أحمد رجب شلتوت - الإسلام والمرأة.. كيان وتمكين

تنوعت إسهامات الدكتورة أمل الأسدي بين الإبداع والنقد والأدب المقارن، وأصدرت في هذه المجالات تسعة كتب، وقد اتسع مجال إسهامها ليشمل الدراسات الإسلامية، فقدمت دراستها المميزة “الخصائص الأسلوبية في آيات القيم الأخلاقية”، وأخيرا جاء كتابها “ الإسلام والمرأة .. كيان وتمكين” و الكتاب يضم فصولا متنوعة يمكن أن ندرجه ضمن “علم الاجتماع الديني”، فالتمكين مصطلح ارتبط ظهوره بنمو الحركات الاجتماعية التي تنادي بالحقوق المدنية للمواطنين، وبخاصة النساء.
وقد مهدت الدكتورة أمل الأسدي لموضوعها بفصل عن “ماهية التمكين في القرآن الكريم”، تتبعت فيه جذر المصطلح ومشتقاته الواردة في القرآن الكريم، جاعلة من ذلك جسرا رابطا بين المصطلح واستعماله الواقعي في إطار دعم المرأة، وخلصت من هذا التتبع إلى نتيجة مفادها أن القرآن الكريم استعمل مادة “مكن” ليعبر عن القدرة والقوة، وأيضا ليقرنهما بالاستقرار والثبات والتحقق، كما لاحظت أن كل أفعال التمكين في الآيات الكريمة مسندة للخالق جل شأنه، فلا يمكن للتمكين أن يحدث ويثبت ويستمر، “من دون النور الإلهي القادر المقتدر”، وبتأمل التمكين في المنظور القرآني نجده مناقضا تماما للتمكين في المنظور الغربي، إذ يصوره القرآن الكريم أبعد ما يكون عن الصراع بين الرجل والمرأة بل ينصرف معناه إلى عموم الإنسان ذكرا وأنثى، فالخطاب واحد، ولم يميز بين تمكين الرجل او تمكين المرأة ، فالتمكين في القران يحمل دوما معاني إيجابية، ويدعو إلى إقامة العدل والخير في الأرض ولا يحمل معاني استقواء او صراع.
هكذا صور القرآن التمكين، وكل تمكين يبتعد عن هذا المصدر هو تمكين فاسد لا يعول عليه. وهكذا ميزت الكاتبة بين التمكين الصحيح (الآمن) والتمكين الفاسد، ثم أضافت نمطا ثالثا، وهو ما تصفه بأنه “التمكين المزيف”، فتقول: “إن كلّ تمكينٍ فاسد هو تمكين مزيف، وليس كل تمكين مزيف هو فاسد، فمتن التمكين المزيف ومادته سليمة من الناحية النظرية في الغالب، إلا أنه مجرد كلام ورؤى وطموحات لا تصل إلى طرح نظرية مستقرة ومشاريع يمكن تطبيقها في الواقع، بخلاف التمكين الفاسد الذي يسعى لدعم المرأة ماديا إلا أنه يسلبها عنصر الاستقرار والثبات والحياة الهادئة، ويحولها إلى أداة رخيصة“.
نظرية نسوية عربية
بعد ذلك تؤصل الكاتبة لمصطلح آخر هو “التمكين الآمن للمرأة” وتعرفه بأنه التمكين الذي يمنح المرأة القوة والقدرة على نيل حقوقها بعيدا عن التمكين الفاسد الذي يسلب المرأة استقرارها الروحي ومنظومتها القيمية وهويتها الإسلامية. وهذا التمكين الآمن يتطلب وضع نظرية نسوية عربية وإسلامية، وهو ما تطرحه الدكتورة أمل في فصل مستقل، وتؤكد على حاجتنا لمثل هذه النظرية من أجل مواجهة النظرية النسوية الغربية التي تهاجم النسيج الاجتماعي العربي والإسلامي، وتعصف بكيان المرأة المسلمة وبيئتها ومنظومتها القيمية مما يؤدي إلى تمييع الهوية، فضلا عن عدم واقعية النظرية النسوية الغربية، إذ تتبنى مشروعا إصلاحيا في الظاهر، إلا أنها تسلك طرقا فاسدة، تتناقض مع واقع المرأة وفطرتها الإنسانية وتركيبها البيولوجي.
كما أن واقعنا يشهد على وجود هوة كبيرة بين النظرية والتطبيق، فالمبادئ الإسلامية والتشريعات الإسلامية تقر حقوق المرأة وتمنحها كل صور التمكين، إلا أن الواقع الذي تعيشه بعيد من حيث التطبيق عن النظرية الإسلامية. وذلك يرجع لاتكاء المجتمعات الإسلامية عموما، والعربية خصوصا، علی موروث سلبي مجحف بالنسبة للتعامل مع المرأة. لذلك فهي ترفض النظرية النسوية الغربية خاصة في محاولتها لأن تجعل من الإسلام سببا لتخلف المرأة، فهذه الأصوات تمارس تزييفا للحقائق، وفي الوقت نفسه تخدم الفكر الرأسمالي المسيطر علی العالم، فليس الإسلام من أخّر المرأة وظلمها وسلبها حقوقها، وإنما الأنظمة السياسية الفاسدة المدعومة من الدول الغربية الرأسمالية الكبرى، هي من أخرت المرأة وسلبتها حقوقها.
فالإسلام قد سعى لتمكين المرأة وإنصافها وإحقاق حقوقها وعلى الأصعدة كافة، ومنها الحكم، ولا يمكن التأسيس لنظرية نسوية عربية وإسلامية بعيدا عن القرآن الكريم، فهو الدستور الوحيد الذي وفر نظريةً آمنةً لحقوق المرأة إذا ما تم تطبيقها كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فنجد القرآن قد قدم لنا نموذجا ناجحا في القيادة والتمكين متجسدا في شخصية “بلقيس” ملكة سبأ وكيف تمكنت من اتخاذ قرار حكيم بعد مشاورة قومها، أدى إلى تغيير مسار أمتها، فمن أراد التمكين الحقيقي، عليه أن يتحرر من العبودية السياسية ويتجه نحو الحرية التي تنظمها القوانين التي تتخذ من القرآن الكريم مصدرا ومرجعا، التي لا تتعارض مع الواقع الاجتماعي والثقافي العربي والإسلامي، ولا تتعارض مع الهوية الإسلامية.
وترى الدكتورة أمل الأسدي أن أهم صور التمكين النسوي التي ينبغي تبنيها تتمثل في التمكين الاقتصادي، فمتى ما تحقق الاستقرار الاقتصادي أو المادي المالي للمرأة من قبل الدولة ومؤسساتها ومشاريعها وقوانينها، يتم حينها إغلاق أبواب اضطهاد المرأة وتبعيتها للرجل، فجل الأسباب التي تدفعها للانحراف وبيع جسدها بثمن بخس تكمن في الجانب الاقتصادي الذي تعاني منه المرأة العربية والمسلمة.
نساء هاديات
لقد أنصف الإسلام المرأة بشكل جذري، فالقرآن أقر بأن المرأة كيان كالرجل تماما تقع على عاتقيهما مسؤولية العمارة في الأرض، وسيرة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وتعامله مع أمهات المؤمنين لأدمغ دليل على كينونة المرأة التي كرمها الإسلام، وحتى لا يكون حديث التمكين الإسلامي للمرأة مجرد تنظير غير قابل للتطبيق العملي، فإن الكاتبة عرجت بنا إلى نماذج لنساء مسلمات _ يمكن وصفهن بالهاديات للنساء كافة _ قدمتهن كأمثلة عملية على المفهوم الإسلامي التأصيلي لتمكين المرأة المسلمة، يمكن استنباطها واتباعها من أجل إنتاج نظرية نسوية إسلامية، أصيلة في قواعدها العقدية والفقهية، وعصرية في أدواتها ووسائلها، ليكون إطاراً نظرياً وتطبيقياً لعملية تمكين المرأة المسلمة العصرية. وكما تقول الكاتبة: “لنتعلم من السيدة خديجة والسيدة فاطمة الزهراء والسيدة زينب معنى التمكين والتحرر والعمل والرفعة“.
وقد انفردت السيدةُ خديجة عليها السلام بدور ريادي، ومواقف متفردة لم تُتَحْ لغيرها من النساء، وهذا الدور متأتٍّ من الصفات التي تتمتع بها السيدة، والخصائص التي أهلتها لتكون رائدةً على أصعدةٍ متعددةٍ، فمن حيث الريادةُ الاقتصادية: لم تعرف العربُ من قبلها شخصيةً نسائيةً ذات فكر اقتصادي تجاري، تؤسس لنفسها ثروةً ماليةً كبيرة، بعيدا عن الربا، وكانت أول من آمن بالنبي فحازت الريادة الدينية، أما الريادة الاجتماعية، فهي مترتبة على العنصرين السابقين، فهي زوجُ الرسول الأولى، وهي أمُّ أولاده، وهي سكينتهُ وأمانهُ، وذلك بالإضافة إلى ريادة المكانة الخاصة، فقد اصطفي الله تعالى بعضَ النساء وفضلهن تفضيلا، وقد قال رسول الله الأعظم:(صلى الله عليه وسلم): “أفضل نساء الجنة أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمَّد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون“.
أما السيدة فاطمة الزهراء، فقد خصتها الكاتبة بنحو نصف عدد فصول الكتاب، فأشارات إلى خطابها ضد الميسوجينية ( مصطلح يعني كراهية المرأة وسلبها حقوقها) فهي لم تكن ابنة الرسالة وسيدة نساء العالمين وحسب بل كانت أم الرسالة ومصدر من مصادر ديمومتها واستمرارها، لذلك توقف الكتاب عند عالميتها، وانتهى بذكر ألقابها وتطرح الكاتبة الأسئلة الكاشفة عن سبب رصدها لكل ما أطلق على الزهراء من صفات، فتقول إن هذه الألقاب مرتبطة بصفاتها ودورها ومكانتها، فلماذا لا تكون منهاجا للتربية؟ ومصدرا للوعي؟ لماذا نذكر الزهراء في ولادتها واستشهادها وحسب؟ لماذا لا نسلط الضوء على مصاديق صفاتها في مجتمعنا؟، فالسيدة الزهراء هي إيلاف الإنسانية. بحسب عنوان أحد فصول الكتاب، وفيه ترى الدكتورة امل الأسدي إن تمظهرات السيدة الزهراء في القرآن الكريم أكبر من كونها مشاهد وعظيه فردية تحثنا عل العمل في سبيل الله وخدمة الإنسانية، إنما تشكل فلسفةً للقيادة وبناء الإنسان، فالقرآن الكريم هو دستور حياتي إلهي مرسل إلى الأرض كي يعبّد الطريق إل الحياة الباقية، والزهراء هي ذلك الإيلاف المنتصر هي العقد المتين الذي يؤسس للدولة والمواطنة وكرامة الإنسان، هذا الإيلاف الذي يجب أن نعرفه جيدا حيث أن فلسفة الزهراء هي إنسانية مطلقة، وهذا سر خلودها.

9l87.jpg

حديث الكساء
ورد حديث الكساء في أكثر من خمسين مصدرا من المصادر الإسلامية سواء كانت كتبا في التاريخ أو في علم الحديث، وتتّفق‌ المذاهب‌ الإسلاميّة‌ جميعها على أنّ رسول‌ الله‌ عندما أشفق‌ على‌ أهل‌ بيته‌، جمعهم‌ تحت‌ الكساء، وغشّاهم‌ به‌، ثمّ سأل‌ الله‌ الرحمة‌ لهم‌، وقد استجاب الله لدعاء نبيه، فنزل جبريل بالوحي: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33].
و”أصحاب الكساء“ هو مصطلح إسلامي يقصد به مجموعة من أهل بيت النبي محمد هم: ابنته فاطمة وابن عمه علي بن أبي طالب، واثنين من أحفاده الحسن والحسين. حيث جمع أهل بيته تحت الكساء، ولهذا السبب سُمي هذا الحديث بحديث الكساء.
وقد أوقفت الدكتورة أمل الأسدي أحد فصول كتابها على حديث الكساء لتستخرج منه الطاقة الإيجابية، وهي محفزات معنوية وقوى تدفع الإنسان نحو الشعور بالسعادة والرضا، والقرآن الكريم يمد الإنسان بطاقة إيجابية، وفي تناولها لهذا الموضوع ربطت بين حديث الكساء ودلالاته الاجتماعية المتجسدة في اجتماع أفراد الأسرة والعاطفة الحميمة التي تربط بينهم، وانعكاس ذلك على الحالة النفسية للأفراد، وبالتالي المجتمع، فمتلقي الحديث ينتبه أولا لقضية اجتماع الأسرة، وتحاور أفرادها.
وتذهب الباحثة إلى أن السيدة فاطمة الزهراء هي عماد هذا الحديث، فهي الراوية له، والواقعة حدثت في بيتها، فضلا عن أنها ابنة النبي، أم الحسن والحسين، وهنا نلمح الرابط بين حديث الكساء وموضوع الكتاب وهو “تمكين المرأة المسلمة المتمسكة بهويتها”، فإذا كان الكتاب قد بدأ بالحديث عن التمكين وأنماطه، وبالتأكيد على حاجتنا لنظرية نسوية عربية وإسلامية، فقد عرج على سير نسوة مؤمنات هاديات يمثلن نماذجا واقعية لمفهوم التمكين من وجهة النظر التي تتبناها الكاتبة، ولأن التمكين في حد ذاته ليس غرضا، بل هو بمثابة تمهيد للطريق نحو الإيمان وتحقيق الرضا والسعادة، لذلك توقفت الكاتبة مليا عند حديث الكساء وما يشع منه من فيوض نورانية ومحفزات للطاقة الإيجابية. وفي ذلك دليل على شمولية منهج الكاتبة التي أفادت من خبرتها في الأدب والنقد، فالناقدة امتلكت القدرة على تحليل المشهد الكلي إلى عناصره الأولية، والأديبة امتلكت ناصية الحرف فعالجت موضوعها بلغة سلسة سهلة تصل إلى الأفهام دون عناء، رغم الصعوبة النسبية للموضوع الذي تطرحه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى