مجدي جعفر - قراءة في مقالة (حين تغيب الحياة!) للدكتور علي زين العابدين الحسيني.

وتأتي مقالة ( حين تغيب الحياة! ) للدكتور علي زين العابدين في رثاء الأم، وقد عرف الشعر والنثر العربيين الرثاء، وقدم الشعراء والأدباء أروع القصائد والمقالات، ومازلت أذكر قصيدة ( غير مجد ) لأبي العلاء المعري، التي يرثي فيها صديقه، أحد أبرز علماء وفقهاء عصره، ويقول فيها :

(غير مُجدٍ في ملتي واعتقادي / نوح باك ولا ترنم شادي

وشبيه صوت النعي اذا قيس بصوت البشير في كل نادي

صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد

خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد

وقبيح بنا وإن قَدُم العهد هوان الآباء والأجداد

سر إن استطعت في الهواء رويداً لا اختيالا على رفات العباد

رُبّ لحد قد صار لحداً مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد

ودفين على بقايا دفين في طويل الأزمان والآباد

تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد

إنّ حزناً في ساعة الموت أضعاف سرور في ساعة الميلاد.

ومازلنا نحفظ قصيدة الإمام علي بن أبي طالب " النفس تبكي على الدنيا وقد علمت " :

النفس تبكي على الدنيا وقد علمت / إن السلامة فيها ترك ما فيها

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها / إلا التي كان قبل الموت بانيها

فإن بناها بخير طاب مسكنها / وإن بناها بشر خاب بانيها

أين الملوك التي كانت مسلطنة / حتى سقاها بكأس الموت ساقيها


أموالنا لذوي الميراث نجمعها / ودورنا لخراب الدهر نبنيها

كم من مدائن في الآفاق قد بنيت / أمست خراجا ودان الموت دانيها

لكل نفس وإن كانت على وجل / من المنية آمال تقويها

فالمرء يبسطها والدهر يقبضها / والنفس تنشرها والموت يطويها.

و من أشهر ما كتب في شعر الرثاء هو رثاء الخنساء لأخيها صخر.

تقول الخنساء:

يؤرقُني التّذكرُ حيَن أُمْسي فأصبحُ قد بليتُ بفَرْط نُكْسِ

على صَخرٍ، وأي فتى كصخرٍ ليَومِ كريهَةٍ وطعان حلس

فلم أر مثله رزءاً لجنًّ ولم أرَ مثلَهُ رزءاً لإنس

أشدَّ على صروفِ الدهرِ أبداً وأفضل في الخطوبِ بغير لَبْسِ

وضيفٍ طارق أو مستجيرٍ يروَّع قلبهُ من كل جرسِ

يذكرني طلوعُ الشمسِ صخراً وأذكُرهُ لكلِ غروبِ شمسِ

ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي.

واعتبر النقاد أن الرثاء من أهم أغراض الشعر العربي القديم والحديث مرورا بكل العصور، وقد ترك لنا الشعراء والأدباء تراثا ضخما من شعر ونثر الرثاء يفوق الحصر، ومن أروع المقالات التي قرأتها نثرا في الرثاء، مقالة الكاتب الكبير إبراهيم عبدالقادر المازني التي يرثي فيها طفلته، ولم يقتصر شعر الرثاء على ذكر مناقب ومآثر الميت سواء كان أبا أو أخا أو زوجا أو أما أو صديقا او .. أو .. أو .. ولكنه امتد ليشمل رثاء قيمة أخلاقية أو إنسانية اندثرت أو آخذة في الاندثار، وامتد ليرثي كل من أثرى الإنسانية جمعاء، سواء كان زعيما أو قائدا أو عالما أو مفكرا، أو مصلحا أخلاقيا أو دينيا أو ثائرا سياسيا، ويرثي الأوطان التي انتهكت وبادت، وما أكثر شعر الرثاء الذي قيل في الأندلس، والبكاء عليها، وما قيل وما يُقال حتى اليوم في فلسطين الصامدة الأبية، والتي لم تزل عصية على الانكسار رغم تخاذل العالم أجمع.

وتستمد مقالة ( حين تغيب الحياة! ) في رثاء الأم للدكتور علي زين العابدين الحسيني أهميتها، من أنه قدم لنا من خللها النموذج الأمثل والأرقى والأكبر للأم، الأم التي تصنع الحياة، وبغيابها تغيب الحياة!.

(الأمّ هي الحياة مع الحياة.

ما أقسى الحياة حين تغيب الحياة! )

وكان الكاتب موفقا غاية التوفيق في اختيار هذا العنوان الذي يثير مخيلة القارئ قبل أن يشرع في القراءة، فغياب الحياة يعني توقف الحركة وتوقف الزمن، فهو كان يتمنى لأمه :

( ليت الأم: لا تحزن، ولا تشيب، ولا تمرض، ولا تموت، وآه من الأخيرة .. )

وتثير المقالة لدي القارئ استدعاء الأسئلة الفلسفية الكبرى، والبحث في قضايا الوجود والعدم، ومأساة الكاتب أن أمه ماتت وهو في الغربة، وهذا ما ضاعف من أحزانه، واسودت الدنيا في وجهه، ويصف لنا حاله :

(لم يمرّ عليّ يوم أنكى لفؤادي وأهم لنفسي من يوم وفاة والدتي وأنا بعيدٌ عنها في غربةٍ قاسية حول أناسٍ لا يعرفون للصحبة حقوقها! )

(وإنّ عيشَ لحظة وفاتها وأنتَ في بُعدٍ عنها لآلم للنفس، وأوجع للقلب، وأدعى إلى الحسرة من عيشها وأنتَ بجوارها.

أظلمت في عينيّ الحياة حسرة، وملأ قلبي الوله فكرة!

إنّ الأحزان ممتدة.

عندي الهم وليس عندي الأمل! )

(وماتت الأم؛ فزارتني الأحزان والآلام! إنّ لموتها غصة في قلبي لا تساغ! )

(حقاً لقد رمى فراقكِ صدري بسهامٍ لا تداوى جراحها.

لقد فقدنا بفقدكِ الحياة كلّها، فأظلمت نفوسنا، وتبدلت أحوالنا، وكفت عقولنا عن التفكير، تملكنا الأسى، وتجاذبتنا الهواجس.)




وهو الذي كان قبل موتها :

(لم أكن من قبل أعرف للحزن حسرة، وأحسب للفراق حساباً!

وأسقم الهمّ أجسادنا يا أمي! )

وآثار غيابها على الأسرة كلها :

(صعدت النفحات للأفق، غاب عنا الخير، واختفى المدد، تغيرت معنى الليالي، وتبدلت شكل الأيام. )

وبغيابها أيضا :

(تقلّ البركة، وينعدم العطاء، وينقطع الدعاء، ويتلاشى الحب الصافي، وتتبلد المشاعر والأحاسيس، ويزداد البعد، وتنطفئ مصابيح النور، وتقل الروابط الأسرية، وينعزل الإخوة، ويندر الاجتماع، وينفرد الجميع بخصوصيته. )

وحال الأب بعد موتها :

(وأدهى من ذلك تأثر والدك وتغير أحواله، فلا تدري أتبكي على حاله أم تعزي نفسك؟ إذا ماتت من تجتمع القلوب والأبدان حولها، فأيّ مصاب وهم يصيبك حين يقع هذا الأمر الجلل، وإن كأس الهم يصيبك منذ وفاتها. وأي هم مثل هم من ماتت أمه؟ )

ويذكر لنا من مناقبها ومآثرها وأفضالها وهي الشريفة والحسيبة والنسيبة :

(لقد كانت القوة المتجددة التي تشعّ في نفوسنا كلّ معالم الإصلاح والسمو الأخلاقي. )

ومن غرسها التربوي الطيب :

( تنصح برفقٍ، وتعلم بتواضع، وتتكلم في وقار، وتنصت بحبٍ، وتكرم بسخاءٍ، وتشارك بعطاءٍ. )

ومن طرائق تربيتها له :

( لقد أورثتني النفور من عمل البطالين، والعكوف على منهج الأجداد خلقاً وعلماً.

إنّها والله قد جعلت الصالحين هم القدوة في النفس. )

وعن حركتها في محيطها الاجتماعي :

(لم تقع عيني على فضيلة قيلت في الأمهات إلا وهي متحققة فيها، ولا تظنّ فيما قلتُ مبالغة في الحديث، فكلّ من رآها يؤكد أنّها ليس لها مثيل في نساء جيلها.

لَشدّ ما لهجت ألسن نساء الحي باسمك وأخلاقك! ولطالما تحدث الناس عن نسبك الشريف ومنهجك المتوارث، وعن أسرتك وكرمهم وصلاحهم! )

(ليس لإقبال الصغير والكبير على الحديث معها والأخذ بنصائحها من سرٍ إلا صدق الإقبال على الله. )

وهي لا تغيب عنه أبدا، فهي الحاضرة دوما رغم غيابها، ويبشرها بما كانت تنتظره وتتمناه في حياتها :

(كم كنتِ تتمنين أن تحملي ولدي بين يديك، لم يقدر الله لي ولك ذلك، لكن أتت المنحة الربانية بعد مماتك بسنوات، فتفضل المولى الكريم عليّ بولدي السيد "محمد زين العابدين" هو بضعة منك، وبركة من بركاتك! )

ومن آثار غرسها الجميل، وتربيتها الدينية المثالية لولدها :

(لا تمرّ لحظة أو مرحلة من مراحل عمري دون أن أمعن نظري في آثار فضلها عليّ، فأُحدّث حينئذٍ روحك الكريمة بكلّ تجلة، وأبعث لها تحياتي المصحوبة بكلّ اعتراف وإقرار لها بالمعروف والإحسان، وأعدها وعد من لا يخلف بأنني مدين لها بكل جميل، وها أنا ذا حريصٌ على تقديم كلّ عمل صالح أعمله؛ قربة لها وصدقة عليها )

وينتقد كل عاق :

(ويلٌ للعاقين المحرومين من جنة الدنيا! ويا ليت مَن يدري هذا!

لو بلوت سرائرهم لعلمت أنّهم يعيشون بلا قلوب )

استطاع الكاتب أن يقدم لنا الصورة المُثلى للأم، والنموذج الخليق بأن تقتدي به كل أم شابة في هذا الزمن النكد الضنين، الأم التي تصنع الرجال والحياة والوطن، رحم الله هذه السيدة الفُضلى التي قدمت لنا أروع الأمثلة العملية في التربية، تلك الأم الربانية والعارفة والقريبة من الله ورسوله الكريم، وكان من غرسها الجميل، وثمارها الطيب، هذا الابن البار، المُحب لوالديه وأهله ووطنه وأمته، والذي أثرى ولم يزل يثري حياتنا الثقافية والأدبية والفكرية، وإذا كان قد نشر هذه المقالة في رثاء أمه بإحدى المجلات فإنه نشر مقالة أخرى عن الأب وهي الأخرى تقطر رقة وعذوبة وبرا بالأب، ونرجو أن ننثر حولها لاحقا بعض قطرات الضوء، فما أحوجنا إلى مثل هذه المقالات في هذه الأيام التي اختلت فيها منظومة القيم، فخالص شكري وامتناني للدكتور علي زين العابدين الحسيني الذي يلبي بمقالاته حاجة اجتماعية وأخلاقية ونفسية وتربوية وتعليمية، زادك الله يا سيدي علما ورفعة.

........................................................


كتابة أولى .. العاشر من رمضان

18 / 3 / 2024م.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى