنّ عندك رؤية وشعرٌ ، وهل ثمّة شعر دونها؟
كثيرون من الشعراء لا تتوفر لديهم فيما يكتبون
لهذا نجدهم أمواتاً، بينما أنت ستبقى على قيد حياة. لأنك زاخرٌبها، لديك الشمول، والعمق والحلم والقدرة المذهلة على التخيّل ، إضافة إلى الموقف الواعي. وعلى الرّغم من أن الرّؤى الغالبةعلى قصائدك هي رؤى سوداء ، بيد أنّ الأمل والبشارة موجودان في عشقك الكبير لتلك المعشوقة، التي استطاع أن تماهيها بالوطن،وبالمدينة الأثيرة لديك ألا وهي حلب. حيث تأتلق كمكان داخل القصيدة، ولأنها واقعة في ضيم الإرهاب، فالشاعر الذي تكونه قادرٌ على التأثير والاقناع، ودلالات المكان لا تغادر عشقه له، فمنه تأتي البداية وإليه تنتهي الطرق والدروب، وما بين الأمرين رحلة اغتراب وضياع وألم وحنين وأمل كبير بحجم حلب.
ولعل ما هو لافت، ثمة وحدة عضوية في كل قصة ،جلية الملامح، يانعة الاشراق، مكللة بلغة متجدّدة، تسعى كما كلّ مرّة بحثاً عن الانتقاء واختيار اللغة المعبّرة، والصورة المكتحلة بالانبعاث، لتأتي القصيدة بعشقٍ تحبّر بياضه الأليم، بما يمتلكُ من فطرةٍ شعريّة، وأفكارٍ منمّشة بجراحِ الواقع وغبار المعاناة، وشقوق الوقت، يكتبها بسهولة ودون افتعال أو احتباس، تهدلُ في وجداننا دون استئذان ، راتعة بجمالياتها، نلامسُ فيها بساطة التعبير، على الرغم من رمزيتها وعمق إيحائها، ولعل ما يُدهشُ أنها تختمُ دنانَ حضورها. بالتفاؤل والحبّ السّامق.
فيا أيّها المصلوبُ على رايةِ الندى!
كلّ القصائدِ تتقاطرُ منك، خطواتٍ في طريق الضّوء، لتجعلَ منك فاتحاً قديماً على بوابات الألم النبيل.
كلّ الأقصية تأتيك، أنت الذي تغرّب وما كان يرغب، فجددتك القصائد انتماء كل حين إلى الجذور ،وصارت العناوين تأخذ عناوينها بفخرٍ، حملت سيفاً لتواجه به ظمأ الرّحلة، وأشواك الطريق وعراء الطريق، فنبتَ قدّاح على خدّيه، ورفعتَ وأنت مفعمٌ بالجراح راية الندى.
يا صاحب الندى!
سلامٌ لقصائدكَ التي أحالت السّكاكين إلى عشب وندى، والظلمة إلى فجرٍ، ومواسمَ الحداد إلى أغنيات خضراء.
لاهفة كنتُ وسأبقى إلى سحر عبارتك، إلى مطرك اللا يقف، إلى عطاءاتك، أحسني حين أقرأ قصيدة ما لك، أنني أقرأ شعراً له سحر وغواية، منذ عهد آدم واغواءات الشجرة وهي تصعد في شرايين الشهوات، تحملها في جيناتك، تشعلها ناراً وإبداعاً لا ينطفئ. أتخيلك تطرق برأسك حياءً، بيد أنني ما غاليتُ بما باحَ حبري في حقِّ قصائد لها اشتعال الندى.
نجاح إبراهيم.
* عقار الجَّنة..
تجادلُ خطوتكَ
إنْ تسكَّعتَ
بالدّروبِ السَّافرةِ
وتلحُّ على رؤاكَ
لتتَّئِدَ فيكَ الجراح
ويندملَ الحريقُ في ارتحالِكَ
حدِّق بموتِكَ المأفونِ
بِصَمتِكَ العاري من الدَّمِ
وانظر
اشتهاءَ التِّيهِ في الأوردةِ
عاتبِ الدَّمعَ ما تشتهي
حاور نحيبَ الجهاتِ
تكدَّسَ خرابُ الأفقِ
في صوتِكَ
وتراكمَتِ المسافاتُ الخائبة
مِن أجنحتِكَ العرجاء
وهامَت بكَ الأوجاعُ
تجرُّ لهاثَكَ وراءَ الصَّقيعِ
وتسألُ اختناقَكَ
عَن طعمِ الضَّوءِ
تنزفُكَ الوحشةُ إلى الصَّليلِ
وموجُ الشَّوقِ
يلاطمُ سخطَ المرارةِ
تأمَّل انحدارَ السَّكينةِ
البلهاءِ
وَثِبْ نحوَ حُلُمِكَ
الذي فرَّ منكَ
ضيَّعتَ كلٌَ الورودِ
التي جَمَّلتكَ
شابَ أنينُ النَّدى
حينَ أسرجتَ انهزامَكَ
لا قوَّةَ إلَّا بنهوضِكَ
فاحتشد
في ساحةِ الرِّيحِ
عرّج على الانهيارِ
اضربه بالسّوطِ إن تلكَّأ
ابتُر عنقَ الخوف
وتحدَّ
براثنَ الهلاكِ
ولا تلتفتْ
لجهاتٍ تخلَّت عنكَ
ولا تصالح
غدرَ الأفاعي
أنتَ الآنَ
سيّدُ الانبثاقِ
حارب مَن جاءَ
ينهشُ أفقَنا
وينحرُ هذا البلد
سورية عِقار
مِن عقاراتِ الجنةِ.*
إسطنبول
* هَمَساتُ الرَّحيل..
وكانَ الرّحيلُ يهمسُ لي
كلّما صادفتُهُ
لا تقترب من سياجِها
ولا تلبِّ نداءَ عينيها
إن غمزتكَ فأنتَ الخاسر
لو شبَّ في قلبِكَ الحبُّ
كلُّ الذينَ أحبّوها احترقوا
وكلُّ الذينَ كتبوا عنها القصائدَ
قتلتهُم قصائدُهُم
هي معتادةٌ ، على مَن يفتديها
وَمَن يعشقُ اسمَها
فقد سبقَكَ الرّبيعُ بكاملِ بزَّتِهِ الخضراء
والصّباحُ بكاملِ أبَّهةِ ضوئِهِ
والليلُ بكلِّ ما بمقدورِهِ أن يختزنَ
مِن نجومٍ وأقمارٍ
حتّى أنّ البحرَ أرخى موجَهُ
تحتَ قدميها ليتباركَ
والسّماءُ تشربُ الغيمَ من عنقِها
فوقَ أصابِعها يُزهرُ النّدى
وتحتَ جفنيها ينامُ الجّنون
فلا تنتحر وأنتَ الضّحيّة
تحطَّمَت من قبلِكَ قلوبٌ كثيرة
تحتَ شُرفتها
وبكت عيونُ القصائد
وأحصنةُ الدَّمِ المتوثِّبة
هي نارٍ لا تطفىءُ لظى قلبِكَ
وهي ماءٌ لا تشعلُ ظمأَ الحنين
لا تقترب من وردها
فيه اختناقُكَ
ولا مِن بوحِها
فيهِ نهايتُكَ
أنتَ لا تحتملُ الهوى
إن هوى بِكَ الفِراق
ورماكَ بغربةٍ مفزعةٍ
ومهما صرختَ
وطرقتَ بوَّابةَ المدى
لن يُفتَحَ لكَ الباب
إلّا والموتُ يحضنكَ
كولدٍ أثيرٍ على قلبهِ.*
إسطنبول
* عِمتِ سلاماً يا حلبُ..
هو حُزنٌ عميقٌ
يلفُّ الدروبَ والسّماءَ
ويؤرِّخُ للأرض
أبجديةً جديدةً للحياةِ
سيقولُ المؤرِّخُ:
- كمْ ذبحوكِ وأشبعوكِ موتاً
لكنّكِ لا تموتينَ
حاضرةً ما كان الكون
وأكثرَ
باقيةً ما بقيَ الإنسانُ
وأكثرَ
يا أمَّ الكواكبِ والمجرَّاتِ
كُلُّ النُّجومِ إليكِ تنتسبُ
كلُّ المدائنِ
خُلِقَت مِن ضلعِكِ
سيقولُ المؤرِّخُ:
- كانتْ عصيَّةً على الفناءِ
أبيَّةً
ينحني لها الشموخُ
والدّهرُ
ما هو إلَّا حارسٌ لقلعتِها
ينظِّفُ عنها غبارَ الخلودِ
يا حلبُ
ابتدأ الجّمالُ منكِ
والغيمُ
من شرفاتِكِ انعتقَ
عطرُ الجنَّةِ من وردِكِ
ضياءُ الشّمسِ بعضٌ من بهائِكِ
نورُ القمرِ صدىً لسحركِ
يامنبتَ البسمةِ
يا حاكورةَ النّسمةِ
يا قلبَ النّورِ
ستنتهي المأساةُ بالفرحةِ
ويعمُّ الغناءُ
بأرجاءِ الضحكةِ النّشوى
وسيكتبُ المؤرِّخُ
على أوراقِ النّدى:
- عمتِ سلاماً يا حلبُ
الموتُ
يخجلُ منكِ
إلى الأبدِ.*
إسطنبول
* كَانَ وَيَامَا كَانَ..
بعيدٌ عَنكِ
قريبٌ مِنكِ
تُزهرُ الأمنياتُ
إذا ما ذَكَرتُ اسمَكِ
وتنتشي النَّسَماتُ
إن كلَّمتَها عن قَلبِكِ
أنتِ حَنانُ الوُرُودِ
حِينَ تَلُوذُ إليكِ
فراشاتُ قلبي
يا نَغمةَ السٍّحرِ
يا هَدِيَّةً تَفُوقُ المُنى
مِنْ أينَ لكِ
كلُّ هذا الحُضُورِ؟!
مِنْ أينَ حَصَلْتِ
على هذا المَدى؟!
وَمَنْ دَلَّكِ على يَبَاسِي؟!
كنتُ مِنْ قَبلِكِ
أرفُلُ في هُضَابِ المَوتِ
كنتُ أطارِدُ بُخلَ النَّدى
وكانَ صَوتي يَنزُفُ قَامَتِي
ولا أجِدُ لأَسُدَّ رمقَ لهفَتِي
إلَّا التُّرابَ الجَافَّ
وكانَ الغيمُ يبلِّلُني بالبرقِ
ويرتعدُ فيَّ البُكاءِ
على عمرٍ بعثرَهُ القَيظُ
إنِّي أحِبُّكِ..
مُنذُ أكثرَ من خليقةٍ
وأقدَمَ من الحبِّ بدهرٍ وَحُقبَةٍ
وكانَ اللهُ يبشِّرُ الأنبياءَ
بحنانِ عينيكِ
يا أجملَ نجمةٍ في هذا الكونِ
من أينَ لي..
أن أقدِّمَ مَهرَكِ؟!
وأنتِ تستحقينَ ألفَ كوكبٍ
وألفَ ألفَ محيطٍ وبحرٍ
من أينَ أحصلُ على شُموسٍ
لا تُعَدُّ
وأقمارٍ تنيرُ مدى أنُوثَتِكِ؟!
يا مَجدَ السَّماواتِ السَّبعِ أنتِ
يا عِطرَ الضُّحى والأنداءِ
يا مُهجَةَ الزَّعفرانِ
النَّابتِ على خدودِ الشَّفَقِ
يا أقحوانةَ الشُّطآنِ
حينَ البحرُ يعشقُ
مِنْ أينَ طَلَّ هذا البَهَاءُ
عَلَيَّ؟!
وَمَنْ دَلَّكِ على احتِضَارِي؟!
وكانتِ الدُّنيا بالنسبةِ لي
غرفةَ انعاشٍ لا أكثرَ
أنا لا أُصَدِّقُ حُبَّكِ
لأنِّي لا أستَحُقُّهُ!!
مُؤَكَّدٌ أنَّكِ غَلطَانَةٌ
أو رُبَّمَا تَمزَحِينَ
أنا لا أملُكُ إلَّا قَصِيدَتي
بعضُ كلماتٍ مُعبِّرَةٍ
وَعدَّةُ أحرفٍ تُفَكِّرُ بالانتحارِ
لا أقَدِرُ على مَهرِكِ
وَجَسَدِي تَتَدَاعى مَفَاصِلُهُ
قلبيَ أشلاءُ ذبيحةٌ
ورُوحي يعبثُ فيها الخريفُ
جُلَّ ما عِندِيَ دَمعٌ وانكسارٌ
صارَ يُشفِقُ عَليَّ الانهِيَارُ
والمساءُ يُعَزِّينِي على عُمُري
والقبرُ يُلَوِّحُ لي كلَّما التَفَتُّ
أيَُّ حبٍّ ياحبيبتي تتحدثينَ عَنهُ؟!
كانَ وَيَامَا كانَ
في قديمِ الزَّمانِ
عاشقٌ اسمُهُ مُصطَفَى
أحبَّ مِنْ كلِّ قَلبِهِ
بِجُنُونٍ
لكنّ الهوى سَخِرَ مِنهُ
أدمَى قلبَه بالجراح
أشعل لَه بسمتَه بالنواحِ
وحطَّمَ لهُ خُطُوَاتِهِ
في منتصفِ الدَّربِ
وَمَا عَادَ يُبصِرُ إلَّا ظُلمَتَهُ
وَمَاعَادَ يُستَأنِسُ إلّا بِدَمعَتِهِ
وصارَ الحبُّ بالنسبَةِ لَهُ
دَمَارَاً وانتِحَاراً.*
إسطنبول
* اعذريني..
سامحيني واعذريني
ولا تعتبي
خَجِلٌ منكِ فوقَ ما تتصوّرينَ
وما عندي لكِ غيرَ التّأسّفِ
يأكلني حرجي وارتباكي
أعترفُ لكِ بمدى التّقصيرِ
وفداحةِ عجزي الآثمِ
وها أنا أعلنُ بجرأةِ المنتحرِ
عن ذنبٍ فظيعٍ وقعتُ بهِ
لكنْ - واللهِ - دونَ قصدٍ منّي
صدّقيني
واغفري حماقتي الكبرى
النّاجمة عن قلّةِ خبرتي
وسوءِ تقديري
نعمْ
كنتُ أحسبُ هذا المدى
أرحبَ
وأظنُّ هذا الكونَ
قد يتّسعُ لحبي إليكِ
لكنّني وبكلِّ صراحةٍ
صُدِمْتُ
وخنقتْني الدّهشةُ
أمعقولٌ ياحبيبتي؟!
هذا الكونُ اللامتناهي
يكونُ أصغرَ بكثيرٍ
من أنْ يستوعبَ
ما أُكِنُّهُ لكِ من حبٍّ
ليسَ ذنبي إذاً
إنْ كانَ الأفقُ ضيّقاً
وهذا المدى متقزِّماً
سأحفرُ بحنيني جدرانَهُ
وأخترقُ بِوَلَهي السّديمَ
علَّ قلبي يتنفَّسُ
وتأخذُ روحي قِسطاً من التمدُّدِ
فلا تغضبي يا حبيبتي
وقدِّري موقفي
قصيدتي غبيّةٌ أمامَ روعتِكِ
لا تعرفُ أنْ تُشَبِّهَكِ
إلّا بالشّمسِ والقمر
وتظنُّ طيبَكِ مثلَ عطرِ الورد
قاصرةٌبالكلامِ قصيدتي
خرساءُ عمياءُبلهاءُ
لو تجرّأْتُ وتحدَّثْتُ عنكِ
اعذريني
ياموطنَ أجدادي
ومسكنَ أحفادي
حلب.*
إسطنبول
* شهيقُ التَّوقِ..
من بعيدٍ عليَّ أن أنظرَ
وأراقبَ باحتراقٍ وشوقٍ
ما يسفرُ عنهُ الضّوءُ
من فتنةٍ مميتةٍ
تمتدُّ إليكِ روحي بجنونٍ
تحتضنُ وميضاً منكِ يلوّحُ
لدمعِ قلبي العاشق
أهيمُ على شَبَقِ الخيال
علّي ألمسَ ضجيجَ سحرِكِ
بأصابعِ لهفتي العاتية
ويهتاجُ الدّمُ في نبضِ الآهةِ
ليتني أقتربُ من حافّةِ الصّدى
والمدى يغوصُ في عمقِ صدرِكِ
أبتهلُ للريحِ أن تحملَ لي
بعضاً من طيبِ أنفاسِكِ
وباقةً من دفءِ عنقِكِ
ونافذةً تكشفُ لي
عن ظلِّ ابتسامةٍ
آهٍ من احتباسِ الدّهشةِ
ومن هواجسِ الرّغبةِ العارمةِ
إنّي أقرأُ زغبَ أنوثتِكِ
أتهجّى مساماتِ الشّهوةِ
أعتصرُ وهجَ حضورِكِ
أشعلتِ في مهجتي فضاءً
أوقدتِ أجنحةَ عمري
أصابعُكِ تدغدغُ المدى
بأوردتي
وصارت أيّامي أوراقاً لوردِكِ
أحلامي فراشاتٌ ترعى شَعرَكِ
يسكنُكِ لهاثُ دروبي
أعشقُ كلَّ ما يحيطُكِ
لأنَّ الأرضَ تتطهٌرُ بوجودِكِ
يا قامةَ الغبطةِ والنَّدى
سأمكثُ عندَ بوَّابةِ الرّجاء
أنتظرُ شارةً منكِ
لأرتميَ بفيءِ اهتمامَكِ.*
إسطنبول
* فتاةُ الضّوء..
خذوا عنّي قلبي
انقذوني من جنونِهِ
ما عُدتُ أتعايشُ معهُ
ولا أتمنّى أيَّ ارتباطٍ بهِ
هو غبيٌّ أحمقُ
مازالَ يتصرَّفُ كالأطفالِ
تُغريهِ وردةٌ
ويركضُ خلفَ فراشةٍ
ويحلُمُ أن يصطادَ النّدى
مازالَ يعدُّ النّجومَ ويخطىء
يحاولُ أن يتعلَّقَ بغيمةٍ
خذوهُ عنّي أرجوكم
قبلَ أن يتسبَّبَ لي بفضيحةٍ
أنا رجلٌ تجاوزتُ الخمسين
وقلبي بَعدُ يهفو للحبِّ
لا يراعي ما أنا فيهِ
يطمعُ بعشقٍ أسطوريّ
لفتاةٍ عذبةٍ كضوءِ الصّبحِ
أحلى من همسِ الياسمينِ
يسكنُ في صوتِها حفيفُ الأماني
يُقَبِّل القمرُ يدَها كلَّ مساءٍ
وينحني أمامَها الليلُ
كخادمٍ مُطيعٍ
والمرايا تشعلُ لِفتنتها
شموعَ عطرٍ
خذوهُ عنّي بحقِّ القلوب
أفعالُهُ لا تناسبُني طائشةٌ
أنا رجلٌ وقورٌ
وكلُّكُم تشهدونَ
وقلبي كالصِّبيانِ مسكونٌ بالتَّوقِ
لا يحسبُ حسابَ الأقاويلِ
ولا يقيمُ لكم أيَّ وزن
هو يسخرُ منكم دائماً
يسمّيكم بالجثثِ الدّمى
عندَهُ لا اعتبارَ للتقاليدِ
ولا للحكمةِ
سيعشقُ بالرّغمِ منّي ومنكم
وسيكتبُ الشِّعرُ
ويرسلُ المكاتيبَ والوردَ
ويغامرُ تحتَ جنحِ الليلِ
ينتظرُ تحتَ المطرِ
يصفّرُ يعطي الإشاراتِ
يلوِّحُ بمناديلِ الشّوقِ
لا يعترفُ بسنواتِ عمري
ولا يعتقدُ أنَّ الصّلعةَ سببٌ يكفي
أو تساقطَ الأسنانِ ذو أهمّيّة
ولا وهنَ الخُطى
يجرّني خلفَهُ خَاروفاً للذّبحِ
يستعجلُني بصراخِهِ الهادرِ
يقسِمُ لي بأغلظِ الإيمانِ
سيبقى عاشقاً
حتّى لحظة الموتِ
لا أنا ولا أنتم
ولا كلُّ أهلِ الأرضِ
قادرونَ عليهِ
فاعذروا حبّي لا تستغربوا
أنا عاشقٌ ياسادة
عاشقٌ حتّى العظمِ
حتّى التّضحية والموت
أحبُّها
وأحبُّ مَن يحبُّها
وأكرَهُ كلَّ من يحتجّ
ويحاولُ إبعادي عنها
سأموتُ بينَ أحضانِها
وأكونُ قد قبَّلتُها
من ثغرِها من عنقِها
من ترابِها وجذورِ مجدِها
حبيبتي نعم
رغمَ أنوفِ القَتَلَةِ
حلبُ فتاةُ الضّوءِ
ووردةُ التّاريخِ السّحيقِ
أُمُّ الحبِّ.*
إسطنبول
* بَصَمَاتُكِ..
أصابعُكِ داعبَتْ وردةً
الوردةُ تمسّكَتْ ببصماتِكِ
حتّى لا يشوبَها الذُّبولُ
أطبقَتْ على أوراقِها بقوّةٍ
أحاطت بعطرها بصماتِكِ
كطفلٍ يحضُنُ أمَّهُ
لكنَّ الفراشةَ الغيورةَ
استطاعَتِ الاحتيالَ عليها
سرقَتْ منها ما تملكُ
بصماتُكِ صارَتْ عُرضَةً للسرقةِ
ضجَّتِ الوردةُ بالنّحيبِ
ذَرَفَتْ بحراً من الشّذى
وقرَّرتْ أن تتزوّدَ بالشّوكِ
* * *
حلّقَتِ الفراشةُ
رفرفَتْ بفرحتِها بشموخٍ
طارَتْ أبعدَ مِنَ الأفقِ
بصماتُكِ ستغنيها عَنِ الرّحيقِ
ما عادَتْ تأبَهُ من زعلِ الوردِ
ولا بضوءِ الشّذى
ستعيشُ أكثرَ من الربيعِ
وتكونُ ألوانُها أكثرَ إثارةٍ
من قوسِ قُزَحٍ
لكنَّ النّدى المراوغَ
ذا الأعصابِ الباردةِ
تمكَّنَ من خِداعِها
واختطفَ منها ما سرقَتْهُ
بَكَتِ الفراشةُ حتّى أصابها العماءُ
واصطدمَتْ باللَّهبِ
* * *
النّدى صارَ مخموراً
جنَّ من فرطِ فرحتِهِ
علّقَ بصماتِكِ قلادةً بعنقهِ
وراحَ يزهو أمامَ الضّوءِ
يتمخترُ أمامَ الياسمينِ
ونصَّبَ نفسَهُ أميراً على المدى
لا تمسُّهُ الشّمسُ
* * *
في الفجرِ
وبهدوءٍ شديدٍ
غافلْتُ النّدى
حينَ كانَ يتعرّى
ليستحمَّ
استحوذْتُ منهُ على بصماتِكِ
وعلى التوِّ
لامسْتُ قلبي بهنّ
انقشعَتِ الجلطةُ عنهُ
وراحَ يعزفُ نشيدَ الحبِّ
وها أنا حائرٌ
كيفَ أحصِّنُ قلبي؟!
وأحمي سرَّ الخلودِ؟!*
إسطنبول
* جرأة..
لو قُدِّرَ لي وتجرأتُ
وأردتُ الكتابةَ عنكِ
تترتَّبُ عليَّ أمورٌ كثيرةٌ
قد لا تحصى
ومؤكدٌ سأعجزُ عن تحقيقها
فأنتِ مثلاً
لا يجوزُ أن أخَاطبَكِ
بلغةٍ عاديةٍ قاصرةٍ
وقزمة أمامَ هالةِ قامتِكِ
لكي أكتبَ عنكِ
عليّ ابتكارَ لغةٍ أحرفُها من ضَوءٍ
نقاطُها من موسيقى
شارةُ الاستفهامِ من شغفٍ
والتعجبُ شفتا النّدى
والشّدّةُ من بوحِ الغيمِ
والضمّةُ من رحيقِ النّارِ
الهمّزةُ والكسرةُ والتّنوينُ
وشكلُ الحرفِ
ومخارجُ الألفاظِ
وعلمُ البيانِ
كلُّها تحتاجُ للتجديدِ
كي ترتقي
صوبَ أوَّلِ حرفٍ من اسمكِ
أنتِ
لو أردتُ الكتابةَ عنكِ
على قلبي أن يتجددَ أيضاً
ويتحلَّى بالفطنةِ والشَّجاعةِ
أن يخفقَ بشكلٍ أقوى
يهتفَ بصوتٍ أوضحَ
يجَنَّ بلا حدودٍ
وعلى الشمس أن تكتحلَ بظلكِ
والسّماءِ توسِّعُ أبوابَها
لدهشتي
لأنَّكِ ستلهمينني الخلودَ
سأدخلُ التَّاريخَ
مجرَّدَ ما اذكرُ اسمَكِ
أو أعبُّرَ من قربكِ
بَلْ مُجَرَّدَ ما أفكرَ بكِ
أو أتطلعَ لمقامَكِ البهي
أنتِ روحُ الأرضِ
زينةُ التَّكوينِ
شفقُ المُنى
واحةُ الولهِ الشّفيفِ
درَّةُ الضّوءِ الحالمِ
لو أردتُ التعبيرَ عمَّا
أكنُه نحوكِ من عشقٍ
أحتاجُ لكلّ ورودِ الأرضِ
ألوانِها
أشكالِها
عبقِها
وأحتاجُ دمعاً حاراً
يطهرني
من خبثِ اليأسِ
وإلى جرأةٍ لا متناهية
لأخطو نحوَ نافذتِكِ
خطوةً واحدةً
قبلَ أن يتوقفَ قلبي
وأخشى من القمر
ماذا لو غارَ منّي؟!
ورماني بحجرِ الغيمِ
فيشجُّ قلبي
ويدمي روحي
ويلتمّ الناسَ فجأة
أتسببُ لكِ بفضيحةٍ
لم أكن أريدها أو أقصدها
لم أعتدِ
التنفّسَ أمامَ ضيائكِ
عطرُكِ فتنةُ الابتهالِ
سيهربُ قلبي
و أمسكُ نبضاتهِ
أحاول أن أعقله
اطرديه
إن دقَّ بابَكِ آخرَ الليلِ
وطلب منكِ شربةَ ماءٍ
فهو كاذبٌ
جاء يقولُ أحبّكِ.*
إسطنبول
* مشاعر..
سأكتفي منكِ بهذا العذابِ
يشرّفُني الموتُ على يديكِ
صمتُكِ وسامٌ على صدرِ بَوحي
وهجرانُكِ منّةٌ لقلبي
تكرمْتِ وتذكرتني بالصّدودِ
ما كنتُ أطمعُ بأكثرَ
من أنْ تحفظي إسمي
وأنْ تعرفي أنّي أحبُّكِ
هذا في حكم الهوى
ليس بقليلٍ أو عاديٌٌ
شكراً لأنَّ إسمي ارتبطَ بإسمِكِ
شكراً لأنّكِ تحتلّينَ قصائدي
شكراً لأنّي لُقِّبْتُ بمجنونِكِ
وماذا أريدُ منكِ بعدُ؟!
الكلُّ صارَ يعرفُني
ويتعاطفُ معي
الليلُ يضمِّدُ أوجاعي
الشّمسُ تشفقُ على كهوفِ أوردتي
والوردُ يربتُ على أنفاسي
حتّى الفراشاتُ
تمسحُ لي دمعتي
بمنادِيلها وتبكي
والنّدى يسعفُني
كلَّما تعثَّرتْ غُصَّتي
بقليلٍ منكِ
نلتُ الكثيرَ
وتميزتُ عن سائرِ البشرِ
حظيتُ بدمعٍ لم يذرفْهُ أحدٌ
وبألمٍ ما ذاقه غيري
وبشوقٍ لم يتّسعْ لهُ الفضاءُ
وبأحلامٍ لا يطالُها حتّى السّكارى
كلُّ النّاسِ يتذكّرونني
حينَ يشاهدونَكِ بدوني
حبُّكِ أعطاني هويّةً
ميٌَزني
ومنحني صفةَ الخلودِ.*
إسطنبول
* مرثيَّةٌ للروح..
الموتُ يلتهمُ الجميعَ
يتسابقونَ على مضاعفةِ
عددِ القتلى
يتنافسونَ
على إذلالِ الأسرى
ويراهنونَ
على تدميرِ ماتبقّى من المدائنِ
حممٌ تنهارُ على العُزَّلِ الضّعفاءِ
نارٌ وحصارٌ وجوعٌ
والرُّعبُ يخيّمُ على الأنفاسِ
لي بهذا المعسكرِ
مثلَ مالي بذاكَ المعسكرِ
لا أقدرُ أنْ أهلِّلَ
لقتلِ أهلي وأحبَّتي
بلدي تأكلُ بلدي
شعبي يذبحُ شعبي
لعنةُ الشّيطانِ حلَّتْ على الجميعِ
تتشابهُ الجثثُ
والدّمُ المسفوحُ واحد
غرباءُ بينَنا
في كلِّ المواقعِ
بحجَّةِ المؤازرةِ نفّذوا المؤامرة
وتسلَّطوا على رِقابنا
تحكّموا بالبلادِ
واذلوا عبادَ الله
لا نريدُهم
نريدُ سلاماً
اطردوهم
لننعمَ بالأمانِ
لنْ تتوقَّفَ الحربُ المجنونةُ
طالما الخفافيشُ على أرضِنا
متى ندركُ
أنَّ بلدَنا مشروعُ احتلالٍ؟!
يزوِّدُنا بالكرهِ والسّلاحِ
وفتاوى قتلِ الأخِ
مقابرُنا
امتدَّتْ أبعدَ من المدى
وتوسَّعَ فينا الخرابُ
حتّى طالَ الأفقَ
ومستقبلَ الأجيالِ
التي تقرفُ من المجيء*
إسطنبول
* هويّة..
مرّةً واحدةً في العمرِ
دعيني أموتُ بأحضانِكِ
مرّةً واحدةً في الموتِ
ادفنيني بجوفِ نبضِكِ
لا أطلبُ منكِ أكثرَ
عشتُ طوالَ عمري أحبُّكِ
وها أنا أغادرُ
وأنا أشهدُ ألَّا حبَّ إلّا حبُّكِ
ولا موتَ إلّا من أجلِكِ
يدي نظيفةٌ
لم تتلوَّثْ بالكراهيةِ
لم أقتل أخاً لي
لم أهدم حجراً واحداً
لم أسرق
أو أتاجر بالوطنيّةِ
إنّي أحبُّكِ لوجهِ اللهِ
لا أبتغي مصلحةً شخصيّةً
أو أصبو لزعامةٍ
كأيِّ مواطنٍ بسيطٍ وفقيرٍ
يحبُّ أمّهُ ويطلبُ منها الرِّضى
أنتمي إليكِ
كأيِّ وردةٍ تنتمي لِجذورِها
كأيِّ فراشةٍ يسحرُها الضّوءُ
كأيٌِ شمسٍ تلتزمُ بحدودِكِ
وأيِّ قمرٍ لا يغادرُ أسوارَكِ
وأيِّ بحرٍ اختارَ رمالَكِ
لا شرفَ أحملُ
إلّاانتسابي لكِ
لا قيمةَ لي بدونِ جنسيّتِكِ
سوريٌّ أنا
أعلنُ انتمائي.. لطهرِكِ
ولمقامِكِ السَّامِق.*
إسطنبول
* معشوقةُ السَّماءِ..
قدري أن أمشيَ فوقَ الجرحِ
ويكونُ طريقي ممتدّاً فوقَ الدّمعِ
خطواتي تأكلُ لهاثي
ويحاصرُني رملُ الوحشةِ
أزحفُ على جبلِ الرّيحِ
أتسلّقُ غيمَ القهرِ
تسبقني عتمةُ أوجاعي
يتلقّفُني الحزنُ
ما من دربٍ يوصلُني إليكِ
ما من فضاءٍ يجمعُنا
أسبحُ في فلكِ الغيابِ
جدرانُكِ من مَسَدٍ
شمسُكِ من زمهريرٍ
أمدُّ إليكِ نبضي
أستصرخُ الأشواقَ
أبحثُ في جرحي الغابرِ
عن خصلةِ ذكرى
وصورٍ التقطَها لنا الموتُ
قبلَ الاغترابِ اللَّعينِ
عاقبْتني أكثرَ ممّا أستحقُّ
عذّبْتني أضعافَ ما أحتملُ
سامحيني لأعرفَ نفسي
وأجدَ لوجهي ملامحَهُ
ضيَّعني قلبي ذاتَ انعطافٍ
كانَ يعاندُ الفرقةَ
ويحتجُّ على الانهزامِ
قدرٌ ساخطٌ يطاردُني
ألوبُ على الأشجانِ
نوافذُ صدري أغلقَها المدى
أخطو خارجَ غربتي
في غرفةِ الجنونِ
أريدُ بعضاً من ظلِّكِ
عدداً من أوراقِكِ السّاقطةِ
ذرّاتِ ندىً من ترابكِ المعطّرِ
كوزَ ماءٍ من سرابِكِ الباكي
وكفاًٍ من غيومِكِ
قرميدتاً واحدتاً
من أحجارِ ضوئِكِ
مفتاحاً
لأيِّ بابٍ مهجورٍ
سريراً محطّما الأسنانِ
وفراشاً من خرقِ البردِ
ياسمينةً تبهجُ اختناقي
رغيفَ حنانٍ
وزيتونةَ عسلٍ
يا الَّتي لا تشبهُ إلَّا الجنّةَ
خارجَ حصنِكِ وقتٌ حامضٌ
أعيديني إليكِ
أنظِّفُ طيبَكِ من الشّوائبِ
أقلُّمُ أعشابَ القصائدِ
من براثنِ الغرباءِ القتلةِ
أحرسُ كحلَكِ
أرمِّمُ زخارفَ الضّجيجِ
أمشِّطُ شعرَ الشّمسِ الأشقرِ
وأصدُّ الرّيحَ عن جدائلِ فتنتِكِ
ياوردةَ اللهِ على الأرضِ
لا يشمُّها إلاّ العشاقُ
يا ينبوعَ النّورِ المقدّسِ
ورحيقَ الشَّفقِ الشّغوفِ
مدِّي لي يدَكِ بنسمةٍ
إنَّ الأفقَ يختنقُ
إنَّ النّبضَ يحترقُ
إنَّ النّسغَ ينسرقُ
والشّهقةَتُغْتَصَبُ
يابلدَ الأنداءِ والطّهارةِ
يا واحةِ الرّجاءِ الآتي
معشوقةَ السّماءِ الأزليّةَ
حلبَ الشّهباءِ
العصيّةَ على الرضوخِ.*
إسطنبول
* عيالُ الله..
ينحني لَكِ نبضي
بخشوعٍ جمٍّ
يقبِّلُ أصابعَ عطرِكِ
ويقعدُ فوقَ سجّادةِ الابتهالِ
يرنو لعينيكِ
بعطشٍ طائشٍ
أيّتها الأنثى
المخلوقةُ من نورٍ
في راحتيكِ يسكنُ لهاثي
ومن على بُعْدِ المدى
يتناهى إليَّ ما فيكِ من بهاءٍ
أحملُ في جوارحي
غصّةَ الاقترابِ المضنيِّ
أجيءُ إليكِ مسربلاً روحي
مهيضَ القلبِ
متلعثمَ الحُلُمِ
مقضقضَ الدّمعِ
حافيَ الحنينِ
دثّريني بلحافِ السّكينةِ
علَّ أوجاعي تموتُ
وينبتُ لي عمرٌ آخرُ
أرفرفُ بهِ حولَ شهوقِكِ
وأنطلقُ
لأضمَّ ما فيكِ من وهجٍ
وأرتقَ جراحَ النّدى
تحتَ أغصانِ ابتسامتِكِ
وأعلّقَ موتي
على جذعِ هالتِكِ
لنْ أموتَ
طالما يتنفّسُكِ الغيمُ
لن أموتَ
طالما يمدُّ الكونُ يديهِ لَكِ
سأكونُ خادماً
لقداسةِ سحرِكِ
جنديّاً
على بابِ ظلِّكِ
معماراً
أرمِّمُ ما تهدّمَ
من كبرياءٍ
وزبَّالاً
أكنسُ الحقدَ
من شوارعِكِ
حلبُ من عيالِ اللهِ.*
إسطنبول
* واسطات..
ما زلْتُ أنتظرُ
وقلبي لَم يزل يبكي
من نبضهِ أشيّدُ قصائدي
من دمعِهِ
أروي ظمأَ الاحتراقِ
يحبُّكِ
أكثرَ ممّا اعتادَ الحبَّ
ويريدُكِ في كلِّ خفقةٍ
لو تسمعينَهُ
كم يهتفُ باسمِكِ
لو تمنحينَهُ
دقائقَ من عمرِكِ
لو ترحمينَهُ
بكتْ عليهِ الأحزانُ
يحبُّكِ
أكثرَ ممّا يُحْتَمَلُ
شابتْ منهُ الأيامُ
واشتكَتْ منهُ الليالي
سيتوسّطُ لهُ عندكِ الفجرُ
والنّجومُ قرّرَتْ أنْ تحدِّثْكِ
بشأنِهِ
حتّى النّدى باتَ متأثّراً
على حالِهِ
والوردُ سيطرقُ عليكِ البابَ
من أجلِهِ
كلُّ الفراشاتِ تعاطفَتْ معهُ
وتفكِّرُ باختطافِكِ لهُ
وأقسمَتِ العصافيرُ
أن يتَّخذْنَ منكِ موقفاً
إن ما ظللْتِ تعذّبينَهُ
إلامَ يحترقُ بانتظارِهِ؟!
ويبعثُ إليكِ بموتِهِ!!
لو مرّةً ضمّدتي بَوْحَهُ
أوسقيتِ بيديكِ شفاءهُ
هو
واقفٌ على بابكِ
يستجدي الحنانَ
فلا تبخلي
عمّن أهداكِ عمرَهُ
بطيفِ فرحةٍ
ولا تقتلي
من رامَ لكِ الدُّنيا
وأعطاكِ
نهرَ الهوى.*
إسطنبول
* لَيلُ العَرَبِ..
لِليلٍ شَاحِبِ الوَجهِ
مكسَّرِ الأطرَافِ
يرتعشُ من الظُّلمةِ
لا يُبصِرُ
ضيَّعَ شمسَهُ
وصارَ بلا أسنَانٍ
يقضمُ قلقَهُ
وَيَنحَنِي لِعَواءِ ظِلِّهِ
يَمشِي على صَمتِهِ
خُطَاهُ
مُصَابَةٌ بالزُّكامِ
يبحثُ عن حائطٍ
يعلّقُ عليهِ دَمَهُ
ويستَنِدُ على ظَهرِ الرَّحِيلِ
يشربُ من خَابيةِ الرُّعْبِ
وَيَعِدُّ أشجارَ الخَيبَةِ
ومسافةَ الاكتواءِ
ما بَينَ النَّجمِ والسّقوطِ
اهترأَتْ مَسَاحَاتُ أنفَاسِهِ
تتعثّرُ بِهِ النَّسماتُ
والقمرُ يرشقُهُ بالغُبارِ
يَتَطلّعُ صوبَ قهرِهِ
مَغلولَ الأُمنِياتِ
لا يبرَحُهُ الذّهُولُ
يَهمسُ للأرضِ
أنْ تَحمُلَ انهمارَهُ
على استغاثةِ النّدى
يهجسُ بشهقَتِهِ
يلوذُ بوحشَةِ الصّدى
يعتَمرُ فاجعةَ الارتماءِ
لا يَلْوِي
إلّا على الآفاقِ
يشتَهي اِحتضانَ غَيمَةٍ
لا تخدشُ عُرْيَ الفَجرِ
لِيَتلُوَ على مَسمَعِ الصَّمتِ
أنشودةَ الاغتِرابِ الحَزِينَةِ
فوقَ أكتَافِ غُصّتِهِ
يَحمِلُ دَمَ الرُّكامِ
ويَمضي
نحوَ وَمِيضٍ يَلوُّحُ
بأجنحةِ الفَجرِ
واللَيلُ
يَلُوبُ على الجُرحِ.*
إسطنبول
* صَدِيقِي الحَمِيم..
أمدُّ لَهُ يَدِي
أفتحُ لَهُ قَلبِي
أُطعِمُهُ مِنْ عُمرِي
أُشعِلُ لَهُ فَرحَتِي
أَضِمُّهُ إلى سَرِيرَتِي
يغدرُني ويَمشي
أسامِحُهُ
أُصدِّقُ اعتذارَهُ
أُعطيهِ مَفَاتِيحِي
أُلًملِمُ فَوضَاهُ
أَمسَحُ دَمعَ رُوحِهِ
أدثّرُهُ بعطفي
يَغدرُني ويَمشي
في كلِّ مرّةٍ يحتالُ عليَّ
وأعطيهِ فرصةً
أقدِّرُ ظرفَهُ
أبرِّرُ أفعالَهُ
أبتكرُ لهُ الحُجَجَ
أَمنَحُهُ مَكانَةً
أرفَعُ من قَدرهِ
أصلِحُ من شأنِهِ
أحتاطُهُ باهتمامي
وحينَ يعزمُ على شكري
يطوّقُني بذراعيهِ
ويخنقُني
تقهقهُ أصابعُهُ
ينتشي نَبضُهُ
وتَرقصُ أحقادُهُ
حينَ أرتمي
صديقي الذي أحبَبتُهُ
أطعَمَتْهُ أمّي مِنْ خُبزِهَا
دَخَّنَ مِنْ سَجَائرِ أبي
ضيَّفَتْهُ أختي فناجِينَ القَهوَةِ
اعتبرنَاهُ فرداً من العَائِلَةِ
رَاحَ يُدنِّسُ سُمعَتَنَا
إنّهُ
صَدِيقِي الحَمِيم. *
إسطنبول
* سَلالِمُ الضَّوءِ..
سينتصرُ الذَّبيحُ
على السُّكينِ
حينَ يلفظُ اِسمكِ
سيناصرهُ الهواءُ
والأرضُ تمدُّ يَدَهَا
لتسحلَ الظَّالمَ
يموت القاتلُ
ويحيا القتيلُ
في عرفِ الحقيقةِ
هكذا يخبرُنا التَّاريخُ
الموتُ..
يحسبُ لكِ ألفَ حسابٍ
لا يجرؤُ..
أن يقتربَ من أسواركِ
خلقكِ الله لتكوني خالدةً
تحرسُكِ الملائكةُ والأبطالُ
وينبتُ الوردُ
عندَ كلّ جرحٍ نازفٍ بالخصوبةِ
أنتِ لأهلكِ لشعبكِ
للمدى عنوانُ
وأنتِ سلالمُ الضَّوءِ للفردوسِ
محالٌ..
أن يقهرَكِ قزمُ
لا يفتحَ بابَكِ إلّا الأنبياءُ
وسيفُ الدَّولةِ يَتَرَبَّعُ
على عرشِ قلعتكِ
حينَ يُنشِدُ المتنَّبي
قصيدَتَهُ عَنكِ
والكلابُ..
تعرفُ أينَ خُصِّصَتِ لَهَا أمكنتَها
كما القمر
يعرفُ مكانهُ فوقَ ضُحكَتكِ
كلُّ الذين يدنون منكِ
ينحنون إجلالاً لهيبتكِ
يادرةَ اللهِ في التَّكوينِ
من هذا الذي يطمعُ فيكِ؟!
وأهلُكِ..
يتمسكونَ بحبلِ الله
والحبلُ مَشْدُودٌ
إلى القلعة.*
إسطنبول
* أَهلِي هُنَاكَ!!
كَمْ سَنَةً تَمُرُّ عَليٌَ
في اليَومِ الواحِدِ
وأنتِ عنِّي بَعِيدَةٌ؟!
أحسبُ الدَّقيقةَ دَهراً
وربَّما أكثرَ
لو أحصَينا عَدَدَ دقَّاتِ قلبي
وكم سيكارةً تحرِقُني
وفنجانُ نارٍ يَكوي لَهفتي
تكدَّسَ الليلُ فوقَ رُوحي
والهواءُ يَختَنِقُ
يَتَنفَّسُ مِنْ مَسَامَاتِ الحَنِينِ
أمدٌُ أصَابعَ الدَّمعِ
لأمسَحَ دَمَ الأشواقِ
مُحتَاجٌ لِفَضَاءِ هَمسُكِ
وَلِنَدى الحَنانِ
شَيَّعنِي الدَّربُ
وَسَارَ البُكاءُ بِجَنَازَتِي
وَلوَّحَ التُّرابُ لي بالتَّنهداتِ
مَاتَتِ الشَّمسُ عِندَ حُدُودَكِ
والقمرُ أعلنَ اِنتِحَارَهُ
نَصّبَ مشنَقَتَهُ في السَّماءِ
ليتَ الأرضَ تصغَر
لتتقلصَ المسافاتُ بيننا
أو أحفرَ نفقاً في جوفِ الظَّلامِ
وتتسللُ إليكِ قصيدتي
حبيبتي..
اسمعي نواحَ قَلَمِي
ودفاتري تشدُّ شعرَها
ما عادتٍ أسطري تقوى
على وجعي
وأحرفي فَقَدَتْ بَصِيْرَتَها
مشتاقٌ لكِ يا بلدي
حضنُكِ ينادي ثغاءَ الأورِدَةِ
وتهفو الأزقَّةُ إلى أجنحتي
وأهلي هُناكَ
جهزوا لي قبراً من أُفُقٍ
يُضَاهِي حُلُمِي.*
إسطنبول
* رَقصَةُ السَّمَاحِ..
آهٍ عليَّ مِنكِ
وَمِنْ قلبي
آهٍ من عشقٍ
يُطَوِّحُ بأشواقي
وَيُبكِيني
على مرأى مٍنْ بُعدِكِ
كيفَ أجيءُ إليكِ?!
قُولِي؟!
وأجنِحَتِي يأكُلُهَا لهبُ الضَّغِينةِ
دَمِي مَهدُورٌ
لو اقتربتُ منكِ
يقتلوني
لأنِّي ذكرتُ أولَّ حَرفٍ
مِنْ اِسمِكِ
فكيفَ لو بُحتُ بعشقٍ
أكبرَ من هذا المدى؟!
حُبِّي يتجاوزُ أبعادَ الكونِ
مِنهُ تنبثقُ شموسٌ
وقصائِدٌ
وقصائدي
أكتُبُهَا بأحرُفٍ مِنْ دَمٍ
وَمِنها تَهطُلُ البحارُ
الَّتي تَدمَعُ موجاً
وأشجارٍ تنزفُ ورداً
ودروباً تتلوّى
لكي تهربَ إليكِ
يا مُهجةَ النَّدى حينَ يَتَخَثَّرُ
وَيَتَكَسَّرَ على أعتابِ الغُربةِ
مَتَى أضُمُّ وشاحَ السَّحابِ؟!
متى أنامُ في حضنِ الرُّؤى؟!
وألثمُ باطنَ الحفيفِ؟!
أنتِ عُنُقُ العطرِ
أجنحةُ الومضِ
قيثارةُ الافتنان
وإشراقةُ البزوغِ
كيفَ أعودُ ؟!
وأسرَحُ في رَاحَتَيكِ
أقطفُ مِنْ وَجهِكِ
عَنَاقِيدَ الأَمَانِ
وأغنِّي..
تحتَ شُرفَةَ الشَّمسِ
مَا حَفِظتُ..
مِنْ مُوَشَّحَاتٍ وَقُدُودٍ
وترقصُ لي القَلعَةُ
رَقصَةَ السَّمَاحِ.*
إسطنبول
* تَنَازُلات..
ولأنِّي أحبُّكِ
أسايرُ شبحَ الموتِ
أتنازل له عن كلِّ شيءٍ إلّا أنتِ
أتجنَّبُ عِنادَهُ والتَّصَادُمَ
لاأتحدَّى بِهِ غَطرَسَتَهِ
في سبيلِ تَجَنُّبِكِ
ولئلا ينتقمَ منِّي بِكِ
فَيَحرِقُ قلبي بِفُقدَانَكِ
أُعطِيهِ كلَّ يَومٍ
ورقةً مِنْ عُمري
اطعمهُ بعضَ قِوَايَ
أَدَعَهُ يفكِّكُ مَا يَحلُو لَهُ
مِنْ جَسَدِي
شَعرِي أَسنَانِي
او بعضَ أنفاسي
أتعاملُ وإياهُ باحترامٍ
أقدِّمُ لَهُ ولائي
وفروضَ طاعتي
فَقَط مِنْ أَجلِ عُتقِكِ
لأنَّكِ نقطةُ ضُعفِي القَاتِلَةُ
فالموتُ يُدركُ
كم أريد لكِ الحياةَ
وكم أسعى لإسعادِكِ
وكم أْجهدُ للوصولِ إلى قلبكِ
حتَّى وإنْ كانت حياتي ثمناً
لِحُبِّي وَحُبُّكِ
وانا أتحيَّرُ في أمري
تُرَى
لِمَن أقدِّمُ تَنَازُلاتي؟!!
وَلِمنْ أتخَلَّى لَهُ عَن كُبرِيائي
لكِ أم للموتِ؟!*
إسطنبول
* غَيرَةُ العَاشِق..
الآنَ عرفتُ..
لماذا القمرُ يدورُ حولَ الأرضِ
إنَّهُ يلاحِقُكِ
أبصرتَُهُ كانَ يسترقُ النَّظَرَ
إلى نافذَتِكِ طوالَ الوقتِ
يراقبُ تَحَرُّكَاتِكِ باستماتَهٍ
ويلتقطُ لكِ صُوَرَاً
ويصيخُ السَّمعَ لكلِّ ما تقولينَ
كانتِ الشَّهوةُ تَقطُرُ مِنْ عَينَيهِ
وأنتِ تُبَدَّلِينَ ثِيَابَكِ
بمكرٍ كانَ يختبئُ وراءَ غَمَامَةٍ
كانَ قَدْ اِستَأجَرَهَا
إِنَّهُ ملعونٌ لا يؤتمنُ
اِستَتِري مِنهُ
وَخُذِي مِنهُ احتِياطَاتِكِ
ولهذا أنا أحرُسُكِ
ولا أغادرُ بابَكِ
أحمٍلُ سكيِّناً لو فكَّرَ أن يهبطَ إليكِ
لن أرحمَهُ لو وقعَ بقبضتي
لو كنتُ أطالُهُ
لكنتُ أبعدتُهُ عن مَكَانِكِ
لكنَّهُ يقفُ بالمرتفعِ
ويتوارى وَسطَ الظَّلامِ
لَنْ أسمحَ لهُ بالاقترابِ
قد يُغافلُكِ ويَرمي لكِ
بقصيدةٍ
لا تصدقيهِ هذه كِتَابَتِي
هُوَ التقطَهَا
حينَ قذفتُها صوبَ نافذَتِكِ
دَقِّقِي وَتَأَكَّدِي خَطُّ مَنْ هذا
وَرَكِّزِي على التَّوقِيعِ
قلبي مغتاظٌ منهُ
ومن ضَوئِهِ الذي لا ينامُ
لا تُلقِي لَهُ بالاً
ولا تكترثي بِهِ
أنا من يُحبُّكِ أكثرَ
أنا من كتبَ عنكِ الشِّعرَ
وقطفَ الوردَ لأجلكِ
وأنا من يسهرُ وقتَ البردِ
هو يتغيَّبُ عنكِ بالشِّتاءِ
وفي النَّهارِ
ليسَ وفياً لحبِّكِ مِثلي
حينَ تمرُّ بالقربِ منهُ نجمةٍ
يغازِلُها ويتحرَّشُ بِهَا
أغلقي نافذَتَكِ بوجهِهِ
أسدُِلي السَّتَائرَ حتَّى
لا يغريكِ بنورِهِ
أنا اشعِلُ لكِ ألفَ شمعةٍ
فَقَط لو تمنحِينني قَلبَكِ.*
إسطنبول
* رايةُ النَّدى..
تتعثرُ أجنحتي بالغيمِ
يتشظَّى الغيمُ إلى دَمعٍ
الأفقُ يبكي بداخلي
وتشتعلُ الحنايا بالغبارِ
قلبٌ..
يتنفسُ مِنهُ المَدَى
يتفيَّأُ بنبضِهِ الشُّروقُ
ويستجيرُ بِهِ الدَّربُ
قمرٌ مُحتَقِنُ الضَّوءُ
يمرُّ بهِ
يُناديهِ مبحوحَ الدَّمِ
يسألُ..
عن وردةٍ تَاهَ في جدائِلِهَا
ضاعَ في زحمةِ الشَّذى
سَرَقَهُ شَهِيقُ الانبهارِ
وَعَاثَتْ بِهِ الظُّنونُ
يتلكأُ الهواءُ
عن شرفةِ الزَّغبِ
وصليلُ الشَّهوةِ عابقٌ
يترنحُ بي وَجَعِي
يَرتَدُّ دمي على أعقابِهِ
ويشفقُ عليٌَ الهلاكُ
يَتَمَترَسُ بي السُّقوطُ
ويتكمَّشُ بانهزامي الشَّفقُ
ياطائرَ الفينيقِ عجِّلْ
هذا الرَّمادُ فتنةُ بلادي
هذا الدَّمُ نزيفُ دَهشَتِنَا
فلا تُذعِنْ لموتٍ ألمَّ بِكَ
لا تغادر مرايا الثَّلجِ
خُذْ مِنَ المَاءِ شكلَ النُّهوضِ
مِنَ الفراشةِ شُهُوقَ الصَّهِيلِ
وَمِنَ النَّسمةِ متراسَ الخلودِ
مُدٌَ يَدَكَ لرائحةِ النَّهارِ
فُكَّ أزرارَ الشَّهوةِ الرَّعناءِ
حَطِّمْ أغلالَ الموجِ
دَعِ الرِّيحَ تَهِبُ
على أوتارِ الصُّمودِ
سَامقٌ هذا السُّجودُ
حينَ ننحنِي على تربةِ الرُّوحِ
لحظةَ يكونُ الطِّينُ
مُضَمّخَاًَ بِدمِ الابتسامةِ
ماهذا الموتُ المُتَشَبِّثُ فِينَا
إلّا مخاضُ الدُّنيا
يجلجلُ برعدِ السَّلامِ
وَبِمَا يُخفي من مطرِ الهديلِ
بُحَّ لونُ الهسيسِ
الصَّاخبِ بهمسِ الضَّوءِ
يهتُفُ من شقوقِ الليلِ
والظَّلامُ يتداعى
مثقوبَ القلبِ
يَتَهَالَك
على مَقَاعِدِ الإنعاشِ
لافظاً خُيوطَهُ السُّوداءِ
واهنُ العتمةِ البليدةِ
وَسَيُطِلُّ طُفلٌ مِنْ سُوريَّا
يْعَمِّرُ ضُحكَتَهُ بالغَدِ
بِيَدِهِ رَايَةُ النَّدَى.*
إسطنبول
* لَوْ خَيَّرَنِي اللهُ..
لَوْ خَيَّرَنِي اللهُ بالمطلقِ
على الفَورِ سأختارُكِ
لا أطمعُ بملكٍ أو بِمَجدٍ
أريدُكِ أنتِ
سأقولُ:
- ياربي حبِّبهَا بِي
دَعهَا مِنْ نَصِيبِي
تُطعِمُنِي من قُبُلاتِها
وتَسقِينِي مِنْ شَهدِ أنوثَتِهَا
لا أريدُ أكثرَ
مِنْ أنْ تكوني معي
أغفو على حبالِ صَوتِكِ
استيقظُ على ضوءِ بَسمَتِكِ
استنشقُ منكِ الألقَ
بأصابعكِ..
تعزفينَ على أوتارِ قلبي
تسكنُ فيكِ روحي
تكونينَ أُمِّي حينَ أضعفُ
أُختِي وقتَ أشقَى
حبيبتي لمَّا تَجتَاحُني الوحدةُ
ابنتي..
لو أردتُ ألعَبُ
وبلدي..
حينَ أموتُ
أُدفَنُ فِيكِ
تحتَ شَجَرَةِ الفُستُقِ الحَلَبِيِّ.*
إسطنبول
* عشقٌ مُحَالُ..
سيرتمي بحضنِكِ عُمُري
يسألُكِ بعضَ الحنانِ
يبكي عندما تحنو عليهِ راحَتيكِ
مرّ عليهِ عُمرٍ من غيرِ ندى
كانتْ أمانيهِ قاحلةً
ولياليهِ سرابَ الخائبينِ
ما كانَ قلبي يعرفُ غيرَ الدَّمعِ
واليباسُ يعصفُ في حقولي
في دمي مرارةُ الحنينِ
والشَّوقُ شوكٌ يوخذُ اللهفةَ
يا أنتِ
يا مَنْ أطَلَّتْ عَلَيَّ
مِنَ السَّماءِ السَّابعةِ
يا حوريَّةَ الأكوانِ
أعطني جُرعةً من الفرحِ
كسرةٍ من الرَّحيقِ
روحي تتضوَّرُ لأنوثَتِكِ الفارِهَةِ
أصابعي أصابَها العماءُ
اطردي عنها التَّصحُّرَ
بي لهفةٌ لفضائِكِ
فأنتِ كفنُ العمرِ الأبيضِ
دثِّريني بولَهِ أنفاسِكِ
هواجسي متعبةٌ قدَّتْ من جُنُونٍ
وأوردتي ستلتَهِمُ نبضَ مكانِكِ
أينَما حَلَلْتِ
أعطِني مِنْ صَوتِكِ
أُفُقاً يَسعُ صَمتي
من أصَابعِكِ
شلالاتٍ مِن السَّكينةِ
من بَسمَتِكِ
ما أسترُ قهري
أكلني الوجعُ نهشَ لُهاثي
وأنا أطرقُ بابَ الوَجدِ
إنّي أعشَقُكِ
بكلِّ ما أوتيتُ مِنْ خوفٍ
وانكِسَارٍ.*
إسطنبول
* خصلة شعر..
لو كنتُ أملك خصلة شعركِ
المدلاّة على وجهكِ الفاتن
كنتُ حكمت العالم
وصار الربيع بيدي خاتماً
الفصول تأتيني خانعات
الشمس تشرق حسبما أريد
والقمر يطلّ حيثما أرغب
سأمنح الورد ألواناً جديدة
ويكون الشّذى أقوى وأروع
وأزيد من ألق الفراشات وفتنتها
وأعطي للنسمة هالة الحنين
الأرض سأطيل من عمرها
وأعطي للبحر سلماً
ليعانق السماء
وأنشر الفرح في كل مكان
أقدم للمرضى ماء الحياة
لو كنتُ أملك خصلة شعركِ
سيأتي إليّ الموت
يسألني أن أعفيه من مهمّته
وأكلفه بعمل آخر مفيد
ويسألني اللّيل
عن إمكانية أن يبدّل ثوبه
بلونٍ آخر
وسيطلب الرّعب منّي الأمان
والحزن سيخلع أوجاعه عندي
لو كنتُ أملك خصلة شعركِ
سيزيد عمري ألف عام
وأصير أقوى وأجمل.*
إسطنبول
* لا تَنخَدِع..
لا تَنخَدِع..
لستَ بأوَّلِ القَتلَى
ولا بآخرِ الخائبينَ
طوالَ عُمرِكَ كُنتَ وَحدَكَ
صادَفَكَ ألفُ موتٍ وَمَوتُ
وجراحُ لا تعدُّ
وتعرَّضتَ لهجرٍ مريرٍ
واغتيالاتٍ جَمَّةٍ
وكنتَ تحملُ جرحكَ النَّازفَ
وتمضي لوحدِكَ
دموعُكَ تُكَفكِفُهَا الأيامُ
وتكونُ الليالي عليكَ
طويلةَ المخالبِ
لا تُصَدِّقْ حُباً
يَقذِفُهُ السَّرابُ بِوَجهِكَ
لُهَاثُكَ يُزَيِّنُ لكَ القَحلَ
تظنُّ الرَّمَادَ سُكَّراً
وَتَتَوَهَمُ المِلحَ نَدى
أنتَ وَدَّعتَ قَلبَكَ
مُنذُ ألفَ عَامٍ
في جَوفِ المَوتِ
وَقُلتَ:
- لا حُبٌَ بَعدَ الغَدرِ
لا أماني لِرَجُلٍ عَرَفَ الانتِحارَ
كُنْ وَحدَكَ .. لِوَحدِكَ
لا تَمُدَّ يَدَيكَ للغَيمِ
فَهذا المَطرُ جَافٌّ
لا تَلمِسْ هذهِ النَّسمَةَ
فهذا الضَّوءُ مُدلًهِمٌّ
كُنْ وَحدَكَ
حينَ تَمشِي في جَنَازَتِكَ
إحمل نَعشَكَ
على أجنِحةِ السُّقوطِ
شيِّد مِن أوجَاعِكَ كوخاً
واسكن بِهِ لوحدكَ
افرش حُزنَكَ الوَفِيرَ
نم فوقهُ
وَتَدثَّر بالاختناقِ
ليسَ لكَ سوى وحدَتُكَ
لا تُصَدِّق ابتِسَامةً ظَنَنتَها
تَتَهادَى إليكَ
هي سُخرِيةُ الانهزامِ
جَاءَت لِتَعضَكَ
لا تَفتَح ذِرَاعَيكَ لِحُبٍّ مُتَرَنّحٍ
يُودِي بِكَ لِلجُنونِ
خُذ خطواتِكَ
مِنْ هذا الفَضَاءِ
سيكبلُكَ الشَّوكُ بالارتباكِ
عَجِّل بالفرارِ
مِنْ هذا الهوى
وانكَمِش
في سَرَادِيبِ القَصِيدَةِ
لا تلوِّح لهذا السَّدِيمِ
لا تفتح بَابَكَ
لِمَنْ سَيُهرِقُ نَبضَكَ
كُنْ وَحدكَ
عُشْ وَحدكَ
وَمُت لِوَحدكَ
فأنتَ النَّاجي الوَحيدُ
والمنتصرُ
أمامَ كرامتكَ
لا يَحنُو عليكَ الهلاكُ
ولا يرحمكَ من يجهلكَ
فأنتَ وحدكَ
كنتَ سَراباً من الانتصاراتِ
وكانَ الحَنانُ
يَشربُ من راحَتيكَ
وينهلُ من بوحكَ
فلا تَنخَدِع.*
إسطنبول
* لولا أنتِ..
لولا أنتِ
كانتِ الدُّنيا احتاجَت لمعنى
وكانَ على السماءِ
أن تجدَ شمساً
وعلى الليلِ
أن يؤمِّنَ قمراً
وعلى البحرِ أيضاً
أن يتدبَّر ماءَهُ
لولا أنتِ
كان الوردُ سيتطلَّبُ عطراً
وكان النّدى سيتضوَّرُ عطشاً
ولكانَتِ الفراشاتُ تهيمُ
في براري السّرابِ
وكانَ الوقتُ سيطلُّ علينا
حافياً متعثَّراً
مُدمى اللُّهاث
وكانتِ الأرضُ سَكرى
عمياءَ
لا تعرفُ لها درباً
لولا أنتِ
ما كانَ للسكَّرِ طعمُ القُبلةِ
ولا للملحِ نكهةُ الانتظارِ
وما كانَ للماءِ
رضابُ العناقِ اللَّذيذِ
ما كانَ للأشكالِ شكلٌ
ولا للألوانِ بهجةٌ
أو للأصواتِ صدىً
لولا أنتِ
ما كانَت أصابعُ الريحِ
عزفَت أغاني الحنينِ
ولا كانَ للدَّمعِ
أن يطَّهرَ الضَّوءُ من أردانِهِ
أو كانَ الثّلجُ أبيضَ
كأوردةِ التّوقِ
لولا أنتِ..
كانت قصيدتي بلا كلماتٍ
وكلماتي بلا نوافذَ
وبسمتي بلا رفيفٍ
وقامتي بلا جذعٍ
وروحي بلا دبيبٍ
لولا أنتِ
ما كانَت تتوسَّطُ قلوبَنا
قلعتُكِ الأبديّةُ
يا حلبُ.*
إسطنبول
* حظر..
يحتاجُكِ قلبي
كلما فاضَ بهِ الحنينُ
يسألُني عنكِ
وأنا منهمكٌ بالنسيانِ
لو أعرفُ مَن يُذكّرُهُ بكِ؟!
لحاربتُهُ
وابتعدت عنهُ
مَن يوسوسُ لقلبي
بحبِّكِ فقد عاداني
مَن يذكرُهُ باسمِكِ
سأجافيه..
وأطردُهُ من حياتي
أخذتُ كافةَ احتياطاتي
هجرتُ الليلَ
خاصمتُ النهارَ
قاطعتُ الوردَ
رميتُ العطرَ
نهرتُ الفراشاتِ
أقفلتُ بوجهِ الندى
وأجفلتُ العصافيرَ
ابتعدتُ عنِ الدروبِ
غطيتُ الأرضَ
أخفيتُ البحرَ
وعصبتُ عيونَ السماءِ
هجرتُ
كلَّ ما يرتبطُ بكِ
بما فيها لغتي
أحرقتُ الحروفَ
ما مِن شيءٍ تركتُهُ
حتى الهواء
حشوتُهُ بزجاجةٍ
فلماذا قلبي لم ينسَ؟!
ولم تنطلِ عليهِ خطتي!
كوني مرةً عادلةً
وانسحبي
كوني محضرَ خيرٍ
بيني وبين قلبي
أنتِ تعرفين كم عانيتُ
منكِ
ومِن قسوةِ حبِّكِ
المجنونِ.*
إسطنبول
* دفاتر القمر..
لَوْ مَدَدتِ يَدَكِ
وَلَمَستِ السَّماءَ
كَمْ نَجمَةٍ سَتَلِدُ؟!
وَكَمْ أُفُقَاً سَيَتَفَتَّحُ؟!
وَكَمْ مدىً سَيَنتَشِي؟!
وهذا القمرُ البائسُ
يشهقُ بغيرتِهِ
تَيَبَّسَ النُّورُ بأوردَتِهِ
وأنتِ لَمْ تَعِيرِيِهِ
قَطرَةَ نَدَى
أو بَعضاً مِنْ نَظرَةٍ
يَمُّدُّ لكِ نَبضهُ
شلالاتٍ مِنَ الحنينِ
ويرسمُ لكِ من وراءِ الغيمِ
صوراً لغُصَّتِهِ
وَيُنَادِيكِ..
مِنْ فَجوَةِ الاختناقِ
تَذَكَّرِيني..
بِشَذَرَةٍ من اِبتسامةٍ
إِنَّ ضَوءَهُ قيدُ الاحتضارِ
فماذا لو أهديتَهِ وردةً؟
كان صهيلُهُ سَيَسرِي
في عروقِ الليلِ
وستزغرِّدُ الأرضُ
على وقعِ رقصتِهِ
الصَّاخِبَةِ
أَعطِهِ فُرصَةً
ليفتحَ لكِ دَفَاتِرَهُ
كتبَ عنكِ قصائدَ من نورٍ
حَذَّرَهَا من أعشابِ الفَجرِ
ومعانِيها من حنانِ النَّدى
أَصِيخِي لهَسِيسِ رِحَابِهِ
تَطَلَّعِي لِلَهفَةِ عَينَيهِ
إلى بُحَّةِ بَرِيقِهِ
قبلَ أنْ يَتَهَاوَى
ويَسقُطَ في لجَّةِ العُتمَةِ
وتبقى المدنُ حزينةً
بلا قَمَرٍ.*
إسطنبول
* شُلَّتْ يَدُ المَوتِ..
أَمْتَشِقُ صَرخَتِي بِوَجهِ المَوتِ
ماعُدْتُ أخافُ وحشيَّتَهُ
ولا أهابُهُ
سأقولُ كفاكَ
فنحنُ لانستحقُّ منكَ الاهتمامُ!!
بعتَ نفسكَ للشيطانِ
وتوغَّلتَ في بلادي
دونَ رحمةٍ
ولا شفقةٍ
أخذْتَ تَحصِدُ الأخضرَ واليابسَ
تجتاحُنا بلا هوادةٍ
تُضْرِمُ الدَّمارَ
توقدُ النَّزفَ
تذبحُنا بلا ذَنبٍ
تبرَّأَ اللهُ منكَ
لا ثأرَ لكَ عندَنا
فَلِمَ أنتَ بلا قلبٍ؟!
بَكَتْ علينا القبورُ
اشمأزَّتْ الأرضُ
والسَّماءُ تقزَّزَتْ من رائحتِكَ
كُنْ مُنصِفاً
كُنْ عادلاً
اعملْ مَا أمرَكَ الله
لماذا هذا الكُرْهُ
يُطِلُّ مِنْ عَينيكَ؟!
مَنْ سَلَّطَكَ على بلدِ السَّلامِ
نحنُ لا نحبُّ القتلَ
بل نحبُّ الحياةَ ونزرعُ الوردَ
نحبُّ الشِّعرَ ونغازلُ الضَّوءَ
أنتَ أفَّاكٌ مأجورٌ
تَسَرَّبْتَ إلى وداعتِنا
كانَتْ ذخيرةُ بنادقِنا النَّدى
وَكَانَتْ بلادُنا تُغَطَّى بالزَّيتونِ
مَنْ دَلَّكَ علينا لتأتيَ لاهثاً
وتغتالَ الأرواحَ بغتةً
وجملةً وأسراباً
نحن نكرهُكَ
فغَادرْ بلادَنا
بلا أيِّ قيدٍ أو شروطٍ
وسنرتِّبُ البلادَ من بعدِكَ
وَنُعَمِّرُ الضِّحكةَ
وسنزيِّنُ شوارعَنا بتلاميذِ المدارسِ
ياالله!!!
كم كانَ وجودُكَ قبيحاً
داخلَ أسوارِنا
شُلَّتْ يداكَ ياموتُ ماحييتَ
سنتصدَّى لكَ
ونحذِّرُ منكَ
ونعلِّمُ أطفالَنا
أن يُغلقوا بوجهِكَ الأبوابَ
دمُ السُّوريِّ حرامٌ وجريمةٌ
حرِّيَّةُ السُّوريّ مقدسةٌ
سنطاردُ شركاءَكَ ياموتُ
أنتَ ومن باعَنا وقهرَنا
أنتَ ومن يأتمرُ من الغُرَباءِ
أنتَ وَمَنْ جاءَ برفقتِكَ
أنتَ تعصي اللهَ والأنبياءَ
حينَ تغدرُ فينا
وترمي الفتنةَ بينَنا
أخرجْ من بلادِنا
مُطَأطِأ الرَّأسِ
ذليلاً
خجولاً
مَذْمُومَاً
فقد تعلَّمنا الدرسَ:
لا مكانَ لغريبٍ بينَنا
وحدَهُ السُّوريُّ
سيبقى في سورية
والبقيَّةُ
البقيَّةُ الباقيةُ
سيكنسُهُمُ التَّاريخُ
إلى المزبلةِ.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول




الفهرس:
=======================
01 - مقدمة نجاح إبراهيم
02 - عقار الجنة
03 - همسات الرحيل
04 - عمت سلاماً يا حلب
05 - أعذريني
06 - شهيق التّوق
07 - فتاة الضوء
08 - جرأة
09 - مشاعر
10 - مرثية الروح
11 - هويّة
12 - معشوقة السماء
13 - عيال الله
14 - واسطات
15 - ليل العرب
16 - صديقي الحميمِ
17 - سلالم الضوء
18 - أهلي هناك
19 - رقصة السماح
20 - تنازلات
21 - غيرة العاشق
22 - راية النَّدى
23 - لو خيرني الله
24 - عشق محال
25 - خصلة شعر
26 - لا تنخدع
27 - لو لا أنتِ
28 - حظر
29 - دفاتر القمر
30 - شلّت يد الموت


--------------------------------------------
مصطفى الحاج حسين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى