د. وائل أحمد خليل الكردي - فن القراءة البوهيمية

كلمة أولى عن القراءة:
اقتطعت الجزئين الأخيرين من راوية (انا كارينين) لمؤلفها ليون تولستوي –أو بالأحرى هما ما عثرت عليه منها- ودون سابق اطلاع لي على الرواية كاملة أو حتى على بعض منها أو على ما كتبه عنها النقاد والمحللون، فوجدت أنني لم أفقد المعنى ومتعة الذوق والفهم العقلي والتفاعل الوجداني مع المغذى في هذين الجزئين.. فلعها إذاً كانت نوع من القراءة اسميته (فن القراءة البوهيمية).. فماذا تكون البوهيمية، وماذا تكون القراءة البوهيمية؟..

وقبل كل شيء، ماذا تكون القراءة؟.. هناك من يطرق في داخل رأسه وسواس كأنه الجرس يقول له (اقرأ .. اقرأ)، فيهم بالقراءة ولكنه سرعان ما يفقد العزم في الاستمرار. علينا، إذاً، ان نعي امرين مهمين:

يجب أن يكون هناك حالة تفاعل بين القارئ وموضوع القراءة
اولاً.. القراءة هي حالة تفاعل بين القارئ وموضوع القراءة، وحالة التفاعل هذه تأخذ صورا وجدانية وعقلية متعددة تماثل مواقف الحياة العادية التي يعانيها الانسان بفعل ورد فعل، وكل واحدة من هذه الصور كفيلة بإغراق القارئ فيما يقرأ، فالمهم اذن ان يختار القارئ ما يتفاعل معه من موضوع قراءة، فلا جدوى لقراءة من اجل القراءة فقط.

الفائدة المرجوة من القراءة:
ثانياً.. ان الفائدة المتحصلة من القراءة لا تقاس بكم الصفحات وكم الاوقات وكم الكتب، وانما تقاس بدرجة التفاعل مع المقروء، فدقيقة قراءة واحدة تشعر القارئ بحزن او فرح او فكرة تلتصق بالعقل وتجدي أكثر بكثير من ساعات يلتهم فيها الانسان كتابا كاملا فقط من أجل إسكات ذلك الجرس الذي يدق في رأسه بطلب القراءة، فالعبرة اذن بلحظة تفاعل وانفعال وليس بتمرير البصر على الاسطر والكلمات.

وهكذا كنت أقول لطلابي دائماً، لا تجعلوا الكتاب يتحدث إليكم من طرف واحد، طرفه هو فقط، وإنما عليكم أن تحدثوا الكتاب جدالاً متجدداً بأخذ ورد.. عليكم أن تردوا على الكتاب حينما يسألكم وأن تسألوه عندما ينتظر منكم السؤال فيجيب.. فالموفق في القراءة حقاً من يصير الكتاب لديه كما الإنسان له عقل وله وجدان وله منطق وانفعال، ولكن بغير صوت.

من أين جاءت كلمة بوهيمية؟:
أما صلة ذلك بالبوهيمية، فإن مصدر الصفة (بوهيمي) التابعة للاسم (بوهيميا)، صفة للمنتمي إلى قبائل الغجر الفقراء المهاجرين الذين جاءوا من رومانيا واستوطنوا منطقة بوهيميا التشيكية الواقعة في أواسط أوروبا، ولأنهم غجر فقد كان سلوك افرادهم وطريقة حياتهم الاجتماعية مخالفة للأعراف والاخلاقيات التي انتظمت عليها الحياة في المجتمعات الأوروبية التقليدية وربما كانت منافية لها، ولهذا اشار النقاد الاجتماعيين إليهم بأنهم ذوي سلوكيات منفلتة عن العقال ومعتقدات تحررية وغير مقيدين بقوانين وقواعد وآداب من تلك التي تعارفت عليها الشعوب المستقرة.

وكان أن تحولت الصفة الاجتماعية لغجر بوهيميا إلى أسلوب في الفن والأدب لتأخذ دلالة اصطلاحية في يومنا هذا بأن إلى الكاتب أو الفنان الذي ينفصل بوعي إرادي أو بغير وعي إرادي عن العرف والتقليد في الحياة وينفك نوعاً ما عن القواعد الصارمة في الإنتاج الفني والأدبي بحثاً عن التفرد حيث يعتقد البوهيميون أن للإنسان قوة حياة وأن على الأفراد المبدعين استخدام هذه القوة ليصبحوا فريدين أحرارا وهذه قد تعد محاولة لاستكشاف روحاً دينية على نحو أو آخر.

وبغض النظر عن السمعة غير الحميدة التي التصقت عموما بالبوهيمية، وبخلاف المضمون البوهيمي الي تبنته اعمال لويجي دالاكيار وفيكتور هوجو وغيرهم، فإنه من الممكن استلاف الدلالة الاصطلاحية لهذا المسمى لكي تستعمل بصورة منهجية تقنية وليس صورة مذهبية أو اعتقادية؛ وهي هنا تحرير وفك العقال عن الطريقة التقليدية في القراءة لنصوص الأدب السردي على وجه الخصوص والشعر، حتى تصير قراءة إبداعية في استكشاف الدلالات التفاعلية للنصوص ولا تعود صفة الإبداعية قاصرة على تأليف الأعمال الأدبية السردية والشعرية وإنما تنسحب ايضاً على القراءة التذوقية بالمثل.

فن القراءة البوهيمية:
ففن القراءة البوهيمية، ليس هو رفضاً للقواعد في تأليف الآداب وإنما هو تخصيص لهذه القواعد وتنزيل لها على مستوى بعض من النص وليس كل النص. فهو، إذاً، تحرير للقوالب النصية عن إطارها الكلي في القراءة والتعامل معها على نحو قائم بذاتها؛ كأن يتم تخصيص فصول أو مقاطع أو فقرات بعينها بالقراءة على نحو مستقل عن السياق الكامل للرواية أو علاقتها بالفصول والمقاطع والفقرات الأخرى فيتحول النص المخصوص بالاجتزاء إلى نص كامل إلى حد ما.

ويكون هذا على نقيض شرطي (الوحدة السياقية) و(الوحدة الموضوعية) اللازمين في تقييم الأعمال ونقدها والحكم عليها. إذاً، فالقراءة البوهيمية ليست مضموناً يمكن أن يوصف بأي صفات أخلاقية أو سلوكية وإنما هي محض منهج أو طريقة تجريدية في القراءة، يدل على ذلك أنه حتى الأعمال الروائية والشعرية الكلاسيكية المقيدة بقواعد وشروط البناء السردي في الرواية وقواعد الوزن والقافية في الشعر يمكن أن تخضع لهذه الطريقة في القراءة دون أن تضطر للتنازل عن هذه الشروط والقواعد.

عناصر القراءة البوهيمية:
العنصر الأول (الوحدات النصية متماسكة بمقدمتها المنطقية الخاصة):
لكل عمل سردي أو درامي (مقدمة منطقية) –على نحو ما أورد في كتابه (فن كتابة المسرحية)- هي عبارة عن الفكرة الأساسية للرواية أو الغرض الذي تهدف إليه، ويجب أن تشتمل على عناصر الصراع اللازمة وعوامل الحركة النابضة. ويكون الأمر مع نوع القراءة البوهيمية أن تتحول المقدمة المنطقية للعمل الروائي بمجمله إلى عدة مقدمات منطقية تتشكل بحسب الوحدات المعزولة عن الكل والمقصودة لذاتها، فلابد لهذه الوحدات أن تكون متماسكة بذاتها ومصممة على نحو يتيح لها أن تؤخذ مستقلة بكونها تحمل في طيها عقدتها وشخصيتها وحلولها ونمطها الخاص للصراع.

العنصر الثاني (الوحدات النصية مشحونة بالمواقف والمطالعات):
قد تبين أن القراءة البوهيمية قائمة على الاجتزاء النصي. فبالتالي هي نوع من (القراءة الدرامية) أو يمكن تسميتها (دراما القراءة) أو (الفن الدرامي للقراءة)؛ وهي دراما متعلقة بفعل وسلوك القراءة نفسه ومجرياته على النصوص السردية. وعلى هذا الأساس فليس كل السرد مما يصلح لهذه الخاصية في القراءة البوهيمية بل لابد أن يكون النص المستقطع والمعني بالتخصيص مشحون بالمواقف الحرة المستقلة -أي غير المتسلسلة عبر سياق الرواية بكاملها أولاً وآخراً- وأن يكون مشحوناً أيضاً بالمطالعات والاقتباسات لحكم فلسفية أو مقولات أدبية أو استدلالات منطقية، وهو ما يعني أن يكون هذا النص المخصوص محملاً بثقافة عامة.

مقالات متعلقة بالموضوع
جدلٌ بين أنصار الكتب وعشّاق الرّوايات
بقلم: عدي النابلسي هناك جدلٌ شائعٌ ومستمرٌّ حول قراءة الكتب والرّوايات، أو ّلنَقُل بين "أنصار…

في المكتبات جهلُ كتب قليلةُ الأوراق وحلوة العنوان
بقلم: المُكنَّز حامد محمد رفوف الكتب على الحائط لأثمن من حائط من ذهب حيثُ قديماً…

العنصر الثالث (الوحدات النصية محملة بحزم من القيم والعبر):
فما يؤدي إليه تحميل النص المخصوص بثقافة عامة أن يكون معبراً عن منظومة قيم أو حالة صراع درامي بين مستويات ونظم قيمية متفاوتة أو متعارضة وهو ما يصنع عنصري المأساة أو الكوميديا للنص. فهذا الأمر هو ما يثير لدى القائم بالقراءة البوهيمية حالة من التذوق الماتع والتفاعل المتفرد مع حزمة القيم الأخلاقية والعبر الإنسانية والمعاني التاريخية في النص المخصوص.

العنصر الرابع (الوحدات النصية قفزات أو طفرات):
مما تقع عليه القراءة البوهيمية ومذاق متعتها هو جعل النص المخصوص ليس عبارة عن ترتيب أحداث على بعضها ووحدات نصية على بعضها وإنما أن يتضمن بذاته قفزة أو طفرة في مجمل السياق العام، وهذا يكون إما بالتزاوج بين مواقف متشابهة من الماضي مع الحاضر (على منطق أن التاريخ يعيد نفسه ولكن بثوب جديد في كل مرة)، أو بنقل حالتي الصراع والحوار إلى مستوى أو مقام إيقاعي مغاير عن الأصل العام في بنية النص الخصوص.

العنصر الخامس (الوحدات النصية قائلة لنا (فما المكتوب سوى الكاتب)):
قد يبدو لأول وهلة أن القراءة البوهيمية تميت المؤلف، وتعلن استقلال المكتوب عن الكاتب بصورة تامة؛ ولكن العكس يبدو هو الصحيح، فإن من أسباب الابداع الشيق للقراءة البوهيمية على النصوص المخصوصة هو حضور المؤلف أو الكاتب في كل لحظات النص. فالمؤلف يظهر بوجدانه وخبراته التي لا ينفك عنها عبر كل وحدة أو فقرة، إن هي كلها إلا ردات فعل الكاتب فليس المكتوب سوى الكاتب نفسه.

ولكن أيضا، وفي نفس الوقت، وبرغم وجود المؤلف حاضراً في النص يكون لدى القارئ على الطريقة البوهيمية قدر من الحرية في الاستنباط من باطن النص لما لم يقصده الكاتب؛ فليس الحكم هنا على هدف واتجاه العمل السردي قاصراً على المقدمة المنطقية التي أرادها المؤلف فيه على نحو نهائي، وإنما إدراك القارئ للمقدمة المنطقية للمؤلف يمكن أن تحقق لدى هذا القارئ بحسب ذائقته استشعاراً وحدساً لأن يولد من سطور النص المخصوص بالاجتزاء مقدمة منطقية جديدة يستنبطها هو.

فائدة القراءة البوهيمية (تحقيق مستويات النقد):
مستوى الوضوح:
يمكن القول أن فائدة القراءة البوهيمية أنها تحقق النقد في التذوق الجمالي على مستوياتهم الثلاث؛ فالمستوى الأول هو (مستوى الوضوح)، وهو محض الوصف التفصيلي للأحداث الواقعية في مشهد كامل، وهو يتبع صفة (الفن محاكاة وتقليد) لدى (أرسطوطاليس) Aristotle حيث لا يدع المؤلف للقارئ ما يضيفه من خياله بل يصبح رهناً بالكلية لإرادة الكاتب وتصوراته ولا يملك من أمر نفسه شيئاً أمام العمل الأدبي إلا أن يتلقاه كما هو ثم يتطهر به ويسمو، وهذا هو إبداع (شكسبير) Shakespeare.

مستوى الغموض:
والمستوى الثاني هو (مستوى الغموض) وهو المستوى الذي تكون فيه القصة مكتملة المشاهد والعناصر ولكنها مع ذلك تفتح لدى القارئ فرصة للتأويل ومخالفة الكاتب برسم صور خيالية مغايرة، حيث يرسم المؤلف صور وسياقات غير واضحة وغير وصفية مباشرة ليتحرك فيها ذوق المتلقي بحرية إبداعية موازية للمؤلف، وهو إبداع (بريشت) B. Brecht.

مستوى الحذف:
أما المستوى الأخير والعالي فهو (مستوى الحذف) وبتعبير آخر (مستوى اللبنات المفقودة)؛ وهي نموذج السرديات الروائية ذات الطابع الوجودي Existential فالأمر هنا ليس متعلقاً بعناصر واضحة أو غامضة، وإنما هو متعلق بعناصر أو مشاهد محذوفة ومتروكة بالكلية لخيال المتلقي. ورغم ذلك فإن هذه العناصر المحذوفة لا تسمح بتفكيك النص الروائي، وإنما هي فراغات تخيلية تكون بمثابة اللبنات المفقودة في البناء الجداري عن قصد. فهي لا تسمح بانهيار الجدار ولكن تسمح بامتداد أفق الخيال في استدعاء المحذوف أو المفقود على صور وأشكال ومشاهد متعددة ولكنها كلها ملائمة لأن توضع موضع تلك اللبنات المفقودة فيشارك الناقد المتذوق المؤلف جمالية العمل في بناؤه الكلي أو يتفوق عليه.

وهذه العناصر المحذوفة تدل عليها عناصر أخرى قائمة في النص الروائي وهي عبارة عن مقولات أو فقرات يمكن اجتزائها منه وتقبل بمفردها تعدد تأويلات وتصورات القارئ حولها، ويمكن لهذه المقولات أن تكمن في مكان (العقدة) من النص أو في مكان (الشخصية) أو في مكان (الحل)، فعندما نجتزئ مثلاً فقرة نصية من عمل سردي أو درامي ما نجد أن رابطة الفقرة بالحدث القائم حولها في القصة هي على الأغلب رابطة رمزية تسمح بحذف لبنات هذا الحدث ثم إعادة رسمها بمشاهد جديدة لدى المتلقين.

وهنا حيث تكون الثقة الإبداعية لدى الكاتب في أن تلك اللبنات المفقودة هي المحفز الأكبر لجماليات الخيال لدى القارئ، وبالتالي هي المانح للقيمة العليا لجمالية الرواية الأدبية في عمومها. والجمالية هنا هي جمالية التأليف والنقد على السواء. وعلى هذا يمكننا القول بأن القيمة الحقيقية للعمل الأدبي لا تتمثل في استقاء معلومات جديدة أو افهام جديدة لدى المتلقي وإنما تتمثل في بعث وتوليد ما هو مدرك ومفهوم بالفعل ولكن على هيئات وصور جديدة في كل مرة مما يستدعي في القلب انفعالات ممتعة ويستنفر في الجوارح حاسة الذوق الراقي.

ولنا في تباين جدلية الخير والشر في صورة (فاوست) لدى مارلو وصورته لدى جوته مثلاً محققاً. عند هذا الحد لا يموت المؤلف، ولا يغترب القارئ. ولكن يبقى الكل هناك. ولتظهر أيضا فائدة القراءة البوهيمية على نص تولستوي (آنا كارينين) – كمثال- أن الرواية تستمر بعد موت البطلة في الجزء السابع منها لتكون المقدمة المنطقية للرواية حتى هذا الجزء (أن العشق الإنساني بغير الإيمان العميق بالله يعرض الإنسان للسقوط المأساوي، ثم الهلاك)، ولكي تتحول المقدمة المنطقية في الجزء الثامن والأخير لتكون (تجسيداً ورسماً لفكرة الخلاص الروحاني، ليس بالانتحار أو إعدام الجسد، وإنما بالنزوع نحو الطمأنينة السلبية (الأتراسيا – النيرفانا)).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى