محمد فري - الوجه والقناع في مجموعة «عطر.. معطف.. ودم» لعبدالحميد الغرباوي

للنص الموازي سحره في الدراسات السردية الحديثة، فهو عتبة الباب الذي ندلف منه إلى الداخل، وهو العنصر المستقبل والمرحب بالوافدين، يستعين بكل جمالياته الممكنة ليكون وجها باشا محققا لوظيفة التداول، ومثيرا لأفق الانتظار، أفق القاريء الضيف الواقف عند العتبة.. ينتظر الدخول.
أنا الآن واقف أمام المجموعة القصصية الأخيرة للأستاذ عبد الحميد الغرباوي ; والتي أهداني إياها مشكورا .. يطالعني غلاف يمتزج فيه الأخضر والأزرق في تدرج بارد، يعلوه اسم الكاتب بالأسود، والمطل على عنوان المجموعة المكتوب باللون الأحمر: "عطر .. معطف .. ودم" ..عنوان مركب من عناوين ثلاث قصص في المجموعة. في الوسط، تتمركز لوحة شهيرة للرسام البلجيكي " روني ماغريت -1967/1898"، رسام معروف باتجاهه السوريالي..تحت الصورة .. لفظة (قصص ) تعلن عن الجنس الأدبي للكتاب منهية آفاق الانتظار.
سأستريح هنا أمام هذه اللوحة المعبرة .. وأتخذها معبرا لقراءة المجموعة .. ومرشدا يقودني بين دهاليزها .. أستفسره وأهتدي به في دروبها .. مشروعيتي في ذلك اختيار الكاتب لها .. إذن من حقي مساءلته عن سبب الاختيار.. وعن العلاقات المشتركة بينها وبين قصص المجموعة .. كلها أو بعضها.
من هذا المنطلق سأنطلق .. قد ألتقي في ذلك مع نوايا الكاتب .. وقد أنزاح عنها .. عذري في ذلك أن الفنان والمبدع يقدم إبداعه للقاريء الذي من حقه أن يضيف تأويلاته.
اللوحة إذن سوريالية الاتجاه، تتميز بتقنية حادة، دقيقة وواقعية تذكرنا بتقنية سالفادور دالي. كما تذكرنا بلوحات " شيريكو" الذي تأثر به ماغريت كثيرا، فمنه استوحى تقنية ( اللوحة داخل اللوحة ) التي يستغلها ليوحي بالعلاقة بين الواقع والتصور، مستعينا في ذلك بالتأثيرات الفوتوغرافية المعبرة عن واقعية مزجه بين الصور المنطقية وغير المنطقية لتوضيح عمل اللاوعي الذي يتوجه إليه. ينطلق ماغريت إذن، من اللعب على العلاقة بين الوجه والقناع، المرئي والخفي، الظاهر والباطن، الواقع والحلم.....
في الصورة/اللوحة، يظهر جسم على هيئة شخص دون ملامح وهو جالس على صخرة، يتوكأ على عكازة باليد اليسرى، وباليد اليمنى يحمل ما يشبه شمعدانا يوحي بملامح إنسانية ( به عينان وفم )، يتدثر الجسم برداء بني يميل إلى الحمرة، يغطي الرأس وينزل على الكتفين، وفوقه وضع قبعة تميل إلى صفرة داكنة، يضاف إلى ذلك سروال داكن وحذاء أسود. بداخل ما يشبه صدر الجسم علقت أيقونات على شكل كأس ومفتاح وغليون وطائر.وراء الجسم تظهر خلفية تتمثل في نهر ملتو يخترق سهلا شاسعا ينتهي بأبراج وأقواس أسطورية زرقاء تتخلها سحب بيضاء. عالم مفتوح على كل التأويلات المحتملة وغير المحتملة، لكنه يشي بصورة مجملة على العلاقة بين ما نراه ونتوقعه وبين ما هو خفي.
فما الظاهر والخفي في المجموعة؟
لندخل من باب المجموعة، ونتوقف عند " أوراق من دفتر عاشق مجهول "، تلك التي عثر عليها السارد عن طريق صاحبه بضاحية المدينة، فقرأها بشغف رغم فقدان بعضها، ووجدها تتضمن مشاعر متمزقة، وأملا محطما بسبب تجربة وجدانية كان الفشل محطتها الأخيرة، لأن الوقت لم يكن مسعفا، فتغلبت أشياء الحياة على الوجدان. يمكن اعتبار الوقت قاسما مشتركا بين كل الأوراق التي يمكن اقتراح عناوينها كالتالي:
الورقة الثالثة: وقت ملوث
الورقة السابعة: رتابة الحب وعبثية الوقت
الورقة الثامنة: قسوة الوقت
الورقة العشرون: قصر وقت اللقاء مساء
الورقة الواحدة والعشرون: التوق إلى وقت اللقاء نهارا
الورقة التاسعة والعشرون:تجربة فاشلة ووقت ضائع
الورقة الثلاثون: فقدان المرأة وقت فارغ
الورقة الواحدة والثلاثون: الكتابة دون حلم وقت ضائع
الورقة الثانية والثلاثون: مشروع تتمة الأوراق
سارد الأوراق إذن شخص ممزق بين وقتين: وقت مفقود غائب، ووقت حاضر قاس، صراع بين عالمين متناقضين، عالم الحلم وعالم الواقع، الموجود والمفقود، ثنائية تشقي الجسد وتتعب الروح المسافرة والمترددة بين العالمين. هذا الظاهر والخفي قد ينطبق على زاوية النظر في الأقصوصة، إذ نلاحظ ساردين متداخلين: سارد يقرأ الأوراق، وسارد كتبها سابقا، وفي النهاية يمتزج الساردان عند مشروع كتابة الورقة الثانية والثلاثين.. ذات واحدة توزعت بين المتن والحاشية.. بين الواقع والتصور.
ندلف إلى عنوان آخر، فنشتم رائحة " عطر " يثير إعجاب الآخرين، صاحبته محط إعجاب الحي، بشكلها ولباسها، وخصوصا بعطرها الذي يسبقها.. عطرها المشاكس المثير والساحر..( وشباب الحي باتوا يعشقونه، يدمنون استنشاقه، لذا، فهم يحفظون أوقات ظهوره عن ظهر قلب، ويترقبون مرورها بشغف..)، لكننا نكتشف أن صاحبة العطر ليست هي الشخصية التي يتصورها الآخرون، لأنها بكل بساطة تمارس أقدم مهنة في الوجود، وما العطر إلا محاولة منها للتخلص من هذا الوجه الثاني .. – أنت لا تتعطرين، بل تستحمين بعطرك...
ردت، وهي تستعد لمغادرة الماخور:
- افعلي مثلي أو اصمتي، إني أستر به خنزي...
ألا نجد في ذلك التقاء مع موضوع لوحة الغلاف: الوجه، و ...القناع !!
هي في الحقيقة " أسرار " تمثل الجانب الخفي في الكائن، و أسرار هو عنوان المحطة الثالثة في المجموعة، بطلتها امرأة لم تعد تحتمل إخفاء سرها، وجهها المقنع، فبادرت تكتب رسالة إلى صديقها ليتحمل مسؤوليته تجاه الضيف المقبل الذي تحمله في بطنها.. تودع الرسالة بصندوق البريد، لكن الهزة تحطم الجدران، وتنجو صاحبة السر الخفي، ( وبين الطوب والحجر والخشب والأسلاك والأشياء المبعثرة هنا وهناك، راحث تبحث عن صندوق بريد أصفر وعن أسرار كامنة داخل مظروف وردي..)، لأنها بكل بساطة لا تستطيع أن تكشف عن قناعها / سرها، في القناع ارتياح حتى ولو كان إلى حين... ماغريت مرة أخرى.
ومع ذلك.. ورغم قساوة الحياة التي لا تكشف عن سرها .. نحتمي ببعض المرافيء.. نتشبث بها فنقول " إنها بخير .. بخير والحمد لله ".. ذاك هو عنوان المحطة الرابعة .. وفيها يطالعنا سارد يسترجع لحظات سعيدة تمثلها أمه الراحلة.. ويسترجع معها صرامتها وحرصها عليه من كل سوء .. ويحمد نتائج صنيعها في زمنه الحاضر .. لذا لا يملك إلا أن يعتبر الحياة بخير ما دامت لم تنزلق به .. كما انزلقت بصديقه الذي صادفه بعد طول غياب، ثم إن تشبثه بعالم الأم قناع يمسك به الوجه الجميل من الحياة.. ليحميه من وجهها الجهم .. تميمة يرتاح إليها نفسيا، فينظر من خلالها إلى الآخر الذي " ليس بخير".. تميمة مايزال تأثيرها ساريارغم طول غياب صاحبتها... السارد متوحد بالأم إذن، يحتمي بها من عالم الصديق، لذا فهي حاضرة بالقوة .. وهي .. بخير... بخير .. والحمد لله.
وإذا كان السارد ينقل على لسان الأم بأن الدنيا ماهي ( سوى محنة وكدر...)، فإننا نجد هذه المحنة تتخذ صبغة دموية في أقصوصة " دم "، فالمرأتان هنا تتحدثان عن الكوابيس المفزعة، حيث السكاكين تقطع الذبيحة المبهمة شرائح، ذبيحة ( لم أتبين نوعها.. كنت أصنع من لحمها شرائح وأقدمها إلى غرباء شكلهم مرعب.. يلهثون ككلاب مسعورة أو جائعة .. يتلقفون من يدي الشرائح ويلتهمونها نيئة...)، عالم سريالي يتماهى فيه الحلم لينفتح على كل التأويلات المفزعة، التي لا تملك المرأتان أمامها إلا الاحتماء باللطيف ( - يا لطيف ألطف بنا ..).
يبلغ هذا العالم المفزع والرهيب ذروته المأساوية في أقصوصة " الذئب " المحيلة على استشهاد الطفل محمد الدرة... الذئب رمز الافتراس.. لكنه رمز الجبن أيضا .. ولا يهاجم ضحيته إلا إذا كانت حملا وديعا لا يشكل خطرا .. حينئذ يكشف عن مخالبه وأنيابه ويقتنص أرواح الأبرياء... عنوان الأقصوصة إذن يلخص المفهوم المتحكم في نظام الأقصوصة المنشطرة انشطار الثنائية المتحكمة في قصص المجموعة.
هاجس الغرباوي غالبا هو الكشف عن الوجه الخفي، الوجه الآخر الذي لا يطفو على السطح، بل يظل خفيا في اللاوعي، ليظهر فجأة بصورة مفاجئة يكشف عنها سلوك تلقائي، وهذا السلوك هو الذي يبادر به الشخص في أقصوصة " حوار على هامش شقة وأرملة ".. وهو الحوار الذي ينسى فيه الرجل امرأته ليطمع في شقة الأرملة ودخلها.. حافزه الربح، لن (يخسر شيئا .. ولن يحمل هم الكراء والماء والكهرباء ) ولا بأس إن سكنت امرأته في غرفة، والأرملة في غرفة بنفس المنزل، ويبقى هو بينهما كالديك الفحل.. بذلك لن تخسر امرأته شيئا، فلتطمئن..
( - لن أخسر شيئا؟ !.. تقول لن أخسر شيئا ! ..
لم يجبها واكتفى برسم ابتسامة باردة على شفتيه، منتظرا منها الرضوخ والموافقة، إلا أنها رمته بنظرة متوجسة فاحصة، سرعان ما تحولت إلى نظرة تحمل كل معاني الشفقة والازدراء، ثم، ودون كلمة وداع، أرسلت خطواتها عابرة الطريق إلى الرصيف الآخر، وهي تردد ساخرة:
" الكل على حسابها .. لن أخسر شيئا " ...).
أما أقصوصة " الكاسكادور "، فتحمل إيحاءات فنية جميلة رغم طابعها المأساوي، فالمصاعد التي يعمل بها صاحب السارد هي في الحقيقة رمز لآلات جهنمية، تصعد بطبقة، وتهوي بطبقة أخرى إلى الأسفل.. إلى الموت، لأن شروط العمل غير متوفرة، لذا فهو كاسكادور مخاطر بروحه التي لم تهتم بها فئة أخرى كان شغلها الشاغل هو الربح السريع المتصاعد، وجه آخر هنا ينزل عنه القناع ليكشف عن الاحتكار والمتاجرة بالأرواح.
ونصل إلى " معطف .. وعشر سنتات "، لنتجول مع السارد في سوق الثياب المستعملة، ونكشف القناع عن فئة اجتماعية ألفت حياة الهامش، ومع ذلك لا تستسلم بل تحاول الاستمرار في الحياة حتى ولو كانت حياة الخردة، ... وتبقى العشر سنتات التي يجدها السارد في جيب المعطف الجديد القديم، حلما تبتسم فيه الحياة، وتكشف عن وجه صاف مشرق غير عابس.
بعد ذلك تطالعنا أقصوصة " يوم جميل "، تهطل فيه الأمطار لتغتسل المدينة من كل أدرانها التي لم تستطع التخلص منها بطريقة أخرى، ( كانت المدينة وسخة، وتحتاج إلى من ينظفها ويغسلها، ولم تجد الخير إلا في السماء، قامت بكنسها وغسلها وإعادة البريق إليها...)، المدينة إذن تكشف بدورها عن قناعها، ( وانكشفت الحفر بعد أن امتصت خيوط الشمس ماءها..)، قناع يكشف عنه أيضا حديث الشيخ الجالس إلى جانب السارد ليذكرنا بماغريت مرة أخرى ( لا تغتر بالمظاهر يا بني .. لا يعلم بالداخل إلا الله .. أنت لا تراه .. لا أنت ولا أنا .. بل أنا أرى ما بداخلي من خلال ما أحس به .. الإحساس بالشيء هو نوع من الرؤية.. ).
وفي " كيف اندلعت الحرب؟ !" ، - وهي آخر أقصوصة في المجموعة – يجسد الكاتب الأسباب الشخصية للحروب بطريقة ساخرة عندما يتخيل مشادة كلامية حول موضوع تافه تنتهي بمشادة بالأيدي. وبهذه اللمحة الذكية من الكاتب تتزاوج اللفظتان ( العراق / العراك )، ويختلط الحابل بالنابل، وتكشف الأقنعة عن الوجوه الخفية من جديد، إلا أنه هنا يكشف عن المشاكل التي تبدو أسبابها دولية بينما هي في الحقيقة ذات أسباب شخصية، تذكرنا بحرب داحس والغبراء وحرب البسوس...
أخيرا أود أن أذكر بأنني حاولت قراءة المجموعة من خلال لوحة الغلاف، يدفعني ظني ( المشروع كمتلقي ) إلى أن سرها المتحكم في نظامها يوجد في هذه اللوحة ( وإلا فلماذا اختارها - أو وافق على اختيارها - صاحب المجموعة؟ )، وأتمنى ألا تكون العلاقة هنا بين الدال والمدلول اعتباطية... بل منطقية تساعد على قراءة بعيدة عن الإغراق في التجريب والانحصار في الأدوات والمناهج .. قراءة تنطلق من فنية اللوحة إلى فنية الصياغة .. لأن القصة في نظري شعور وإحساس، والقراءة في حد ذاتها بحث عن هذا الإحساس، وإمساك بهذا الشعور.
محمـــد فـــري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى