عبد عون الروضان - المفتاح..

يافعا كنت لم أتعد العشرين إلا بسنة أو سنتين حديث العهد بلحية وشارب خفيفين حين تم تعييني معلما في مدرسة ريفية بين مجموعة من المعلمين ممن هم أكبر مني سنا, لكنني كنت اختلف عن الآخرين تماما فقد حملت معي مجموعة من الكتب كنت أقضي الوقت بمطالعتها والآخرون منهمكون بلعب الورق وهم ينظرون إلي بعيون الاستغراب ويعجبون لهذا الانقطاع للقراءة وعدم مشاركتهم في اللعب وكنت إلى جانب ذلك منكبا على ترجمة رواية عن الإنكليزية لكنني لم أكملها وما أزال محتفظا بها وهذا كله لم يقلل من نشاطي في إلقاء الدروس وقد عهد إلي مدير المدرسة بتدريس مادتي اللغة العربية واللغة الإنكليزية للصف السادس معا وقد بذلت أقصى ما استطيع في أداء مهمتي فكنت أظل مع تلاميذي في دروس إضافية بعد أن ينزل المعلمون إلى العمارة حتى حققت نسبة نجاح مئة في المئة في كلا الدرسين ما أثار إعجاب واستغراب الآخرين وشكر وتقدير مديرية معارف اللواء .
وعهد الي مدير المدرسة بإدارة المكتبة باعتباري معلما للغة العربية وسلمني مفتاحا غريب الشكل لا يمت بصلة إلى المفاتيح التي أعرفها في حينه فهو عبارة عن قطعة حديد سوداء ذكرني بمفاتيح الأبواب السائدة تلك الأيام لكنه صغيرا كان بالقياس لها وأشار إلى المكتبة وإذا هي خزانة صماء رفيعة وطويلة وضعت المفتاح العجيب في مكانه وفتحت الباب فواجهتني مجموعات من الكتب القليلة خمنت أن يدا لم تمتد إليها منذ زمن ولفت انتباهي أربعة أو خمسة كتب ضخمة قياسا إلى غيرها وقد صفّت إلى بعضها وكتب على كل منها ديوان الفرطوسي وإلى جانبها قرأت ديوان الجواهري فخفق قلبي واستعدت شريط ذكرياتي العام 1953حين عثرت على النسخة ذاتها من الديوان في غرفة ضابط الشرطة حيث كان أبي يعمل بمعيته، فكنت أدخل غرفة الضابط بعد أن يخرج وأتناول الديوان وأظل أقرأ وأقرأ حتى الغروب حيث ينبهني والدي ان علينا أن نعود إلى البيت، فطلبت منه أن يسمح لي بأخذ الديوان معي فرأيت الإحراج على قسماته لكنه لم يكن ليستطيع أن يرد لي طلبا فتأبطت الكتاب وخرجنا إلى البيت وبعد أن أتعشى كنت أنكب على قراءته على ضوء الفانوس النفطي وكنت أكتب ما يروق لي وأحفظ ما أحفظ ثم يعيد والدي الديوان إلى مكانه صباحا فادخل غرفة الضابط بعد انتهاء الدوام وأقرأ وأقرأ وأكتب وأحفظ ثم أخرج عند حلول المساء مصحوبا بديوان الجواهري لأسهر على ضوء الفانوس كالعادة حتى نقل ضابط المركز وأخذ ديوان الجواهري معه فحزنت لذلك لكنني خففت من حزني أن واظبت على حفظ ما دونته في دفتر خاص حتى جاء يوم أن جاءني والدي وابتسامة عريضة على محياه وسألني إن كنت أريد أن أرى الجواهري، فحسبته يمزح معي لكنه أكد كلامه وقال لي إن الجواهري موجود في علي الغربي وسآخذك إليه عصرا إن شئت وبالفعل ذهبنا معا للقاء الجواهري وأشار والدي من بعيد قائلا ذاك هو الجواهري فلمحت رجلا فارعا فاقتربت منه وسلمت عليه وقدمني إليه والدي قائلا ولدي فلان قلت له لقد قرأت ديوانك قال لي أين قلت له هنا في علي الغربي ففتح عينيه الواسعتين قلت له وأحفظ شعرك فقال هيا أسمعني فقرأت له الكثير وهو يردد جيد .. جيد ليس هناك خطأ في قراءتك ثم التفت إلى والدي وقال له " دير بالك عليه ابنك هذا سيكون له شأن يوما ما " ثم قال لي والدي إنه سيذهب غدا مع الجواهري إلى الكبسون شمال علي الغربي حيث أقطعته حكومة نوري سعيد أرضا زراعية في محاولة لكسب وده أو تحييده على الأقل لكن الجواهري الكبير لا يمكن أن يكون إلا الجواهري الكبير بكل شيء وذهب والدي مع الجواهري وقضى ليلته هناك وحين عاد حكى لي كيف ان الجواهري حين وصل الكبسون اختار خباء منفردا يسمونه "صهوة "وهو خيمة من شعر المعز ووقف على الباب ونادى بأعلى
صوته : السلام عليكم فخرجت امرأة يبدو عليها الحزم والشجاعة وقالت وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ياهلا بالضيوف وهي تنظر للجواهري باستغراب ثم أخذت الحصانين من مقوديهما وقدمت لهما الماء والعلف وهي تقول علينا إكرام هذين الحيوانين أولا ثم التفتت إلينا وقالت تفضلا البيت بيتكم ثم فرشت الزوالي واالبسط وألقت العديد من الوسائد وهي لا تنقطع عن ترديد عبارات الترحيب, ويكمل والدي حكايته أن المرأة المضيفة وبعد أن سقتهما الماء والشاي أشارت إلي فتبعتها ثم أشارت إلى أحد خرافها وطلبت مني أن أذبحه وأجهزه للغداء ففعلت وتركتها ودخلت الخيمة أو الصهوة وجلست إلى الجواهري أستمع إلى حديثه العذب ولم يمض إلا وقت ليس بالطويل حتى حضر الغداء فأكلنا وكنا في غاية الجوع بعد رحلتنا على ظهور الخيل وشربنا الشاي ثم سمعنا أصواتا وجلبة عالية فعلمنا أن الزوج وأولاده الأربعة قد عادوا من رحلتهم اليومية لرعي الماشية ثم دخلوا علينا وسلموا سلاما حارا ولاحظت أن الرجل لم يسأل زوجته عن الغداء لأنه كان متأكدا من كرمها وجلسوا يستمعون إلى حديث الجواهري مسحورين بهذا الذي يسمعونه لأول مرة دون أن يجرؤوا على مقاطعته ولم يقطع حديثه سوى دخول المرأة المضيفة وهي تحمل صينية الشاي فقال لها الجواهري: جئت في وقتك يا أم عوف فقالت أنا أم عوفي وهذا ابني الكبير عوفي الجالس جنب أبيه فقال الجواهري بل هو عوف وأنت أم عوف فقالت كما تريد ثم شربنا الشاي واستأذن المضيف مع أولاده حتى حلّ الليل وإذا بهم يدخلون علينا حاملين صينية متلّلة بالرز واللحم فنظرنا الجواهري وأنا في وجوه بعضنا ونحن نقول بهمس إن طعام الغداء لا يزال بين أسناننا لكننا رأينا في وجوه المضيفين نظرة صارمة فأكلنا ما استطعنا إكراما لهم ثم شربنا الشاي وجلسنا نتحدث ثم اعتذروا وانسحبوا بأدب جم حيث قال الأب لاشك انكم متعبون وأنتم بحاجة إلى النوم فخذوا راحتكم وتصبحون على خير وبقينا الجواهري وأنا ثم رأيته يخرج دفترا صغيرا من جيب سترته وقلم رصاص ولم يعد يشعر بوجودي فخلدت إلى النوم إلا انه كان نوما قلقا إذ كنت افتح عيني فأنظر إلى رفيق رحلتي فأجده مواظبا على الكتابة حتى سمعت صوت المضيف يدعونا للصلاة.
فقمت وصليت ثم حان الفطور فأفطرنا ثم خرجنا مع مضيفنا في جولة وكان الجواهري يتحدث مع الفلاحين ويحزن لظروفهم الصعبة وقد حاول المضيف ان يبقينا للغداء إلا أن الجواهري أصر على الرحيل معتذرا ان لديه عملا في بغداد فعدنا ..
وفي الصباح صحبني والدي إلى القائممقامية ودخلنا غرفة مدير التحرير فوجدته قد أنهى طباعة قصيدة الجواهري التي يقول مطلعها :
ياأم عوف عجيبات ليالينا = يدنين أهواءنا القصوى ويقصينا
فعلمت أنها هي ذاتها التي كان يكتبها الجواهري تلك الليلة وانني أول من اطلع عليها ووضعت ديوان عبد المنعم الفرطوسي وديوان الجواهري إلى جانب بعضهما وأغلقت المكتبة بالمفتاح العجيب ولا ادري لماذا قفز إلى ذهني عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وشاعر ثورة العشرين الدكتور محمد مهدي البصير وشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، فاكتشفت ان الثلاثة المتقدمين قد تخلوا عن العمامة والجبة والعباءة وارتدوا الزي الإفرنجي كما يسمونه في زمانهم فيما حافظ عبد المنعم الفرطوسي على عمامته البيضاء وجبته وعباءته وربما كان ذلك هو السبب أن لم تسلط عليه الأضواء وهو الشاعر المبدع الذي لايقل بلاغة وفصاحة وشاعرية عن مجايليه .
رحل الشيخ الشاعر عبد المنعم الفرطوسي عن عالمنا إلى دار حقه العام 1986 في أبو ظبي ونقل جثمانه بالطائرة إلى بغداد ثم نقل إلى النجف الأشرف حيث ووري الثرى في مقبرة وادي
السلام .
رحمه الله تعالى ورحم مجايليه الذين ورد ذكرهم في المقال , الدكتور طه حسين والدكتور محمد مهدي البصير وشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري وأحسن إليهم جميعا وأسكنهم فسيح جناته !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى