يوسف الشريف - هذا الأبُ أبي...

كأنها سيرة

كان أميا لكنه ولحكمة يعلمها الله وحده يحب الذين يقرأون ويحب الكتب وكل ورقة مكتوبة ولا يمكن أن يتجاوز ورقة رآها مرمية في التراب كان يأتيني بها لأقرأ ما تقول، كان واعيا ودون أن يدري بأن القراءة حياة لذلك التحق بمدرسة لمحو الأمية ونال شهادتها، طاف بها على أصدقاءه في زنقة الباز يخبرهم بأنه صار يقرأ، رأيت نجوم الفرح في عينيه. كان يكره الدموع يقول إن الدموع للنساء وأنا كثيرا ما كانت دموعي على كفي.

هذا الأبُ أبي

كان أول من قدم لي كتابا ولم يقل لي من أي مكتبة اشتراه ولم أكن قد عرفت الطريق إلى المكتبات بعد، كنت في المستوى الابتدائي وكان خوي لامين بائعا للصحف والمجلات الأجنبية ويعرف المكتبات فأهداني كتابا عندما نجحت وانتقلت إلى صف متقدم، لذلك أقول وأردد القول بأني رجل ولد في القراءة بالمعنى الواقعي للكلمة، ثم صارت القراءة عقيدتي التي ابشر بها حتى أنى اعتبر الذي لا يقرا انسان ميت.

هذا الأبُ أبي

نحيف الجسم حاد النظرات سريع الخطى والغضب، طيب النفس ويحب الجميع والجميع يعرفونه لأنه يحيي كل من يلاقي ولا يعرف التجهم لأنه يتكلم بمطلق وعيه ويعبر عنه دون حرج ويعتذر أيضا إذا لزم الأمر دون حرج، لا يعرف الحزن إلا إذا أصاب دراجته الوحيدة خطب ما لأنه يراها كأحد أفراد العائلة، كانت طوع أمره في كل شواغله ويعرفها الصغير والكبير أما إذا رأيت رجلا يطارد حافلة ركاب فاعلم أنه أبي وتلك كانت هوايته التي لم يتنازل عنها وعندما أخبرت أمي بكت وتوسلت إليه كثيرا لكنه ركب رأسه ولم يستجب، لكن في يوم من الأيام اختفت الدراجة وفي وضح النهار، بحث عنها في كل شارع وزنقة لكنها فص ملح وذاب لكنه قام بالتحقيق معي لشكه.

هذا الأبُ أبي

هذا الأب أبي

كان يحب أصدقائي ويرى فيهم يوسف الآخر ويفرح كثيرا كلما ضاقت بهم مربوعتي ويقف على خدمتهم وإذا كنت غائبا وجاء صديق منهم يودعه بكتاب من مكتبتي ولم يتوقف عن هذه العادة إلا بعد زواجي، شجرة الصداقة نمت في قلبي من قلب أبي الذي يشهد له أصدقاؤه بمواقفه دفاعا عنهم والآن يعرف عني أصدقائي إيماني بأن الصديق وطن.

هذا الأبُ أبي

كان شجاعا ولا يحب الخائفين، جنده الإيطاليون قسرا في عمر المراهقة لكنه هرب منهم والتحق بالمجاهدين وحارب معهم ونال وساما على جهاده، وحتى قبل رحيله كان يتسقط أخبار الذين يرسلهم معمر للجهاد في بلدان بعيدة، وعندما أنهى تدريبه في المقاومة الشعبية ازداد اصراره على الالتحاق بالمجاهدين إلى أن كانت ليلة استيقظنا فيها على جلبة منه ،سألته أمي وين ماشي أجاب بإهمال للحرب، ولم نكن على علم بأي ترتيبات قام بها، تركناه يفعل ما يريد فقد كان من العبث ثنيه على ما نوى، وكانت أمي تبكي وتولول وتدعو الله أن يعيده سالما، وقد استجاب الله لنداها فقد عاد أبي بوجه غاضب أسود، قال إن حافلة المطار غادرت قبل وصوله.

هذا الأبُ أبي.

منذ مولده كان وحيدا لكنه كان يرى في كل الناس أحبابا وكان يؤمن بأنه قادر على تقديم المساعدة لمن يطلبها، صنع حياته بعرقه ودمه، مارس مهنا عديدة، لكن عندما عمل طباخا عند الانجليز والفرنسيين قالت أمي ” أنت مش عارف حتى كيف تقشر بصلة ” لكن هذا ما حدث ويبدو أنه كان يخفي مهاراته بل إنه كان جسري للعمل نادل في نادي الضباط الإنجليز في العطلة الصيفية أثناء دراستي الثانوية، هذه التجربة أفادتني كثيرا خاصة من جهة الشعور بالرجولة، كان يؤمن بأن المستحيل لا وجود له” متقولش منعرفش “تلك كانت فلسفته في حياته.

هذا الأبُ أبي

لم أر أبي يبكي فرحا وبدموع صريحة إلا عندما أنهيت دراستي الجامعية بكلية الآداب بالجامعة الليبية سنة 1963، في ذلك اليوم أعلن أبي الخبر مبتدئا بالحاج محمد الذي يقرأ ويكتب ويعرف السياسة ويقرأ جريدة الأهرام وكان أبي يحس بالغضب وبالغيرة، ثم صفَّ صناديق المشروب بمدخل زنقة الباز وأخذ يوزع المشروب على كل الداخلين، أما أمي أيقونة الزنقة فقد زرعت الفضاء بزغاريد سمعتها كل نساء الزنقة، اكتظ بهن بيتنا الصغير، كان يوما عظيما لأن فرح أبي بتخرجي كان عظيما فقد فاض فيه الفرح من كل خلية بجسمه.

هذا الأبُ أبي

كان يعطي ولا يأخذ وكريما إلى حد السخاء، لم يحدث أن عاد آخر الشهر براتبه كاملا وكان يقف عند 8 جنيهات، وكم كان غضبي شديدا عندما رأيته يلاحق ضابطا انجليزيا ويعيد إليه حافظة نقود سقطت منه بمدخل النادي الذي نعمل فيه أنا وأبي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى