حسام الدين مسعد - ليلة الأنحوتة ...دراماتورجية الخريف العربي

#ليلةالأنحوتة
دراماتورجية الخريف العربي .
بقلم / حسام الدين مسعد
★★★★★★★★★
"ليلة الأنحوتة "،عنوان العرض المسرحي،الذي أنتجته فرقة "تراتيل المسرح،والفنون" الأردنية،فالعنوان نص موازي لنص العرض،يستطيع من خلاله المتلقي ان يبني أفق توقعه قبل الدلوف الي قاعة المسرح،والشروع في مشاهدته،إذ جاء مشتقاً من مفردتين أحداهما (ليلة) جاءت في صيغة التنكير،والأخري (الأنحوتة) عُرفْت ب(ال)،فكلمة "ليلة" تشير الي فترة زمنية بين وقت غياب الشمس،
ووقت النوم،وهوايضاً وقت التسامر،وسرد الحكايات قديماً عند العرب،وقد جاءت مضافة الي اسم آخر، فاكتسبت تأنيثها من كلمة" الأنحوتة" المؤنثة،وتصغير لكلمة "منحوتة"،وتعني شكل ثلاثيّ الأبْعاد مشكّل من مادَّة كالبرونْز،أو الصلصال،لتشير الي حقل دلالي يرتبط بالتماثيل،اوالي النتاج الحضاري البشري لحضارة ما،اي أن هذا العنوان يشيرإلي حكاية المنحوتة التي بلا شك سنسترجعها من التراث لنتسامر بها،فتخيلنا للحكاية يحررعقولنا،ويكشف عن أهمية المعاني الباطنة للأشياء داخل العرض المسرحي .
- لذا فإن وظيفة "اياد الرموني" المؤلف،والمخرج،كانت تتمثل في حدود العمل علي الإضاءة الفكرية،والبصرية للمشهد المسرحي،إذ استخلص"الرموني" الإستراتيجية الأساسية في نصه الدرامي من خلال إدانته (للذكر/الشاب/الرجل) بإعتباره سبباً رئيس في معاناة ( الأنثي/ الفتاة/ المرأة )،منطلقاً من جدلية "السيد،والعبد"،وفقاً لعالم النفس الألماني"هيجل"،والذي يفترض [عندما يصبح السيد عبداً للعبد،يكون العبد سيداً للسيد،وبنفس سلاح القهر الذي قهر به السيد عبده]،فنري في المشهد الإفتتاحي للعرض تقسيم سيميتري،وبؤرتين ضوء مسلطتين علي ذكر يرتدي ملابس بلون الجلد البشري وكأنه عاري،وانثي ترتدي معطف اسود ،،إذ يتصافح الذكر والأنثي، كلاعبين داخل حلبة صراع تتبدل وفق تنامي الصراع الدرامي،الي فضاءات تنافسية،ليتجلي للمتلقي أن" الرموني" يتبني التعبير عن أفكاره كمؤلف بطريق اللسان،والجسد،و معتمداً علي تحقيق اتصالية إبداعية كمخرج من خلال شكل سينوغرافي يكون فيه المظهر البصري مهيمناً الي الحد الذي يفرض فيه نفسه بإعتباره مكوناً لخصوصية العرض الجمالي،والأيدولوجي،الذي يناقش وضعية تمثال لأمرأة تمسك برأس نهديها،ومن عينيها ينزل الماء،وهي شاخصة بصرها إلي السماء،ورجليها مفتوحة بشكل ملفت،مما يثير فضول (الشاب) لمعرفة ماهي الدوافع التي من خلالها جسد صانع التمثال هذه المرأة المنحوتة بذات الكيفية؟،إذ تنقسم حكاية العرض الي مستويين من السرد،الأول هو زمن الخطاب الآني المتعلق بالحوارالجاري بين (الشاب،والفتاة)،والثاني، زمن إسترجاعي استعمل فيه السرد لتحليل الأحداث والوقائع التي مرت علي "المرأة المنحوتة"المسرودعنها الحكايةعلي لسان (الفتاة)،بغية الكشف عن المعني النصي الذي تناص مؤلفه(اياد الرموني) تناصاً غير مباشر مع أفكار قصة الأسطورة اليونانية القديمة "بجماليون"،كما تناص تناصاً مباشراً مع وصفية تمثال عين الفوارة بمدينة سطيف الجزائرية،والذي يعبر عن حب الناحت لحبيبته وتخليده لحبه لها،ورغم أن التمثال لم يظهر للمتلقي علي خشبة المسرح،إلا أن سر المرأة المنحوتة؟ يظل سؤال يثير شغف المتلقي من خلال الصراع الظاهري الذي تدور في فلكه الحكاية،وهوالصراع الجدلي بين الرجل والمرأة،مبرزاً معاناة المرأة التي لا تنجب،ونظرة المجتمع الدونية لها،والذي تجلي في موقف نساء القرية اللاتي اصبحن عاهرات بسبب المرض الذي اكتسبنهن من معاشرتهن للرجل النحات،فقررن الإنتقام منه بتحريض ساحرة أن تصنع سحراً ل(المرأة) زوجته،فتجعلها عاقرلا تنجب،لكن الساحرة اشفقت علي هذه المرأة بعد فترة،وفكت السحر دون علم نساء القرية،فحملت المراة،وماتت بعد إنجابها مباشرة لطفل ذكر نشأ في مأوي للأيتام،ولم يكن يعرف شيئاً عن هذه القصة حتي صار شاباً،اما "الفتاة" هي ابنة أحدي النساء المنكوبات بهذا المرض اللعين،أرادت الإنتقام من الشاب، لتثأر من فعلة أبيه الغادرة التي لاذنب له فيها.
- وجد بداخل الحوار الدرامي الذي جري بين (الشاب،والفتاة )،حوارإسترجاعي بين (الرجل،والمرأة ) سردته في الراهن "الفتاة " لكن كان المخاطب الموجه إليه الخطاب (الشاب،والمتلقي) في الزمن الحاضرالذي استحضرت فيه "الفتاة" الزمن الماضي،إذ اتسم الحوارالدرامي عموماً،باختيار الجمل القصيرة،والتراكيب الدلالية،والإستعارات كا(خريفنا الشجاع )والتي تشير إلي الثورة علي فعل النسوة تجاه الرجل،والمرأة،فخلق الحوار نظام حجاجي ديالكتيكي شكلاني، تنفذ منه القيم والأفكار والمشاعر التي تعبر عنها شخصيات العرض بإقتداريحرك عواطف المتلقي،ومشاعره،
وعقله.
-لكن بين طيات العرض، يكمن صراع آخر جدلي بين ايديولوجتين مختلفتين هما النسق الكلي للمعتقدات الكامنة في أنماط سلوكية "للشاب" و"للفتاة"،إذ ساعد التوظيف الحركي لشخصيات العرض الديودرامي، على تفسيرالأسس الأخلاقية للفعل الواقعي،وتبريرسلوك كل شخصية،وإضفاء المشروعية التي تؤكد اختلاف المجتمع الذي نشأت فيه،فشخصيات العرض تنقسم الي شخصيات فاعلة درامياً،( الشاب،والفتاة، والرجل،والمرأة)، فضلاً عن شخصيات من الذاكرة ورد ذكرها فقط في الحوار الدرامي،وهي شخصيات مستقرة في ذاكرة الشاب،كا (سيجموند فرويد)،او شخصيات مستقرة في ذاكرة الفتاة،كا (المرأة المنحوتة،والرجل الناحت،وافروديت،والعراف،والساحرة،ونساء القرية،وام الفتاة )،إذ أن كل هاته الشخصيات بقسميها شديدة الإرتباط بالبنية الدرامية،وبالأحداث المكونة للحكاية،مما ساهم في الكشف عن (الهوية النفسية ) لشخصية (الشاب) المتكونة من (الهوية) التي هي مصدر كل الطاقات النفسية والموجودة منذ ولادة الشاب،ومن(الأنا) الذي هو جزء من الهوية تم تعديله من خلال التأثير المباشر للعالم الخارجي الذي ساعده علي إتخاذ القرارات بناء علي مبدأ الواقع( مثال) رفض الشاب لأغراءات الفتاة الجنسية وفقاً لمكوناته السلوكية والعرفية للمجتمع الذي نشأ فيه ،كما تكونت شخصية الشاب من (الأنا العليا)والتي تنقسم الي قسمين هما (الأنا المثالية،والضمير)،إذ كانت "أنا" الشاب قادرة علي التوفيق بين متطلبات الهوية،والواقع والأنا العليا من خلال التخييب الحاصل بين افق انتظار المتلقي،وافق العرض،إذ أن الأخير حمل خيبة أمل بين قديم مألوف،وحديث مختلف أصطدمت بها بعض المعتقدات الراسخة في ذهن المتلقي،وتزعزعت مرجعياته الفكرية من خلال طرحه السؤال عن هوية هذا الشاب؟ الذي ظهر للمتلقي أنه من مجتمع شرقي حمل امراض أسلافه،إذ ان المرض الذي حمله (الرجل)،والذي يشير إلي حقل دلالي يرمز لجدلية الثقافة والهوية،وتعدد الثقافات الذي حاول أن يلغي الثقافة الأصلية لنساء القرية،وظهور ما يعرف بالهوية الكوكبية التي تحاول اختزال كل الهويات في هوية واحدة،وهذا ماوسمه"الرموني" بالمرض اللعين "،مما أتاح الي تداخل ايقاع الفكر السائد اجتماعياً مع ايقاع فكر العرض.

-لقد استطاع "الرموني" أن يتعامل مع وعي المتلقي العربي من خلال منطق اللعب،والتشخيص،بدءاً من تدريبات إكساب الوعي ،ومصافحة الشاب والفتاة كلاعبين في فضاء اللعبة التنافسية،وتجسيداً لقطار الذكريات الذي يحمل عقدة،او قضية العرض التي تناقش العلاقة الجدلية بين ( الذكر/الأنثي، والقديم/ الحديث،الأنا/ الهو،الأنا/ الأنا العليا)،ومروراً برؤيته للآخر في مشهد النسوة الثلاثة الذي شخصه الممثل محمد عيسي بهزلية ساخرة،وإنتهاءاً بالموقف المعلق الساعي لإنتقام (الفتاة )نيرفاناالخطيب من الشاب لفعل أسلافه مع اسلافها بذات سلاح القهر (المعاشرة الجنسية ).
لاشك أن السينوجرافيا التي تمثلت في سيمترية قسمت المسرح الي نصفين متساويين شكلت علامة مسرحية تشير الي دلالة التشكيل البصري المحمول فكرياً بالمساواة بين حقوق الذكر والأنثي،إذ تألف كل نصف من قطعة من القماش البيضاء تدلي من أعلي عمق المسرح،وفي المقدمة حمالة ملابس،وفي منتصف المسرح وضعت منضدة كبيرة أمامها مقعدين متماثلين كالمرأة مما يشير إلي إنعكاس أفعال الذكر والأنثي،لكن ما لم أراه متسقاً هو لحظة الإقحام التي ادخلها الرموني في ختام العرض المسرحي،ولم ترد في النص الأدبي،تلك اللحظة التي انشد فيها محمد عيسي متغزلاً في عشق الفتاة وحبها في ذات اللحظة التي تحاول الإنتقام منه،وكأن الرموني يؤكد علي العشق والإنبهار بالثقافة التي تعادي الثقافة الشرقية،وكيف يتسق مع المنطق أن يعشق القتيل قاتله ؟
- لم يكتفِ "الرموني" بإثارة اللذة الجمالية المتأملة،وبإطلاق أعلى حد ممكن من العلامات المسرحية (الرمزية) فحسب،بل هدف إلى استفزاز وعي المتلقي، وخلخلة ثوابته المعرفية،وكسر أفق توقّعه،وإلى تعليق المعنى الساعي الي خلخلة الربيع بالخريف حيث تسقط كل القناعات،والإيدلوجيات أمام الوعي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى