عبد اللطيف الوراري - نظم المنثور وحلّ المنظوم.. مأزق «النظرية» الذي تحرّج منه علماء الشعر

من النظم إلى النثر هل يختطُّ الإيقاع المسار نفسه؟
نثر الشيء: رماه متفرّقاً، والنثر خلاف النظم من الكلام. والنثري والمنثور خلاف المنظوم. وجاء في «لسان العرب»، وفي «القاموس المحيط»، ما يوحي بأنّ النثر سُمّي نثراً لأنّ شكله يوحي بعدم التناسق، بخلاف الشعر الذي يتحقّق له الانتظام بالوزن والقافية. وهو ما يشير إليه «المعجم الوسيط» ويحدده بدقّة، إذ يُسمّى «المنثور الكلام المرسل غير الموزون ولا المقفى، وهو خلاف المنظوم، والناثر من يجيد الكتابة نثراً، والنثر الكلام الجيد يرسل بلا وزن ولا قافية، وهو خلاف النظم، ويقال كلامه دُرٌّ نَثير»، (المعجم الوسيط). كما في (التعريفات)، في قول علي الجرجاني: «النَّظْم في اللُّغةِ جمعُ اللُّؤلؤ في السلك، وفي الاصطلاح تأليف الكلمات والجمل مترتّبة المعاني متناسبة الدلالات، على حسبما يقتضيه العقل، وقيل الألفاظ المترتّبة المسوقة المعتبرة دلالاتها على ما يقتضيه العدد».
النّظْم، هنا، بمعنى التأليف والاتِّساق الدلالي وفق منطق العقل، كما قدّمته نظريّة النظم في شقّيْها البلاغي والإعجازي؛ ثُمّ هو بمعنى ترتيب الكلمات ترتيباً عدديّاً وفق قياس العروض وأزمنته، وهو ما تفرضه البنية الوزنية في الشعر بوصفه كلاماً منظوماً. يعنينا نحن المعنى الثاني، النظم في مقابل النثر. يميّز النواجي في كتابه «مقدمة في صناعة النظم والنثر» بينهما: «النظم هو «الكلام الموزون في الموازين العربية»، والنثر هو الكلام المرسل أو المسجع».
وفقاً لهذا الاعتبار، كان النقد يتعاطى مع الشعر والنثر، والعلاقة بينهما، ومع علاقة أحدهما بالآخر، إلا أنَّ قواعد النقد، من منظور البلاغة المعمّمة، كانت مشتركة في دراستهما معاً، كأنّ ما ينطبق على الشعر ينطبق على النثر أيضاً، فالمبرَّد، مثلاً، يُوسّعُ مجال البلاغة الذي يجعله الكلام بإطلاق، ويُعرّفها بقوله: «إحاطة القول بالمعنى، واختيار الكلام، وحسن النظم»، ثمّ زاد: «فإن استوى هذا في الكلام المنثور، والكلام المرصوف، المسمّى شعراً، فلم يفضل أحد القسمين صاحبه، فصاحب الكلام المرصوف أحمد؛ لأنّه أتى بمثل ما أتى به صاحبه، وزاد وزناً وقافية، والوزن يحمل على الضرورة، والقافية تضطرُّ إلى الحيلة. وبقيت بينهما واحدة، ليست ممّا توجد عند استماع الكلام منهما، ولكن يرجع إليهما عند قولهما، فينظر أيهما أشدُّ على الكلام اقتداراً، وأكثر تسمُّحاً، وأقل معاناة وأبطأ معاسرة، فيعلم أنَّه المُقدَّم». وبدا قطاعٌ واسع من النقد لا يفسّر علاقة الشعر بالنثر الفنّي ترسُّلاً أو خطابةً، ولا يتساءل متى ينتهي الشعر ويبدأ النثر، فلم يكن الخلافُ بينهما خلافاً عضويّاً وجوهريّاً تحدّده الفروقات النوعيّة لغةً وصورةً وإيقاعاً، بل كميٌّ وشكليّ يتمّ اختزاله في خطاطة العروض. بالتالي، بقي السؤال مطروحاً: كيف تتحقق المفاضلة بين النظم والنثر أمام الاختلاف الذي يطال شكل النص، وجنسه الأدبي، وتقاليد الكتابة وأعراف تلقّيها، من عصر إلى عصر؟ بل حتى لمّا اهتموا بالكتابة، في أثناء صعودها، لم يهتمّوا بها لشرطها الأدبيّ ومبادئها الداخلية، بل لدورها ودور الكاتب في المحيط السوسيوثقافي والسياسي، كما يظهر من تصنيفات وصلتنا، مثل تصنيفي «البرد الموشّى في صناعة الإنشا» و«صبح الأعشى»، الذين طبقت شهرتهما الآفاق مغرباً ومشرقاً.

استشكال العلاقة

حاول بعض النقاد القدامى استشكال العلاقة بين الشعر والنثر، بمنأى عن الأحكام الانطباعية في تفضيل النظم على النثر، أو النثر على النظم، فسرعان ما قرّ في ظنَّهم أنّ المعيار الوحيد الذي ينأى بالشعر عن النثر هو الوزن، فابتكروا مصطلح «حل المنظوم ونظم المنثور»، مُدّعين أنّ نقل الصيغ الشعرية إلى جنس النثر يختزل في إجراء أدبي؛ لا يتطلب إلا مهارةً وحذقاً بتبديد الوزن وهدمه، كما أنّ نقل الصيغة النثرية إلى أسلوب شعري لا يزيد عن عقدها بالوزن، لأن مفهوم الشعر كان يُختزل في عبارة مسكوكة ومُركّزة، هي: «الشعر كلام موزون مقفى دال على معنى»، كما يقول قدامة.
لم يقف الفرق بين النظم والنثر إذن، عند المستوى العروضي- الشكلي، بل وجد النقّاد أنفسهم في صميم الناحية الفنّية يناقشون «حلّ الشعر ونظم النثر»، في سياق توتُّر العلاقة بين الشعر والنثر، منذ أن شرع عبد الحميد الكاتب في حلِّ معقود الكلام، ومنذ أن فُهِم بأن «الكتابة نقض الشعر: وقيل للعتابي: بما قدرت على البلاغة؟ فقال: بحلِّ معقود الكلام»؛ «فالشعر رسائل معقودة والرسائل شعر محلول». ولهذا توالت المباحث التي تُعنى بثنائيّة الحلّ/ العقد ودراستها، ابتداءً من العسكري الذي ناقش «حلّ المنظوم» في سياق (السرقات الشعرية) فقال: «وأحد أسباب إخفاء السرق أن يأخذ معنىً من نظْمٍ فيورده في نَثْر، أو من نَثْرٍ فيورده في نَظْم». ويجعل العسكري «المحلول من الشعر» على أربعة أقسام؛ منها ما يكون بإدخال لفظة بين ألفاظه، أو ما ينحلُّ بتأخير لفظةٍ منه وتقديم أخرى بوجْهٍ حسن، وقد ينحلُّ على هذه الكيفية بسوء، وقسم ثالث «تكسو ما تحلّه من المعاني ألفاظاً من عندك وهذا أرفع درجاتك». ومن الأمثلة التي أوردها، بقي نقاش العسكري محصوراً في قضيّة اللفظ والمعنى، بدون أن يتعداه إلى تأمُّل البناء المحلول وتأثُّر خاصية النظم إيجاباً أم سلباً، وهو يُدْرك أنّ «من النّظْم ما لا يمكن حلُّه أصلاً بتأخير لفظة وتقديم أُخرى منه حتى يلحق به التغيير والزيادة والنقصان»، وربما يكون همُّه بتصيُّد (السرقات) قد شغله عن استقصاء ذلك.
كما خصّ ابن المظفر الحاتمي في «حلية المحاضرة في صناعة الشعر» باباً في نظم المنثور للغرض نفسه، ذاكراً طائفة من الشعراء التي تُخفي السرق، وتلبسه اعتماداً على منثور الكلام دون منظومه، فنجده يتتبّع صنيع هؤلاء في استراق الألفاظ الموجزة، والفِقر الشريفة، والمواعظ الواقعة، والخطب البارعة، ولا يزيد على ذلك بفهم طبيعة المعنى وهو ينقل من حيّز النثر إلى حيّز الشعر. وبمثل ذلك صنع الثعالبي لمّا ألّف «نثر النظم وحلّ العقد»، إلّا تحامُله على الشعر وحطّه من رتبة الشعراء أمام طبقة الكُتّاب.

قلب مفهوم الصنعة

في كتاب «الوشي المرقوم في حلِّ المنظوم»، وصلت صنعة حلِّ الشعر منتهاها مع ابن الأثير، ويتعدّاها ليشمل حلَّ الآيات القرآنيّة وحلّ الأخبار النبويّة معاً. والناظر في الكتاب يلمس رغبة ابن الأثير في تعليم النثر والكتابة، فيعمد إلى الشعر ويأخذه معانيه ويُصيِّرها نَثْراً، كأنّه يُرينا في ما يحسن أن يُحلَّ من الشعر، ويُحدّثنا عن الطريقة المثلى في حلِّه، وعن أيِّ الألفاظ التي يحقُّ أن تبقى، وأيُّها يحقُّ أن تُستبدل بغيرها أثناء الحلّ، مُبيِّناً السبب في هذا أو ذاك. لم يقتصر ابن الأثير في حلّ المنظوم إلّا على شعر أبي تمام والبحتري والمتنبّي، ويُعلّل ذلك بقوله: «إنّي قلّبتُ الأشعار تقليب السماسرة للمتاع، ووزنتُها بالقيراط وكلْتُها بالمُدّ والصّاع، وما عدلْتُ إلى الطائيين إلّا عن نظر، وذلك: أنّ الغرض إنّما هو معرفة المعاني والألفاظ، ولم يشتمل شعر أحد من الشعراء المُفلقين، قديماً وحديثاً، على المعاني التي يشتمل عليها شعر أبي تمام، وأبي الطيب؛ فإنهما غوّاصا المعاني، وأما الألفاظ في سبكها وديباجتها فلم أجد أحداً يُسامي أبا عبادة البحتري فيها». يرى ابن الأثير أنّ حلَّ الشعر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
ـ حلّ الشعر بلفظه، وهو أدنى مرتبة ولا فضيلة فيه كما يعتقد، ويُمثِّله بـ«من هدم بِناءً، ثُمّ أخذ تلك الآلات المهدومة، فأنشأ بها بِناءً آخر، فإنّه يجيءُ حينئذٍ مُخلولق البناء لا محالة». وهذا ما لا يحسبه من صناعة حلِّ الشعر في شيء، لأنّه ينبغي عدم «حلّ المعاني الشعرية بلفظها بعينه». ومن الأشعار ما لا يجوز تغيير لفظه وَجَدهُ ابن الأثير في عشرة أنواع. من تلك الأشعار كلُّ بيْتٍ تضمّن مثلاً، أو ذِكْرَ قصّة مشهورة، أو ذكْرَ ألفاظٍ تختصُّ بعلم من العلوم، أو ذكْرَ قبيلةٍ أو بيتٍ من البيوت، أو ذِكْرَ معنى من معاني التشبيه يكون بلفظ مخصوص دالّ على معنى مخصوص؛ وكلُّ بيْتٍ بلغ الغاية القصوى في البلاغة، أو استُعمل فيه التجنيس، أو ألفاظ المطابقة؛ وكلُّ بيْتٍ ينحصر معناه في مقصدٍ من المقاصد، أو «تضمّن ألفاظاً فرائد في محلِّها، لا يسدُّ غيرها مسدَّها بحيث إذا بُدّلت بما يرادفها تداعى بناء البيت، وانهدم معناه».
ـ حلّ الشعر ببعض لفظه، ويعدُّه ابن الأثير «أصعب منالاً»، لأنّ حلَّ شعر شاعرٍ مُجيدٍ يتطلّبُ مؤاخاة لفظه بمثله في الحسن والجودة.
ـ حلّ الشعر بغير لفظه، ويَضعُه في «الطبقة العليا»، ويرتبط بنقل المعنى من لفْظٍ إلى لفظ ثانٍ تتبث الفضيلة فيه لمن أحسن سبكه وأبرزه في «حليةٍ رائقة». واشتقَّ ابن الأثير من هذا القسم ضَرْباً يُسمّى «توليد المعاني»، ونعته هو بـ«الكيمياء»، لأنَّه «يُبدِّل صور الأعيان ويُبْرزها في عدّةٍ من الألوان؛ فتارةً يُخرج منها لؤلؤاً، وتارةً ياقوتاً، وتارةً ذهباً، وتارةً فضّةً. وهذا هو أشرفُ الدرجات في حلِّ المنظوم».
يظهر مما يسوقه ابن الأثير بشأن العلاقة بين الشعر والنثر عامة، وحلّ المنظوم تحديداً، أنَّه قلب مفهوم الصنعة – كما تجسّدت بوضوح عند ابن طباطبا- رأساً على عقب؛ فبدلاً من أن يكون النثر مادّةً للشعر، جعل الشعر مادّةً للنثر والكتابة. كان ابن طباطبا، في حديثه عن «صناعة الشعر»، يُشير إلى أنّه «إذا أراد الشاعر بناء قصيدةٍ مخّض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثراً، وأعدّ له ما يلبسه إيّاه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي تُوافقه، والوزن الذي يسلس له القول عليه. فإذا اتّفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته، وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيقٍ للشعر وترتيبٍ لفنون القول فيه؛ بل يعلق كلُّ بيْتٍ يتّفق له نظْمُهُ، على تفاوتٍ ما بينه وبين ما قبله». فابن طباطبا، هنا، مع ما يمكن أن نأخذ عليه من أنّه يُعطي للمعنى أسبقيّةً في البناء، ويجعله مستقلّاً عن شكله الإيقاعي، إلا أنَّه استحضر العناصر جُلّها، مُتفاعلةً في ما بينها، بما في ذلك عنصري النظم: الوزن والقافية كشرطين في البناء الشعري.

خارج الخطاب

في المُقابل، لم يحصر ابن الأثير صنعة حلّ الشعر إلّا داخل ثنائيّة اللفظ والمعنى، ولم يتطرّق إلى مشكلة البناء بذكْرٍ ذي اعتبار، إلّا من عبارات انطباعية فرضها ذوقه الفنّي كناثِرٍ من الطراز الرفيع. وبالتالي، فإذا كان ابن الأثير يكشف تمرُّسه على أساليب الكتابة الفنّية، وقدرته على الانتقال بين تنويعاتها الجمالية في ما كان يُنْشئه ويضربه من أمثلة، إلا أن آليّة تحليله النظري لها لم تكن بالدرجة نفسها، ولا بالوعي نفسه. كانت المسافة التي يسلكها من الشعر إلى النثر مضبوطة ومحكومة بهاجسٍ تعليميٍّ، إذ لم يكن المهمّ هو الشكل، بقدر المادّة المحمولة؛ فالشعر، كما القرآن والأخبار النبويّة، لا يأخذه إلّا باعتبار ما يحملهُ من مَعْرفةٍ (مثل، حكمة، وجه بلاغي..) لزعمه أن «الكلام المنظوم» استغرق «جميع المعاني، فكان الأخذ منه أولى». ولهذا نفهم لماذا أنّ ابن الأثير كان يهتمُّ بـ«نقل المعنى» من وَجْهٍ إلى وَجْهٍ آخَر، ولم يُعِرْ للموازنات الصوتية – الإيقاعيّة التي ضمّنها أنثاره اهتماماً في النظر، ورُبّما شغلَهُ عن ذلك أنّ الكتاب «كتاب تعليم». لقد اتّضح الطابع السكولائي للكتاب، وخفتَ الطابع الإشكاليّ للقضايا التي من المفترض أنْ تطرحها صنعة حلّ الشعر أمبريقيّاً، وذلك على صُعُد البناء والدلالة والإيقاع؛ فالفرق بين النظم والنثر ليس فَرْقاً في استخدام المعاني والسبق إليها، لكنّه فَرْقٌ في طريقة التعبير وتوقيعه. وأين هذه الصنعة ممّا أثبته الجاحظ، بقوله إنّ الشعر «لا يستطيع أن يُترج ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوّل تقطّع نظمه وبطل وزنه، وذهب حسنه وسقط موضع التعجُّب».
إن خاصية الوزن لا تتجلّى قيمتها في أنها تطبع الشعر بـ«النّظْمية»، بل في ما تُجريه من تَحْويلٍ حقيقي يعبر بالكلام في الشعر من مستوى إلى آخر أكثر تأثيراً وإيحاءً، وفق النسيج الفنّي الذي تتعيّش منه، ووفق قوانينه اللغوية التي تتأثّر بها. ولذلك فكلّما كان الوزن يعتمد نسقاً مُحدّداً في توزيع أعاريضه وحركاته وسكناته في كَمٍّ إيقاعيٍّ ما، كلما أثّر ذلك رأساً في «صورة الكلام»، وجعل اللغة تنتظم انتظاماً يختلف عن الصور العادية للكلام، بقدرما يجعل الإيقاع في عبور اللغة الشعريّة أكثر ملموسيّةً وماديّة في مستوى بنية الكلمة والتركيب والفضاء برُمّته. في المقابل، إنّ البقاء في حدود النّظْم واعتباره قيمة في حد ذاته، وبدون ميزة التحويل، يترك الشعر خارجه وليس له إلا فضل الوزن والقافية. وبسببٍ من هذا، فكثيرٌ مِمّا نُسمّيه شعراً هو نَظْمٌ لا شعريّة فيه، وبالمثل هناك نزْرٌ غير قليلٍ من النثر هو شِعْرٌ وإن لم يأْتِ كلاماً مَنْظوماً وجاء مُعدماً من الوزن والقافية، ولكن ليس معدوماً من الإيقاع بأي حال من الأحوال.



٭ القدس العربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى