علجية عيش - "العَيْشُ معًا في سَلاَمٍ"..الطّرِيقُ نحو "المُوَاطَنَة" الحَقِيقِيَّة

في اليوم العالمي للعيش في سلام

مقدمــــــــــــــــــــــــــة/

كل الديانات تحض على السلم وتدعو إلى تحقيق السلام و تصلي من أجله، و تحمل شعارات على شاكلة " ليكن السلام حليفك"، فالعالم اليوم في حاجة ملحة إلى أن يسود فيه التعايش السلمي و أن تعيش كل الشعوب في سلام بعيدا عن الحروب المسلحة و التفجيرات النووية، و قد اخترع الحكام عبارة التعايش السلمي أو العيش معا في سلام بديلا للحالة الوسطية بين الحرب و السلم، و هذا ربما لكسب الوقت، في حين يرى البعض ان استعمال التعايش السلمي أفضل من الحرب الباردة، من أجل بناء عالم يسوده السلم، و لذا وجب على الحكومات ومنظمات حقوق الإنسان أن تضع حدا للهول الذي ينزله رؤساء الدول القوية بالشعوب الضعيفة، و حتى الحكام بشعوبهم، إن السبيل إلى العيش في سلام هو محاربة "العدائية" و "التطرف"، و ترسيخ روح "المواطنة"، لكن كيف يقبل طرفان بالتعايش السلمي أو بتعبير أدق، كيف يعيش طرفان معا في سلام، و هناك طرف لا يعترف بحق الطرف الآخر في البقاء و الوجود؟، لأن العيش في سلام يسبقه الحوار، و في الحوار ينبغي أن يكون هناك قبولٌ كاملٌ بالآخر و استعداد تام للالتقاء معه و من ثم التحاور معه في كل شيئ يخطر على البال دون اي شروط أو إملاءات، فلا يرى الواحد منهم أنه أكبر حجما و وزنا من الآخر، إن الحوار لا يشترط إلا الاعتراف بالآخر ككيان مستقل له خصوصياته، و الحرب وحدها لا تعني حسم الصراع، و الجزائر كنموذج فقد خرجت منتصرة و هي تحارب الإرهاب من أجل ان يعيش شعبها في سلام، و تمكنت من استعادة الأمن و الإستقرار من خلال ميثاق السلم و المصالحة الوطنية، و تعين عليها استلهام رسالة أول نوفمبر 1954 التي كانت خلاصة فكر سياسي وطني، رأى النور بعد مخاض عسير.

من أجل أن يَحُلَّ السّلام و البناء و النّماء في صفوف الأمّة وعلاقات شعوبها

إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، و مبادئ القانون الدولي الإنساني، و ما سبق ذلك من مواثيق دولية، كانت كلها بعد حروب دامية مدمرة خاضعا العالم، و ممارسات خاطئة ارتكبها الكثيرون من أصحاب القرار و السلطة، مما دعا المصلحين إلى إلى إعلان تلك المبادئ و تبنيها في الهيئات الدولية، لإيقاف الحروب التي تشنها بعض الدول على الشعوب و ارتكابها أبشع الجرائم في حق البشر، كما حدث في جنوب أفريقيا، و يوغسلافية و البوسنة و الهرسك و كوسوفو، و كذلك الجرائم التي تمارسها إسرائيل على الشعب الفلسطيني و تمارسها أمريكا و بريطانيا على العراق و أفغانستان، فالسلام و الأمن و الخضوع لحكم القانون الدولي مرتبط بمدى التقدم في تنمية أحاسيس الانتماء و الإخاء الإنساني بين الشعوب و الأمم و توسيع دائرة القبول و الالتزام بالقواعد و المفاهيم الإنسانية و الأخلاقية و الاجتماعية المشتركة القائمة على روح العدل و الإنصاف و التضامن الإنساني المشترك، و دون ذلك و بقدر القصور في تحقيق تلك الأهداف و المساحات المشتركة تظل القوة و القهر و الصراع سمة العلاقات بين الأمم و الشعوب، و لا يقتصر السّلام الشامل على ما يفهم منه الآن من الانسجام بين الدول فحسب، بل يشمل حياة الأفراد بما يحقق لهم من الاستقرار في داخل الدولة و خارجها، فالدولة لا تنال غايتها من الانسجام الدولي إلا إذا تمتع أفرادها بنعمة الأمن و الطمأنينة فيما بينهم، لقد كانت الأديان كلها تنادي بالعيش في سلام، و كان السّلام هو التحية التي تبادر بها الشعوب بمختلف لغاتها، و رفعته في شعاراتها أمام الأمم، و لا يسع الحديث هنا عن السلام في الشرائع السماوية ( الإسلام ، المسيحية ، اليهودية و في الأديان الأخرى)، لكن يمكن أن نوجز القول بأن الأصل في التعايش هو السلام الدائم التي دعت إليه هذه الأديان، فبالسلام تتسع دائرة العلاقات الإنسانية بين أفراد الشعوب، و هو المبدأ المنشود في العالم المعاصر، بل في كل عصر ليعيش الناس في امن و استقرار، و لو نظرنا إلى العالم من حولنا لوجدنا عدوانا على السلام على المستويين العربي و العالمي، و الدليل النزاعات التي عاشتها الشعوب في العالم و الحروب المسلحة الدموية، و حتى الحروب الأهلية بين أفراد البلد الواحد ( تجربة الجزائر في العشرية السوداء نموذجا)، و لعل التفرقة العنصرية و الاضطهاد، و عدم توزيع الثروات بشكل عادل سبب كافٍ لقيام النزاعات و الحروب الدولية و الحروب الأهلية، فقد كانت الجماعات البشرية القوية و ما تزال، تجيز لنفسها الاعتداءات من أجل السيطرة على حدود دولة ما، و استغلال مواردها الاقتصادية ( النفط)، من هنا جاء الصراع المسلح الذي أخذ اسم الحرب حسب الموسوعة العسكرية.

تعريف السِّلم و السّلام /

عرف السِّلْمُ بأنه عدم وقوع الحرب، و يشترط ألا تحاول دولة ما غزو الدولة الأخرى و لا تقطع عنها أي مورد يضمن حياتها مثل الماء و الكهرباء، لكن السلم يختلف مفهومه من مجتمع لآخر، وفق أوضاعه السياسية و الإجتماعية، و بالنظر إلى التطورات السياسية، بات من الضروري فرض السلم على الجميع داخل الدولة أو خارجها، خاصة الدول التي لا تتوصل إلى نتيجة حاسمة، ليس أثناء الحرب ، بل بعد الحرب، و عبارة العيش في سلام مرادفة للتعايش السلمي، الذي يراد به عودة العلاقات بين دولتين أحدهما كانت مستعمِرة الأخرى، و تبقى الدولتان على توافق مهما كانت التقلبات السياسية، فكيف نسمي إذن عودة العلاقات بين الجزائر و فرنسا ؟، هل يجب على الجزائري مثلا أن يتعايش مع دولة حليفة لفرنسا، حتى يصبح التعايش هنا متوازنا متعدد الأطراف، و إن كان الحسم في مثل هذه المسائل يتطلب إجراء استفتاءً شعبيا، و أن تترك الحرية للشعب أن يقرر، فالسؤال يتجدد طرحه و هو كالتالي: هل تستطيع دولة مستقلة لكنها غير مستقرة أمنيا ( استمرار العمليات الإرهابية) أن تنجح في فرض سلم خارجي شامل؟ و يمكن أن نبسط السؤال بالصيغة التالية: كيف تبسط دول ما السلم لدولة أخرى محتلة، و هي غير مستقرة أمنيا، أي أنها عاشت مأساة وطنية و مهددة بحرب أهلية.

و السلم يقابله التطرف، و هذا المصطلح يأتي مقابل الاعتدال و الاتزان، و هو يعني المبالغة في التشدد الزائد عن اللزوم، مع رفض للتراجع و الاعتراف بالخطأ، حيث يقود إلى أعمال عنف، و ظاهرة التطرف التي يعاني منها العالم اليوم لها جذور تاريخية و مظاهر متعددة، ، تميزت في بدايتها بالتزمت الفكري الديني السياسي ثم اتخذ أنصاره مواقف عدائية و في الأخير بإعلان الحرب و تخريب المؤسسات و إسقاط الحكومات، و كانت الخلافات المذهبية ( الشيعة و السُّنَّة) و العرقية( العرب و الأمازيغ) قذ شكلت قوى مضادة، دون أن ننسى الحركات و الأحزاب الدينية و السياسية ذات الأصول السلفية مثل ( الهجرة و التكفير و الجهاد الإسلامي) فإنها تلتقي جميعا في برامجها الفكرية المتطرفة، و هذا راجع إلى ضحالة في الفكر و قصور في الفهم في كثير من المسائل التي تتعلق بالتجديد و التطور و الحداثة، و ساقت أصحابها إلى غربة فكرية ، كما أن تكفير الآخرين و استباحة دمائهم، و التميز بالعنف، كما يعود سبب التطرف إلى فساد الحكام و الحُكْمِ و طغيانهم و استبدادهم، و معرفة أسباب التطرف و العنف تتطلب تظافر جهود العديد من الباحثين المختصين في علم النفس و الإجتماع، و علم الأديان، لأن الظاهرة متشابكة و متداخلة، ولأن الإسلام يحذر من التطرف، يقول أهل الاختصاص أن الحروب الأهلية أكثر دمارا و خرابا من الحروب الدولية، خاصة و أن مشاكل الجوار و التعاون أو التعايش أصبحت لا تقبل حلا، و لذا إطالة فترة السلم يتطلب توفر الانسجام بين الجميع داخل و خارج الدول على السواء، و تتطلب مزيدا من التسامح، يقول أحد المفكرين و هو رجل قانون: " إن السلم عملية بناء مستمرة"، و هذا يعني أن السلم لا يعني الهدنة، فالسلم يحتاج إلى وقاية، و وقايته تأتي عن طريق العدالة الإجتماعية، أي بتلبية الحاجات و المطالب و بتنمية الثروة و تطويرها ، مادامت هناك دولة مستقلة تتمتع بالسيادة المطلقة.

أما السّلام مصدره كلمة سَلِمَ، و هي كلمة عامة في كل زمان و في كل مكان و لكل إنسان، و معناها أنه بيني و بينك المحبة و الطمأنينة و الأمن، و السلام ذكرت في القرآن مع ما يشتق منها أكثر من 80 آية في مناسبات مختلفة، و بمعانيها المختلفة بحسب المواقف و الموضوعات، كما ذكر القرآن كلمة السلام 42 مرة، و السلام في العلاقات الدولية، أي علاقة دولة بأخرى هو الأصل و لا يجنح للحرب إلا في حالة الضرورة و الدفاع عن النفس و حماية الدولة و النظام، ولهذا يرى الكثيرون أنه ينبغي أن يكون لهذه الدولة جيش قويّ يحمي حدود تلك الدولة، و أن يكون على جاهزية و يقظة دائمتين و هو يواجه الإرهاب و الجريمة المنظمة، و التأقلم مع كل الظروف، و بخاصة ظروف الصحراء، لأن الأسلحة مهما بلغت من تطور، يبقى العنصر البشري الطرف الأساسي في أي حرب، و حسمها لا يكون إلى بقدرة المقاتلين على التأقلم مع ظروف ساحات المعارك و بخاصة المعارك الصحراوية، سؤال يلح على الطرح، ما الذي تأتي به الحرب، سواء كانت دولية أو حرب أهلية و ماهي صورتها في الوعي و المتخيل الإنساني؟، ففي العالم العري اليوم تقاتلا رهيبا، لدرجة أن الأمم المتحدة و منظمات حقوق الإنسان اعتبرته فعلا وحشيا بل جريمة يعاقب عليها القانون الدولي، و لا يغيب هنا أن نقول أن صُنَّاعُ الموت عادة ما يتلذذون بقتل شخص يعارضهم، عكس الإنسان العاقل فهو يرى التقاتل بين ابناء الوطن الواحد ( النظام و الفيس) إخفاقا شاملا للدولة و للسلطة، و للعامة و للنخبة، ذلك أن مجتمعا حريصا على استمراريته في الحياة ، و يطمح إلى مستقبل واعدِ لا يقبل أن يرى دمه يسفك بشكل يومي، فالمتعارف عليه أن الشعب يحارب جنبا إلى جنب ضد عدو خارجي يهدد وجوده، لكن يحدث العكس و حين يحارب أفرادها بعضهم بعضا، أليست الحرب الأهلية انتحار جماعي؟، أرادت جماعة من وراء البحار أن تدفع بهذا الشعب إلى الموت، يمكن الإشارة أن تحقيق دولة موحدة ليس بالضرورة أن يكون بالقوة، و إنما بالتعايش السلمي في إطار احترام حقوق الآخر و عدم التدخل في شؤونه الداخلية.

كما أن وقاية السلم تكون بنزع السلاح و التصدي للإنقلابات السياسية في العالم، فقد أخفق الخبراء في مؤتمرات عديدة حول نزع السلاح و لم يتوصلوا إلى حلول للتهدئة من حدة النزاعات و الخصومة فيما بين الدول، و لم يتحقق مشروع إنشاء نظام دولي سلمي يتضمن نزع السلاح و إقرار الأمن الدولي، و انقسم الفريق إلى جانبين: جانب يرى أنه وجب توفير الأمن أولا، و الجانب الثاني قال أنه ينبغي نزع السلاح أولا حتى يستتب الأمن، كون الحرب أهلية كانت أم خارجية هي نوع من الوباء الاجتماعي مهما كانت مبرراتها و وسائلها، لأن الإنسان هو الذي يقتل لا السيف أو المدفع أو القنبلة النووية، و الأسلحة ماهي إلا أدوات القتل، و قد أكد خبراء الحرب و السياسة أن الروح العدوانية لدولة من الدول لا تتعلق بأهمية تسليحها أو بمجرد التهديد باستخدام سلاحها، فأسباب العدوان داخلية ترتكز على الدعاية و الإعلام، و التكيف التقني ، أي البنى الفوقية ( السيكولوجية و الإيديولوجية) و حتى الدينية ، و نشير هنا أن كل الديانات تحض على السلم وتدعو إلى تحقيق السلام و تصلي من أجله، و تحمل شعارات على شاكلة: " ليكن السلام حليفك"، و لهذا فالإرهاب منبوذ، لأنه يجعل المجتمعات تعيش في اشد حالات الذعر و الخوف و الرعب، و هو الذي مارسته الثورة الفرنسية و يدخل في حكمه الاغتيالات، في حين نجد أن الصراع السلمي التوافقي هو صراع تدافع حضاري بنّاء يحقق الإصلاح، و يدفع إلى الإرتقاء و التقدم.

لماذا فشلت مؤتمرات نزع السلاح ( مؤتمرات السلام)؟

يقول خبراء الحرب أن معركة السلام ليست سهلة و بالدرجة التي يتصورها السياسيون، فثمة قوى لا تقبل السلام إلا بشروط، أولها مسخ هوية الدولة الأصلية و استبدالها بهوية دولة أخرى، مثلما حدث بين الجزائر و فرنسا التي أرادت أن تكون الجزائر فرنسية و أن تتنازل الجزائر عن ماضيها، بل تقدم تنازلات حول العديد من المسائل ( تجريم الاستعمار)، و لعل مطلب السّلام ناجم عن تطور أسلحة الدّمار التي تستعملها الدول القوية، و التي حولت النساء و الأطفال و الشيوخ و حتى الجيوش المقتلة إلى جثث، و أصبح السباق نحو التسليح المادة الخام التي تتسابق إليها الدول، و بالعودة إلى قرون مضت نرى أن البشرية عرفت منذ ظهورها المذابح و المجازر من أجل البقاء، غاب فيها صوت العقل، و سجلت خسائر كثيرة، فكان على الدول و الحكومات أن تعقد مؤتمرا للسلم، كانت المؤتمرات العالمية للسّلام عبارة عن اجتماعات دولية لتعزيز السّلام تُعقد في عواصم أوروبية مختلفة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أول مؤتمر سلام عقد في لندن عام 1834، بينما عُقد أول مؤتمر يحمل رسمياً اسم "مؤتمر السلام العالمي" كان في باريس عام 1889، ثم المؤتمر الثالث في روما عام 1891، حيث أسس ناشط السّلام والبرلماني الدنماركي فردريك باير (1837-1922) المكتب الدائم للسلام الدولي (PIPB)، وهو منظمة مركزية لمجموعات السلام تدعو لنزع السلاح واللجوء لمحاكم العدل الدولية والتحكيم الإلزامي لفض النزاعات بين الدول، ثم يأتي مؤتمر باريس لنزع السلاح الذي انعقد في الفترة بين 1919 و 1920 ، و ها قد مضت تسع و تسعون سنة على انعقاد هذا المؤتمر، الذي واجه صعوبات، بحيث لم يتم الاتفاق بين المؤتمرين من عسكريين و خبراء سياسيين على تعريف ملائم لمفهوم الجندي، بعدما تغطت أوروبا بوحدات الميليشيا، فكان الإخفاق، لأن الجميع لم يكونوا على اتفاق على نقطتين أساسيتين هما: البدء بنزع السلاح أو بموضوع نظام الأمن، فكان رأي البعض أن استتباب الأمن مرهون بنزع السلاح، و كان الرأي الآخر بالنقيض، خاصة الدول التي كانت ترفض فكرة إجراء تفتيش أجنبي فوق أراضيها.

و لما تبين أنه يستحيل الوصول إلى نتيجة اتفق المؤتمرون على مشروع إصدار ميثاق يوقع عليه جميع من شاركوا في المؤتمر، فكان ميثاق كيللوغ بريان، الذي يندد بالحرب و طالب بتسوية الخلافات بودية، و التعهد بالامتناع عن الحرب في العلاقات الدولية، و كان المؤتمر قد باءت نتائجه بالفشل لغياب الوسائل اللازمة لتنفيذه، و أغلق الحوار حوله من جديد، بعدما أضيفت له سلسلة من المواثيق الثنائية لعدم الاعتداء على الآخر، لاسيما الميثاق الذي أبرم بين هتلر و ستالين الذي بني على خداع و خيانة، و رغم إعادة إحياء مؤتمر باريس على شواطئ بحيرة ليمان، كان ذلك بعد حادثة القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما، يرى صاحب التقرير أن فشل مؤتمر نزع السلاح ( باريس) سببه أن كل طرف يحاول أن يستدرج الطرف الآخر للتخلي عن أفضل أسلحته، بينما هو يحافظ على أسلحته الخاصة، و كما يقال الحرب حيلة، و لا توجد نية صافية في التفاوض، و كل طرف يسعى لاستعمال السبل "الماكيافيلية" في إقناع الطرف الآخر و إلحاق به الخسارة ، فيما يرى آخرون أن الأسلحة ليست وحدها تمثل قوة دولة ما، فقد كانت الولايات المتحدة الوحيدة التي تملك السلاح الذري ولكنها لم تستعمله، و لذا فالمسألة تتعلق بالدعاية و الإعلام الذي يعتبر أقوى سلاح لإرهاب الدول، ثم البنى الفوقية السيكولوجية و الإيديولوجية.

و لعل رفض الولايات استعمالها السلاح الذري أو النووي أو تأجيله، وفق الدراسات يعود إلى رغبتها في أن تكون عضوا في رابطة للدول من أجل تأمين مبدأ أساسي للعدل و السلام، تبين ذلك في خطاب الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون على هامش مأدبة أقامتها رابطة فرض السّلام في 27 مايو 1916 ، و لم يزل خطاب ولسون الذي ألقاه في 01 يناير 1918 فصّل فيه شروط السلام و وضعها في 14 نقطة ، من اجل الحفاظ على الهدوء و الاستقرار، فيما راح نيلسون أحد أعضاء الوفد البريطاني لمؤتمر باريس للسلام يعلن تذمره من اجتماعات ولسون و الزعيم الفرنسي جورج كليمونصو لتقسيم آسيا الصغرى و كأنهم يقطعون كعكة، إن مداولات مؤتمر باريس للسلم عام 1919 بينت كيف تؤدي الخلافات حول تقرير المصير إلى حروب جديدة، و هذا للرد على الرئيس الأمريكي الذي أراد أن يكون تقرير المصير لبعض الشعوب التي ترضى عنها أمريكا مثل الشعوب النمساوية الهنجارية التي كما يقول لها مكانة بين الأمم، كان ولسون يرغب في أن يراها آمنة مستقرة و أن تمنح فرصتها الكاملة في نهضة مستقلة.

التعصّب و التطرف يولدان "العدائية" و لا يحققان "التعايش السلمي"

إن السلم و الاستقرار لا يقومان على القمع و المذابح و الحروب الواسعة و الحروب الأهلية و الاغتيالات التي تطال السياسيين و النقابيين و رجال الفكر، و لأن السّلام وحده يحقق القيمة الإنسانية للفرد و للجماعة و للدولة، فالعربي إنسان و العجمي إنسان و الأبيض إنسان و الأسْوَدُ إنسان و الحاكم إنسان و المحكوم إنسان، فهم إذا سواسية كأسنان المشط، فما أحوج العالم اليوم إلى السلام؟ و هذا يستوجب معرفة الأسباب المتعارضة مع السلام و كيف يمكن إلغاؤها، من أجل العيش في مناخ يسوده الأمن و الاستقرار و الطمأنينة، كما أن السلام وحده كاف لضمان حرية الشعوب في كل مجالات الحياة لاسيما حريتهم العقائدية، فلا إكراه في الدين، إذ يمكن أن يتعايش المسيحي مع المسلم، و المسلم مع المسيحي، و حتى اليهودي المتديّن، و السلام يشترط الابتعاد عن التعصب و التطرف فكري كان أو ديني، أو ثقافي أو سياسي، أي تسهيل ذلك لكل معتنق لدين ( حرية العقيدة) أو لحزب (التعددية السياسية) أو رأي ( حرية الرأي) بدون إكراه أو إرهاق أو إقصاء أو إغراء، و بخصوص هذه الأخيرة حرية الرأي ، فحقوق الإنسان أعطت للفرد التعبير عن رأيه بالطريقة التي يراها، باعتبارها وسيلة للفكر، دون أن يكون متبعا لغيره، كما أعطته حق الإختلاف ( المعارضة) مع الدولة و السلطة، فالاختلاف و الخلاف في السياسة مثلا قديمٌ، يعود إلى موت الرسول (ص) يوم اجتمع الصحابة في موقعة السقيفة لاختيار الخليفة، و من هنا نشأت العدائية بين الأفراد و الجماعات.

قد يتساءل قائل من أين تأتي العدائية؟، و هل يتوجب علينا أن ننظر إلى العمل العدائي فقط؟ و كيف نعالجها كظاهرة اجتماعية؟، أو التخفيف على الأقل من حدّتها؟ و الحقيقة أن العدائية لا تكون بين دولة و دولة أخرى، و إنما قد تتولد بين النظام و الشعب لأسباب عديدة تتعلق باختلاف في الأفكار و المواقف، و الرؤى و السياسة و قد تتولد العدائية عن رفض الشعب لتوجهات السلطة، أو الدعوة إلى تغيير النظام، مثلما حدث في تونس و ليبيا و مصر و العراق، انتهت بإسقاط الأنظمة، أو ما نسميه بالربيع العربي، و العدائية كما عرفها علم النفس الاجتماعي تظهر عن التعصب في الرأي و الفكر، كما تستخدم للدلالة على وجود مجموعة من التصرفات السلبية تنتهجا جماعة ما، قد تتمثل في حكم بالإعدام ظلما، التحامل على الغير، أو اغتيال شخص ما، أو إبعاده عن السلطة دون وجه حق، تجويع شعب عن طريق رفع الأسعار و احتكار السلع، تزوير الانتخابات، احتكار السلطة، يشعر الإنسان أنه يعيش في عالم مأزوم، يقيد حريته، و يجعل منه مواطنا مستهلكا فقط، لدرجة انه يتصور أو يُخَيَّلُ له أن هذا العالم غير قادر حتى اليوم على الاقتراب من حقيقة أن التقدم والنهضة والخروج من نفق التخلف مرتبط بالحرية وبالوعي، وبوجود بشر يتحركون في فضاءات مجتمعهم بلا خوف من سلطة فاسدة، أو إرهاب أو إقصاء أو أي تهديد يتسلط على أرزاقهم وحقوقهم وكراماتهم من قِبل أطراف بعينها و لمصلحة أفكار وإيديولوجيات محددة، و الأمثلة كثيرة و متنوعة، فمن الصعوبة إذن تحليل كل ظاهرة على حدا، لأنها تصرف اجتماعي تقوم به جماعة تحمل نزعة تدميرية، فتقوم بأعمال عدائية، فيحدث الإحباط، و قد يؤدي هذا الإحباط بجماعة ما إلى تكوين هوية اجتماعية موازية و قد تشكل ميليشيات مسلحة، كما أن هذا الإحباط قد يدفع بالشعب نفسه ( الجماهير) إلى تبني العنف، و الخروج إلى الشارع، و ما يتبعه من تخريب و حرق للممتلكات و قتل للأرواح.
هكذا تدفع السلوكات الغوغائية بكل فرد إلى التسلح ، أي حمل معه سكين أو خنجر حيث ما كان، و قد نجدهم يترقبون الأحداث لإحداث الفوضى انتقاما من السلطة أو النظام، لكن ما حدث في الجزائر في بداية التسعينيات يختلف تماما عمّا حدث في تلك الدول، و لو أن الضريبة كانت غالية جدا، فقد اختارت الجزائر مشروع المصالحة الوطنية، هذا المشروع الذي كفكف دموع الجزائريين، و استطاع قادة الجزائر جيشا و حكومة و أحزابا أن يحققوا "الوئام" و الارتقاء بالوطن عن طريق ترسيخ قيم الانتماء و "المواطنة" في ضمير المواطن، كمبدأ و كمرجعية دستورية وسياسية، و العمل على رفع الخلافات الواقعة بين مكونات المجتمع والدولة في سياق التدافع الحضاري، وتذهب إلى تدبيرها في إطار الحوار بما يسمح من تقوية لحمة المجتمع، بحيث يشعر الجميع بأن مستقبلهم مرهون بها.

لا يمكن تأسيس "مواطنة" بلا ديمقراطية

لقد صاغت المنظمة الدولية مفهوم "المواطنة" من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، و ذلك في إطار التحول الديمقراطي الذي يعتبر وسيلة لتحقيق العديد من الأهداف السياسية، فإذا عملنا بالمقولة الشهيرة: " أعط ما لقيصر لقيصر و ما لله لله"، فالمواطنة تعني أن هناك حقوق للدولة وهناك حقوق للوطن علينا أن نؤديها، فهي علاقة تبدأ بين الفرد و دولته، و لذا ربط الحقوقيون دولة المواطنة بحقوق الإنسان في العيش في سلام، و المشاركة في الحكم من خلال العملية الديمقراطية، و المواطنة في المفهوم المعاصر تعني التعبير عن علاقة الفرد بدولته، تلك العلاقة التي يحكمها دستور الدولة و القوانين الصادرة عن سلطتها التشريعية لتنظيم تلك العلاقة، بتحديد حقوق الأفراد، و كيفية التمتع بها، و دور السلطة داخل الدولة في حماية هذه الحقوق، فالمواطنة إذن تعني أن جميع أبناء الوطن يعيشون فوق ترابه سواسية، بدون أدنى تمييز، يشعر فيها المواطن بالإنتماء و الولاء للوطن، و تأتي المواطنة من خلال وعي المواطن بأنه حرٌّ في بلاده و ليس مجرد مقيم يخضع لنظام معين، دون أن يشارك في صنع القرارات، و تقوم المواطنة على عناصر ثلاثة هي: ( الحوار، التسامح و السلام)، و لا يتحقق السلام إلا بتوفر هذين العنصرين و تطبيقهما في الواقع، حتى لا يبقى مجرد فكرة، ولذلك فإن الحديث عن ثقافة الحوار وعن الحوار بين الأديان والتقارب بين الثقافات لم يعد ترفاً فكرياً، بل هو رهان جديد للعصر المتحضر والمستنير، و يرى بع الباحثين أن المواطنة تقوم على ثلاث قيم هي: الحرية، المساواة و المشاركة، و هي تمثل معا المحاور الرئيسية لضمان الخير العام للبشر، و إقامة العدالة و حقوق الإنسان، من خلال عقد اجتماعي بين المواطن و الكيان السياسي التابع له، فيما يرى محللون أن القيمة الثالثة و هي المشاركة هي المضمون الحقيقي للمواطنة، أين يسهم المواطن في صنع القرارات التي تؤثر في حياته بشكل مباشر، و هذه المشاركة لا تتحقق إلا من خلال اللامركزية في الإدارة العامة، و تشجيع تأسيس منظمات المجتمع المدني و استقلاها الذاتي.

كما أن الديمقراطية من وجهة نظر منظري المواطنة ضرورية لممارسة المواطنة، و لذا فإن الأنظمة الدكتاتورية المستبدة تضرب في العمق قيم المواطنة عرض الحائط، و يتم ذلك عن طريق تزوير الإنتخابات، و تقييد حرية التعبير و الرأي و المعارضة، ناهيك عن ألوان الفساد و المحسوبية، من هذا المنطلق الفكري يجب أن لا يكون الآخر كابوسا مريعا ، بل بالعكس يجب أن يصبح حافزاً للحوار والتفاهم، لأن الفكر الديمقراطي يفترض الحوار والتفتح و نبذ الفكر التسلطي، كما أن الحديث عن التسامح يتيح العيش مع الجماعة والتعاطي مع الآخرين, مع إعطائهم حق التعبير وحرية الفكر والاعتقاد، ولا يكتمل مفهوم المواطنة على الصعيد الواقعي، إلا بنشوء دولة الإنسان، بمعنى أن لا تمارس الدولة أو السلطة إن صح القول الإقصاء والتهميش والتمييز تجاه المواطن بسبب معتقداته أو أصوله القومية أو العرقية، باعتبارها مؤسسة جامعة لكل المواطنين، و تحفظ على المواطن حقوقه المختلفة، و تعترف بالتنوع الثقافي، و اللغوي و الإيديولوجي و السياسي، بما يحقق لحمة النسيج الاجتماعي للمجتمع، و يؤدي إلى شراكة في تنمية المجتمع ، و هذا لا يتحقق إلى بالحوار، و في الأطر الديمقراطية، كطريقة حياة و رؤية، فالأمة اليوم مطالبة بتجديد خطابها، لا هو خطاب سياسي، و لا هو خطاب ديني، بل كما قال المفكر الجزائري محمد أركون خطاب اجتماعي discours social، أي خطاب الكم الأكبر من البشر في المجتمع، فهو إذن خطاب مجتمع بأسره.

العيش معًا في سلام هو الحلّ

و إذا نظرنا إلى جانب علم النفس الاجتماعي، فعلماء النفس و الاجتماع يركزون في بحوثهم على العلاقات بين الأجيال، أي جيل الأبناء و جيل الآباء و الحفاظ على الممتلكات الروحية التي صنعت مجد الآباء و فخرهم حين يسلمون المشعل حتى يثبتن الجيل الجديد، و لا يتكلم بلغة الحرقة و الانتحار الجماعي عبر قوارب الموت، شريطة ألا يكون كبش الفداء من أجل أن يحتفظ الجيل القديم بسلطته و نفوذه، فالمسالة حسب الخبراء اجتماعية أكثر منها سياسية، فلا يمكن العيش في سلام إلا إذا توفر شرط أساسي و هو تحقيق "المواطنة" كما أسلفنا للقضاء على كل أشكال العنف، و سد بؤر الكراهية، و كعينة فالحالة الجزائرية قدمت مثالا أكثر توضيحا، إذ القوى الاجتماعية و الإيديولوجية لم تكن تتجه كلها على نمط واجد باتجاه الخط الذي انتصر عام 1962 بعد استلام السلطة من قبل مجموعة منه المجاهدين، بل إن التيارات و الصراعات المختلفة كانت قد ظهرت سابقا حتى أثناء الحرب، و ذلك في وسط جبهة التحرير الوطني، و كانوا يتناقشون حول الشخصية الإسلامية أو الجزائرية للبلاد، بمعنى هل هي إسلامية أم جزائرية، فكان الاعتماد على خطابات جبهة التحرير الوطني من أجل تقديم صورة عن بنية المجتمع الجزائري و آلية عمله اليوم، و يلاحظ أن الساحة السياسية تلعب هنا دورا حاسما بالقياس إلى الساحة الفكرية و العقلية، ثم بالقياس إلى الساحة الدينية و تداخلهما مع بعضهما البعض، فكانت لها تجربة طويلة المدى في مكافحة الإرهاب وهذا ما جعل منها دولة مهمة على المستوى الإقليمي والدولي، من خلال ترقية و تعميم قيم السلم و المصالحة الوطنية و العيش المشترك، و كانت تجربتها نموذجا مرجعيا للحد من التطرف، و اعترافا بجهود الجزائر فقد تم الإقرار بــ: "العيش معا في سلام " كيوم عالمي اقترحته الجزائر كاعتراف دولي بجهود الجزائر في غرس بذور السلم و المصالحة الوطنية و ترسيخ قيم المواطنة"، و صادقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثامن من ديسمبر 2017 بالأغلبية ، و اختير يوم 16 ماي يوما عالميا للعيش معا بسلام، من أجل إقامة عالم في كنف الأمن و السلام والتضامن و الانسجام، لضمان حماية الدولة لأراضيها و حدودها في مواجهة أي غزو خارجي، إذا قلنا أن الجزائر ما زالت موضع تهديد أمني ، نظرا لما تتميز به من إمكانيات اقتصادية تجعلها من الدول المحورية في منطقة المغرب العربي بصفة خاصة، فقضية الحدود و مشكلة الصحراء الغربية و النزاعات الداخلية المتاخمة للحدود خاصة الجنوبية( مالي) كانت في صلب السياسة الخارجية الجزائرية، تشير الأرقام أنه من بين 27 نزاعا حدث في سنة 1999 ، أي منذ مجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، اثنان فقط كانت بين الدول.

و لعل ما حدث في العشرية السوداء سببه غياب علمية المفاهيم التي جعلتها عرضة للتوظيف السياسي من أجل خدمة طرف على حساب طرف آخر، لأن النخب الحاكمة في الجزائر أغلبها عسكرية، خاصة مع انتقال النظام الجزائر من الاشتراكية إلى الرأسمالية، شعر فيه المواطن أن الدولة تخلت عنه أو أنها لم تعطه حقوقه، بل أصبح يشعر انه لا ينتمي إلى هذا الوطن، و هذا ما خلق ظاهرة اغتراب المواطن الجزائري، فكان الحل عنده تبني سياسة العنف تعبيرا عن مطالبه و حقوقه، و دفعته إلى الانخراط في جماعات في نظر النظام هي خارجة عن القانون، و في نظرها هي صاحبة حق، و لم تعد الجزائر تفكر في محاربة الإرهاب فقط، و إنما في مرحلة ما بعد الإرهاب، و تكريس نوع من الاتصال بين الدولة و المجتمع، و البحث عن سبل لا يكرس الانفصال بين الطرفان ( السلطة و الفيس)، إذن، يكون البناء، التحدي ألكبر للعمل على تعميق مسار المصالحة الوطنية، و مواصلة تعميق الإصلاحات، و لكن لا يمنكن لهذه الأخيرة أي الإصلاحات أن تتحقق إلا في إطار الاستقرار الذي يوفر السلم.

إن ما حدث في العشرية الحمراء و يحدث اليوم من تغيير في القوانين و المنظومات و تدمير للمؤسسات كلف الشعب بعضا من أقدس حقوقه الديمقراطية، و ربما العشرية الحمراء كانت تشبه نوعا ما أسطورة الخطر الأحمر، لأنها تناسب الذهنية المسيطرة آنذاك عندما غرقت الشعوب في بحر الهستيريا الدموية، فكان ضحيتها الشعب دفع ثمنا غاليا ، وكما قال فرنكلين روزفلت الرئيس الثاني و الثلاثون للولايات المتحدة : " كان على هذه الأمة أن تتحمل حكومة لم تكن تسمع شيئا و لا ترى شيئا و لا تفعل شيئا، كانت الأمة تتوجه إلى الحكومة و لكن أنظار هذه كانت تحدق إلى مكان آخر فعاشت في سراب و دمار".وقد خلق هذا الدمار هوة سحيقة ما زالت تفصل و بشكل خاص المجتمع الجزائري عن ممارسته الفعلية للعمل السياسي رغم ما تعيشه الجزائر من مستجدات و هي تنتظر بشوق كبير متى تتحقق المصالحة الوطنية التي وعد بها رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة منذ توليه كرسي الرئاسة في عهدته الأولى من سنة 1999، بدأ من الخطوة التي تجعل المواطن يردد مقولة: " ما أشبه اليوم بالأمس"، دخلت المصالحة حيز التطبيق ، لكنها ما زالت غير مكتملة، و يكفي ان نقف على واقعنا اليومي ، نرى كم هي عميقة عزلتنا عن الوطنية و شغفنا بالشعارات المزيغة و الكلمات الرنانة المخادعة التي أجهضت كل ما هو وطني و ألقت عليه ظلالا أمام جمهور مخدر سجين مشاكله اليومية، وهو في حرب كبيرة من أين يدفع فاتورة الغاز و الكهرباء و..و..الخ، ووقف هذا الأخير (الجمهور) على عقارب الساعة ونسي أن عقارب الساعة تدور في حركة متواصلة، فاختزله الزمن، و بقي في تناقض عسير دون أن يكون له دور مباشر في اتخاذ قراراته ، فاقدا بذلك لأي وعي اجتماعي أو سياسي .

من هذا المنطلق ألا يجدر بنا أن نتساءل في عفوية أين هو المواطن الحقيقي في الجزائر المستقلة؟ هل هو ذلك الجالس على كرسي المسؤولية في غرفة مكيفة، له سكرتيرة خاصة به، بحيث تقتصر وظيفته سوى توقيع الوثائق و الملفات و لا يدري ماذا يحدث من ورائه و في غيابه، فكان مجرد مظهرا أو لوحة حائطية تزين جدران الغرفة..، أم ذلك الذي يضرب الأرض بساعديه، إن الوطني الحقيقي في الجزائر هو ذلك الأسْوَدُ الذي أحرقته الشمس و هو ينبش من أجلنا المحاجر، يكسر الصخر ليتخذ منه أداة لإيوائنا، هو عون النظافة، القائم على ستر عوراتنا المنتشرة في القمامات، و هنا كانت الخيبة السياسية فكان الاغتراب السياسي و كان الاغتراب الإنساني بأتم معنى الكلمة ، إن العظمة لا تقاس بالسخاء فقط، بل للصرامة مكانتها، فقد كان على الجزائر بعد العشرية السوداء أن تختار بين الانتقام و العفو، طالما العفو خصلة العظماء، فلا يمكن لرجل مهما كان نفوذه و سلطته أن يمارس الدكتاتورية ضد ملايين الجماهير، و ليس بالضرورة أن تكون هذه الدكتاتورية نسخة طبق الأصل لدكتاتورية ستالين أو هتلر في سياق حرب داخلية، و مثلما خلق ستالين سجون الغولاك goulag و قام بنفي الأشخاص، قان النظام الجزائري قبل المصالحة الوطنية بتشييد المعتقلات السياسية في رقان، و حشدها برجال يمثلون كوادر الدولة، ( سياسيين، كتاب، أطباء، مهندسين، رجال قضاء، صحافيين، و حتى أفراد من الجيش) الذين عارضوا النظام، لكن معظمهم كانوا من الفيس المحظور، نشير هنا أن الصراع بين السلطة و الفيس كان صراع بين سياسيين ضد سياسيين استعمل الطرفان السلاح كاد أن يؤدي إلى اختفاء الدولة الجزائرية، لقد خلق الإرهاب نازيون يلاحقون المواطن باسم القوانين، بعدما تأسس جيش مواز للجيش الوطني الشعبي ( الجيا)، لكن بفضل التعقل و الوعي تمكنت الجزائر من تضميد جراحها عن طريق المصالحة الوطنية، و رأت أن علاج العنف لا يكون بالعنف، و هي تجربة لاقت إعجاب الدول.

إسهامات الجزائر في إسكات السّلاح في 2020

تلاعبت الدول العظمى ليس بشعوب العالم الثالث وحده، و إنما بمصير الشعوب كلها، و ما لحقها من دمار سياسي، اقتصادي، و اجتماعي، و فكري و ثقافي، و فشلت كل النظريات، لأن "حامي العالم حراميه" و هو الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة الموساد..، من المفارقات طبعا أن نقرأ عن نهاية الحرب الباردة التي تحدث عنها زعماء حلف الناتو و وارسو ، الذين يمثلون 22 دولة وقعت على معاهدة نزع الأسلحة، و التكيف مع التغيرات الكبرى التي شهدها العالم على الأصعدة الإيديولوجية و السياسية و الاقتصادية، و ما أحدثته الثورات من خلل في الميزان الدولي بالعالمي، بدءً من ثورة إيران الإسلامية، التي أسفرت عن تصاعد التنافس في مجال التسليح النووي، دفع بالولايات المتحدة منذ الرئيس ريغن إلى تغيير مواقفها و إعادة حساباتها من جديد، دون أن ننسى حرب المياه، و حرب النجوم، الحرب الباردة لم تنته، و إنما اتخذت لها شكلا جديدا، تطورت و حلت محلها الحرب السّاخنة، هذه الحرب اتخذت لها مسارا معاكسا، حيث حركت ملفات عديدة ( الملف السوري، اليمني و الفلسطيني)، و الذين يقودون هذه الحرب يريدون إعادة رسم خريطة العام الـ: 2020 الذي يعتبر عام إسكات السلاح و الامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد سلامة أراضي دولة ما و استقلالها السياسي، بل تؤكد أن أيّا من الأسلحة لن تستخدم مطلقا، و سيكون الحس الديمقراطي البديل لإعطاء حرية الفكر و الممارسة السياسية، عن طريق الحوار الوطني، هذه الحملة التي تقودها مجموعة العقلاء في الإتحاد الأوروبي، تقول أنه بحلول 2020 سيكون العالم عالم بلا حرب..، نشيد هنا بالدور الفعال الذي تقوم به الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي من أجل استتباب الأمن والسلم، رغم النزاعات التي تبرز هنا وهناك من حين إلى آخر، لاسيما دور الجزائر بقيادة رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة من أجل أن تكون القارة الافريقية سيدة في معالجة قضاياها الداخلية و أن تجد الحلول المناسبة لمختلف مشاكلها دون تدخل من أي كان من الدول الخارجة عن النطاق الإفريقي، السؤال المطروح ه: في ظل تداعيات المعارك و إرهاصات الوصايا الدولية ،هل يمكن القضاء على كل التوترات، في الوقت الذي ما تزال السياسات الخارجية للدول قائمة دون تغيير؟، ليس تجاه العالم الثالث فقط و إنما تجاه العالم الإسلامي على الخصوص، فقد ظل الموقف الأمريكي قائما للقضاء على الإسلام و الهوية الإسلامية من خلال جعل القدس الشريف عاصمة إسرائيل، و بالتالي فالصراعات المسلحة أو التهديد بها ستزيد من حدتها، و لن يكون هناك إسكات للسلاح، و هذا يعني أن العالم سيستقبل 2020 على صوت أسلحة جديدة، (أسلحة روسية، إيرانية).

فمهما كان الصراع شرق شرق و شمال جنوب، فالصراع في الحقيقة لم يعد مقتصرا فقط على قوى دولية متناحرة من أجل الهيمنة، خاصة و أن العلاقات بين الدول القوية تميزت بين الصعود و الهبوط..، و إنما هو صراع داخلي، و لعل أفضل مثال هو الحروب الأهلية القائمة على أساس طائفي خاصة بين الشيعة و السنة في العديد من مناطق العالم الإسلامي في لبنان و العراق و إيران، و في سوريا و اليمن، بتواطؤ الأنظمة من أجل تنفيذ أجندات أجنبية، استعمل فيها السلاح، دون الحديث عن الحرب بين الإسلام و المسيحية، و طالما هناك صدام حضارات، و هناك تضامن مع إسرائيل ضد العدو المشترك أي العالم الإسلامي، أي أن المساندة الأميركية اللامشروطة لإسرائيل متأصلة بعمق في السياسة الأميركية، و لذا فنظرية "المؤامرة" مستمرة على مرّ الأجيال و الصراع لن يحل بوسائل سلمية ( حوار و تفاوض) و إنما بوسائل عسكرية، و من هذا المنطلق ليس من مصلحة الأنظمة تجاهل السباب الحقيقية لكثير من النزاعات و الصراعات السياسية القائمة في كثير من البلدان حتى و لو كانت غير إسلامية، و تجاهل هذه الأسباب لن يزيد الشعوب إلا ضعفا و عجزا و مزيدا من الدماء و الدمار و الخسائر.

خاتمــــــــــــــــــــــة
لقد كانت الحرية نعمة، فإذا بها حكر جديد على فرد تحيط به عصابة، كانت الكرامة من أعز ما يعتز به الإنسان، فصارت هدفا لكل اضطهاد و مصدرا لكل حرمان و شقاء، كانت حقوق الإنسان مكفولة بالدستور و القوانين ، فإذا تصبح منعطفا متعاليا من الحاكم على المحكومين، و يؤكد التاريخ الكثير من الحقائق، ففي العالم العربي باسم الشعب تم ابتلاع الجيران، تمثلت في نزيف الأدمغة، هكذا تنهار الحضارات ، حين تتحول الأقلية إلى عصابة مسيطرة تسوق الناس بسوط الإكراه ( العنف)، فالمجتمعات اليوم هي في قمّة أزمتها، و الأفق أمامها مسدود تماما، و المواطن في كثير من دول العالم ، لاسيما العالم الثالث ما زال يعاني الامتهان و عدم الشعور بالأمن على نفسه و ماله، و كالعادة نقف أمام السؤال الذي لا يموت: ما العمل؟.، لقد بات ضروري اليوم أن يعيش العالم في سلام ، و لا يمكن لأي بلد أن يخرج عن هذه القاعدة، و كما يقال: "من لا يغير نفسه فإن قوانين التاريخ جاهزة لتغييره، و من يغفل عن سنن الله، فإن سنن الله لا تغفل عنه"، و هاهو التغيير السلمي يلف بجناحيه كل العالم، و على العرب أن يوقفوا هذه الثورات الشعبية، و يختاروا وهم في طريقهم نحو المستقبل، إمّا الإستمرار في المذابح، و إما بالطرق الحضارية على الطريقة التشيكية، فلا يخسر أحد و يربح الجميع، ذلك متوقف على معرفة سيكولوجية المعارضة، و عدم نضج هذه الأخيرة يحمل خطرا على التغيير السريع.
فكل من يدعو إلى اللاعنف فهو يدعو إلى دار السّلام و ليس إلى الانتقام، ودورات العنف مغلقة و دورات الحب مفتوحة، و العنف يُدَمِّرُ و الحُبُّ يبني، و الكراهية نفي للأخر و تسميم للذات، و لذا فإن علاج العنف بالعنف لا يولد إلا العنف، و العنف مرض خبيث لم تتخلص منه الثقافات سواء الغربية أو العربية الإسلامية حتى اليوم، و ليس في الجزائر فقط ، و إنما في ربوع العالم كله، لقد ربحت الجزائر الحرب على ألإرهاب الهمجي بفضل المصالحة الوطنية، التي جعلت من الجزائر بلد ذاكرة و إرساء روح التآخي و السلام، هي الرسالة التي يمكن أن نوجهها إلى المثقف و النخب الثقافية في المجتمع لإحداث التغيير في الوعي الديني، في الواقع الاجتماعي و السياسي و الثقافي و التربوي ليتحمل كل واحد مسؤوليته ، و بوصفها جزءًا عضويا من هذا المجتمع على النخب المثقفة أن تعي بأن دورها مهم جدا في عملية إنتاج المعرفة و بلورة الوعي الاجتماعي الذي يشكل عاملا حاسما في التغيير، حتى و لو كانت في فكرها و مواقفها كلًّا متجانسا.
يقول دعاة السلام: "إذا كنت تريد أن تتحرر من الخوف عليك إذن بالسلام، و قبل أن تُقْبِلَ على السلم لابد عليك أن تؤمن بالسلام، لابد أن تتصالح القيادة مع نفسها و المواطن، و من هذا المنطلق بات على القيادات الحاكمة و بشكل حتمي التصدي لحل المشكلات و رفع المظالم، و في المحصلة تظل الحروب مأساة إنسانية، و من مصلحة الأطراف الداخلية و الخارجية المتصارعة في العالم كافّة نبذ العنف في علاقاتها و احترام حقوق الإنسان الأساسية، ختاما، نقول ما قاله رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة في خطاب سياسي له مطول، أن الجزائر اليوم تخوض بكل عزم في كنف السلم الداخلي المستعاد، بناء دولة الحق و القانون القائمة على صلاح الحكم و رشاده ، و الهادفة إلى ضبط العلاقات و تحرير المبادرات و ضمان احترام حقوق الإنسان، و الارتقاء بالهوية و الشخصية الوطنيتين، و العيش في نهاية المطاف في ظل دولة لا تزول بتقلب الأحداث و لا بزوال الرجال، لقد مكنت عودة السلم للجزائر من التفرغ لاستئناف تعبئة جهودها و إمكانياتها لمواصلة التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و هي مطالبة اليوم بأن تحقق العدالة الاجتماعية و الحكم الراشد.
علجية عيش/كاتبة صحافية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى