ادمون صبري - سَارِق الكِلاب ــ قِصَّة قَصِيرَة ــ

لم يكن حسن مولعاً بتربية الكلاب ، ولم يكن يحلم أن يأوي ذات يوم كلباً في بيته ، غير أنه صادف في إحدى تجولاته في أرجاء المدينة كلباً صغيراً ، قصير الأقدام ، أبيض الشعر ، ناعم العينين تطوق عنقه جلدة رثة مذهبة بمسامير من النحاس .

كان هذا الكلب البائس المرتجف من الخوف قد وقع في قبضة صبي زقاقي حاف ، أرمد العينين ، غولي الخلقة ، راح يجره بحبل رفيع ، ويركله بقدمه فيجري وراءه الكلب المحتمل عذاب الهوان والقسوة في ثقل واعياء .

كان حسن عاطلاً ليس منذ أسبوع ولا منذ شهر ، وإنما منذ ستة أشهر ، وهو التاريخ الذي أنجز فيه بناء مدرسة الهندسة حيث كان حاسباً لمواد البناء .

كان يقرأ في بعض الأحيان جرائد مجانية تقع بين يديه في المقهى فيستخلص من سطورها أخبار الجرائم والأحداث البارزة في البلد ، وكان قد رأى صورة ذلك الكلب منشورة في صحف الصباح ، وقد دهش حسن لاهتمام الناس بأمر كلب من الكلاب ، وهو حيوان مرذول تقتل منه الحكومة المئات كل سنة ومئات أخرى يقتلها الجوع والجرب ، ودهش أكثر من هذا أن تكون للكلب صورة كما تكون للآدميين ، فالآدميون ملزمون بتقديم تصاويرهم للصقها على جوازات سفرهم وشهادات عدم محكوميتهم وسواها ، فهل يمكن أن تكون للكلب حاجة من تلك الحاجات .

كان الإعلان قد نشر بهذا الشكل ــ فقدان كلب ــ
يرجى ممن يعثر على كلب أبيض صغير من نوع سبلث الموجودة صورته أعلاه والمفقود في شارع أبي نؤاس ، دار رقم كذا ، أن يعيده إلى صاحبه ، وله مكافأة قدرها خمسة دنانير .

إذن عثر حسن على الكلب المفقود وهي فرصة طيبة تدر عليه بعض الربح للتخفيف عن عسر حاله وخواء جيوبه .
كان معه أربعون فلساً فقط ، كانت في الصباح الباكر درهماً فضياً استحال بين يدي القهواتي إلى أربع عشرات ، إثنتان حمراوان وإثنتان بيضاوان ، تقدم نحو الصبي مصطنعاً الشدة والحزم :
ــ ايه أنت أيها السارق ، من أين لك هذا الكلب ؟
فتبجح الصبي في غير مبالاة :
ــ إنه كلبي ، ما شأنك أنت ؟
ــ ليس كلبك أيها السارق ، إنه كلب الناس ، كلبنا نحن .
خطف حسن الحبل من يدي الصبي ، ولوح له بيده مهدداً بلطمة موجعة فأذعن الصبي بعض الشيء وقال :
ــ إن كان هذا صحيحاً فيجدر بك أن تعطيني أربعين فلساً فقد اشتريته بعشرين ، وأطعمته رغيفين من الخبز ، إنني لا أبالغ .

وجد حسن إن الإرهاب والوعيد لن يجديا نفعاً مع هذا الصبي ، فهو إن غامر في الدفع والشد فلن تكون النتيجة أكثر من تدخل الشرطة وضياع الكلب وضياع المكافأة بالتالي ، فالأربعون فلساً أجدى نفعاً وأضمن سلامة وأدعى إلى التستر والحيطة ، فرش بها وجه الصبي حتى تبعثرت على الأرض .
قال في تفضل :
ــ خذ ولا تثر جدلاً آخر ، وإلا أبلغت أمرك إلى الشرطة فيضعونك في السجن .
وإذ غاب الصبي في المنعطف ، أمسك حسن بزمام الكلب وراح يمعن فيه النظر ويدرسه في تفحص وعناية ، فلم يقم في ذهنه أيما شك في هويته ، فهو نفسه الذي نُشِرت صورته في صحيفة الصباح ، فحمله تحت أبطه سالكاً به أضيق الدروب خشية أن يتعرف عليه أحد الناس فينازعه فيه .

وفي البيت هبت في وجهه عاصفة احتجاجية تمثلت في غضب أمه التي تكره الكلاب كلها وتتحامى صحبتها ، فهي في زعمها عدوة المؤمنات لقلاقة بأوعية الطعام ، موسخة حاملة البراغيث والقراد ، ولا يصح أن تقام أمامها الصلاة ، فأكد حسن لأمه إن هذا ليس كسواه من الكلاب فهو ثمين محبب لقيه صدفة ، ولسوف يحمله إلى أصحابه فيكافِئونه بخمسة دنانير ، فانبسطت أسارير الأم بعض الشيء ورجت إن كان لا مناص من استبقاء الكلب بضع ساعات فالأفضل أن يربطه بإحكام عند الباب ، ويبعد عنه الأوعية والملاعق والفرش والأغطية ، فأذعن حسن لتعليمات أمه وأخذ بها جميعاً ، ثم اضطجع في الطرار مولياً وجهه شطر الباب لمراقبة حركات الكلب والايماء له .
قالت الأم حال أن تهيأ حسن لمغادرة البيت مع الكلب :
ــ لا تنس السكائر والقهوة والسكر .
فأجابها حسن :
ــ ولسوف ابتاع قميصاً وسروالاً وحذاء .
فسرت الأم ورجته بحرارة المؤمنات المقيمات للصلاة أن يكثر من غسل يديه وجسده بالماء ، وليفعل ذلك في حمام عمومي حتى يتطهر من أرجاس الكلب ، فوعدها حسن أن يمتثل لأمرها .

وفي شارع أبي نؤاس تبدت القصور الشاهقة وترف الموسرين وقد لقى حسن ضالته في غير عناء ، كان قصراً ذا طابقين مشيداً بالآجر الأصفر ، وعلى النوافذ ستائر معدنية ، وكان الباب الحديدي موارباً بعض الشيء وكذلك الباب الخشبي الكبير المفضي إلى جوف القصر ، ولاحظ حسن أن ثمة إمرأة تتأرجح في المجاز النظيف المفروش بالبسط على كرسي هزاز يتجرجر من حولها فستانها الحريري ذو لون وردي جميل ، وما أن أحس الكلب أنه في مأمنه ومكان أهله وصاحبته حتى صار يتململ ويهر ويريد الإفلات بقوائمه الصغار ، فهتفت المرأة في شبه خبل :
ــ اواه بوبي العزيز .
فتقدم حسن نحوها ، فتلقفت المرأة الكلب من بين يديه ، وضمته بقوة إلى صدرها المرمري الناصع البياض ، وراحت تلاعبه في حنان بالغ دون أن تضيرها وساخته ، قال حسن في فخر وخيلاء :
ــ لقيته في أسوأ حال ، كان تحت رحمة صبي شقي راح يجره بالحبل ويركله بقدمه فيلهث المسكين تعباً وجوعاً وعطشاً ، وكاد يفتك به لولا أن أتداركه من بين يديه وأحمله إليك ...
فلطمت المرأة كفيها في أسى راثية لحال كلبها العزيز ، لقد اتسخ وجاع :
ــ أنظر إنه يلهث من الأذى ، يا فرحتي ، يا سروري ، كنت أعيش من دونه أشبه بالأم التي أضاعت إبنها .
كان يبدو إن المرأة مقعدة تشكو داء في ساقيها ، مع إنها فاتنة القسمات ، عامرة الصحة ، متوردة الوجه ، تفيض استقراطية وترفعاً وبذخاً ، فكر حسن إنه من غير ريب كلب محظوظ ، لكم يسره ويبهج جوارحه لو نال عشر معشار هذا الحظ ، وهو حسن الإنسان الرجل المفعم حيوية ونشاطاً .

أمرت المرأة وصيفتها أن تمنح حسن خمسة دنانير وتسقيه قدحاً من الماء البارد وتودعه عند الباب ، فخرج حسن إلى الرصيف مبرد الجوف تقبض يده على ورقة خمسة دنانير ، فنفذ ما اعتزم عليه ، ابتاع لأمه السكر والشاي ونحو مئة سيكارة ذات عقب ، كما ابتاع لنفسه سروالاً من قماش الخاكي ، وقميصاً امريكياً قصير الأكمام ، وحذاء صيفياً ذا سيور .

مضى نحو شهران وعطالة حسن آخذة في التمادي دون أن يدركها منقذ ومخلص ، فالقميص تداعى فوق كتفيه ، وتشقق الحذاء بفضل حرارة الصيف ، وتملصت بعض سيوره ، وغدا سرواله رثاً بالياً .

كان يقرأ الصحف بانتظام مؤملاً أن يعلن الناس عن كلب ضائع فيجرد للبحث عنه حملة قوية حتى يعثر عليه ويفوز بالمكافأة ، وكان أحياناً يجتاز بشارع أبي نؤاس في الأمسية القائظة فيجد فستان المرأة مهدلاً على الأرض النظيفة ، وهي فوق كرسيها الهزاز محتضنة كلبها العزيز تلاعبه وتداعبه ، وقد أقفلت الباب الحديدي على سبيل الحيطة ضد اللصوص ، وقد فكر حسن لو أن هذا الكلب سرق مرة أخرى فليس بوسعه أن يعيده إلى صاحبته لأنها قد تظن به الظنون وتحسبه هو السارق في المرة الأولى وتبلغ عنه الشرطة ، وفكر أيضاً أن بإمكان رجلين أن يتعاونا في تنفيذ مثل هذهِ الخطة ، يسرق أحدهما كلباً من الكلاب المدللة ، وينتظر بضعة أيام ريثما يُعلن عنه في الصحف فيحمله الآخر إلى أصحابه وينالا المكافأة .

كانت أزمة الجوع آخذة بخناق حسن ، فهو في هذهِ الأيام مفلس تمام الإفلاس ، وغدت ذكرى الخمسة دنانير أشبه بحلم ماتع لن يتكرر بغير تدبير عاجل وجهد سريع ، فإن لم يفقد الناس كلابهم المدللة فلا بأس أن يعمل هو بأي طريق متيسر كيما يجعلهم يفقدونها ، فإن لم تقع المعجزة فتدبر أنت أمرها كما يقولون في الأمثال .

كانت أمام حسن قضيتان ، هما تعيين الكلب اللائق للسرقة ، وتعيين الشخص اللائق لمعاونته ، أما القضية الأولى فقد حُلت بيسر ، إذ لقى في إحدى جولاته في جهة المسبح كلباً مدللاً غاية الدلال ، غزير الشعر غريقاً بصوف حليبي من خطمه إلى براثن أقدامه ، كان هذا الكلب المنعم الغاطس في حشايا الحرير والدمقس ، والمتقلب في أحضان شحيمة ناعمة ، والمُمسد بأنامل رخصة عاجية كان أصغر من كلب ابن نؤاس ، وأدق منه قواماً وأخفضُ بطناً ، وأفتن جمالاً وأروع شكلاً .

كان هذا الكلب في صحبة إمرأة أيضاً ليست عراقية ، ولا عربية ، قد تكون في الغالب أمريكية ، وهي فارعة الطول ، ممشوقة القوام ، تنتعل حذاء عالياً تضرب به الأرض في وقع رتيب متساوق ، قال حسن لنفسه إن المكافأة هذهِ المرة لا تقل عن خمسة عشر ديناراً ، إذ بهت لهيام المرأة بكلبها ، فقد تكون ليلى قريبة إلى قلب قيس ، ولكن ذلك الكلب كان أقرب منها إلى قلب صاحبته .

كان مطوقاً بحزام جلدي يلتف حول بدنه كله ، مشدودة به سلسلة من الحديد ، تنتهي بعروة تدخل في معصم المرأة كلما اصطحبته في نزهتها المسائية المحتومة في كل يوم .

أما المعاون المنشود فلم يُوفق حسن للعثور عليه ، كان يستحي بفكرته من أن تقابل بالهزوء والسخرية ، وانتهى به الأمر إلى قرار ، هو أن يخطف الكلب بنفسه ، ثم يبحث عمن يعيده إلى صاحبته زاعماً لها إنه عثر عليه بالصدفة ، فتكون المسألة في غاية السهولة .

قرر حسن أن يترصد الكلب ويسرقه ، وفي خلال تردده المستمر لبضعة أيام في جهة المسبح لاحظ أن المرأة تترك كلبها موثقاً إلى شباك النافذة بين الساعة السادسة والسابعة والنصف حيث تستقبل ضيوفاً كثراً ينهمكون في رقص سريع تصحبه موسيقى جاز صاخبة تصم الاذان .

كان مساء معتماً من غير قمر ولا نجوم ، فترصد حسن المرأة نحو نصف ساعة حتى أقبلت من نزهتها المسائية ، فأوثقت الكلب إلى النافذة ، ومضت إلى ضيوفها لتراقصهم على نغمات الجاز ، وهدرت الموسيقى وأخذ الرجال بخصور النساء ، ودارت الحلقات أشبه بالدوامات العنيفة ، وتملك القوم حال من الوجد الصوفي ، فتسلل حسن عبر الحديقة مخففاً الوطء محترساً محاذراً حتى بلغ النافذة ، وحل وثاق الكلب وحمله تحت ابطه ، وهم أن يعود إلا أن الحظ خذله في آخر لحظة ، فقد أبصره أحد الضيوف ودفع عنه مراقصته في الحال ، واندفع إلى الحديقة هاتفاً في غيظ :
ــ أحدهم يسرق الكلب .
وخف من ورائه جمع من الرجال ، وأقبلت المرأة في أعقابهم مهلوعة الفؤاد مصعوقة ، فأطبق جمعهم الكاسر على حسن كما يطبق الفرسان على ابن آوى ، ورفسته المرأة في خاصرته ، وتبرع له آخر بلكمة خلخلت أسنانه واسالت من فمه الدم .

إن حضارة الجاز الامريكية ورقصات السامبا لم تخفف من ضراوتهم ، فاقتادوا حسن إلى المركز ، وقد رثت أسماله أكثر من ذي قبل ، وتضرج وجهه بالدم وعلاه الطين فأُوقف هناك ، فإذا بسرقة أخرى تنسب إليه هي سرقة كلب أبي نؤاس ، وفي المحكمة بعثت المرأة المقعدة بمحاميها لرفع شكواها أمام الحاكم فغُرِم حسن خمسة دنانير وحكم عليه ثلاثة أشهر بالسجن .

ــ انتهت ــ


ادمون صبري



* (عَنِ المَجْمُوعةِ القِصَصِيَّة ــ هارِبٌ مِنْ الظُلْم ــ لادمون صبري ، ص 58 ــ ص 64)
أعلى