إبراهيم ناجي - فى ظلال الفقر...

كان المرحوم محمد أفندى زيدون كاتباً بقلم الشطب فى بلدية الأسكندرية . أين هو الآن إنه الآن نائم فى مقابر “الغفير” . إنه انتقل من صبر طويل ، إلى يوم طويل . من قصة احتملها بدون أن يفتح فمه إلى رقدة أطبق فيها فمه مكرهاً .

لو تكلمت مقابر الغفير لقالت إن جنازته سار فيها أربعة أشخاص بالعدد ، وأن من هؤلاء شخصاً أطلق لحيته ، وتجلل بالسواد من فرعه إلى قدمه حزناً على زيدون أفندى ” الصديق الوحيد له حياً وميتاً .

وتذكر مقابر الغفير أن هذا الصديق – الكردى أفندى – لم يعد مع العائدين إلى المدينة ، بل جلس على حجر قريب من المقبرة وجعل رأسه بين يديه ، وأخذ يفكر .

لقد نشأ هو وزيدون فى بيت واحد وكانا زميلى صبا . دخلا الكتَّاب معاً وتقدما للابتدائية معاً ، وسقطا فى الكفاءة معا ، وعين زيدون فى بلدية الأسكندرية ، والكردى فى السكة الحديدية فى يوم واحد ، على أنهما كانا يتلاقيان باستمرار ، وكان من السهل على الكردى أن يذهب خاصة لصديقهِ زيدون بالأسكندرية .

إلى أن اتفقا ذات يوم على أن يقدما على الزواج . فدل الكردى صديقه على عائلة كريمة ، فتياتها على فقرهن لهن صيت ذائع فى الجمـال ، ويرضى أهلهن عن تزويجهن ” لأى موظف ” لأن الموظف فى نظر هذه العائلة فوق كل شئ .

وفعلا تقدما لخطبة الأختين وكانت الكبرى منهما من نصيب زيدون ، والصغرى من نصيب الكردى .

كانت الأولى جميلة جمالاً فاضحاً . وكانت الثانية أنثى ذات إغراء شديد . لذلك كان أهل الحى يقولون ، إن على الزوج أن يحكم بيد من حديد ، وإلا فلتت الظبية الحسناء .

أما زيدون فكان وديعاً طيباً هادئاً . أما الكردى فكان وحشاً كاسراً ، كان يغلق النوافذ ، ويقيم السدود والحدود ، ويحكم القيود . فإذا ضحكت نوال ضربها على فمها وإذا شمرت عن ساعدها لوى هذا الساعد ، فقتل إغراء الأنثى بها قتلاً ، وقبر فتنتها ودفنها دفناً .

فلندع قصته ، ولننتقل إلى مسرح فكرة حيث تمثلت عليه قصة جمالات ، وزيدون .

هذه القصة تبدأ على حقيقتها فى منزل صغير فى محرم بك . كان ينزل به الكردى ضيفاً كلما أتيحت له مأمورية بالأسكندرية .

فكانت تلقاه جمالات مكشوفة الساعدين عارية الصدر ، وقد تعمدت أن تجعل فستانها قصيراً لتبدى ساقيها الممتلئتين الموردين ، فكان الكردى يخرج مسبحته ويطرق إلى الأرض كاتماً غيظه ولكنه كان لا يستطيع أن يقاوم هذه الفتنه الشعواء ، وكان يتمنى فى صميم ضميره لو أن قيود العرف والصداقة والضمير محاها ماحٍ من سجل الوجود . ثم يميل على صديقه زيدون فى همس ، ويقول له :

“يا خويه خلى جمالات تتحشم شوية ، وماتفتحش الشباك ، ده الشارع واقف على رجل” .

فيقول زيدون فى مذلة وصمت “والله غلبت ! ….” ، ثم يردف قائلا “الحمد لله على كدهً .

إلى أن حدث ذات يوم أن حل الكردى بالأسكندرية فى نهاية مأموريته ، بعد غياب طويل ، فقصد إلى دار صديقه ، فاستقبلته جمالات بذلك الإغراء الفتاك ، فسألها عن زيدزن فضربت صدرها بيدها وقالت فى حسرة وأسف :

انتقل إلى كفر الدوار . قال الكردى : وليه ما سافرتيش وياه ؟ قالت : أعمـل إيه فى العيال مش بقى عندنا ثلاثة بيروحوا المدرسة ، وما لبثت أقدام صغيرة ، أن حققت هـذا الكلام . فوضعت يدها على شعر سميرة بفخر وزهو وقالت “أكبر أولادى”.

ثم أردفت : “اتفضل عندنا سهرة هذا المساء ” قال مندهشاً : سهرة ؟ بتاعة إيه …؟ قالت ؟ أصدقاء .. فبقى الكردى ينتظر ، وأقبل الليل ، وجاء معه الأصدقاء وغيرت جمالات ثيابها وتعطرت ، ولم يكن شعرها يعنيها فقد كان مسترسلاً فى فوضى لطيفة لم يكن يكفلها غير مشط صغير تحفظه بين ثنايا ثيابها .

كانت ترتدى فستاناً أحمر تعمدت أن تجعل فتحته من أعلى إلى أدنى مما يجوز ؛ ليبدو جزء من نهديها ، فى بياضهما الناصع .

وجاء الأصدقاء .

أصدقاء يحملون أطعمة وشراباً وآخرون يحملون آلات موسيقية ويتقدمهم رجل بين الكهولة والشباب ما لبث أن ظهر حتى قال الخادم “البيه جه” .

***

ثم انتهت السهرة ، أو كادت وكان الكردى واجماً فى طرف الغرفة تحدثه نفسه بالذهاب مرة ومرة ثانية تحدثه بالانتظار ، ليرى آخر الرواية ، وكانت جمالات مرحة ، ثملة ، ولاتفتأ تروح وتجئ ، وتمر بالكردى أفندى لتقول له اشرب ياكردى . كل يا كردى . فلا يشرب الكردى ولا يأكل وإنما يخالسها النظر ، أى يخالس جسمها الغض ووجهها الفاضح الجمال .

لا يدرى كم من الزمن مر . وإنما شعر أن الفجر هم بالطلوع .

وإذا الباب يقرع ، الخادم يقوم مترنحاً من إغفاءة على السلم وهو يقول “سيدى سيدى” .. فلم يعبأ به أحد .. ودخل “سيدى” منزله كما يدخل الأغراب وضع الحقيبة فى جانب ، ودخل فحيا “البكوات” . وهرعت جمالات تقول “زيدون” قالتها مصطنعة الكذب والنفاق ، فتقدم الكردى لزيدون ، كما يتقــدم المعزون فى المصيبة ، وأخذه بيده وأجلسه كأنما يقول “البقية فى حياتكم” .

اقتحمت جمالات “الرجال” وذهبت تواً لزوجها قائلة : انت جعان لازم . ووضعت أمامه قطعة من الفراخ ، ثم عادت قائلة “وشوية كونياك يدفوك” فنظر إليها فى عتاب ذليل .

ثم انصرفت عنه إلى بكواتها ورجعت تقول “باقى لبكرة ولا مسافر ؟ ؟” .

فأجــاب على الفور “أنا هربان من شغلى وجاى أشوفك لأنى ما عنديش أجازة . ومعاى قرشين عشان مصاريف العيال” .

فضحكت وقالت “خليهم معاك ينفعوك .. ” وانثنت لبكواتها تضحك وتنكت .. “

عطف الكردى على صديقه ، وقال “ايه دى يالله نقوم .” فصاح البيك الكبير بسخرية ” بدرى ياجماعة ” ثم بسخرية أخرى : ” مش تحوشى جوزك يا جمالات . ” فأقبلت جمــالات على الزوج تقول بدلال : ” مش تفضل بكره ؟ ؟ هو اليوم ده يتحسب ؟ ” فغمزه الكردى بقسوة .

فأيقظت جمالات الخادم وقالت ” اصحى يا ولد خذ شنطة سيدك للمحطة ، ثم أردفت قائلة : مشر رايح تشوف الأولاد . ولا بلاش لحسن نايمين دى الوقت “

وأوشك الفجر أن يطلع ، وقد لف فى ضبابه آدميين الكردى ، وهو كاد ينفجر غيظاً ، وزيدون وهو يمشى فى ذهول ، ويكاد يسقط من الإعياء .. وحمل القطار الاثنين إلى القاهرة . وفى أثناء السفر أدرك الكردى أن زيدون محموم ، وأدرك أنه فى غمار غيبوبة فتمنى له أن لا يفيق أبداً !

ولقد صحت نبوءته ، فإن زيدون حُمَّ ، فلم تفارقه الغيبوبة .

ودفن فى الغفير يتبعه أربعة من أصحابـه .. بينما كانت جمالات مع البكوات تذوق أطايب الحياة .



أعلى