د. محمد الهادي الطاهري - مستقبل المشروع الإصلاحي في تونس

مدخل:
نشر فؤاد خطيب، بعد مرور أقلّ من شهر على سقوط نظام الرئيس بن علي في 14 جانفي 2011، مقالا بعنوان "الثورة الشعبية في تونس... بداية عصر النهضة العربية؟"[1] تساءل فيه إن كانت هذه الثورة البداية الحقيقيّة لما يعرف بعصر النهضة العربيّة. ولئن بدا هذا السؤال غريبا لما ينطوي عليه من عدم اعتراف بوجود نهضة حضاريّة عربيّة حديثة، فقد بدا لنا سؤالا مشروعا لأنّه يضعنا في مواجهة مصير حضاريّ غير معلوم بدأت ملامحه تتشكّل في مختلف أنحاء العالم العربي، فما كاد التونسيّون ينهون احتجاجاتهم على النظام حتّى انتشرت الحركات الاحتجاجيّة في مشرق العالم العربيّ ومغربه، وهو ما جعل كاتبا مثل فؤاد خطيب وآخرين غيره ينتظرون أن تفضي الاحتجاجات الشعبية إلى تدشين لحظة جديدة تكون بحقّ لحظة نهضة حضاريّة عربيّة.
إنّ هذه الثورة الشعبيّة التي يتحدّث عنها فؤاد خطيب مدعوّة في نظره إلى القيام بالخطوة اللازمة التي لم تنجز منذ بداية القرن التاسع عشر وهي الخطوة التي تقطع صلة العرب الفعليّة بنظرتهم التقليديّة للإنسان ومنزلته في الوجود، خطوة سيكون من أبرز نتائجها أن تتحوّل الثورة من ثورة في الحكم إلى ثورة في المفاهيم يجب أن تكون في تقديره مبنيّة على فكرة مفادها أنّ "فصل الدين عن الدولة هو الأساس الأول والصريح والضروري لخلق معادلة الثورة كاملة"[2]
ولكن، ما إن مرّت شهور على هذه الثورات حتّى تبيّن للجميع أنّ ما كان يقوله فؤاد خطيب وغيره لم يكن سوى وهم من أوهام المثقّفين لأنّ الجماهير الثائرة على الحكومات توجّهت لا نحو ثورة في المفاهيم ولا نحو ذلك "الأساس الأوّل والصريح والضروريّ لخلق معادلة الثورة كاملة" وهو "فصل الدين عن الدولة"، بل نحو منوال حضاريّ مناقض يقوم على فكرة "الإسلام هو الحلّ" بما في هذه الفكرة من إلغاء صريح لمكتسبات عصر النهضة العربيّة ومن دعوات لاستئناف نظام الخلافة والعودة إلى سيرة السلف.
لقد تراءت لنا، من هذه المسافة البعيدة التي تفصل المثقّفين العرب عن الواقع، فكرة النظر في مستقبل المشروع الإصلاحي في تونس بعد هذه "الثورة الشعبيّة" التي امتدّت آثارها إلى العالم العربي ومشرقه خصوصا. فأيّ مستقبل ينتظر ذلك المشروع الإصلاحيّ الذي تبلورت ملامحه الكبرى على امتداد قرنين؟
تكمن الإجابة عن هذا السؤال في التوقّف عند مسار ذلك المشروع وأهمّ ملامحه، لتبيّن لحظاته المفصلية وهي لحظة التكوين ولحظة البناء ولحظة التفكّك، لنمرّ بعد ذلك إلى المنعطف التاريخي الذي قادتنا إليه الثورة لنرى إن كانت هذه الثورة تتويجا لمسار الإصلاح أو مراجعة جذريّة للأسس التي قام عليها.
1. مسار المشروع الإصلاحي: من العقلنة إلى التزييف.
1.1. لحظة التكوين:

نعتقد أنّ المشروع الإصلاحي في تونس كما في غيرها من البلدان العربيّة والإسلاميّة قد نشأ حول فكرة الموازنة بين القديم والجديد، أو الأصالة والمعاصرة، أو التراث والحداثة. هذا أمر ثابت في كلّ مناحي المشروع الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة.[3] ولنا في ما كتبه رجال الإصلاح التونسيين أمثال الوزير خير الدين التونسي والمؤرّخ أحمد بن أبي الضياف وبعض علماء الزيتونة على امتداد نصف قرن أو يزيد ما يؤكّد هذه الفكرة. فقد عمل خير الدين وابن أبي الضياف على تقريب المدنية الأوروبيّة بما فيها من معارف حديثة ونظم سياسيّة واجتماعية جديدة إلى نفوس التونسيّين عبر البحث عن جذور لها في الإسلام وتراثه الفكريّ، واجتهد الكثير من علماء الزيتونة في النهوض بالعلوم الدينيّة لتناسب متغيّرات العصر الحديث وقدّموا في ذلك مشاريع جادّة لإحياء الفكر الإسلامي وإثرائه بما وفّرته المعرف الحديثة من اكتشافات.[4] وما إن ظهر الجيل الثاني من زعماء الإصلاح التونسيين حتّى باتت فكرة تجديد الإسلام لتناسب أحكامه وقيمه أحكام الحداثة وقيمها راسخة في الأذهان، فأصدر الطاهر الحدّاد كتابه عن المرأة في الشريعة والمجتمع وضمّنه نقدا صريحا لعلماء الدين المتمسّكين بما انتهى إليه الفقهاء القدامى من تشريعات باتت غير مناسبة لمتغيّرات عصرنا وحثّهم على الاجتهاد لاستنباط أحكام عصريّة تنفع المجتمع وتساعده على الرقيّ وقدّم محاولات لبناء فهم عصريّ للقرآن بعيدا عن التقليد.[5]
ولئن طفت على الساحتين الفكرية والسياسيّة كتابات تناهض هذا المشروع الإصلاحي حين بدأ يلامس جذور الفكر الدينيّ ويخضعها للنقد والتأويل[6]، فقد رضيت البيئة التونسية في عمومها بهذا المشروع لأنّه كان مشروعا حضاريّا يهدف بالأساس إلى تخليص التونسيّين من الاستبداد (خير الدين التونسي) ومن الجهل والتقليد ( ابن عاشور) ومن التخلّف(الطاهر الحدّاد) بقدر ما يهدف إلى بناء نظام اجتماعي وسياسيّ حديث فيه للدين وقيمه النبيلة منزلة لائقة.
2.1. لحظة البناء:
ولد المشروع الإصلاحي في تونس كما في سائر البلدان العربيّة والإسلامية في لحظة تاريخيّة تزامن فيها الوعي بالانحطاط بموجات الاحتلال الأوروبيّ. رغم ذلك لم تختلط صورة أوروبّا الاستعمارية في أذهان رجال الإصلاح بصورة أوروبّا المتقدّمة، بل إنّ هؤلاء المصلحين على اختلاف مشاربهم رأوا في أوروبّا نموذجا للرقيّ السياسيّ والمعرفيّ والأخلاقيّ أحيانا، ولم يمنعهم ذلك من مقاومتها حين زحفت على بلدانهم بجيوشها الغازية وحين احتلّت أرضهم ومضت تبعثر مؤسّساتهم التقليدية. وهذا في حدّ ذاته دليل تاريخيّ ساطع على تمييز أولئك المفكّرين صورة أوروبا الاستعمارية من صورتها الحضارية، ومن هذه الصورة الإيجابيّة تحديدا استمدّوا سلاحا لمقاومتها إذ عوّلوا على قيم العلم والمعرفة بقدر ما عوّلوا على قيم العدل والمساواة لبناء أجيال تقدر على الاستمرار في مكافحة الاحتلال ومكافحة التخلّف والانحطاط في الوقت نفسه، ولنا في ما كان يدعو إليه الشيخ محمد عبده وطه حسين في مصر ثم محمد الطاهر بن عاشور في تونس دليل على هذه المنهجيّة[7].
وبمجرّد أن رحل الاحتلال الفرنسيّ عن تونس، شرعت دولة الاستقلال في تجسيد الأفكار الأساسيّة التي بلورها رجال الإصلاح على امتداد قرن أو يزيد، فأُلغي النظام الملكيّ واستبدل بالنظام الجمهوريّ في 25 جويلية 1957، وصدر قانون يأمر بإلغاء المحاكم الشرعية الإسلامية ومجلس الأحبار اليهودي ويلزم المتخاصمين بالتقاضي لدى المحاكم المدنيّة، كما بدأ العمل في بداية السنة نفسها بأحكام "مجلّة الأحوال الشخصيّة" وهي المجلّة التي جُعلت لتنظّم العلاقات بين أفراد الأسرة وفق أحكام جديدة تأخذ من "مناهل الشريعة" دون التقيّد بمذهب دون غيره، بقدر ما تأخذ من القوانين المدنية الفرنسية كما صرّح بذلك كاتب الدولة للعدل عند الإعلان عن صدورها. وفي نوفمبر 1958 صدر قانون لإصلاح التعليم ينطوي على الدمج بين نظم تعليمية ثلاثة وهي التعليم التقليديّ والتعليم التونسي العصري والتعليم الفرنسي ويضع الأسس القانونيّة التي سينبني عليها التعليم باعتباره مؤسّسة اجتماعيّة.[8]
تعبّر هذه التشريعات التي بادرت دولة الاستقلال إلى سنّها ، في تقديرنا، عن لحظة حاسمة في تاريخ المشروع الإصلاحي بتونس إذ نقلته من طور النظر إلى طور العمل، فتحوّلت الأفكار المبثوثة في مصنّفات المفكّرين وفي مجالس المثقّفين إلى أعمال ملموسة أحدثت تغييرا هامّا في بنية المجتمع وأنظمته. ويكفي أن نتوقّف عند بعض النصوص القانونيّة المفصليّة الواردة في "مجلّة الأحوال الشخصية"، كي نبرهن على ما كان لهذه التشريعات من آثار عميقة بدأ المجتمع التونسي بموجبها يتحوّل شيئا فشيئا من مجتمع تقليديّ إلى مجتمع حديث.[9]
ولمّا كان المشروع في أصل تكوينه مبنيّا على مبدإ الموازنة بين القديم والجديد أو الأصيل والمعاصر، فقد احتفظ في لحظة البناء بهذا المبدإ، ولنا في نصوص مجلّة الأحوال الشخصية ما يُثبت ذلك. لقد تضمّنت هذه المجلّة قوانين حديثة لا أثر لها في التشريعات الإسلامية الأمر الذي دفع بالكثير من المثقّفين التقليديّن إلى اعتبارها قوانين مناقضة للشريعة ويهدف واضعها من ورائها إلى هدم الإسلام[10]، كما أبقت في الكثير من فصولها على أحكام شرعيّة من مذاهب فقهيّة مختلفة[11] إلاّ أنّها في تقديرنا تشريعات تهدف إلى حمل التونسيّين على الانخراط الفعلي في منظومة القيم الحديثة دون التفريط في ثقافتهم الإسلاميّة، بل هي تشريعات تمهّد السبيل لميلاد شكل جديد من أشكال الانتظام الاجتماعي دون أن تدمّر الأشكال القديمة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك أنّ الزواج لا يعدّ صحيحا إلاّ بإشهاد شاهدين من أهل الثقة كما ينصّ على ذلك الفصل الثالث من كتاب الزواج، وأنّ الزوج بوصفه رئيس العائلة ملزم بالإنفاق على عياله وأنّ الزوجة ملزمة بالمساهمة في النفقة إن كان لها مال وفق ما ينصّ عليه الفصل الثالث والعشرون من كتاب الزواج. في هذه التشريعات كما نرى تجاور هادئ بين القديم والجديد، ففي الفصل الثالث من كتاب الزواج يشترط المشرّع إشهاد شاهدين من أهل الثقة دون التنصيص على الجنس إن كان ذكرا أو أنثى ودون تفصيل لعبارة "أهل الثقة" المجملة، فحافظ بذلك على شكل التشريع الإسلامي ونفخ فيه روحا جديدة يمكن بموجبها أن يقبل عدل الإشهاد شهادة المرأة أو المرأتين لغياب النصّ على جنس الشاهد، كما يمكنه أن يحمل عبارة "شاهدين من أهل الثقة" على المعنى القديم، أي أن يكونا رجلين مسلمين عاقلين عدلين. أمّا النص الوارد في الفصل الثالث والعشرين ففيه احتفاظ بسلطة الأب على العائلة لما في لفظ الرئاسة من معان تلزم الزوجة والأطفال بطاعة رئيس العائلة كما تلزمه بأن يكون مسؤولا عن الزوجة والأطفال، وفيه للأسرة حقّ على الزوجة إن كان لها مال فتساهم في النفقة. ولئن كان هذا النصّ يراعي ما طرأ على المجتمع التونسي من تحوّلات اجتماعية أبرزها خروج النساء إلى العمل وعجز الكثير من أرباب العائلات على تسديد نفقات الأسرة لضعف في الموارد أو لبطالة، فما يعنينا فيه أنّه نصّ يشير إلى أنّ الأسرة التونسية في واقع الحال مؤسّسة تتقاسم فيها المرأة مع الرجل مسؤوليّة الإشراف على تربية الأبناء وتوفير ما يحتاجون إليه من نفقات.
وتوجد إلى جانب هذه النصوص المبنية على الموازنة بين القديم والجديد نصوص أخرى بعضها يقطع الصلة مع القديم قطعا نهائيّا وبعضها يقوّي تلك الصلة ويعزّزها.[12] ومن الأمثلة على الصنف الأوّل منع تعدّد الزوجات واعتباره جريمة يعاقب عليها القانون، وهذا واضح في أحكام الفصل الثامن عشر من كتاب الزواج، وتنصيص الفصل الرابع من الكتاب نفسه على أنّ الزواج لا يثبت إلاّ بحجّة رسمية يضبطها الفصل 31 من قانون الحالة المدنية ويزيد في توضيحها الفصل 36 من القانون نفسه. تعبّر هذه القوانين وغيرها[13] عن رؤية حديثة للمجتمع ومنزلة المرأة فيه، ذلك أنّ حصر الزواج القانونيّ في حجّة رسميّة دون سواها يعني أنّ الزواج ليس عقدا يحلّ بموجبه للرجل أن يتلذّذ بامرأة كما جاء في حدود ابن عرفة بل هو عقد يجوز بموجبه لرجل وامرأة بالغين أن يؤسّسا أسرة كما جاء في الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان. يضاف إلى ذلك أنّ المرأة لم تعد متاعا للرجل يزيد فيه أو ينقص حسب الحال ولا هي آلة لإنجاب الأطفال بل هي، من هذا المنظور، شريك للرجل في تأسيس الأسرة أو في حلّها إن لزم الأمر. وتظهر هذه الشراكة بالخصوص في الأحكام التي تنصّ على أنّ زواج القاصر يتوقّف على موافقة الوليّ والأمّ(الفصل6 من كتاب الزواج) أو التي تسمح للمرأة البالغة أن تتولّى زواجها بنفسها (الفصل 9 من كتاب الزواج).
لقد سمحت هذه التشريعات بأن تنشأ في المجتمع التونسيّ مؤسّسات مدنيّة تكرّس ما دعا إليه رجال الإصلاح من قيم حديثة أشهرها قيمة الحرّية (حرّية المرأة خاصّة) وقيمة المساواة (بين الرجل والمرأة خاصّة)، كما أنشأت الأساس القانوني لانتماء الأفراد إلى الدولة/الأمّة دون غيرها من المؤسّسات التقليدية كالقبيلة والطائفة والمذهب، وهو الأساس القانوني للدولة/الأمّة بدلا من مجتمعات الرعيّة.[14]
لقد بدا الزواج والتعليم والعمل من منظور هذه التشريعات أنشطة اجتماعيّة لا يمكن لها أن تنشأ إلاّ في مؤسّسات قانونيّة، كالأسرة والمدرسة، تخضع للمؤسّسة الأم وهي الدولة. وبهذا تكون الدولة قد نقلت المجتمع بالتشريع من طور مجتمعات ما قبل الدولة (القبيلة، الطائفة، المذهب) إلى طور مجتمعات الدولة. وهي نقلة حضارية ما كان لها أن تتمّ لو لم ترث الدولة الوطنيّة المشروع الإصلاحيّ الذي بدأه خير الدين التونسيّ وابن أبي الضياف وبلور ملامحه علماء الزيتونة وطائفة من المفكّرين والمثقّفين الحداثيّين وعدد غير قليل من السياسيّين والنقابيّين على امتداد قرن أو يزيد.
3.1. لحظة التفكّك:
حين بادرت دولة الاستقلال إلى تجسيد الأفكار الجوهريّة التي تأسّس عليها المشروع الإصلاحي في تونس وحوّلتها إلى واقع نلمسه في حياة الناس وعلاقاتهم الاجتماعيّة، أُضفيت على ذلك المشروع الحضاريّ صبغة إيديولوجيّة فأصبح في نظر الدولة كما في نظر المجتمع عقيدة مقصورة على الطبقة السياسيّة التي تولّت أمور الحكم بعد الاستقلال ممثّلة في الحزب الدستوري بزعامة الحبيب بورقيبة. وقد وفّرت السلطة لهذا الحزب فرصة ليخلق لنفسه شرعيّة حضاريّة إلى جانب الشرعيّة السياسيّة التي نالها لكونه أكبر فصائل الحركة الوطنيّة ولكونه صنع لنفسه في أذهان الناس صورة الحزب الذي نالت بفضله البلاد استقلالها. وقد ساهمت كلّ هذه الملابسات التاريخيّة في جعل هذا الحزب الحاكم غداة الاستقلال يستحوذ على المشروع الإصلاحيّ ليقصي بذلك فاعلين سياسيّين وثقافيّين آخرين هم في الحقيقة من صلب ذلك المشروع ونعني بالخصوص علماء الزيتونة وبعض زعماء الحركة الوطنيّة من القوميّين والشيوعيّين والنقابيّين.
في هذه اللحظة تحديدا دخل المشروع الإصلاحيّ مرحلة التفكّك لأنّ الفاعلين فيه من النخب الفكرية والسياسيّة تفرّقوا عنه فتولّدت عن تفرّقهم منازع شتّى، منها منزع تراثيّ يرى في ما أقدمت عليه الدولة الوطنيّة من إصلاحات جوهريّة في التشريع والتعليم خاصّة ما يجعلها في نطره دولة معادية للإسلام والعروبة هويّة وقيما، وهذا ما يتجلّى بالخصوص في أتباع صالح بن يوسف وفي الكثير من علماء الزيتونة وتلامذتهم. ومنها منزع حداثيّ يعتقد أنّ ما أقدمت عليه الدولة من إصلاحات لا يمسّ جوهر المجتمع لأنّها إصلاحات تُبقي في الكثير من الأحيان على الطابع التقليديّ للمجتمع والدولة في حين أنّ المطلوب هو أن ندفع بتلك الإصلاحات إلى أقصاها ليتمّ التحرّر حقيقة من أنماط العيش والسلوك والتفكير والحكم التي سادت طيلة قرون فلم تنتج غير الجهل والانحطاط والاستبداد. وبين هذين المنزعين منازع متردّدة كثيرة.
لم يكن لأيّ من هذين المنزعين وما بينهما، كما لم يكن للحزب الحاكم المستحوذ على الدولة وعلى تراث الحركة الإصلاحيّة، خطاب فكريّ متين مثلما كان لكبار المصلحين من قبل، وأقصى ما في الأمر أن تمتلك هذه المنازع التراثيّة والحداثيّة والمتردّدة بين التراث والحداثة خطابات سياسيّة متشنّجة تعكس حقيقة الصراع بينها، وهو في جوهره صراع على طبيعة المنوال النهضويّ وسبل تحقيقه، ولكنّه لم يتجلّ في المجتمع إلاّ في صورة صراع سياسيّ على الحكم الأمر الذي سهّل على الحزب الحاكم اتّهام خصومه بالتخطيط للانقلاب على نظام الدولة الحديثة والتنكّر لجوهر المشروع الإصلاحيّ القائم على الموازنة بين التراث والحداثة، فبادر إلى ملاحقتهم والزجّ بقياداتهم في السجون والتخلّص من البعض منهم بالاغتيال حينا وبالنفي والتشريد أحيانا. حصل ذلك على امتداد نصف قرن تقريبا حتّى فقد المشروع الإصلاحيّ قيمته الفكريّة والحضاريّة وأصبح مجرّد غطاء إيديولوجيّ لتبرير الاضطهاد والاستبداد.
إلاّ أنّ مكوّنات ذلك المشروع الحضاريّ لم تندثر، فقد انحلّت وانفصمت العروة التي كانت تربطها فتفتّت المشروع كلّه وتصدّعت أركانه حين ولدت في المجتمع تيّارات فكريّة سياسيّة تقاسمت في ما بينها تراث الحركة الإصلاحيّة، فأخذ التيّار الإسلاميّ بمختلف أشكاله الجوانب المحافظة فيه وغذّاها بما تدفّق عليه من المشرق من أفكار إخوانيّة ووهّابيّة، وأخذ التيّار الحداثيّ بمختلف صوره الجوانب التقدّميّة وغذّاها بما كان يتدفّق عليه من الغرب من أفكار شيوعيّة وليبراليّة ولم يبق للدولة والحزب المستحوذ عليها سوى تلك التشريعات التيّ سٌنت فجر الاستقلال فمضت تنقّحها مرّة بعد أخرى عسى أن يكون لها بذلك ما يبرّر استمرارها.
لقد كانت النهاية التي آل إليها المشروع الإصلاحي، حين فقد قدرته على بناء توازن ثقافيّ، مقدّمة لنهاية الدولة التي استحوذت عليه وزيّفته حتّى صار مجرّد غطاء إيديولوجي مفضوح، كما كان مقدّمة لميلاد مجتمع مدنيّ يحتضن مكوّنات ذلك المشروع الحضاري المتبعثرة ويصنع منها طاقة لمواجهة الدولة وسطوتها على العقول والأجساد بالخداع والعنف.
2. مسار الثورة: من الجنون إلى التعقّل.
1.2. لحظة الانفلات:

لا نعني بالانفلات ما عقب رحيل بن علي من فوضى تمثّلت بالخصوص في نهب الممتلكات الخاصّة والعامّة، وفي استحواذ الكثير من الناس على المساحات الخضراء والأرصفة لبناء المساكن والمتاجر، وفي امتناع الكثير عن خلاص فواتير الماء والكهرباء أو عن دفع المعاليم المرسومة على جولان السيارات أو على رخص البناء. فكلّ هذه الممارسات وإن كانت تتضمّن معنى التمرّد على الدولة وعلى سلطة القانون فهي لم تمتلك خطابا من شأنه أن يضفي عليها معنى سياسيّا أو أخلاقيّا أو دينيّا. والمقصود بالانفلات تحديدا تلك الممارسات التي يصدر فيها أصحابها عن رؤى سياسيّة وفكريّة كانت قبل الثورة حبيسة في الصدور فلمّا زالت السلطة أطلق لها أصحابها العنان فانفلتت.
يعتقد الكثير من المراقبين والمحلّلين في تونس وخارجها أنّ ما جرى في بلادنا لمدة سنة ونيّف لا يعدو أن يكون حركة احتجاجيّة على نظام سياسيّ بالغ في الاستبداد كما بالغ في الفساد فاضطهد خصومه وجوّع مواطنيه وسدّ عليهم أبواب الكسب والعيش الكريم. نعم، هذا هو ظاهر ما يجري على السطح ولكنّه في أعماق بنيته أمر أكثر تعقيدا وأشدّ خطورة لأنّه في اعتقادنا أكبر من أن يكون احتجاجا على الفقر والاضطهاد والفساد ولأنّ آفاق تلك الحركة الاحتجاجيّة أوسع من أن تكون مجرّد حلم بالحصول على ما يحفظ للناس أمنهم على ذواتهم وعلى كسبهم. نقول هذا لأنّ التونسيّين ما إن أيقنوا أنّ النظام السياسيّ الذي ظلّ يحكمهم منذ أكثر من نصف قرن قد انهار أو كاد حتّى تداولوا في جميع شبكات التواصل الاجتماعيّ الحقيقيّة أو الافتراضيّة أفكارا تتّصل بطبيعة النظام المجتمعيّ المنتظر اتّصالا مباشرا، وتناقل الشباب على الأخصّ أفكارا تدعو إلى بناء مجتمع إسلاميّ تسود فيه قيم الإسلام الموروثة كما تناقلوا إلى جانب ذلك أفكارا تدعو إلى بناء مجتمع حداثيّ تسود فيه قيم الحداثة والعلمانيّة. ونشأت على الفور معارك افتراضيّة على صفحات الفيسبوك بين جماعة الإسلاميّين وجماعة العلمانيّين وتبادلت الجماعتان ألوانا من الاتّهامات فنُعت الإسلاميّون بالرجعيّة والظلاميّة ونُعت العلمانيون بالكفر والعمالة للغرب الاستعماريّ. ثمّ انتقلت هذه المجادلات من الفضاء الافتراضي إلى الفضاء الحقيقيّ حتّى انتهى بها الأمر إلى اشتباكات عنيفة لعلّ ما شهدته بعض الجامعات أبرز دليل عليها.
إنّ هذا الجدل الحادّ والعنيف أحيانا بين الجماعتين، أي أنصار التيّار التراثيّ بمختلف مكوّناته وأنصار التيّار الحداثيّ بمختلف مكوّناته أيضا، إنّما هو في تقديرنا جدل حول النظام المجتمعي الذي يجب أن تكون عليه تونس بعد الثورة. وحين يطرح التراثيّون، ساسة كانوا أو دعاة، أفكارا عتيقة كالخلافة والحقّ في تعدّد الزوجات وفي امتلاك الجواري وإلغاء العمل بأحكام "مجلّة الأحوال الشخصيّة" وإحياء جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واعتماد الشريعة الإسلاميّة مصدرا وحيدا للتشريع، ويطرح الحداثيّون في المقابل أفكارا تناهضها تماما وينصرفون إلى التشهير بالشريعة والدين، فهذا يعني بدرجة أولى أنّ التونسيّين اجتازوا بسرعة فائقة مرحلة البحث عن الحلول المباشرة للمشكلات الاقتصاديّة والحقوقيّة التي اندلعت الثورة من أجلها إلى مرحلة البحث عن السبل الكفيلة بهدم الأسس الفكريّة التي انبنى عليها النظام الاجتماعي والسياسيّ القديم وهي كما قلنا أسس المشروع الإصلاحي القائم على التوفيق أو الموازنة بين القديم والجديد أو بين الإسلام والحداثة.
2.2. لحظة الجنون:
نقلت الثورة التونسيّين، لا إلى بدايات عصر النهضة العربيّة كما يعتقد الكثيرون، بل إلى لحظة أخرى كان على مفكّري الإصلاح أن يعانوها ولكنّهم لم ينشغلوا بها وهي لحظة الحسم بين اختيارين ثقافيّين. لقد اختارت جميع النخب الفكريّة والسياسيّة الفاعلة في بناء المشروع الإصلاحي في تونس الإبقاء على ذلك التجاور العريق بين الاختيار الثقافيّ التراثيّ والاختيار الثقافيّ الحداثيّ كما اختارت أن تبتعد عن كلّ ما من شأنه أن يمهّد إلى التصادم بين الثقافة الإسلاميّة الأصيلة والثقافة الغربيّة الدخيلة. ولكنّ الفريقين المتصارعين، وإن كانوا أقلّ عمقا في التفكير من أعلام الفكر الإصلاحي، فهم أكثر جرأة منهم على طرح الاختيار الثقافي.
إنّ الاختيار من وجهة نظر فلسفيّة عمل من أعمال الإرادة، وهذا يعني أنّه ليس عملا من أعمال العقل، ولذلك قال الفيلسوف الوجودي كيركيغارد: " l’instant de la décision est une folie" أي أنّ الاختيار يقتضي دوما قدرا من الجنون وهو ما يعني أنّه لحظة يكفّ فيها العقل عن العمل حتّى يتسنّى للإرادة أن تعمل عملها[15]، ولهذا أيضا يقول المثل الفرنسيّ الشائع: "Il faut toujours un coup de folie pour bâtir un destin" أي أنّنا نحتاج إلى شيء من الجنون لتقرير مصيرنا. ولعلّ ما راج في تونس من أفكار "غريبة"، على ألسنة مفكّرين كبار مثل محمّد الطالبي وسياسييّن كبار منهم رؤساء أحزاب، خير دليل على أنّنا إزاء إرادات متصارعة أفلتت من ربقة العقل فلم تنتج غير أقوال وأفعال مجنونة. ومن الأمثلة البارزة على هذا الجنون أن يعتقد السيد حمادي الجبالي رئيس الحكومة المنبثقة عن المجلس الوطنيّ التأسيسيّ أنّ حكومته استئناف لنظام الخلافة الراشدة وأن يعتبرها بالتالي خلافة سادسة، أو أن يطالب رئيس أحد الأحزاب الناشئة بعد الثورة بسنّ قانون يسمح للرجال بامتلاك الجواري، أو أن يعتقد رئيس حزب آخر أنّ البورقيبيّة إحدى التأويلات الممكنة للماركسيّة، أو أن يرسم أحد المصوّرين العاملين بالتلفزة التونسية نجمة داود على مبنى جامع الفتح بالعاصمة، أو أن يعمد أحدهم إلى تدنيس المصحف أو إزالة العلم الوطنيّ. هذه أمثلة شاهدة على حالة الجنون القصوى التي اندفع إليها أفراد من مستويات مختلفة، ولنا في الكثير من الممارسات السياسيّة والدينيّة ما يمكن إدراجه في خانة الجنون كأن ينعت السيد الباجي قايد السبسي رئيس الحكومة الانتقاليّة الثانية رجال الأمن المعتصمين في خطاب مباشر بالقردة، أو أن يصف رئيس الجمهوريّة المؤقّت السيد المنصف المرزوقي المجموعات السلفيّة بالجراثيم.
كلّ هذه الأقوال والأفعال الصادرة عن فاعلين سياسييّن ما هي إلاّ ضرب من ضروب الجنون. نقول ذلك لا لنحطّ من شأنها وشأن أصحابها أو لنستهين بها وبهم بل لأنّها تعبّر بحقّ عن معنى الثورة الوجوديّ. فالتونسيّون كلّهم، ساسة ومثقّفين وعمّالا وإعلاميّين وشبّانا ومسنّين، دخلوا في موجة الجنون أي أنّهم تحرّروا من حدود العقل وإكراهاته وأسلموا أنفسهم للإرادة فتسنّى لهم بذلك أن يتجرّؤوا على قول ما يستحيل أن يُقال وعلى القيام بما يستحيل القيام به عقلا. ومن حسنات هذا الجنون الثوريّ أنّه أوجب على التونسيّين أن يطرحوا على أنفسهم بجرأة وشجاعة أن يختاروا أحد أمرين: إمّا أن يكونوا حداثيّين مؤمنين بالحرّية أو أن يكونوا تراثيّين لا معنى للحرّية في لغتهم.[16]، مقابل ذلك، يبدو أنّ عددا لا بأس به من التونسيّين قد أصيبوا بما يشبه حالة الإحباط حتّى أنّهم باتوا يتحسّرون على رحيل النظام السابق بدعوى انعدام الأمن وانتشار الفوضى وغياب الرقابة على الأسعار والأفكار، وهذا بدوره ضرب من الجنون الثوريّ المضادّ بدأ يكتسب من يوم إلى آخر تعبيرا سياسيّا واضحا عن الرغبة في إحياء النظام البورقيبيّ عبر ما بات يُعرف باتّحاد الأحزاب الدستوريّة.
3.2. لحظة التعقّل:
أشرنا في فقرة سابقة إلى أنّ التفكّك الذي أصاب المشروع الإصلاحي قد تولّد عنه ميلاد جماعات سياسيّة / فكريّة تقاسمت في ما بينها تراث الحركة الإصلاحية وغذّته بأفكار جديدة من الشرق والغرب. وهذا يعني من منظور ثقافيّ أنّ المشروع الإصلاحي قد خرج من دائرة المعرفة إلى دائرة المعتقد أي أنّه لم يعد همّا معرفيّا وأنّ مسائله الكبرى (التراث والحداثة وما بينهما من علاقات ممكنة) لم تعد شأنا معرفيّا يشتغل عليه المفكّرون وفق ضوابط المعرفة المنطقيّة بل أصبحت شأنا عامّا يتداوله جميع الناس. ولهذا السبب تحديدا تعطّل النظر العقليّ واختفى المفكّرون وطفت على السطح جماعات سياسيّة تتداول أفكارا عموميّة زائفة لا تعكس معرفة لا بالإسلام ولا بالحداثة ولا بما بينهما من علاقات. وقد ترتّب عن هذا الانزياح أن استحوذ العقل السياسيّ على مسائل العقل العارف وحوّلها من مسائل نظر إلى أدوات عمل. إنّ العقل السياسيّ بما هو عقل جماعة لا تهمّه المعرفة بل يهمّه الوجود أي كيف تحافظ جماعة مّا على وجودها وكيف لها أن تقاوم خطر اندثارها. ولهذا السبب تحديدا يعمل العقل السياسيّ بمنطق المقاومة، ولا تكون المقاومة إلاّ بالاجتماع ولا يكون الاجتماع إلاّ بالتنظّم.[17]
هذا هو منطق العقل السياسيّ، إنّه عقل يعمل لا من أجل بناء معرفة بالوجود بل من أجل الوجود ذاته، وبالتالي فحين توجّهت الجماعات السياسيّة في تونس إلى التنظّم و التوحّد فقد فعلت ذلك لتحفظ وجودها وتحميه من كلّ خطر يهدّده. وقد لاحظنا هذا المسار منذ انهيار النظام السابق إذ تكاثرت الأحزاب والجمعيّات حتّى فاق عددها كلّ التوقعات، وهي في الغالب أحزاب سياسية كانت من قبل مجرّد جماعات سياسيّة/فكريّة منبثّة في بعض المنظمات المدنية ويعود تاريخ ظهورها كما أسلفنا إلى تلك اللحظة التي بدأ فيها المشروع الإصلاحي بالتفكّك. وازداد الشعور بضرورة التنظّم والتوحّد بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011، فقد فهمت تلك الجماعات السياسيّة/الفكريّة بعد نتائج الانتخابات أنّها مهدّدة في وجودها لمّا تبيّن لها أنّ التيار الإسلاميّ وحلفاءه قد شرع عمليّا في إعداد مخطّط لأسلمة الدولة والمجتمع، لذلك اتّجهت تلك الجماعات السياسيّة/الفكريّة نحو بناء كيانات جديدة على أسس إيديولوجية حداثيّة متنوّعة فنشأت الجبهة الشعبيّة من اتحاد الأحزاب الماركسيّة الراديكاليّة، ونشأت الجبهة الديمقراطية من تحالف بعض الأحزاب اليساريّة الأخرى، واجتهدت الأحزاب الدستوريّة في بناء تحالف ليبرالي، وتأسس الحزب الجمهوري من تحالف بين بعض القوى المحسوبة على وسط اليسار، واندمجت بعض تشكيلات التيار القوميّ العربي في حزب واحد. ويعبّر هذا المسعى الحثيث نحو التنظّم والتوحّد في تقديرنا عن لحظة تعقّل سياسيّ تعكس سعي الجماعات السياسيّة/الفكرية في تونس إلى بناء أطر تنظيميّة من شأنها أن تحمي وجودها الثقافيّ والسياسي بعد أن شعرت بخطر عظيم يهدّد وجودها.
هكذا إذن تبدو لحظة التعقّل لحظة لبناء ما يضمن للجماعات السياسيّة/الفكرية في تونس استمرارها لا باعتبارها كيانات سياسيّة وحزبيّة فقط بل باعتبارها جماعات ثقافيّة متنوّعة بعضها ينهل من منابع التراث وبعضها الآخر ينهل من منابع الحداثة. وهي في المحصّلة مجموعات ثقافيّة متنوّعة تنتمي إلى كيان ثقافيّ أكبر وهو الكيان التونسي الذي بدأ يتشكّل ثقافيّا وسياسيّا منذ أكثر من قرنين تقريبا. وبغضّ النظر عمّا إذا كانت هذه الجماعات الثقافيّة/السياسيّة جماعات تستهلك الخطابين التراثي والحداثيّ استهلاكا يسيء إلى التراث والحداثة في الوقت نفسه، فهي في تقديرنا جماعات قادرة على احتضان الأصلين الثقافيّين اللذين بُني عليهما الكيان التونسيّ وهما التراث والحداثة. لذلك لا نرى في ما يسمّيه البعض بوادر حرب أهليّة قد تندلع بين لحظة وأخرى خطرا على هذا الكيان التونسيّ بل هو في نظرنا المقدّمة اللازمة لحفظ هذا الكيان وتقويته، وبالتالي فكلّ ما نشاهده اليوم من مظاهر العنف السياسيّ والماديّ أحيانا لا يشكّل أيّ تهديد للمجتمع التونسيّ ودولته لأنّه في الحقيقة العلامة الأبرز على أنّ هذا المجتمع الموحّد عرقيّا ودينيّا ولغويّا، المتنوّع فكريّا وسياسيّا، يكافح من أجل أن يستمرّ موحّدا متنوّعا في الوقت نفسه لأنّه أدرك بعد الخبرة أنّ الخطر الحضاريّ الأكبر الذي يهدّده هو أن يفقد ذينك الرافدين الثقافيين اللذين يغذّيان جماعاته السياسيّة/الفكرية، أي الرافد التراثيّ والرافد الحداثيّ.
استنتاجات:
يمكن، بعد الوقوف عند مساري الإصلاح والثورة، أن نخلص إلى الاستنتاجات التالية:
  • إنّ المشروع الإصلاحي في تونس تأسّس منذ نشأته على مبدإ الموازنة بين التراث والحداثة وهذا ظاهر جليّ في مصنّفات رجال الإصلاح وفي الكثير من النصوص التشريعيّة والدستوريّة منذ 1861.
  • إنّ هذا المشروع نشأ ونما واكتمل في البُنى الفوقيّة أي في عقول المفكّرين والزعماء السياسيّين قبل أن يلامس البُنى التحتيّة، فظلّ المجتمع التونسيّ في عمومه مجتمعا تقليديا حتّى جاءت دولة الاستقلال فنزّلت المشروع من عقول المفكّرين والزعماء السياسيين إلى واقع الناس.
  • إنّ لحظة التفكّك التي أصابت المشروع الإصلاحي كانت في الحقيقة لحظة إيجابيّة لأنّها فسحت المجال لميلاد جماعات فكريّة/سياسيّة حديثة في صلب المجتمع وسحبت من الدولة حقّها في احتكار المشروع بعد أن زيّفته.
  • إنّ ميلاد تلك الجماعات السياسية/الفكرية كان في الحقيقة مقدّمة تاريخيّة لازمة لإعادة إنتاج المشروع الإصلاحي. وحين اندلعت الثورة كشفت حقّا عن احتفاظ المجتمع التونسيّ بالمكوّنين التراثيّ والحداثيّ في أعمق بنياته الاجتماعيّة والنفسيّة والذهنيّة.
  • إنّ المعارك الدائرة في المجالين الافتراضيّ والحقيقيّ بين أنصار التراث وأنصار الحداثة وما تبعها من صدامات عنيفة أحيانا لا تُشكّل بأيّ مقياس حضاريّ خطرا على تونس لأنّها من منظور نقد العقل السياسيّ العلامة الأبرز على تمسّك المجتمع بحقّه في حماية وجوده الثقافيّ أي في حماية كيانه إن لم نقل هُويّته.
  • إنّ انفجار الأحزاب السياسيّة في تونس اليوم ثمّ سعيها نحو الانصهار بعد ذلك علامة بارزة على شعور المجتمع بالحاجة إلى التنظّم والتوحّد لأنّ ذلك هو السبيل الأمثل لكي تحافظ كلّ جماعة سياسية/فكرية في هذا المجتمع على بقائها وقدرتها على مقاومة ما يهدّد وجودها.
  • إنّ المشروع الإصلاحي الذي بدأ في تونس مشروعا نخبويّا قد تحوّل بعد الثورة إلى مشروع جماهيريّ تتصارع حوله كلّ الجماعات السياسيّة/الفكريّة. وهذا في حدّ ذاته علامة على أنّ الدولة التي احتكرته ثمّ زيّفته لم تنجح في القضاء عليه لأنّ المجتمع افتكّه منها ومضى يزيد فيه وينقص، إلى أن جاءت الثورة فأعادت طرحه من جديد.
[1] نشره في الموقع الإلكتروني عرب 48 بتاريخ 05/02/2011.
[2] راجع مقاله في الموقع المذكور أعلاه.
[3] راجع: ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ترجمة كريم عزقول، دار النهار للنشر، بيروت،1968. وانظر خاصّة الفصل السادس منه حيث توسّع في شرح فكرة الموازنة بين الإسلام والمدنية الحديثة عند محمد عبده وتلامذته.
وانظر أيضا:
Hoda Nehmé, Les différentes voies de la pensée arabe moderne et contemporaine, in : Revue
théologique de Kaslik. N° 2 (2008), pp. 147-167.
حيث ترى أن المفكّرين العرب المسلمين كالجبرتي والطهطاوي ومحمد عبده وقاسم أمين ومن جاء بعدهم من الإصلاحيين كانوا يعملون بطرق مختلفة على الموازنة بين قيم المدنية الحديثة وقيم الإسلام.
وانظر كذلك: كمال عمران، إشكالية التجديد في الفكر الإسلاميّ، مقال ضمن كتاب جماعيّ بعنوان "الواقع الديني اليوم" (فعاليات الدورة الثالثة لملتقيات قرطاج الدولية، من 1إلى6 فيفري 1999)، ص:87 -119، إذ بيّن في قراءته لشروح رشيد رضا ومحمد الطاهر بن عاشور للحديث النبوي المؤسس لفكرة التجديد احتكام الرجلين إلى مبدإ الملاءمة بين الدين وحاجات المجتمع المتغيّرة. كما تعرّض عبد المجيد الشرفي في كتابه" الإسلام والحداثة"( الدار التونسية للنشر، 1992، ص 68) إلى هذا الموضوع فبيّن أنّ "تفسير المنار" كان في جوهره استجابة لمقتضيات عصر باتت الحاجة فيه ملحّة للحاق بالمدنية الأوروبيّة.
[4] راجع على سبيل المثال: محمد بوزغيبة، علماء الإصلاح والاجتهاد في تونس، المطبعة العصريّة، تونس، 2004. وانظر الجزء الأول منه إذ خصّصه للتعريف بعلماء الزيتونة المجتهدين ولبيان إسهاماتهم في تأسيس نظر إسلامي معاصر بدءا بمحمود قابادو وخير الدين التونسي وصولا إلى محمد الطاهر بن عاشور ومحمد الفاضل بن عاشور، مركّزا على ما بينهم من تواصل منهجي ومعرفيّ.
[5] راجع كتابه: امرأتنا في الشريعة والمجتمع، وانظر خاصّة مناقشته لأحكام المرأة في الشريعة الإسلامية.
[6] من أبرز الأصوات المناهضة للمشروع الإصلاحي في تونس محمد الصالح بن مراد في كتابه" الحداد على امرأة الحداد" تونس، ط1، 1931.
[7] كان محمد عبده يعتقد، خلافا لجمال الدين الأفغاني، أنّ المدخل الأنسب لتحقيق نهضة الشرق هو المدخل التربوي حتّى أنّه اقترح على الأفغاني تأسيس مدرسة لتربية الناشئة على القيم الحديثة بعيدا عن عيون الحكّام حتّى يكونوا في المستقبل نواة تنظيم يقدر على تغيير نظام الحكم. وخصّص طه حسين كتابه مستقبل الثقافة في مصر للبرهنة على أنّ إصلاح التعليم مدخل ضروريّ لبناء عقول قادرة على التفكير والفهم وعلى إدارة شؤون البلاد إدارة عقلانيّة تحميها من الاستبداد والجهل. أمّا محمد الطاهر بن عاشور فقد خصّص كتابه "أليس الصبح بقريب" لبيان ما للتجديد التربوي من دور حاسم في النهوض بالبلاد وكان يعتقد أنّ أسمى غايات التعليم هي "إنتاج قادة للأمّة في دينها ودنياها". راجع كتابه المذكور، دار سحنون للنشر، تونس/ دار السلام للطباعة والنشر،مصر، ط3، 2010.
[8] للتوسّع في أبعاد هذا الإصلاح الاجتماعية والسياسية والحضارية يستحسن الرجوع إلى: بلقاسم بن سالم، التعليم العصري ونظام التوجيه المدرسي في تونس، منشورات الجامعة التونسية (مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية)، تونس، 1988.
[9] تولّت الدولة بمقتضى جملة من التشريعات المعروفة، مثل قانون إلغاء المحاكم الشرعية وقوانين الحالة المدنيّة، الإسراع في الخروج بالمجتمع التونسي من طور كانت فيه للقبائل والعشائر والطرق الدينيّة سلطة نافذة على أفرادها، إلى طور حلّت فيه الدولة الوطنيّة محلّ هذه البنى الاجتماعية التقليدية فتشكّل بذلك مفهوم جديد للانتماء وأصبح للتونسيّين كلّهم، على اختلافاتهم الدينية والقبليّة والمذهبيّة، انتماء واحد وهو الانتماء للدولة /الأمّة. نقول ذلك رغم أنّ دستور 1861م تضمّن في الكثير من فصوله إشارات إلى ميلاد هذه الهوية الوطنيّة الجديدة.
[10] انظر على سبيل المثال الدراسة التي نشرها ياسين بن علي في مجلّة الزيتونة 2011 بعنوان: نقض مجلة الأحوال الشخصية.
[11] توسّع ياسين بن علي في دراسته المذكورة أعلاه في الكشف عن مراجع الكثير من هذه الأحكام وبيّن سعي المشرّع التونسي إلى عدم التقيّد بمذهب دون مذهب حتّى أنّه خلط في الكثير من الأحكام بين أقوال المالكية وأقوال الحنفيّة وأقوال الإماميّة، وكان يهدف من وراء ذلك إلى الكشف عن الأخطاء المنهجية التي وقع فيها المشرّع التونسي وما يترتّب عنها في نظره من تلفيق.
[12] نكتفي هنا بتحليل بعض الأحكام التي ترتّب عنها قطع الصلة نهائيّا مع القديم لدلالتها البارزة على آفاق المشروع الإصلاحي التحديثيّة.
[13] من القوانين الأخرى المندرجة في هذا الباب أحكام الفصل 30 من كتاب الطلاق (لا يقع الطلاق إلا لدى المحكمة) وأحكام الفصل31 منه التي تمنح الزوجة حقّ المطالبة بالطلاق بسبب ضرر حاصل.
[14] يتجلّى هذا الأساس القانوني لميلاد الدولة/الأمّة كذلك في قانون نوفمبر 1958 المتعلّق بإصلاح التعليم وهو القانون الذي جعل الدولة وحدها قيّما على التعليم في تونس.
[15]Jacques Derrida, l’écriture et la différence, édition du seuil, 1967, p : 51.
[16] يعتقد حزب التحرير أن "لا حرّية ولا ديمقراطية في الإسلام"، ويعتقد السلفيّون أن الحداثة والعلمانية كفر بواح،وقد راجت في الساحة مطويّات وهّابيّة وأخرى بإمضاء تنظيم القاعدة تضبط قانون الإيمان وتنعت العلمانيّين والقوميّين والشيوعيّين والبعثيّين بالكافرين وتُبيح قتلهم.
[17] يقول ريجيس دوبراي(Régis Debray) في سياق تحليله لبنية العقل السياسي:
Résister c’est se regrouper, se regrouper c’est s’organiser. (Critique de la raison politique, Gallimard, 1981, pp : 383/384.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى