مجدي جعفر - مقاربة نقدية في المجموعة القصصية (وجوه خارج الكادر) للكاتب صلاح هلال حنفي

في مجموعته القصصية ( وجوه خارج الكادر ) قدم لنا صلاح هلال حنفي ( 67 ) نصا في ( 100 ) صفحة، تراوحت ما بين القصة القصيرة والقصة الومضة والقصة القصيرة جدا.

وإذا كان ( الكادر ) هو الحيز الذي نرى فيه الصورة أو هو ما تظهره الكاميرا، فإن الكاتب يسلط كاميراته على وجوه عادية وبسيطة ومهمشة، وجوه خارج الكادر، وجوه تم إهمالها ولم يُلتفت إليها، فيستعيدها الكاتب، وقد يلملم أيضا نثار شخصيات افتقدناها في زمان ومكان آخرين، وقد يقدم لنا وجوه اكتوت بنيران الواقع، وتعافر وتقاوم من أجل الحصول على لقمة العيش، وجاءت شخصياته على الورق شخصيات حية من لحم ودم وأعصاب تموج بالحركة وتنبض بالحياة، وكأنها قُدت من الواقع المعيش، وسنتوقف في مقاربتنا على توق الكاتب وحنينه إلى القرية القديمة، وانحيازه إلى المهمشين والفقراء، وتعاطفه مع أصحاب القدرات الخاصة، وإنشغاله بالقضايا العامة، وبهموم الوطن وغيرها من القضايا والمشكلات والأفكار التي أثارتها نصوصه القصصية.

( 1 ) الحضور الطاغي للقرية :

بستعيد الكاتب في معظم قصص المجموعة القرية القديمة، ويضعها في مواجهة مع القرية المعاصرة التي أصبحت مسخا مشوها من المدينة، يضعها لنا في ( الكادر ).

= في قصة ( سرج الخيل ) ص 70 يقدم لنا القرية القديمة بكل مفرداتها، القرية التي لم تعشها الأجيال الحالية، فنتعرف على أنماط المأكل والمشرب، وأدواتهما مثل : القلة والزير، وألعاب الصغار : السيجة والبلي، وأجواء مواسم الحصاد، الأجران التي تفرط الجمال أحمالها فيها من الذهب الأصفر ( القمح )، والنورج الذي تجره البقرتان، وشجرة الجميز والهروب إليها وقت الظهيرة، والعلاج بالأعشاب، و .. و ..، ويواجه كل هذا بالقرية التي أصبحت مُستهلكة بعد أن كانت منتجة، وزحفت إليها أجهزة التكييف والهواتف النقالة!.

= وفي قصة ( ترمس بلون الدقيق ) يصف لنا رحلة رغيف الخبز من وقت حصاده قمحا إلى دخوله الفرن ومروره بالطاحونة، ويتوقف عند الطاحونة ليصفها وصفا دقيقا، ويستعيد زمنها ورائحتها وعبقها، والحركة الدائبة داخل الطاحونة.

وتتناثر مفردات القرية في جُل القصص : المسجد، المؤذن، إمام المسجد، الجد، الحفيد، المولد، العيد، شهر الصوم ( رمضان )، .... إلخ.

والقرية القديمة بشوارعها وحواريها وأزقتها وبيوتها الطينية، وعادات أهلها، وتقاليدهم، وقيمها، هي الجنة المفقودة التي يبحث عنها الكاتب.

............................................................

2 - المكان والزمان :

إذا كانت القرية القديمة هي المكان الأنسب والأفضل للكاتب فإن الزمن المثالي بالنسبة له هو الزمن الذي عاشه في القرية القديمة في طفولته، وهو في حنين دائم إليه.

والقرية مكانا وزمانا اختلفت وتغيرت، فيرصد تغيراتها، وتحولاتها، فأصبح الناس فيها يعيشون في المكان الافتراضي والزمن الافتراضي عبر الموبايل والواتس والنت ووسائل التواصل الحديثة.

= الكاتب في قصة ( ساعة جدي ) ص 24 نجده لم يزل متمسكا بساعة جده ( رمز الزمن القديم )، وبدا لأولاده وكأنه يعيش في زمن آخر، يعيش خارج الزمن، وأصبح أولاده ينظرون إليه وكأنه مجنون!!

= ويتنامى إحساسهم بجنونه في قصة ( دوران عقل ) ص 27 فهو يبحث عن أشياء ما عاد لها وجود، يبحث عن مكان وزمان آخرين، يبحث عن النقاء والطيبة والصفاء.

= وفي رحلة بحثه تلك عن القيم العليا المفقودة، يبدو لنا في قصة ( فيض ) ص 29 كأننا أمام أحد رجال الصوفية.

.............................................................

3 - المهمشون والفقراء :

يسلط عليهم كاميراته، ويحاول أن يضع ويُبرز صورهم في الكادر :

= أطفال الشوارع :


طفل الشارع الذي يتكوم في كومة بالية من أسمال تحت جدار في البرد القارس ( قصة " نقطة مطر " ص 15.

= أصحاب القدرات الخاصة :

الرجل الذي لا يسلم من مضايقات الأطفال، فينهرهم، ويبعدهم عنه، ويحس بالألفة نحوه، ويغوص بداخلة ويصل إلى النقطة النورانية في أعماقه، ويرتقي إلى الدرجة التي يستطيع عندها أن يتعامل معه، وكأنه أراد أن يقول : علينا نحن الأسوياء أن نرتقي إلى هؤلاء.

= والطفلة المعاقة التي تجلس على كرسي متحرك في قصة ( براءة ) ص 26.

= ويرصد حالة الهلع من فيروس ( كورونا ) والأخذ بكل أساليب الوقاية، وتغيير نمط الحياة، فالابنة الممرضة حولت حياتهم وكل شيء إلى نظام معقم، ويصدمنا بالرجل الحافي والجائع البائس الذي ينقب في صندوق القمامة بالمشفى ويفتح الأكياس العفنة ويأخذ منها ما يمكن أن يتناوله ويسد رمقه، ويبحث عما يحتاجه ويضعه في جراب مهلهل كملابسه خلف ظهره!.

= المرأة العجوز المريضة الخارجة من المشفى، فيطعمها ويسقيها، وتذكره بأمه ( قصة " تكوينات " ص51 ).

= في قصة ( تأوهات ) ص 46 : الجرو الذي ينزع المعطف عن سيدته ويلقي به للأطفال العرايا!.

= الحالة النفسية للأب لعدم قدرته على شراء الفاكهة لأولاده، لشح النقود في جيبه ( قصة " رائحة الثمار " ص 77 )

= في قصة ( الهاتف النقال ) ص78 : الأجير الذي ارتبطت حياته بالهاتف النقال من خلال الذين يطلبونه للعمل، ويحزن حزنا شديدا لتعطل هاتفه، والأولاد يتضورون جوعا في الدار، وبعد أيام يرن الهاتف، فيمني نفسه بأن يكون المتصل به أحد الموسرين ويطلبه للعمل عنده أياما وأسابيع ليطعم أولاده ويسدد دينه، ولكن المتصل كان أحد الدائنين يهدده بسرعة تسديد ما عليه من دين ففات موعد سداده!.

= وفي قصة ( رغيف مهاجر ) ص88 : الرجل يبحث عن رغيف يسد به رمق أولاده ولا يجده، فيكتشف أن أصحاب الكروش هم من اختلسوه، هؤلاء الذين يمتصون دماء الفقراء، هاجر الرغيف إلى كروشهم، وتركوا الرجل ينعي حظه وأولاده يتلوون من الجوع.

= وفي قصة ( وجه آخر الليل ) ص90 : بائع الكعك الذي يفشل في البيع للطبقة الراقية، فيصف النيل والمراكب الشراعية والصيادين، والرجل الفقير الذي يبيع الكعك بالسمن البلدي ولا أحد من أهل الطبقة الراقية يشتري منه، وتخشى سيدة من تلك الطبقة على كلبها من الكعكة التي ألقاها له اتقاء لشره، ولا يدري أن الكلب تعاطف معه، وأخرجت السيدة لكلبها قطعة من اللحم من اللحم المجفف، فهي تخشى أن تلوث الكعكة معدته، فتنهر البائع وتزجره، ويدور حوار صامت بين الكلب والرجل البائس الفقير بائع الكعك، ويهز له ذيله، ويفشل الرجل في البيع لهذه الطبقة، ويكتشف في النهاية أنه يجب أن يبيع للفقراء والبسطاء، فأمثال هؤلاء لا يأكلون مثل هذا الكعك البلدي!

.........................................................................

4 - الهموم العامة :

= يضع دولة العراق في الكادر من خلال مدرس الجغرافية الذي يشرح خريطة بلاد الرافدين ( قصة " البكر " ص42 )

= تظهر الخلافات في قصة ( التقاء ) ص44، ومحاولة اللقاء في كهوف بابل، ولم يتم الالتقاء أو التوافق على نقطة واحدة.

= ويحلق فوق الأقصى في قصة ( وطن ) ص68 فيصطاده الأوغاد ليصبح أشلاء.

= وقصة ( طائر بلون سمائي ) ص 70، وهي قصة رمزية : الطائرة الغريبة التي تقتحم سماء القرية لتوقع طائرات الأطفال، فيتمكن طفل بمساعدة جده في ابتكار طائرة أكبر وأقوى ويمزق الطائرة الغريبة طائرة العدو ويطردها عن سماء قريته.




....................................................................

5 – التناص والرمز :

= " يجد نفسه على ألواح ودسر " ص28 في قصة ( وجوه ) : إشارة إلى الطوفان واستدعاء نوح عليه السلام

الكاتب تناص مع القرآن الكريم واستخدم الرمز التراثي.

= قصة ( صرخة كائن حي ) ص 36 :

" سقط مولودنا على الأرض صارخا تحت أشجار النخيل، أحتضنته، فابتسمت له من بين سعف النخيل، وجدت رطبا .. أكلته )


فالأم تريد أن تحتفظ به في بطنها لأن كل من حولها يضمرون لها الحقد والكراهية، وتخشى عليه، وتهرب به من المشفى.

= في قصة ( الثاني ) ص 44 : الحديقة التي ظن صاحبها أن ما بها من صنع نفسه، وركبه الغرور، فاقتلعتها العواصف.

" تناص مع صاحب الجنتين في سورة الكهف "

= في قصة ( جنين ) ص 52 : محاكمة جنين لأمه – انتحرت بسبب الظلم الواقع عليها من أبيه والجيران والناس، فخشيت على جنينها وأخذته معها، وتطلب منه العفو لكي تدخل الجنة، ويدور حوار رائع بين الجنين وأمه والأب الخائف الوجل الذي يتضرع إلى الله طلبا لرحمته.

= وفي قصة ( نواح ) ص54 : ( أوجس في نفسه خيفة ) .. ( - من أين لك هذا؟.

-هو من عند الله ) وغيرها من الاقتباسات القرآنية، وهناك عشرات الجمل التي يبدو تأثره فيها بالقرآن الكريم، وقد وردت ( سنعيدها سيرتها الأولى ) أكثر من مرة في أكثر من قصة.

= وفي قصة ( كهف القيعان السبع ) ص56. يعود إلى تلال قرية ( كفر المقدام ) إحدى قرى مركز ميت غمر – محافظة الدقهلية، وهي إحدى القرى المجاورة لقريته، ويتماهى مع آثارها التي لم تزل باقية شاهدة على تاريخ عريق وحضارة تليدة، ويستعيد صلاح الدين وفرسانه، وزمن العزة والفخار، ليعري زماننا زمن الذلة والانكسار.

ومن وصايا الجد : حافظوا على السبعة قيعان وأرجل الفرسان.

= من كان بيده فسيلة فليغرسها .. قصة ( صورتان للزهور )، الصورة الأولى ص 61 : ايجابية الرجل العجوز الذي يتكأ على عصاة، ويحارب القبح ويحاول القضاء على الفراشات والحشرات الضارة التي تضر بالزهور، ويقاومها، ويغرس فسيلة أخرى.

وهي اقتباس من حديث نبوي.

والصورة الثانية يتجسد فيها الأمل في الأطفال الأبرياء الذين يتخذونه إماما لهم في مصلاة على جرف نهر صغير، فيراهم ورودا أو ملائكة أبرياء، وهم من يصنعون الجمال ويحافظون عليه ص 63.

..........................................................

6 - هموم ثقافية :

= يضيق ذرعا بمدعي الثقافة الذين يعانون من الأمية الثقافية في قصة ( أمية ص 64 ) فهم ضجيج بلا طحن.

= ويؤرقه في قصة ( اختناق ص 65 ) الذين يضيقون على الكلمة ويخنقونها، ولا يريدون لها أن تنفك من قيدها.

= ويعري الوصولي والانتهازي في قصة ( كرسي لا يعرف صاحبه ص ص : 80 – 81 ).

= ويوقفنا على حال المثقف الحائر في قصة ( ظلي الآخر ص 85 ) وإحساسه بالغربة، والأسئلة الوجودية التي يطرحها على نفسه، ومحاولته البحث لها عن إجابة، واتهامه بالجنون وغرائب أطواره وسلوكه.

...................................................................

اتسمت قصص المجموعة بالاختزال والتكثيف الشديدين، والكاتب يعي الأصول التي يقف عليها العمل القصصي، هذا الفن المخاتل، والمراوغ الجميل، وقد أهدى مجموعته إلى كُتّاب القصة الممسوسون بغواية هذا الفن، وأهداها أيضا إلى الكُتّاب الحقيقيين الذين قدمهم إلى الحياة الأدبية العربية من خلال مسابقته التي انطلقت منذ العام 2002م، ووثق نصوصهم ورقيا في مجلة ( مبدعون ) والكترونيا أيضا على الموقع الخاص بالمسابقة، وهذه المجموعة أعتبرها إضافة حقيقية إلى المكتبة العربية، وهي من الثراء الفني والموضوعي ما يجعلها جديرة بالاحتفاء بها وبكاتبها الذي يبدع في صمت وبلا ضجيج، وخالص شكري وامتناني للكاتب الكبير صلاح هلال حنفي سالم الذي قدم لي في هذه المجموعة متعتي الاقناع والامتاع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى