د. أحمد الحطاب - الله، في قرآنه الكريم، فضَّل ويُفضِّل العقولَ المُجتهِدة والمُنتِِجة على العقول الجامدة

العقول المجتهدة والمُنتِجة هي العقول التي تأتي دائما بالجديد في شتى مجالات المعرفة بما فيها المجال الديني. لأن الدين، إذا كانت له ثوابت، فإن المعاملات المترتِّبة عن هذا الدين، يجب أن تتغيَّرَ بتغيير الزمان والمكان. أما العقول الجامدة، فإنها العقول التي لا تجتهد ولا تُنتِج أي شيء وتكتفي بما أنتجه الآخرون فيما مضى من الزمان. والعقول الجامدة، بجمودها فكريا، تُجمِّد الحاضر والمستقبل. أما الماضي، فهو مقدس، بحكم ارتباطهم به فكريا، عقليا ودنيويا. بالنسبة لهذه العقول الجامدة، ما أنتجه الآخرون، صالحٌ لكل زمان ومكان، علما أن الحياةَ، بمفهومها العام والواسع، تكره الجمود.

بعد هذه التوضيحات، هذه بعض الكلمات عن العقل. العقل هٍبةٌ من الله، عزَّ وجلَّ، التي أنعم بها على بني آدم الذين جعلهم الله في أحسن تقويم ونفخ فيهم من روحه، أي جعلهم مخلوقات واعية ومُدرِكة لما يجري حولها من أحداث وما تُصادفه من ظواهر، ومُميِّزة بين ما هو خير وما هو شر وما هو طيب وما هو خبيث وما هو فساد وما هو صلاح وما هو ظلمٌ وما هو عدل…

والدلائل أو الآيات الدالة على هذا التَّفضيل الذي أشرتُ له في عنوان هذه المقالة كثيرة في القرآن الكريم. من بينها، أذكرُ، على سبيل المثال، الآيات التاليةَ :

1.وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (المؤمنون، 80). في هذه الآية، العبارة التي، من خلالها، يدعو اللهُ، سبحانه وتعالى، الناسَ لاستعمال عقولهم استعمالا صائبا، هي : "أَفَلَا تَعْقِلُونَ". كأنه، سبحانه وتعالى، يقول للناس إذا أنعمتُ عليكم بالعقل، فلتستعملوه ولتّدركوا ما بيَّنتُ لكم من آياتٍ في الدنيا.

استعملوا عقولكم لتُدرِكوا أن اختلافَ الليل والنهار راجع لدوران الأرض حول نفسها مدَّةَ 24 ساعة، وأن اختلاف الفصول راجع لدوران الأرض حول الشمس، وعن اقترابها أو ابتعادها عن هذه الأخيرة.

2.وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الجاثية، 13). في هذه الآية، فعلُ "يَتَفَكَّرُونَ" يشير للتَّدبُّر والتَّأمُّل. والتدبُّر والتَّأمُّل لا يمكن أن يتمَّا بدون تدخُّل العقل. والتَّسخير هو نعمةٌ من الله. لكن الكثير مما سخَّره اللهُ للإنسان يحتاج للعقل لتحويله إلى منافع يستفيد منها البلاد والعباد. مثلا : المعادن من الممكن، بفضل العقل، تحويلها إلى أدواتٍ وآلاتٍ وأجهزة… تسهِّل الحياةَ اليومية للناس.

التسخير هو فضلٌ من الله، سبحانه وتعالى. لهذا قلتُ في مقالة سابقة : "اللهُ يُسخِّرُ والإنسان يُفكِّرُ". وقلتُ، كذلك، في عدَّة مقالات "إن العقل هو أفضل وأحسن وأخير وأنفع… ما وهبه اللهُ لبني آدم".

3.إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (آل عمران، 190). في هذه الآية، "لِّأُولِي الْأَلْبَابِ" تعني أصحاب العقول النيِّرة والمستنيرة، القادرين على استعمال عقولهم للتًّأمُّل في خلق السماوات والأرض وفي اختلاف الليل والنهار، أي كيف خلق الله السماواتِ والأرضَ وما هي أسباب اختلاف الليل والنهار. وعندما يتأمَّل الإنسانُ في خلق السماوات والأرض، فإنه يسعى إلى معرفة كيفية هذا الخلق. وكذلك الشأن في معرفة أسباب اختلاف الليل والنهار. وهذه هي العقول المجتهِدة والمنتِجة التي أشرتُ لها في عنوان هذه المقالة.

وما يُثيران الانتباهَ في هذه الآية الكريمة، هو أن اللهَ، سبحانه وتعالى، لم يحدِّد مَن هم أولو الألباب. وعدم تحديد مَن هم أولو الألباب، يجرنا إلى القول أن أولي الألباب هم الناس أصحاب العقول النيِّرة والمستنيرة، بغض النظر عن عقيدتهم وعن انتمآتهم الاجتماعية وعن توجُّهاتهم الفكرية.

4.وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (النحل، 15). في هذه الآية، "لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"، هي العبارة التي يدعو اللهُ، سبحانه وتعالى، الناسَ لاستعمال عقولهم ليُدركوا لماذا ألقى الله، سبحانه وتعالى، رواسيَ في الأرض. فمَن الذي سيهتدي؟ الذي سيهتدي هو الشخص الذي سيتوصَّل إلى معرفة سبب أو أسباب إلقاء الرواسي في الأرض. ومَن الذي سيتوصَّل إلى معرفة هذه الأسباب؟ إنه الشخص المتوفِّر على عقل مجتهد ومنتِج، أي الباحث الذي يسعى إلى معرفة أسرار الكون.

5.وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (النحل، 12). في هذه الآية، كلام الله موجَّهٌ للناس قائلا لهم : لقد وضعتُ رهن إشارتكم الليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ والنجومَ. إن أردتم أن تعرفوا لماذا سخَّرتُ لكم هذه الأشياء، فما عليكم إلا أن تستعملوا عقولكم. واستعمال العقل، في هذه الآية، مُشارٌ إليه بعبارة "لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ".

كل هذه الآيات الخمسة، وما أكثرَ مثلها في القرآن الكريم، تبيِّن، بكل وضوحٍ، أن اللهَ، سبحانه وتعالى، حينما جعل الإنسانَ خليفةً في الأرض، ونفخ فيه من روحه ليكون عاقلا و واعيا، لم يكن هذا الجعل من باب الصدفة أو من باب العبث. بل كان ولا يزال، من وراء هذا الجعل، غايةٌ ألا وهي إعمارُ الأرض، من خلال عاملين أساسيين، هما : التسخير والعقل. وبدون عقل، لا فائدة من التسخير ولن يكونَ إعمارُ الأرض ممكنا!

في سياق ضرورة استعمال العقل كما اراد ويريد ذلك اللهُ، سبحانه وتعالى، هناك سؤال يجب طرحُه هنا، وهو : "أين توجد العقول المُجتهدة والمُنتِجة وأين توجد العقول الجامدة؟

الجواب على هذا السؤال سهلٌ للغاية. توجد العقول المجتهدة والمنتِجة في البلدان التي قطعت أشواطاً مهمَّةً في مختلف مجالات التَّقدُّم والازدهار إنسانيا، اجتماعيا، اقتصاديا، ثقافيا… وبالأخص، قطعت أشواطا هائلة في مختلف مجالات العلوم والتِّكنولوجيا. أي البلدان التي لا تسمح لعقولها أن تبقى جامدة. بل إن هذه البلدان لها سياسات واستراتيجيات لتحريك هذه العقول واجتناب أن يستوليَ عليها الخمول والوهن.

والبلدان التي لا تسمح لعقولها أن تتجمَّدَ، لها منظوماتٌ تربوية تحتل الصدارةَ في التصنيفات العالمية وتُعطي مكانةً عاليةً للثقافة بمختلف تجلياتها وتساند ذوي العقول النيرة والمستنيرة، ماديا ومعنويا، من باحثين وعلماء ومُفكِّرين…

أما العقول الجامدة، فإنها توجد في البلدان التي تدَّعي أنها مُتديِّنة، بينما تديُّنها، في غالب الأحيان، ليس إلا واجهة لتغليط الناس. وهنا، لا بد من توضيحٍ لكي لا يقول القارئ أني أضع كل البيض في سلةٍ واحدة. العقول الجامدة محصورة في فئةٍ من المجتمع، فئة تديُّنها يتناقض تناقضا صارخا مع أفعالها داخلَ هذا المجتمع. فما هو سببُ أو أسباب هذا التناقض؟

السبب الرئيسي هو أن جانبا من التَّديُّن، غير ألمرتبط بالعقل، هو الذي يدفع هذه الفئة من الناس إلى تجميد العقول. وبعبارة أخرى، عوضَ أن يكون التَّديُّنُ حافزا قويا لاستعمال العقل استعمالا سديدا، فإنه يقف سدا منيعا ضد هذا العقل وضد المنطق والحِكمة. بل هذا الجانب من التَّديُّن يقف ضد القرآن الكريم الذي يحثُّ، كما سبق الذكرُ، على استعمال العقل.

أما الأسباب الأخرى، فيمكن تلخيصُها فيما يلي :

1.مجتمعٌ مُحافظٌ، بصفة عامة.
2.منظوماتٌ تربوية تعتمد حصريا على الببغائية psittacisme، وفي غالب الأحيان، مُصنَّفة، عالميا، في المراتب المتأخِّرة.
3.شريحةٌ عريضةٌ من أعضاء المجتمعات، رغم تعلُّمها، متخاصمة مع الفكر النقدي ومع التَّفتُّح والتَّحرُّر الفكريين والاجتماعيين.
4.مشهد سياسي فاسد لا يهتمُّ، على الإطلاق، بهموم الناس ولا بكيفية تفكيرهم. ما يهمُّه، هو الوصول إلى السلطة، من أجل السلطة.
5.طغيان التفاهة والرداءة في المشهد الثقافي…

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى