مولاي الحسن بنسيدي علي - قراءة عاشقة.. في قصيدة “يا غربتي” للشاعر الأستاذ عبد الله فراجي

فتحت عيني على حاسوبي فإذا بها تظهر وكأنها جوهرة ملفوفة في قطعة من حرير لقيمتها، فشدت انتباهي وأنا أنظر إليها لأول مرة، وكلما فككت خيط حريرها زاد بريقها، وقديما قيل: لا يكون اللمعان الا في الجواهر ،، فكنت أتمهل في حلِّها عقدة عقدة، حتى استكملت حلقاتها وشرعت أقلبها منبهرا في ترتيب صدر البيت وعجزه ركبت بحرها الشعري البسيط أمخر عباب موج التفعيلة” مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن” وكلما جدفت ماءه رجوت أن تطول الرحلة بي ولا يرسو مركبي فوق يابس حتى أبلغ إمتاعي الفكري والروحي
استوقفني عنوانها وأمعنت النظر فيه، فوجدته يشكل قصيدة شعرية بمفرده، يختزل المسافات التي نراه بعيدة، فيقربها إلينا، وقد يشط الشاعر في عالم عشناه وعايشنا أحداثه بأتراحه وأفراحه، فنراه مرة ينذر ويحذر كما يبن ذلك البيت الثاني المفعم بالحيرة والسؤال :
الفلك في حلكة الأنواء تعصمنا
وكيف تعصمنا والبحر ينتقم
وأحيانا أخرى يعظ وينبه، كما في قوله في البيت الثامن :
لوهبت الريح في غلواءها وغوت
على الغصون ، لرقت فوقها القمم
فترهب نفسنا وتتأثر، فتئن أنين الخائف ، ثم يذكرنا بضعفنا كما في قوله البيت 12
حتى إذا خرف العمر الطويل بنا
ما راق شرب ولا الأوتار والنغم
وتأتي كلمة غربة مشبعة بالسؤال، أهي المكان أم غربة الزمان أم غربة الروح عن الجسد، أم غربة عن الأهل وعن من نحب؟ وتتسع دائرة السؤال، فيأتي الجواب موسوما بكثير من الآه والأنين، فيقول الشاعر في البيت الأول:
يا غربتي أجنون شابه الندم ؟
والصدق تغتاله الأحقاد والضيم
قد تظهر للقارئ أن الألفاظ سهلة، ولكن حين يبغي النسج على منوالها أو محاكاة القصيدة، يجدها سهلا ممتنعا، وتفكيك بنيتها الشعرية ليس بالأمر الهين، ذلك أنه يستوجب تمرسا وخبرة شعرية.
يختار الشاعر ألفاظه بدقة متناهية، سواء دلت على القسوة والشدة في الخطاب أم في تلينها حتى تنفذ إلى ذات المتلقي.
وفي التقارب التناصي يقترب من شاعر كان تمرده إقصاء، وكان اغترابه نفيا، مع الشاعر أحمد مطر، إذ يقول :
أحرقـي في غُربتي سفـني
ألاَ أنّـني أقصيتُ عنْ أهلي وعن وطني
وجَرعتُ كأسَ الذُّلِّ والمِحَـنِ
وتناهبَـتْ قلـبي الشجـونُ
فذُبتُ من شجَـني
ا لا نني أبحَـرتُ رغـمَ الرّيـحِ
أبحثُ في ديارِ السّحـرِ عن زَمَـني
وأردُّ نارَ القهْـرِ عَـنْ زهـري
وعَـنْ فَـنَني
عطّلتِ أحلامـي
وأحرقتِ اللقـاءَ بموقِـدِ المِنَنِ ؟ا!
ما ساءني أن أقطَـعَ ا لفلَوَا ت
مَحمولاً على كَفَني
مستوحِشـاً في حومَـةِ الإمـلاقِ والشّجَنِ
ما ساءنـي لثْمُ الرّدى ويسوؤني
أنْ أشتري شَهْـدَ الحيـاةِ بعلْقـمِ التّسليمِ للوثنِ
والشاعر يستهل قصيدته بالاستفهام، كما في الصدر الأول، ولا يترك السؤال معلقا، بل يتبعه بجواب يسم فيه انطباعه، كما سبق الإشارة إليه أعلاه .
ويستمر السؤال الذي يشغله، وكأن رده الأول لم يشف غليله، فيضع استفهاما آخر كما في البيت الثاني
وتأتي أجوبة هذه الأسئلة محملة بالتمني، فيقول في صدر البيت الخامس: يا ليتني ما حكيت السر في علن
يا ليتني ما قصدت الشوك اعتصم
ويقترب الشاعر في قصيدته يا غربتي مع نشيد تحت عنوان
ناشدتها يا غربتي للمنشدين : أبوعبد الملك ءأبوعلي
للشاعر عبد الله سرحان الدوسري، ومطلعه:
ناشدتها يا غربتي
أو هكذا يجني الزمن
زمن تخطفني فلم
يترك سوى قلبي الشجن
يا غربة التفكير في
زمن تحطمه الفتن
الحق مر قوله
ما أعذب العقبى
و إن العلم يشكو أهله
و خصومه تشكو الوهن
دفنوا البصيرة و المهابة
و المعزة في كفن
علم الشريعة نورنا
لو كان يدركه الفطن
إن قلت هذا منهجي
رباه أصلح شأننا و شباب أمتنا معا .
وفي هذا التناص يتقاطع الشاعرين في النصين مع ألم وحرقة ومرارة الغربة باعتبارها صراع الذات مع مكون القلق لها، فذات الشاعر مسكونة بأسئلة حبلى تنزف أحيانا حد المخاض كما في البيت
هان الذي يغزل الأوهام في كمد
أحلام صبح سرى في ليلها الألم
وقصيدة يا غربتي تكتسي طابع القصيدة التقليدية التي تعتمد على نظام الشطرين المتقابلين المتساويين، في عدد التفعيلات ، وان بدا شكلها على
نظام السطر الشعري
وهي قصيدة منظومة على بحر البسط (مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن ) (مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن)
يا غربتي ، أجنون شابه الندم
والصدق تغتاله الأحقاد والضيم
مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن ×2
ويرى الناقد الدكتور نورالدين أعراب الطريسي، ـ وأنا أعرض عليه هذه الدراسة العاشقة في إطار المجلس الأدبي الذي أعقده ببيتي ويحضره ثلة من الأدباء والشعراء ونتقاسم فيه متعة القراءة والشعر ومستجدات الإصدارات الأدبية عموما ـ” أن البيت الشعري أعلاه ورد به زحاف الخبن في تفعيلة ( فاعلن ) أي حذف الثاني الساكن الذي لم أنتبه إليه في تقسيمي للتفعيلة” ، وتتميز القصيدة التقليدية أو العمودية ، كما هو معروف بوحدة الوزن والقافية ، والروي الذي هو حرف الميم المتحرك بحركة الضمة والملاحظ أن الشاعر ينوع من أساليب القصيدة وفي مقدمتها الأساليب الإنشائية، التي تقوم بوظيفة نقل الانفعالات الداخلية، وللتعبير
عن المشاعر النفسية الباطنية ، فوظف النداء ( يا غربتي ) والتمني ( يا ليتني ـ لو هبت الريح ) والاستفهام ( أجنون شابه الندم ؟ ) إضافة إلى أسلوب الشرط ( إذا كلت الأحقاد ـإذا دهاك ـ وإن في قلبك الحمم)
أما بالنسبة للتصوير الشعري نجد الاستعارة ( البحر ينتقم ـ يشتكي جبل ـ كلت الأحقاد جاهدة ـ جل الهوى ـ سما الكلم ـ أجهضت النقم ـ خرف العمر ) ثم المجاز المرسل ( تهفو النفوس ) يقول الدكتور نورالدين أعراب الطريسي في (تهفو النفوس ) وعلاقته الجزئية لأنه أطلق النفوس وأراد بها أصحابها.
وفي الختام أقول: أنني لم استكمل حل جميع حلقات القصيدة الرائعة والمتميزة، آملا أن يتولاها المهتمون بالدراسة النقدية ليقف الباحث والدارس على عمقها وبعدها الشعري والأدبي، ويبقى ما سطره قلمي عبارة عن قراءة عاشقة، إن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن
نفسي
وخير ما أختتم به : هذه الأبيات الشعرية للشاعر والأديب محمد المختار السوسي:
ما الشعر موزون بقافية له
معنى بأسماع الجليس سديد
لا كنما الشعر الذي إن جال في
الأسماع يذهب بالفتى ويعود
ويرن أثناء الضمير برنة
نغماتها يحيى بها الموءود
فيثير مكنون الضمير كأنه
وحي من أكناف السماء جديد
ويبث روحا في الشعوب فتنثني
عاد إلى عليائها وثمود.

إن قصيدة يا غربتي للشاعر الكبير الأستاذ عبد الله فراجي، تحتاج إلى تحليل نقدي دقيق لدلالتها العميقة، وجمال بيانها وروعة بنائها الشعري من النقاد المختصين.
ولا أدعي أنني قد أحطت بجميع جوانبها، وأنها دراسة نقدية محضة وإنما هي مجرد قراءة عاشقة ليس إلا وعربون محبة لشاعر نسعد بالجلوس إليه والارتشاف من معين أدبه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى