عباس محمود العقاد - مصادفات في الطريق

نعم هي مصادفات في الطريق

ولكنه طريق التاريخ لا طريق المدنية، أو طريق الزمان دون طريق المكان، وقد يحدث في هذه الطريق ما يحدث في كل طريق من المصادفات والمناقضات، فيعيش الناس في حي واحد ولا يلتقون، ويلتقون وهم يعيشون في أحياء لا يجمعها مكان. أيذكر القارئ كيف يتفق له أن يقضي السنين ولا يلقى في خلالها وجهاً من الوجوه التي تعود النظر إليها، ثم تعرض له فترة من الزمن فإذا هو يستقبل ذلك الوجه أمامه حيث سار على غير موعد وعلى غير انتظار؟

ذلك ما حدث لي في طريق التاريخ مع (عمر الخيام) خلال الأيام الماضيات، فما فتحت كتاباً إلا أطل منه (الخيام) بصفحة من صفحات وجهه أو جانب من جوانب نفسه، على تعدد الموضوعات وتباعد المناسبات. إذ كان من تلك الكتب ما أفتحه للمراجعة العاجلة في مسألة من مسائل التصوف أو مسائل السياسة أو مسائل الفلسفة أو مسائل الأدب وما إليه. وكنت مشغولاً بالشيخ الرئيس ابن سينا فما تعمدت لقاء الشيخ مرة إلا خراج لي الخيام في بعض الطريق كأنهم يقيمون من عالم الأرواح في عالم واحد أو كأنهم يحضرون معاً بدعوة واحدة على خلاف الآداب العصرية في استجابة الدعوات.

تحدث العروضي السمرقندي في (مقالاته الأربع) عن الفيلسوف ابن سينا وعن الفلكي عمر الخيام، فروى عن كليهما الأعاجيب، وكلاهما قد عاش زمناً في إقليم واحد وإن تلاحقا بالزمان. . .

وراجعت بعض الأقوال في تناسخ الأرواح فرأيت أناساً ممن يدينون بهذا المذهب العجيب يعممون التناسخ ولا يقصرونه على الحيوان والإنسان، فانتقال الروح من رجل إلى امرأة أو من رجل إلى رجل نسخ، وانتقالها من إنسان إلى حيوان مسخ، وانتقالها من إنسان إلى نبات فسخ، وانتقالها من إنسان إلى جماد رسخ. . . وما من انتقال منها كما رأيت إلا وهو على قافية الخاء، دون غيرها من حروف ألف باء، وهو حرف لا يوجد في معظم اللغات الأوربية ولغات الأمم على الإجمال. فكيف تسعفهم القافية يا ترى في تلك الأمم إذا احتاجو إلى التقسيم والترتيب في أطوار هذا الانتقال العجيب؟ وما بال أصحاب التناسخ يا ترى قد فكروا في انتقال روح الإنسان ولم يفكروا في انتقال الروح من الجماد إلى النبات أو من النبات إلى الحيوان؟

إنهم لم يفكروا في ذلك ولكن فكر فيه على نحو غير هذا النحو جماعة من شعراء (التطور) القديم ومنهم جلال الدين الرومي الشاعر الفارسي المشهور. فعنده كما يقول: (إن الإنسان في بداية أمره قد ظهر في عالم الجماد، ثم ترقى من هذا العالم إلى عالم النبات، ثم عاش هنالك شجرة من الشجر أو عشبه من العشب لا يذكر شيئاً مما كان فيه من تلك الحال المختلفة بين المعادن والحجارة الصماء، وصعد من طبقة النبات إلى طبقة الحيوان فلم يبق في ذاكرته أثر للطبقة التي كان فيها إلا ذلك الشوق الذي يميل به إلى الأوراق والأشجار ولا سيما في إبان الربيع وازدهار الرياض، كأنه الطفل الذي يهتدي إلى صدر أمه من حيث لا يدري سر هذه الهداية. . . وشاء الله بعد ذلك أن يرفعه من زمرة الحيوان الأعجم إلى صورة الإنسان حتى بلغ ما نعلمه من القوة والعقل والمعرفة، وما به من ذكر في هذه الحال لعيشته الأولى، وإنه ليترك في مصيره الأبدي، هذه العيشة التي هو فيها. . .)

فهذا انتقال من الرسخ إلى الفسخ إلى المسخ إلى النسخ على انعكاس في ترتيب التناسخ الذي يقول به التناسخيون ولا يقول به الصوفية المتطورون!. . .

والعجيب أن صاحبنا الخيام قد سلك بين هذه الزمرة وهذه الزمرة بشهادة أناس من الزمرتين، فقيل فيه إنه من المؤمنين بالتناسخ كما قيل فيه إنه من المؤمنين بارتقاء الأرواح في معراج الكمال إلى قدس الأقداس

زعموا أن الحكيم كان يتمشى مع مريديه عند مدرسة الحكمة والعلوم بمدينة نيسابور، وكانوا يرمون بعض جدرانها وينقلون إليها اللبن والحجارة على ظهور الحمير. فأبى حمار منها أن يدخل دار المدرسة أي إباء، وحاروا في دفعه إلى الدار وهو مصر على الوقوف دون ذلك أشد الإصرار، فلما رأى الحكيم ذلك منه تبسم ومال على أذنه يهمس بأبيات يقول فيها: أي هذا الذي ضل وعاد اليوم إلى مكانه وهو أضل سبيلاً!. . . إن أظافرك قد تجمعت فصارت حافراً، ولحيتك قد استدارت إلى موضع الذنب، فانتقلت من الأمام إلى الوراء. . .) قالوا: فما سمع الحمار هذه الأبيات حتى عدل عن إبائه وأسلس قياده ودخل إلى الدار. وسأل التلاميذ أستاذهم عن سر ذلك الأباء وسر هذه الطاعة فقال: إن الحمار كان أستاذاً بهذه المدرسة فأبى أن يدخلها وهو دابة تحمل اللبن والحجارة وقد كان يدخلها وهو أستاذ يحمل الأسفار. . . فلما عرف أننا عرفناه كان له بعض الأنس بهذه المعرفة فأطاع

والحمير والله مساكين مظاليم

إنما الحمير حقاً أولئك الذين تناولوا هذه القصة فشكوا فيها تارة وأثبتوها تارة أخرى ليتهموا الرجل بمذهب تناسخ الأرواح. وتحضرني هنا قصة الصحيفة الإنجليزية التي أعلنت عن معرض للحمير يقام في حديقة هايد بارك بعد أيام، وكان موعد المعرض المزعوم موافقاً لليوم الأول من شهر إبريل، ولم يفطن له قراء الخبر إلا ساعة أصبحوا في الحديقة ولم يروا هنالك حميراً. . . فعلموا أنهم هم الحمير!

وما نخال الخيام إلا قد غلبه عفريت السخر في تلك اللحظة فسخر بنفسه وسخر بمريديه، وقال لهم إنهم كلهم يدخلون الدار ويحملون الأسفار!!

وشاءت المصادفات أن يصل البريد الأمريكي في هذه الآونة وفيه طوفان من كتب الجيب التي طبعت قبل ذلك في مختلف الأحجام بمختلف الأثمان

ومنها رباعيات الخيام

وهي على صغر الطبعة قد جمعت الصيغ المتعددة التي نقحها مترجم الرباعيات وأعاد تنقيحها في كل طبعة جديدة من طبعاتها الكثيرة. . .

ولا جرم يحتفل الأمريكيون بالرباعيات وهم يعيشون اليوم على مذهب الخيام، ويخرجون لميادين الحرب قائداً يسمى (عمر) تيمناً بسيرة الشاعر الفيلسوف!

فقلت: الخيام. الخيام. الخيام.

أفي كل مكان يسنح لنا طيف الخيام في هذه الأيام؟ وفتحت الصفحة على رباعية يقول فيها: (إن الكرم قد أنبتت عرقاً يلتف به كل كياني. . . فدع الصوفي يسخر ما يشاء، فإنني أسبك من معدني الخسيس مفتاحاً يفتح الباب الذي يطرقه ولا يجاب.)

وقلبت صفحة أخرى فرأيته يقول: (هذه الكرمة التي أنبتها الله، من ذا الذي يعاف عصيرها؟ وهذه العناقيد إن كانت شبكة من الشباك فمن ذا الذي وضعها هناك؟) وفي صفحة أخرى يقول: (إلى الكون دخلت كالماء الدافق ولا أدري لماذا. ومن الكون خرجت كالهواء الخافق، فهل أدري لماذا؟. . .)

ومهما تقلب من صفحة في الرباعيات فما تخليك هنا أو هناك من بعض هذا المعنى أو بعض ذاك

قلت والله لقد ظلموك يا صاح بالتصوف كما ظلموك بتناسخ الأرواح. وصدق مترجمك فتزجرالد وهو أدرى بترجمة نفسك وشعرك من أولئك الرواة والمؤرخين. فما كانت خمرتك بالخمرة الإلهية، وما كانت عبارتك بالإشارات الخفية، ولكنك كما قال المترجم الأمين كنت تنظم الشعر في ماء العناقيد، وكان نظمك في معناه أكثر من شرابك إياه. . . وذلك فصل المقال فيما بين قولك وعملك من الاتصال

وأعجب العجب أنني فتحت مجموعة من الرسائل الفلسفية لابن سينا وغيره فظهر لي الخيام بين دفتي تلك الرسائل يسألونه عن سر الوجود كله وهو حائر في سر وجوده لا يعلم لماذا أقبل كالماء وانصرف كالهواء

سأله القاضي الإمام أبو نصر النسوي تلميذ ابن سينا (عن حكمة الخالق في خلق العالم خصوصاً الإنسان وتكليف الناس بالعبادات.)

فحاول الشيخ أن يروغ كعادته ولم يجد مهرب أمان، ولا عذراً مقبولاً للزوغان. وكيف يجهل ما يسألونه عنه وهو عندهم وعند أبناء زمنه جميعاً حجة الحق، فيلسوف العالم، نصرة الدين، سيد حكماء المشرق والمغرب، نادرة الزمان؟. . .

على أن الرجل قد أجاب بما ليس يعدوه جواب، فرجع إلى سبب الأسباب وهو واجب الوجود: ما من سبب إلا وله سبب إلا واجب الوجود فلا سبب لوجوده ولا لصفاته. . . وإلا لزم التسلسل بالأسباب إلى غير انتهاء، وهو في عقل الإنسان مستحيل. . .

والوجود فيض الجود الإلهي. فلماذا جاد بالوجود على المخلوقات. . .؟

الجواب أنه جاد لأنه جواد، ولا تعليل لصفاته كما لا تعليل لذاته. لأن التعليل يرجع بنا إلى سبب وراء واجب الوجود، ولا سبب هناك

ثم قال: (فإن قال قائل لم خلق المتضادات المتمانعة في الوجود؟ فيكون الجواب عنه أن الإمساك عن الخير الكثير من جهة لزوم شر قليل هو شر كثير، والحكمة الكلية الحقة والجود الكلي الحق أعطيا جميع الموجودات كمالها الذاتي لها من غير أن يبخس حظ واحد منها. إلا أنها بحسب القرب والبعد متفاوتة في الشرف. . . لا لبخل من جهة الحق عز وجل، بل لاقتضاء الحكمة السرمدية ذلك)

أجل هكذا يقول الخيام

ولو سمعه قراؤه المفتونون برباعياته - من فتيان أمريكا وأوربا وفتياتها - لما صدقوا أن صاحبهم يسأل عن هذا، ولا صدقوا إن سئل عنه أنه يجيب بغير الكلمة التي تلخص جميع الرباعيات.

من يدري؟! من يدري أيها الناس؟

والناس قد حيروه حقاً بين زاعم أنه ينكر الروح وزاعم أنه يثبتها للإنسان والحيوان في الحياة وبعد الممات، وزاعم أنه يعلم سر الوجود كأنه من أصفياء مبدع الوجود.

وأخشى ما أخشاه أنني صرفت الحكيم الظريف بهذا المقال فلا ألقاه كما كنت ألقاه في كل منعطف طريق من مكامن التاريخ. . .!

عباس محمود العقاد


مجلة الرسالة - العدد 675
بتاريخ: 10 - 06 - 1946

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى