د. نور الدين السد - الراهن والمشروع البديل.. المنشور 6

المنشور 6


الحداثة الحقة لا يمكنها التنكر لتراث الأمة على اختلافه وتنوعه، ولا يمكنها مقاطعة منجزه، بل تعرف ما فيه من غنى وتراكم، وتعدد مشارب، وتنوع مرجعيات، واجتهاد، وتحاوره، وتطوره، وترقيه ، وتبني عليه، وتضيف إليه...
وإذا كان ذلك كذلك فهل فهمت النخب العربية الحداثة وفق هذا المنظور!؟
الواقع أن بعضا ممن نعدهم نخبا عربية فهموا الحداثة فهما مقولبا منمطا، وجعلوا من المعارف والمناهج الغربية المعاصرة أدوات للتشكيك في التراث العربي الإسلامي، ووسيلة لزعزعة الثقة في الذات، بل كادت تضيع مع طروحاتهم معالم الهوية والانتماء، ونسيت هذه النخب أو تناست أن تعميم الأحكام، وفرض المقولات الجاهزة؛ ليس من الموضوعية في شيء...
ولابد من التنبيه إلى أننا نعد المناهج الغربية المعاصرة على اختلافها وتنوعها وثرائها وموضوعيتها وسائل؛ وليست غايات، ونعدها وسائل بما تملك من منظومات وآليات إجرائية لوصف الخطاب وتحليل مكوناته، ورموزه وعلاماته، فهي بما تملك من عدة إصطلاحية ومفاهيمية تمكن من تفكيك مكونات الخطابات بأنواعها، وتفسير مضامينها، وتأويلها، وبناء معانيها، ومع ذلك تبقى مجرد آليات، وإن ارتبطت بمرجعيات فكرية وفلسفية، لا يمكن الفصل بينها وبين مرجعياتها، وهنا وجب تكييفها بما يجعلها في تواؤم وانسجام وتلاؤم مع خصوصيات الظاهرة المدروسة، وأقصد بالظاهرة هنا، التراث العربي الإسلامي، عبر مساره التاريخي، ومن خلال تنوع خطاباته تنظيرا وتطبيقا، وفي هذه الحال، يعول على مهارة المستعمل لهذه المناهج وآلياتها الإجرائية، كما يعول على قدراته وبراعته في تمثلها، وفهمها فهما عميقا، وتوظيفها توظيفا مناسبا، حتى لا يكون هناك تعسف في استعمال آليات تحليل الخطاب التراثي وتأويله.



1710404595399.png


وفي هذا السياق نشير -على سبيل المثال- إلى ما لاحظنا من إختلاف يكاد يكون جذريا في اعتماد بعض النخب العربية آليات المنهج الاجتماعي المادي التاريخي الجدلي، في تحليل المنجز التراثي العربي الإسلامي الفلسفي، والكلامي، والصوفي، والشعري، والديني وسواه... فعلى الرغم من وحدة المرجع والمقولات، ووحدة المنهج والآليات الإجرائية إلا أن أساليب المعالجة والتحليل والفكيك والنتائج التي توصل إليها هؤلاء البحاثة في مشاريعهم وبحوثهم مختلفة اختلافا كبيرا، ذلك لأن فهومهم للنظريات الفلسفية والفكرية الغربية ومناهجها وأدواتها التحليلية مختلفة، باختلاف قدرات استيعابهم لها، وطرائق توظيفها في دراسة تراث أسهمت في إنجازه ظروف تاريخية، وأسيقة اجتماعية، وقيم ثقافية، وأنماط إنتاج اقتصادية مغايرة..
ومثلما وجدنا من النخب والبحاثة العرب من ينتصر للحداثة بتطرف، وجدنا من ينتصر للقدامة، ويقدس التراث، وينتصر له، ويتبناه منهج حياة، وهو منغمس فيه بما فيه، دون قراءة واقعية، موضوعية، فارزة، ممحصة، متمعنة، وهؤلاء القراء لهم وجهات نظر متحيزة للتراث، ولهم منظورهم، ولهم فهومهم، وهم يعيشون الماضي، ويعيشون الاغتراب بكل أبعاده، وهذا الصنف من القراء المؤولين الماضويين له تأثيره واتباعه ومناصروه.
وإنا رأينا في بعض المشاريع التي أنجزها بعض المفكرين الحداثيين والبحاثة العرب بعض الاعتدال، وهو ما يبشر بتعزيز الانتماء، ويعبر عن تفتح ونضج، وتطلع صادق إلى النهوض، وإنصاف علمي لا مبالغة فيه ولا ادعاء، وفي ذلك تأكيد للوجود، وتعميق للثقة، وقبول بالاختلاف، وتحصين للذات، واعتزاز بالخصوصية، وانفتاح على الإنسانية.
وفي تعقب مسار التحديث لا بد من تمجيد وظائف العقل، الذي هو أساس كل إدراك ووعي وفهم، ولا يخفى أن العقل الإنساني مر بكل مراحل التوهيم والتوثين والتفتين، إلى أن وصل إلى ما وصل إليه من رجاحة، وما أنجز من علوم ومعارف، نقول هذا وفي إدراكنا أن العقل بمنجزاته وتنوعه وتعدد مشاربة واتجهاته، واختلافا مرجعياته، ليس كتلة واحدة متجانسة، بل العقل عقول، والفهم فهوم...
والأغرب أن يبقى رهط ممن عددناهم في جمع المتنورين يراوح في مقولات القدماء، غير متخلص من هيمنة الماضي بكل مافيه، أو مدع الحداثة، ساخط ماقت ناكر لكل منجز في التراث، مهما كانت قيمته الفكرية، ومهما كانت صرامته العلمية، ومهما كان مستوى موضوعيته، والرأي عندي ألا شيء يعدل الإنصاف في كل شيء، فليس بالإلغاء والمصادرة تتحقق شروط التحرر من هيمنة الأغيار، أو تسلط الماضي، وليس بالتعسف في تفسير التراث، وليس بلي أعناق النصوص، تستنتج شروط النهضة والتحرر، وتبنى الحضارات، وليس بالاستبداد ترقى الشعوب، وليس بالتعصب يؤسس لرقي العلوم والمعارف والآداب والفنون...
وقد رأينا في بعض المنجز الفكري والثقافي العربي المعاصر جنوحا إلى الحفاظ على التوازن بين المنجز في التراث، والمتراكم الحداثي في الواقع الإنساني والحضاري والعلمي والمعرفي والثقافي، وخاصة لدى المفكرين الحداثيين المتنورين الذين انجزوا مشاريع ذات رؤى شمولية موسوعية، وجدناهم وظفوا مناهج حديثة، وقرؤوا بوساطتها بنى المنجز في التراث العربي الإسلامي في كل حقوله المعرفية، واستفتوا مقولاته، وفككوا مغاليقة، وتأولوا مقاصده، وانتجوا معانيه في أسيقته المختلفة، وعبر مراحله التاريخية، وراهنية لحظاته الحضارية، وشروط إنتاجه، وخصوصياته الفكرية، برصانة وموضوعية، أو من خلال منطلقات فلسفية، وقدموا البدائل الكفيلة بتوفير شروط التحرر والإقلاع النهضوي، والرقي الحداثي النوعي.
كما تابعنا معظم ما كتب بدءا من علماء ومثقفي ورواد حركات الإصلاح والإحياء، وقبلهم رواد مقاومة الاحتلال والكولونيالية في الوطن العربي، وآراء زعماء الثورات التحررية، وقادة استرجاع السيادات الوطنية، وتابعنا ما تضمنت برامج الأحزاب السياسية، ومضامين مرجعياتها الفكرية، وما شملت من تطلع إلى بناء مشاريع التحديث في البلاد العربية، ونقر بما لها وما عليها، وبما تخللها من إيجابيات وسلبيات على المستويين النظري والتطبيقي، وما عرفت من معارضات ومخالفات في الأسس والتوجهات، وما شهدت من عراقيل على أكثر من صعيد، وما كل ذلك التنوع إلا صورة تؤكد الرغبة في التحديث والعصرنة، على الرغم من المعوقات على المستويين الداخلي والخارجي، ومع ذلك لابد من الإشارة إلى أن الوضع لم يكن هينا، أمام زعماء الثورات التحررية الوطنية، والظروف لم تكن سهلة ميسرة أمام النخب الحداثية التي سعت إلى تقديم البدائل؛ من أجل تجسيد أسس الدولة الوطنية الحديثة، وترسيخ مؤسساتها، وقيامها بأداء مهامها على أكمل وجه، مع تطلع الشعوب إلى تحقيق قيم المواطنة الحقة، وتعزيز بناء دولة الحق والقانون، والحفاظ على كرامة الإنسان، وتجسيد المساواة، وتكريس الديمقراطية، وصون حقوق الإنسان، وضمان الحريات. ولم يكن الطريق معبدا أمام التحديات التي واجهت بناء الدولة الوطنية، خاصة تلك التي نالت استقلالها، واسترجعت سيادتها بعد ثورات عنيفة، وتضحيات كبيرة، ووجدت نفسها أمام مخلفات الاحتلال من معضلات اجتماعية واقتصادية وثقافية، وصراعات سياسية، ولم يكن سهلا التكفل بكل المشاكل والأزمات المترتبة عن التخريب، والتدمير الممنهج الذي انتهجته قوى الاستعمار، ومع ذلك كانت هناك إرادة صادقة من بعض القادة الوطنيين الشرفاء، ورغبة صادقة في إرساء قواعد بناء الإنسان، وتحصين أمن وسيادة الأوطان..
إلا أن غياب الديمقراطية الحقة، وتعطيل جذوة الثورات التحررية الوطنية، وتغييب دور النخب العربية في بناء المجتمع والدولة، بخلفية سياسية دوغمائية من بعض الأنظمة، وتحصنها خلف مرجعيات ومفاهيم وشعارات، كان له دور حاسم في تعطيل المبادرات، بل وقفت العصب بما لها من أذرع (ثيوقراطية، وتيموقراطية، وأوليڨارشية، وسوى ذلك من نماذج أنظمة الحكم وتحالفاتها..) في مواجهة كل ما له علاقة بزعزعة مصالحها، ومخالفة توجهاتها، ورأت فيه الخصم اللدود، وعوض الاشتغال على مبدإ الاحتواء، اشتغلت القوى الطاردة من المجال المغنطيسي، ومن دائرة الحكم ومنظومته، وهو ما أسهم في تعميق الأزمات، وضاعف من المشكلات، وفرض مزيد التحديات، وهو ما دفع بعض النخب إلى التمحور حول ذاتها، بل وجدت في تقديس التراث، ومواجهة الحداثة ملاذها، ومالت هذه النخب إلى القدامة، والتشبث بمبدإ الاعتقاد، وعطلت مبدأ الانتقاد، وأيدت النقل والتقليد عن العقل والاجتهاد، وبقيت شرائح عريضة في دوامة الماضي، وهي تعيش في الحاضر برؤى وأحلام ماضوية، وما أقساه من انفصام.. وراحت تقرأ منجز الماضي والحاضر بفقه الماضي وآلياته وعدته، وسعت إلى تقديم حلول لمشكلات الحاضر بآليات الماضي، اعتماداً على قياس غير مطابق، وغير مبرر، على ما في ذلك من قصور، وترضى بذلك وتتخذه نموذجا، وتتبناه دون انتقاء، وتمحيص، وفهمت الزمن وسيرورته على أنه في سكون، واعتمدت مبدأ النقل، وعطلت مبدأ العقل، والإبداع، وإنتاج الأفكار، وبناء المعارف، ولو أخذت هذه الشريحة بالنقل والعقل معا، واهتدت إلى السير على نهج طريق الاتباع والإبداع معا؛ لكان الوضع أكثر انسجاماً، ولكانت المعادلة أكثر ملاءمة، ومواءمة، وكان المسار أنسب في تحقيق التوافق...
وفقدان توازن المعادلة هذا أنجر عنه خلل في البنية والوظيفة، مما عمق الشرخ في منظومة القيم، وولد المواجهة، واحتدام الصدام، وهو ما أجج الصراع والتمرد والنزاع والتطرف والإرهاب.
وفي خضم هذا التنازع والعصبية؛ نشطت العصب، وقوي التشرذم، وتحالفت اللوبيات، وكثرت التجاوزات، وتعمقت الخلافات، واستقوت فئات بالعمالة ووجدت عند جهات خارجية الدعم والسند، وتغولت طوائف بالولاءات، وفي خضم هذا التشرذم واجه معظم الذين حاولوا الدفاع عن تطلعات الشعوب إلى التقدم والرخاء في البلاد العربية تضييقا وتهميشا وإقصاء؛ بل وصل الأمر إلى التصفيات، والمتابعات، والتهجير، والنكران، عوض الاهتمام والعناية والإفادة مما قدموا من إنجازات؛ وإن كان مختلفا لأنه في الأصل يمثل شرائح تؤمن بذلك التوجه، وتتبنى ذلك الفهم، وترى فيه حلولا لما تواجه الأمة من معضلات، لكن قبول الآخر المختلف لا يكون إلا في الديمقراطية الحقة، التي بها تقوى الجبهة الداخلية، وتصان الوحدة، وتؤمن الدولة، وتحصن لمواجهة تحديات الراهن والمستقبل، وهذا ما يقتضي التأسيس لمصالحة شاملة مع الذات، وقبول المختلف وإغناء الذات بما فيها من تنوع، بدعم سبل التعايش، وفتح قنوات الحوار والاحتواء، وتعزيز قيم الحداثة بكل أبعادها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية السياسية على ضوابط منهجية، وتشريعات قانونية تحفظ للإنسان مقومات كرامته وحريته، في ظل قيم المواطنة الحقة، وإنا نرى قبول المختلف؛ يعزز التنوع، ويمكن للثراء الثقافي، ويقضي على الشعور بالإقصاء، ويمكن لثقافة التسامح، ويجسد فضائل التصالح مع الذات، ويعزز الوحدة الوطنية، ويجذر الانتماء القومي، وهذا هو سبيل إلى الحكامة والرشاد.
فقبول الآخر المختلف دليل على الوعي الحداثي، المتمثل لحقائق الواقع، والمتبصر بتحديات الراهن، وهو ما يؤسس لوعي ممكن، يفيد من كل منجز إنساني، ويراهن على بناء الإنسان، ويصون كرامته...
ولا يملك وعي الحداثة، ولا يساير حداثة الوعي إلا المثقف الأصيل، والسياسي النزية، والمفكر المؤمن بإسهامه الفاعل بتقديم البديل، والعامل على توفير شروط النهضة والتحرر، وتحقيق الإقلاع الحضاري النوعي، والمؤمن بجدوى العلم وموضوعيته وفوائده، وصدقية المنطق والفكر، والملتزم بمثل الفضيلة والعدل، والعامل على الارتقاء بإنسانية الإنسان ...

/نورالدين السد. الجزائر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى