كاظم حسن عسكر - الشخصية وخصوصيتها في خطاب الرحلة نحو الآخر إبّان عصر النهضة العربي

الملخص

الرحلة ممارسة ووعي يقوم بها إنسان بصيغ مختلفة, فهي فعل أفراد مثلما هي فعل جماعات بشرية, حين ينتقل وعي مجتمع وثقافة ما الى مجتمع آخر, كذلك حين تعود جماعة ما الى تراثها عابرة تحولات الزمن لرصد المضيء فيه والنافع. وإذا ما نُظر الى أشكال الرحلة هذه في سياق عصر النهضة العربي, يجدها تنطوي على تنوعات طريفة, سعى فيه المفكرون العرب بوعي متفائل الى الانفتاح على مختلف أشكال الوعي والثقافات, لا سيما ثقافة الأنا بوجوهها المختلفة وثقافات الآخر الغربي, وعلى وفق ذلك يمكن تقسيم الرحلة الى مستويين: رحلة ظاهرة وأخرى مضمرة, الأولى تتشكل سرديًا عبر فعل السفر الحاكم للخطاب, والأخرى تكون من خلال تلمّس انتقال أشكال الوعي داخل الإنسان تارة، وأخرى بين وعي الذات العربية ووعي الآخر, ويمكن تلمّسها من خلال بنية الخطاب الكلية, وقد تداخلت هاتان الرحلتان بشكل يصعب فصلهما, وتظل الرحلة المضمرة أكثر اتساعًا وشمولًا, وكان هذا الشكل من الترحال عماد عصر النهضة ومرماه. وغالبًا ما يقدم الرحالون المجتمعات بوصفها شخصية, محاولين الإلمام بصفاتها, ويستندون الى وسيلة التقابل في محاولة فهم الزمن العربي وبناء شخصيته, ويمثل هذا الزمن وتلك الوسيلة سبيلًا للكشف عن طبيعة المجتمع الأوربي, فهم يسعون الى بناء ذواتهم مثلما يبنون مجتمعاتهم من خلال صورة ذلك الآخر؛ لذا تنطوي الرحلات في هذا العصر على ثراء وتنوع كبيرين, فهي رحلة داخلية تمر بزمن الإنسان الداخلي كما تمر بزمنه التاريخي. وإن أبسط مفاهيمها هي الجلوس مع الآخر لقراءة الذات, وذاك الآخر هو ما يعطي الخطاب وعيًا تعدديًّا.

الشخصية والشخصية الرئيسة

ثمة سمات تميز سردًا ما عن غيره, وأخرى مشتركة تلتقي فيها الأجناس والأنواع الأدبية. ويمكن للقارئ أن يدرك خصوصية سرد الرحلة في طبيعة شخصياته, إذ انفرد ببناء نوعين منها: الأولى شخصية رئيسة وهي القيمة على فعل الارتحال, التي يدور حولها الحكي, فمع حركتها يتحرك السرد, ومع نزولها يظهر الوصف, وبين الوصف والسرد يُشيد عالم فريد. أما النوع الآخر هي الشخصية بوصفها مجتمعًا أو الشخصية العامة التي يحاول الراوي تكوينها, ولا يمكن فهم هذه النوع وبناء تصور متكامل عنه إلا في نهاية الرحلة؛ لذا لا قيمة حقيقية للشخصيات الثانوية إذا ما تتبع الدارس حيواتها, فهي تطلّ هنا وهناك بوصفها دليلًا لظواهر اجتماعية تتبعها الرحالة؛ أي أنها لا تقدم الى المتلقي بوصفها ذاتًا فردية, بل نموذجٌ يدلّ على شخصية العالم الذي يرتحل فيه, من خلال فحص طبيعته وتأمل تفاصيله. ولا يمكن للشخصية الرئيسة أن تَغِيب أو تُغيّب ولا يمكن أن تموت أو تختفي لأي سبب كان, فهي باعث الحكي وموئل الأحداث, وحضورها شاخص على طول لحظتي الذهاب والعودة, وعمومًا ليست تلك الشخصيات من نسج الخيال، وأسماؤها ليست مختارة بطريقة فنية لتحمل دلالة خاصة، أو تؤدي وظيفة معينة، بل هي واقعية معروفة بأسمائها وأنسابها، وانتماءاتها، وثقافاتها, فهي خليط من الورقي والمرجعي, ويقوم سرد الرحلات "على ميثاق سردي مرجعي يعلنه المؤلف غالبًا في الفاتحة النصية مبينًا عزمه على سرد قصة رحلة قام بها بنفسه ووصف ما شاهده أثناءها1". ولا تكتسب الأشياء أهميتها إلا عبر منظوره. وقد يلفها الغموض نتيجة لقلة المعلومات التي تقدم بها , ما يجلها تفتقد "للملامح السيكولوجية أو الفسيولوجية, فهي شخصية لا تبكي ولا تضحك لا هي بالسمينة أو النحيفة, إنها شخصية فكرية تمارس الارتحال عبر جدلها مع العالم المرئي بمكوناته الإنسانية وغير الإنسانية2 ", ولعل جزءًا من غموضها نابعٌ من أنها لم تُقدم بوصفها كائنًا معدًّا مكتملًا بل بوصفها كائنًا مكتشِفًا متطورًا, فهي فاعل ومنفعل في عالم مختلف يجري الانتقال فيه, إي إنها تبدو غير واضحة الملامح إلا أنها ضمنًا ومع امتداد السرد تظهر متفاعلة مع العالم الذي تنتقل فيه, فوعيها وحضورها يتطور وينتقل مع تطور المحطات وتغير الأمكنة, وهنا تكمن أهمية خطاب الرحلة, وأهمية فعل التنوير وحساسيته. وتختلف الشخصيات الثانوية في أن ظهورها يكون في مواقف معينة لتختفي باختفائه, أي أنها تكميلية تظهر وتختفي شأنها شأن الأمكنة التي يمر فيها الرحالة, وهي نتائج ثانوية للوظائف التي تؤديها, وغالبًا ما تفتقر الى الملامح السيكولوجية أو الفسيولوجية. وكونها ذات بعد مرجعي جعل الراوي يقدمها من خلال تخصص عُرفت به, كما حدث مع تقديمه لـ((سلوستري داساس)): "وهو من أكابر ((باريس)) وأحد أعضاء جملة جمعيات من علماء فرنسا وغيرها، وقد انتشرت تراجمه في ((باريس)) وشاع فضله في اللغة العربية، حتى إنه لخص شرحًا للمقامات الحريرية، وسماه مختار الشروح، وقد تعلم اللغة العربية على ما قيل بقوة فهمه، وذكاء عقله، وغزارة علمه لا بواسطة معلم3 " وإذا كانت الشخصيات الثانوية سُلبت سلطتها, فان المجتمع الذي يُرتحل إليه بنى شخصيته وفرض حضوره, ولم يكتف الآخر بذلك بل بنى تصورًا مختلفًا في ذهن الرحالة عن مجتمعه, خلق ذلك منه ذاتًا أخرى, مرسلة ومستقبلة, عالمة ومتعلمة في الوقت نفسه. فالراوي إزاء بناءين: بناء ذاته وبناء تصور ما عن شخصية المجتمع الذي يرتحل إليه, وعلى وفق هذين البناءين يشيد مجتمعه العربي. واستنادًا الى ما سبق ذكره يعنى أدب الرحلات بالمجتمعات والأمكنة أكثر من اهتمامه بالأفراد بوصفهم ذواتًا مستقلة, فهو أدب يسعى الى بناء ذات عامة؛ لذا غدا الحوار في خطاب الرحلة كاشفًا عن موضوعه أكثر من انشغاله بالأطراف المكونة له من مرسل ومستمع4 , واتضح ذلك جليًا في رحلة(كشف المُخبّا عن فنون أوربا)5, وفي الغالب يجري تغييب اسم الشخص المحاور؛ لأن الحوار يراد منه معرفة وجهة نظرها, فهو يظل "دالاًّ على الرأي أو الموقف والموقف المضاد, قبل أن يدل على ملامح الشخصية, ومكوناتها النفسية والاجتماعية. فهو حوار يدلّ على ما يجري في العالم, من أفكار وقضايا, من خلال دلالة المحاور الرمزية, قبل أن يقدم لنا هذه المحاور لحماً ودماً6". فالشخصيات الثانوية علامة فكرية هاجسها الأساس يكمن في نقل المعرفة تفسيرًا وتأويلًا من دون إظهار المعاناة المادية أو المعنوية التي تتضاءل أمام رغبة الرحالة في تقديم المعرفة المرئية والمجهولة لدى المتلقي7. وانفرد الدكتور(صموئيل لي) بين غيره من الشخصيات الثانوية التي قصدها الرحالة, فقد أشرف على الشدياق في أثناء ترجمة التوراة8۔


الشخصية بوصفها مجتمعًا؛ الآخر نموذجًا

الرحلة خطاب سفر مأخوذ بمعرفة المجتمعات وفهم طبيعتها, واتضح هذا الهاجس أكثر في عصر النهضة, حين ارتحل المفكر العربي يحدوه أمل التعلم في الرحلة المادية, وأمل الاكتشاف وتعريف مجتمعه بالآخر المجهول في الرحلة اللغوية, وبوصف هذه الدراسة مشغولة بالخطاب السردي للرحلات, لذا فالوقوف عند شخصية تلك المجتمعات كما رآها التنويريون العرب يعد أمرًا مهمًا لفهم الطبيعة البنائية لخطاب الرحلة في عصر النهضة.

أولا- شخصية المجتمع الفرنسي في رحلة الطهطاوي

لا يمكن فهم خطاب الرحلة في عصر النهضة إلا في حال تلمّس شخصية المجتمع المرتحَل إليه, فلا ينظر الطهطاوي الى المجتمع الفرنسي إلا بوصفه شخصية يمكن التعرّف الى صفاتها, وقد ساعد الوعي التنويريّ في تشكّلها, فالرحالة رسول وعي مجتمع تعوزه النهضة, أي إنه صاغ خطابه لا الى الفرد بل الى المجتمع كله؛ لذا ثمة توازن بين الموصوف والموصوف له. وقد نظر الى المجتمع الفرنسي من أبعاد عدة, محاولًا رصد ظاهره وباطنه, ساعيًا عبر ذلك لرسم تصورٍ مكتملٍ عنه, "ومما يستحسن في طباع الإفرنج دون من عداهم من النصارى حب النظافة الظاهرية، فإن جميع ما ابتلى لله سبحانه وتعالى به قبط مصر من الوخم والوسخ أعطاه للإفرنج من النظافة. ولو على ظهر البحر! فإن أهل المركب التي كنا فيها يحافظون على تنظيفها وإذهاب الوسخ ما أمكن، حتى إنهم يغسلون مقعدها كل يوم من الأيام، ويكنسونها في غرف النوم كل نحو يومين، وينفضون الفراش وغيره، ويشمونها رائحة الهواء، ويزيلون أوخامها، مع أن النظافة من الإيمان، وليس عندهم منه مثقال ذرة!9" لم يكتف الرحالة بوصف نظافة الفرنسين البادية إزاءه, بل حاول استبطانها, فقد بدأ بتأمل تفاصيل الشخصية الفرنسية منذ انطلاق الارتحال مستندًا الى ما يراه, واتضح في المقتبس السابق بشكل جلي الوجه الإشكالي الذي يحمله الآخر الفرنسي, فثنائية(النظافة من الايمان) التي استندت إليها منظومة القيم العربية الإسلامية بدأ الآخر بخلخلتها في ذهن الرحالة وذهن متلقيه, مؤسسًا لفهم مختلف, فالنظافة يمكن أن تكون حاضرة من دون إيمان, والإيمان يمكن أن يكون حاضرًا من دون نظافة, أي إن الآخر منذ بداية الرحلة يحمل رؤية مختلفة لتفسير الحياة وإشكالات الواقع, ويحمل معه تصورًا مختلفًا لمنظومة القيم التي ينتمي إليها الرحالة, فسمة الترتيب والعناية بالضيف, تلك التي تختلف عما لدى العرب والمسلمين, هي شاهد آخر, يقول في ذلك: "ولم نشعر في أول يوم إلا وقد حضر لنا أمور غريبة في غالبها، وذلك أنهم أحضروا لنا عدة خدم فرنساوية، لا نعرف لغاتهم، ونحو مائة كرسي للجلوس عليها؛ لأن هذه البلاد يستغربون جلوس الإنسان على نحو سجادة مفروشة على الأرض، فضلاً عن الجلوس بالأرض، ثم مدوا السفرة للفطور، ثم جاءوا بطبليات عالية، ثم رصوها من الصحون البيضاء الشبيهة بالعجمية، وجعلوا قدام كل صحن قدحًا من (القزاز)، وسكينًا، وشوكة، وملعقة، وفي كل طبلية نحو قزازتين من الماء، وإناء فيه ملح، وآخر فيه فلفل، ثم رصوا حوالي الطبلية كراسي، لكل واحد كرسي، ثم جاءوا بالطبيخ فوضعوا في كل طبلية صحنًا كبيرًا أو صحنين، ليغرف أحد أهل الطبلية، ويقسم على الجميع، فيعطي لكل إنسان في صحنه شيئًا يقطعه بالسكين التي قدامه، ثم يوصله إلى فمه بالشوكة لا بيده، فلا يأكل الإنسان بيده أصلًا، ولا بشوكة غيره، أو سكينه، أو يشرب من قدحه أبدًا. ويزعمون أن هذا أنظف وأسلم عاقبة10" فلم يكتف الآخر بالنظافة والترتيب, بل رسخوا فهمًا آخر لهما, فهمًا لا يمكن تجاهله, لا سيما أن ذلكما الفهم والاختلاف منح الآخر الصدارة, وقاده الى أن يكون غازيًا, على العكس من الأنا العربية التي قادها اكتفاؤها الى أن تقع في التخلف والانحطاط. وبذلك لم يصف الرحالة شخصية المجتمع الفرنسي فحسب, بل وصف مجتمعه أيضًا, فقد وجد في الآخر صفات كان ينتظرها لدى العربي, وهنا يعيد وعيه بالكون والوجود من خلال نقطة الالتقاء بين وعيين: وعي الذات ووعي الآخر. وهنا يثري الآخرُ الوعي البشري ويعقده, ويبعده عن الوعي التبسيطي الساذج, معطيًا مساحة لتقديم وعي متعدد الوجوه لمجتمعه. وفضلًا عن الصفات الظاهرة التي جرى تناولها يحاول الخطاب استغوار الشخصية الفرنسية, فقد رأى "أن الباريزيين يختصون من بين كثير من النصارى بذكاء العقل، ودقة الفهم وغوص ذهنهم في الغويصات، وليسوا مثل النصارى القبطة، في أنهم يميلون بالطبيعة إلى الجهل والغفلة، وليسوا أسراء التقليد أصلاً، بل يحبون دائمًا معرفة أصل الشيء والاستدلال عليه، حتى إن عامتهم أيضًا يعرفون القراءة والكتابة، ويدخلون مع غيرهم في الأمور العميقة، كل إنسان على قدر حاله، فليست العوام بهذه البلاد من قبيل الأنعام كعوام أكثر البلاد المتبربرة. وسائر العلوم والفنون والصنائع مدونة في الكتب حتى الصنائع الدنيئة، فيحتاج الصنائعي بالضرورة إلى معرفة القراءة والكتابة لإتقان صنعته، وكل صاحب فن من الفنون يحب أن يبتدع في فنه شيئًا لم يسبق به، أو يكمل ما ابتدعه غيره. ومما يعينهم على ذلك زيادة عن الكسب حب الرياء والسمعة ودوام الذكر11" أشار هذا المقتبس الى الصفات التي تحتاج الى مزيدٍ من الفطنة والتدبر وإدارة النظر من لدن الرحالة, وهي تخبر المتلقي أنه إزاء مرسل واع ينتقل من ظواهر الأمور الى بواطنها, وبذلك لم يأخذه الوصف العابر واللمحات غير الدقيقة, فقد ميّز سلبيات المجتمع الذي يرتحل فيه وايجابياته. وأظهر الراوي ما تتميز به الشخصية الباريسية من سمات جعلت منها مثالاً للتمدن, وقد سار تقديمه لها في اتجاهين: أخذ الاتجاه الأول صفة التقديم المباشر, وفيه لم يهتم بمظهرها بل فسر تفوقها الذي يرتبط بنفسيتها وإمكاناتها العقلية, فذهب الى أنها تتسم بذكاء العقل ودقة الفهم والاهتمام بالعلم, كذلك أشار الى أنهم ليسوا أسراء التقليد, بل يميلون الى الابتكار, وكثيرا ما نلمح تقديم الراوي شخصية من خلال أخرى, وهذا ما يكثر في الرحلات العربية الحديثة, فقد قدم الشخصية الفرنسية عبر الشخصية المصرية, مثلما فعل العكس. فالمصرية يغلب عليها الجهل والغفلة والانقياد للتقليد, والتسليم للموروث, وقد تنكر الرحالة لتلك الصفات؛ لأنها تتعارض مع موقفه التنويري. وجرى تبني وعي الآخر؛ لأنه رأى فيه تحريرًا للكائنات البشرية من ضغط الوصايات الخارجية, فالدعوة الى مركزية الإنسان بينة عبر صفات الشخصية الفرنسية, فقد حاول إعادة النظر بما تعاهدت عليه الذات من أسس وثوابت. ومن الصفات التي تقرب الشخصيتين الفرنسية والعربية من بعضهما قوله:"ومن طباعهم الغالبة: وفاء الوعد، وعدم الغدر، وقلة الخيانة[...]الصدق، ويعتنون كثيرًا بالمروءة الإنسانية, ومن الصفات التي يقبح وصف الإنسان بها عندهم: كفر النعم، مثل غيرهم. فيرون أن شكر المنعم واجب " فلم يكن الآخر مغايرًا في صفاته, بل هو مختلف يمكن احتذاؤه وتحقيق ما حققه من رقي في العلوم والفنون. يؤكد ذلك قوله: "ومن الأمور المستحسنة في طباعهم، الشبيهة حقيقة بطباع العرب: عدم ميلهم إلى الأحداث، والتشبب فيهم أصلًا، فهذا أمر منسي الذكر عندهم، تأباه طبيعتهم وأخلاقهم، فمن محاسن لسانهم وأشعارهم أنها تأبى تغزل الجنس في جنسه " ويشير الى الصفات السيئة قائلًا: "ومن خصالهم الرديئة: قلة عفاف كثير من نسائهم كما تقدم. وعدم غيرة رجالهم فيما يكون عند الإسلام من الغيرة بمثل المصاحبة والملاعبة والمسايرة[...]وبالجملة فهذه المدينة؛ كباقي مدن فرانسا وبلاد الإفرنج العظيمة، مشحونة بكثير من الفواحش والبدع والاختلالات12" نجد أن الرحالة يحاول استقصاء صفات الشخصية الفرنسية ليقدم لمتلقيه العربي تصورًا واضحًا, فهو لا يصف حسنات المجتمع الفرنسي فحسب, بل سيئاته أيضًا, وهنا تظهر موضوعيته وإلمامه بتفاصيل الموصوف. وكما هو واضح أنه يصف الآخر على وفق منظومة القيم التي ينتمي إليها, فهي تحدد الجيد والردئ والمرغوب فيه والمرغوب عنه, والمضيء والمنطفئ, وبذلك تبدو صفات الشخصية الفرنسية ليست خالصة, بل تداخلها الذات الواصفة ومحمولاتها المعرفية, لا يعني ذلك أن الآخر كان موضوعًا للتأمل فحسب, وموصوفًا صامتًا لا صوت له, بل هو متكلمٌ وحاضرٌ واعيٌ بحضوره من لدن الرحالة ومتلقيه13, فكثيرًا ما يعيد قراءة وعي الواصف, الذي يغدو هو الآخر محلًا للقراءة والتأمل, وبذلك يخضع وعي الرحالة الى وعي الآخر منتجًا بذلك وصفًا أكثر اعتدالًا ووسطية مما لو جلست الأنا مع نفسها لوصف الآخر؛ لذا نجده أحيانًا يعلق على صفات الشخصية الفرنسية, وأخرى يضرب عن ذلك , ولعل إضرابه نابع من وقوفه بين منظومتين من القيم: المنظومة الإسلامية والمنظومة الغربية, فالأخيرة ترى أن التقبيح والتحسين يقرهما العقل فحسب, وهو ما تنكره منظومة القيم الإسلامية التي ترى في قوى الغيب عاملًا حاسمًا في معرفة التحسين والتقبيح, لذا يقف الرحالة بين منظومة تجعل الإنسان مركز الكون ومنظومة تجعل اللاهوت مركزًا, وتوسطه بين منظومات القيم يوحي للقارئ فكرة تبنيه بعض رؤى منظومة القيم الغربية ؛ كون التنوير يستند الى الإنسان, ويسعى الى تحريره من استعباد القوى الخارجية. وقد أشار الرحالة في تلمسه سمات الشخصية الفرنسية الى الملامح التي تؤكد عدم اكتمالها وقدرتها على التطور, ويستدعي هذا التوصيف وسيلة التقابل بين ما جرى توصيفه وبين المجتمع العربي الذي يسعى الرحالة الى تنويره, يقول في ذلك: "ومن طباع الفرنساوية التطلع والتولع بسائر الأشياء الجديدة، وحب التغيير والتبديل في سائر الأمور، وخصوصًا في أمر الملبس، فإنه لا قرار له أبدًا عندهم، ولم تقف لهم إلى الآن عادة في التزيين[...] ومن خصالهم محبة الغرباء والميل إلى معاشرتهم، خصوصًا إذا كان الغريب متجملاً بالثياب النفيسة، وإنما يحملهم على ذلك الرغبة والتشوف إلى السؤال عن أحوال البلاد، وعوائد أهلها، ليظفروا بمقصدهم في الحضروالسفر14" والإشارة الى التولع بالعلوم والفنون لدى الشخصية الفرنسية يحركها الهاجس التنويري, ويحمل داخله مسعى لخلخلة الوعي المكتملة داخل المجتمع العربي, ليحقق للذات مرماها النهضوي. وصفة عدم الاكتمال أكدها تدوين العلوم والفنون التي تشيع في بلادهم؛ ليتمكن الجميع من الاطلاع عليها ومعرفتها, وقال في ذلك: "إن الفنون باللغة الفرنساوية قد بلغت درجة أوجها حتى إن كل علم فيه قاموس مرتب على حروف المعجم في ألفاظ العلوم الاصطلاحية، حتى علوم السوقة، فإنها لها مدارس كمدرسة الطباخة، يعني مجلس علماء الطباخة وشعرائها، وإن كان هذا من أنواع الهوس، غير أنه يدل على اعتناء هذه البلاد بتحقيق سائر الأشياء، ولو الدنيئة وسواء في ذلك الذكور والإناث، فإن للنساء تآليف عظيمة ومنهن مترجمات للكتب من لغة إلى أخرى، مع حسن العبارات وسبكها وجودتها15" كذلك أعطى الرحالة المرأة الفرنسية حظًّا من الوصف مادحًا حينًا وذامًا أخرى, فهو يصغي للصوت الآخر في ضرورة حضور المرأة في مختلف مجالات الحياة بوصفها منتجًا ومفسرًا شأنها شأن الرجل.


ثانيًا- شخصية المجتمع الانكليزي في رحلة الشدياق

امتدت إقامة الشدياق في أوربا لسنوات عدة, خالط خلالها تلك المجتمعات, وقد منحه ذلك جانبًا من تجاوز لحظة الاندهاش الأولى, فضلًا عن شخصيته الإشكالية, التي يسوسها القلق الفكري الدائم, ويختلف بذلك عن غيره من الرحالة العرب في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ لذا غالبًا ما يتعقّب الصفات السلبية والإيجابية في المجتمعات التي يرتحل إليها, فالموسوعية والقدرة على الإحاطة والوعي بالأشياء سمات لازمته, مثلما لازمت الوعي النهضوي. ولم يكن وصفه لشخصية المجتمع الانكليزي خالصًا, بل داخله وصف الذات, لا سيما حين توقفه عند المستشرقين وترجماتهم, أي أننا إزاء وصف مزدوج؛ وصف الذات والآخر معًا, يقول في ذلك: "انظر إلى ريشردصون الذي ألف كتاب لغة يشتمل على لغته وعلى لغتي العرب والفرس، فأقسم بالله إنه لم يكن يدري من لغتنا نصف ما أدريه أنا من لغته، لا بل سَوَّلت له نفسه أيضًا أن ترجم النحو العربي، فخلط فيه ولفق ما شاء[...]وأورد حكاية من كتاب ألف ليلة وليلة عن ذلك الأحمق الذي قدر في باله أن يتزوج بنت الوزير، فلما بلغ إلى قوله: ((ولا أخلي روحي إلا في موضعها)) ترجمها بقوله: ((لا أعطي الحرية لنفسي أي لزوجتي إلا في حجرتها))[...]وإذا ترجم أحدهم كتابًا رقعه بما عَنَّ له، وسبكه في قالب لغته، فقد قرأت كثيرًا مما ترجم من كلامنا إلى كلامهم، فإذا هو مسبوك في قوالب أفكارهم مما لم يخطر ببال المؤلف قط. وقرأت ترجمة منشور صدر من الملك في الحض على الجهاد من جملته: ((ليس لعباد النبي من خلاص في هذه الدنيا ولا في الآخرة إلا بجهاد الكفار)) فانظر إن كان المسلمون يقولون إن النبي ((معبود)) وما رأيت أحدًا تحرج من هذا التلفيق والافتراء والترقيع غير مستر صال الذي ترجم القرآن، ومستر لان الذي ترجم حكايات ألف ليلة وليلة، ومستر برسطون الذي ترجم خمسًا وعشرين مقامة من مقامات الحريري[...]فإن أحدهم لا يبالي أن يؤدي معنى الترجمة بأي أسلوب خطر له، فلو قرأ سبٍّا في كلامنا مثلًا ((يحرق دينه)), ترجمه بأن دينه ساطع ملتهب, بحيث إنه يحرق جميع ما عداه من الأديان، أي: يغلب هو عليها فهو الدين الحقيقي القاهر، كما ورد أن لله نار آكلة16" لم يرسم الرحالة للمسشتشرقين تصورًا واحدًا بل رأى فيهم المحسن والمسيء, وينبه ذلك الى ثقافته ووعيه باللغتين العربية والانكليزية, وفي النصوص المترجمة. وقد أبان الشدياق عن مرمى رحلته من خلال نقده لترجمات المستشرقين الانكليز وآرائهم لوقعوهم بسوء الفهم في التلقي النص العربي, فلم يمارس الترجمة في رحلته المادية وحسب, بل كشفه عن وعيه بالترجمات في رحلته اللغوية, وهو بذلك يبيّن شخصية الرحالة المترجم أيضًا الى جوار كشفه عن طبيعة الاستشراق الانكليزي. وأشار الشدياق الى معرفته بشخصية (صموئيل لي) قائلًا: "وقد جرى لي معه وقت الترجمة عدة مناقشات ومجادلات لا بأس بإيرادها هنا وإن طال بها الكلام؛ فإنها عنوان على معرفة القوم لغة الشرقيين وخصوصًا العربية، منها أنه كان يحاول استعمال كلمة هوذا في كل موضع يجدها في الأصل أعني العبراني، فإنه لا يمتنع فيها أن يقال مثلًا لأن هوذا أو وهو هوذا وكان هوذا رجل وكان يظن أن إذا في قولنا: خرجت وإذا زيد بالباب لا تغني مغناة هوذا، ومن ذلك أنه كان ينكر قولنا مثلًا أحد الرؤساء بدل رئيس، ومن ذلك أنه كان يريد المحافظة على الأصل بالإتيان بقائلًا بعد قال، فإنه يقال فيه قال قائلًا مع أن هذا التركيب في لغة الإنكليز منكر، ولذلك كنا نجد في توراتهم وتكلم قليلًا لا قال قائلًا، وفي مثل قولنا ضرب لهم مثلًا كان يبدل ضرب بقال؛ لأنه كان يترجم في عقله لفظ ضرب إلى لغته فلا يجد له معنى سوى إيصال الألم17". وإن معايشة الشدياق لمختلف طبقات المجتمع الانكليزي منحه تصورًا أكثر وضوحًا واكتمالًا, فقد رصد الفقر والبؤس في الأرياف الانكليزية كما رصد الغنى والترف في المدن لا سيما الكبرى منها, يقول في ذلك: "ثم إني أخذت في أن أذهب إلى الدكطر((لي)) في كل يوم لأترجم التوراة ثم أعود إلى منزلي ملازمًا له، فلم تمض عليَّ أيام حتى عيل صبري؛ لأن هذه القرية التي قدر لله أن أسعد الناس بترجمتي فيها كانت من أنحس قرى الإنكليز[...]ولم يكن فيها للأكل غير اللحم والزبدة المخلوطة بالجزر والخبز المخلوط بالبطاطس والجبن واللبن المذيق والبيض والكرنب، وذلك يغني عن ذكر ما هو معدوم فيها، على أن هذه اللوازم إنما كانت نفاية ما يوجد في المدن[...]ومن قدم إلى لندرة ورأى فيها تلك الحوانيت العظيمة والأشغال الجمة والغنى والثروة، حكم على جميع الإنكليز بأنهم أغنياء سعداء، ولكن هيهات فإن أهل القرى هنا كأهل القرى في الشام، بل هم أشد قشفًا وكثيرًا ما تقرأ حكايات تدلّ على بؤسهم وقشف معيشتهم مما لا يقع في بلاد أخرى، فمن ذلك حكاية عن حائك شكا حاله إلى إحدى النساء المخدومات فقال: ((يا سيدتي إني حائك، وإن لي امرأة وثلاثة أولاد بقوا من عشرة فجعت بهم، ودخلي من كدي الليل والنهار لا يزيد على سبعة شلينات في الأسبوع[...]ألا وقد مضى علينا ستة أشهر لم نشتر فيها رطلًا واحدًا من اللحم، بل لا نقدر على مشترى الحليب إلا بالجهد، فجل طعامنا إنما هو الشعير وحساء الماء، وقد يكون لنا في بعض أيام الآحاد إدام من البطاطس...)) فقوله: إنه لم يقدر على شراء الحليب مع كونه في الريف أرخص الأشياء بالنسبة إلى غيره يغنيك عن مزيد البيان فيما يكابده هؤلاء الناس18" ولم يجئ اهتمام الشدياق بالريف الانكليزي وما يزرع فيه وما لا يزرع, وبالمأكولات التي تتوافر فيه, عن رغبة ذاتية حاضرة فيه فحسب, بل أن الموصوف منحه مساحة للوصف؛ لانه أقام في إحدى أرياف الانكليز, وبذلك شارك في صناعة اهتمامات الرحالة المكانُ المرتحَل إليه. وقد شخّص الشدياق التفاوت الطبقي بين المجتمع الانكليزي في رحلته, في حين أضرب عنه الطهطاوي؛ لأن الأخير لم يعايش مختلف طبقات المجتمع الفرنسي, إذ ظل مقيمًا في العاصمة باريس بوصفه طالب علم , وبذلك أملت طبيعة الرحلة المادية بنية ووعيًا معينين في الخطاب. ولم يستند الرحالة الى الوصف المباشر فحسب في تأمل سمات المكان الانكليزي وشخصية مجتمعه, بل استند أيضًا الى المقارنة في تلمّس خصوصيات المجتمعات والأمكنة, "وتبدو لدى الشدياق العناية بالوقوف على وجوه الحياة في مجتمعات الآخر, وكتابة تفاصيلها بعقل مقارن تحفزه حاسة الاكتشاف وإغراءات دهشة الصلة الأولى[...] وخلافًا للطهطاوي مثلًا, كان أكثر جاهزية –ثقافيًا ونفسيًا- لاستقبال معطيات المدنية الأوربية من دون اندهاش دراماتيكي. و-بالتالي- كان أقدر من الأول على تفعيل حاسّته النقدية في عملية الاستقبال تلك من دون أن يتحول النقد عنده الى حيلة اعتراضية تضعه على مسافة وجفاء من تلك المعطيات19". ويقول: "ألاحظ أيضًا أن الإنكليز إذا عملوا شيئًا فإنما يراعون فيه وجه الكسب والمصلحة فقط، والفرنساوية يضيفون إلى ذلك راحة المسافرين ورونق المحل والتفاخر، فإن المحل الثاني في أرتال الإنكليز لا يشتمل إلا على مقاعد من خشب، إذا قعد عليها الإنسان بضع ساعات أَلِمَ غاية الألم، فأما عند الفرنساوية فإنها تكون شبه الأريكة، يقعد عليها المسافر ما قعد ولا يمل، وقس على ذلك البواخر، ومواقف الأرتال في فرنسا أحسن منها في إنكلترة غالبًا وأبهج، وفي بعضها مطاعم عظيمة يجد الإنسان فيها كل ما يشتهي, بخلاف مواقف الإنكليز20" فرحلات الشدياق الكثيرة منحته إدراكًا أكثر سعة لمعرفة الخصوصيات والتأشير على المشتركات بين الشعوب, لا سيما الانكليز لا في مقارنته بالمجتمع العربي فحسب, بل مقارنته بالمجتمع الفرنسي أيضًا, كذلك تمنح المقارنة فرصة تتبع التفاصيل التي تميّز مجتمع ما عن غيره, وبين هذا وذاك يظهر الرحالة بوصفه واعيًا بما يرى مدركًا للتفاصيل والفروق, وتتيح أيضًا فرصة صياغة الشخصية العربية بشكل أكثر سعة من خلال إدراك حسنات الشعوب هناتها. "فإن الإنسان ليسافر فيها ليلًا وهو في آمن حال وأصفى بال مما لو سافر في بلادنا نهارًا، وترى الولد يمشي في المدن الكبار وحده ليلًا ولا يخشى شيئًا، ولا هيبة لذوي المراتب والمناصب منهم أو للعسكر والشرطة عند المارين بهم، وإن البنت التي لم تبلغ عشر سنين لتسعى بعد نصف الليل، وتمر بالشرطة فكأنها مرت على بعض أقاربها، فتسألهم ويجاوبونها، وتسترشدهم بغير حشمة ولا انقباض فيرشدونها ويذهبون معها, وليس للشرطي حق أن يدخل بيت أحد، إلا بإذن الديوان لسبب خطير، ولا يأخذ غريمًا محقوقًا إلا من الطريق. وفي البلاد الشرقية إذا كلمت المرأة بعض الشرطة أو العسس ليلًا لم يلبث أن يمد إليها يده، ويهتك حجابها، وهيهات أن ينتقم منه منتقم، وعندي أن عدم الهيبة والخوف على صغر هو الذي يورث جيل الإفرنج جميعًا الإقدام والجرأة على الأمور والكلام، ويزيدهم بسطة في الجسم والعقل21" فثمة شخصيتان اجتماعيتان يحددهما الرحالة ويقابل بينهما, ليرى بعضهما زمن الآخر وموقعه, فشخصية المجتمع العربي تقف إزاء شخصية المجتمع الانكليزي, وبين هذا وذاك يقف الراوي راصدًا للسمات, محددًا للملامح, فوعيه بأهمية حضور الحريات وسيادة القانون دفعه الى استدعاء جرأة التفكير لدى الانسان الغربي, وقد أعاد ذلك الى ما توفره تلك المجتمعات من حرية رأي, وهو ما يفتقد في الوقت ذاته الإنسان العربي, وهنا تظهر الى العيان دور الظواهر التي يمر بها الرحالة في تحفيز فعل التـأويل والتفسير لديه, وهذا الفعل لا يساعد في تطوير حساسيته النقدية في النظر الى الأشياء فحسب, بل يساعد في بسطها الى المتلقي لغرض انتاج مجتمع مختلف استنادًا الى ما يمتلكه المجتمع المرتحل إليه.


ثالثا- شخصية المجتمع الروسي في رحلة الطنطاوي

تشكل الحكومات جزءًا من بنية المجتمع الذي حاول محمد عياد الطنطاوي رصد تفاصيله وتشخيص أبعاده, وقد تلمّس حضور القانون وسلطة الدولة في المجتمع الروسي, وتأثير ذلك في الإنسان بوصفه فردًا ومجتمعًا, وقد زامن ذهاب الطنطاوي الى روسيا انتشار وباء الطاعون في عدد من البلدان ومنها الدولة العثمانية التي كان الوطن العربي جزءًا من ممتلكاتها, فأشار الرحالة الى الإجراءات التي اتخذتها الامبراطورية الروسية لمنع تفشي هذا المرض, يقول: "ثم توجهنا الصبح في زورق الى محل على البحر نظرنا فيه حكيم, وأمرنا أن نضع أيدينا على آباطنا بقوة, وكل ذلك مع الحاجز, وذلك بعدما نظرونا ونظروا تذاكرنا مع القبطان, ثم ذهبنا الى الكرنتينة مع أمتعتنا, فأما نحن فذهبوا بنا الى محل, أمرونا فيه بالتجرد من الثياب جميعها, ثم ينظرنا الحكيم مقبلين ومدبرين, وفي هذا الوقت حصل لي خجل عظيم[...]ثم أخذنا ثيابًا نظيفة غير ثيابنا من هناك[...]ثم ذهبنا الى المحل المعد للإقامة مدة الكرنتية فوق الجبل, وهو مشتمل على عدة أوض كاملة الأدوات, محكمة البناء, وحيطانها بالورق المنقوش[...] ثم ذهبنا ثاني يوم وأخذنا ملابسنا الأصلية وأمتعتنا, فوجدناها منشورة على أخشاب معطرة مبخرة, ومحل الكرنتينة نظيف ظريف, وهو قسمان: قسم لمن ألمّ به الطاعون, وإذا مات فيه أحد أُحرق هو وأمتعته, وقسم لغيرة.[...]وبعد وفاء أيام الكرنتينة يحلفون الناس هل خانوا الكرنتينة, وأما أنا فأرسلوا لي ورقة مكتوبة بالتركي متضمنة الحلف بالإيمان المغلظة التي منها الطلاق, فقلت: لأي سبب هذا الحلف, وهم قلعونا الثياب, وصرنا عرايا بين أيديهم[...] فقيل لي: الروس وكل الفرنج يخافون جدا من الطاعون, ومع كل هذه الاحتياطات فيمكن أن في وسط الأمتعة بعض شيء من وباء, فلدفع التهمة بالكلية يحلفون, فحينئذ كتبت اسمي على الورقة22" يعكس المقتبس السابق مدى الحرص الذي كان يحرك الحكومة الروسية وهي تحاول منع انتشار الوباء في بلادها, ولم تكن هذه السمة محض توصيف عابر لشخصية المجتمع الروسي وحكومته, بل هي تلويح للحكومات العربية لتعي مدى الخراب الذي تقف إزاءه, فالأوبئة في الأرض العربية تتحرك بحرية من دون وعي جماهيري بخطورتها ولا احتراز حكومي, وقد أشار الرحالة الى الإجراءات التي تتخذ على الحدود الروسية, ثم انتقل بعد ذلك الى وصف تعامل الروس مع المصابين بالطاعون قائلًا: "أخذت المملكة أولًا في عمل الوسائط التي توقف هذا الحادث وتقمعه, فانتخبت أبعاد سليم العيال من مربعها, وإبقاء المرضى في البيوت, ويعطى لهم من الشبابيك الأقوات على الميري بعدم الملامسة وكثرة الاحتياط, وعلى تقدير موت المطعون يهدمون بيته ويحرقونه هو وأمتعته, وهذه الواسطة كان معمولًا بها في المدن فقط, وبسبب عد احتياط الناس وجهلهم المتسبب في عدم تصديقهم بنفع هذه الوساطة انصب الطاعون كالسيل المهلك في الروسيا23" فالإحساس العالي بخطورة الأوبئة جعل الحكومة الروسية تتعامل معها بحذر وتوجس كبيرين, وغالبًا ما تتدخل الجيوش لمنع انتشار العدوى بين الناس, وهذا الفعل درسٌ يقدمه الرحالة الى متلقيه العربي الذي يعيش حياة موبوءة بالجهل وعدم الاكتراث بالمخاطر التي تشكلها الأمراض, مستندين الى الغيب في مواجهتها, في حين يستند الروس الى الوعي العملي العقلاني في وقف تفشي المرض, ولم يكن وصفه كيفية مواجهتهم للأوبئة عابرًا, بل هو تشخيص ينطلق من توصيف الإجراءات الوقائية التي تبدو أمام عينيه الى تقييم الوعي الذي تحمله تلك الإجراءات, وتكشف عن إحساس الحكومة الروسية بمسؤوليتها اتجاه شعبها. وقد أشار الرحالة الى دور القانون في بناء شخصية الفرد الروسي, فمتى شاعت القوانين منحت المجتمع شخصيةً مختلفة عن المجتمعات التي تسوسها الفوضى, يقول في ذلك: "ثم خرجنا من أودسا يوم الأربعاء 22أيار في عربة اشتريناها ومررنا على ديوان الجمرك الذي مررنا به أولًا, فنظروا العزال وربطوه بحبال وربطوا فيها قطع رصاص ثم ختموها وأرسلوا خفيرًا معنا الى ديوان المكس الثاني في طريق الذاهب من أودسا وبينها مسافة قليلة, فأخذوا الرصاص المختوم وسرنا حتى وصلنا الى أول محطة لأخذ الخيل, وهناك, بل وفي سائر المحطات لا يعطون الخيل إلا إذا رأوا ورقة مسماة البيدوجين, أو تذكرة المرور[...]فبغير الورقة لا يمكن السفر, فهي كالحارس للإنسان, وذلك أن تعطي الورقة فيكتبون عليها: وصل هذا المسافر في ساعة كذا, وسافر في ساعة كذا مع كذا, فإذا حصل بعض شيء يكون التفتيش سهلًا24" يقدم هذا المقتبس تصورًا عن الالتزام بالقانون في روسيا أبان القرن التاسع عشر, وهذا الأمر انعكس بشكل وآخر في حياتهم, فقد غدت أكثر رغدًا وأمانًا, "والليل كالنهار في السير والصحو والغيم سيان, فلا مانع أبدًا ولا خوف في هذه الطرق التي هي صحارى بلا أشجار مدة, ثم مملوءة بالغابات والأشجار الكثيرة, ويوجد بها ذئاب وأرانب وحشية, وطالما تعجبت حين رأيتُ في هذه الطرق امرأة وحدها في عربة أو ماشية, فحقيقة هذا الأمن العجيب وليس بلازم للمسافر في بلاد الروسيا حرس ولا خدم, بل هذا من زيادة الخير, وقد ضاع لبعض القادمين هذه السنة الى بتربورغ أشياء سقطت من عربته في وسط الطريق, فتش عليها وأرسلت له في بتربورغ25" فانعكست وفرة الأمن على الإنسان الروسي, مانحة إياه ثقة بنفسه ونظامه, وعجب الرحالة آت من عجز منظومة قيمه عن استيعاب المشاهد المتوالية التي يراكمها الآخر في ذهنه, فالأمن والثقة اللتان كان يبحث عنهما لدى المسلم فإذا بهما حاضرين لدى الآخر الروسي, وهما صنيعة قوانين وضعية, ويشير بذلك الى قدرة البشر في الاستناد الى ذواتهم في تغيير الحياة. ومن السمات التي أشار إليها الرحالة في تأمله المجتمع الروسي ومكانه هي انتشار التماثيل والهياكل المعمارية , ومثل هذه السمة تؤكد فكرة امتداد المكان, مثلما تؤكد احترام الشخصية الروسية لرموزها , وقد تمثل ذلك الاحتفاء عبر النُصب التذكارية والتماثيل التي ترسّخ حضورهم في ذاكرة المجتمع, فلغة النصب متاحة للقراءة من قبل الوافدين بمختلف الثقافات, وهي تلوح بالبعد الزمني الواعي بذاته لهذه المدينة وتلك, فالمدن التي تغيب فيها النصب وتطمس التماثيل والشواهد التراثية مدن بلا ذاكرة.
لم يثر الرحالة الأسئلة الكبرى والقضايا المركزية فحسب, بل أهتم أيضًا بالتفاصيل والأمور الصغيرة, ملمّحًا الى الفرق بين المجتمعين الروسي والعربي, إذ يقول: "وبالجملة فمتنزهات أودسا تشرح الصدر والفؤاد وتنسي الغريب هموم فراق الأهل والأولاد, وفي كل يوم ترى هناك الناس بكثرة من الرجال والنساء, وكل هذا ناشئ عن رفاهية البال وحسن الحال, وانتظام القوانين, وكثرة المثرين[...] وفيه خانات معدة للطعام ومع غاية الإحكام في البناء والنظافة وعندهم قائمة بما يوجد من أصناف المأكولات فيطلب الشخص ما يريد, وقد يتفق أن جماعة يذهبون معا للأكل, وكل ما يأكل ما يريد, وفي بعض الأحيان تأتي في هذه المواضع نساء حسان يضربن بالقانون فلقد شغلني حسن صورتهن عن حسن صوتهن[...]فأين صور هذه النساء المكشوفات الوجوه من صورة من يضرب على القانون في مصر من عجائز الرجال26" فقد رصد تفاصيل المجتمع الروسي, وربط عناية الروس بالمتنزهات ورفاهية الحال بالاستقرار الاجتماعي الذي منشأه سيادة القانون وسيطرة سلطان الدولة, كذلك نبّه الى طبيعة الأكل في روسيا والكيفية التي تقدم بها المأكولات, ولم يفته عقد مقارنة بين العزف على القانون في المجتمع الروسي وما هو قائم في المجتمع العربي, وعلى الرغم من كون الرحالة ينتمي الى بيئة محافظة, لم يخف إعجابه بالآخر وإمكاناته, فاللياقة والأناقة اللذان يحظى بهما العازف حضرا عند الآخر من دون الأنا التي طالما كان عازفوها كبار السن من الرجال, وهو ما يخالف طبيعة العزف التي تبعث الارتياح في النفس الإنسان والطرب.
ويمكن أن ننتهي الى أن الرحاليين العرب وهم يقدمون شخصية المجتمع الغربي وقعوا في أسرها , لا سيما أنهم مدفوعون بهاجس تنويري, وذاك الهاجس قادهم الى أن يقابلوا بين عالمين, عالم ينتمون إليه وآخر يكتشفونه؛ لذا فالرحالة في وضعية الراوي الذي لم يتمكن عن طريق إرساليته من استيعاب العالم الحديث27, بل يسعى الى ذلك من خلال تأمله ماديًا ولغويًا, وهو ما يجعله راويًا ومرويًّا له28. ويكشف الاندهاش وانحسار التفسيرات عن عجز منظومة القيم التي ينتمي إليها, كذلك يكشف الآخر عن غربة الأنا وانطفاء زمنها, وتخلفها الحضاري, فقد وقع الرحالة في مأزق الانتقال بين زمنين: زمن تقليدي عربي ما زال يستند الى التقليد في تشكيل هُويته, وزمن متقدم مختلف تجسد في الفضاء الأوربي. وإحساسه أثناء اكتشافه الآخر أنه يمر بنهاية دورة تاريخية جعله مرويًا له فهو واقع بين نظام قديم من القيم لم يعد يكفي, ونظام مستقبل لم يتبلور بعد؛ لذا يحاول أن يستوعب النظام الجديد الذي يتعارض مع نظامه القديم أحيانًا ويتواشج أخرى.
------------------------------
- معجم السرديات, محمد القاضي ومحمد الخبو وآخرون, دار محمد علي الحامي- تونس, ط1, 2010: 340.
- أدبية الرحلة, عبد الرحيم مؤدن, دار الثقافة للنشر- الدار البيضاء , ط1, 1996: 33.
- تخليص الإبريز في تلخيص باريز, رفاعة رافع الطهطاوي, مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة- القاهرة, د.ط, 2011
: 94
- ينظر: رحلة باريس ومقالا أخرى, فرنسيس فتح الله مراش, دار المدى للثقافة والنشر- بغداد , د.ط, 2012: 30. وتحفة الاذكياء بأخبار بلاد روسيا, محمد عياد الطنطاوي, قدّم لها وحررها: محمد عيسى صالحية , مؤسسة الرسالة- بيروت, د.ط, 1992: 78.
- ينظر: كشف المُخبّا عن فنون أوربا, أحمد فارس الشدياق, مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة- القاهرة, ط1, 2014: 67-75.
- الرحلة المغربية في القرن التاسع عشر: مستويات السرد, عبد الرحيم مؤدن, دار السويدي- أبو ظبي, ط1, 2006
: 226.
- ينظر: الرحلة بوصفها جنسًا أدبيًا, عبد الرحيم مؤدن, مجلة ألف- مصر, عدد26 2006.7: 36.
- ينظر: كشف المخبا عن فنون أوربا:71.
- تخليص الابريز في تلخيص باريز:46-47.
- المصدر نفسه:58.
- المصدر نفسه:83.
-المصدر نفسه:85.
- المصدر نفسه:87.
- المصدر نفسه:88-89.
- ينظر: الرحلة في الأدب العربي: التجنيس, آليات الكتابة, خطاب التخييل, شعيب حليفي, الهيأة العامة لقصور الثقافة- مصر, د . ط, أبريل- 2002: 269-270.
- ينظر: المصدر نفسه:89.
- ينظر: المصدر نفسه:90.
- المصدر نفسه:84-85.
- المصدر نفسه: 100.
- كشف المخبا عن فنون أوربا:68-69.
- المصدر نفسه:69-70.
- المصدر نفسه:20-21.
- ينظر: من الإصلاح الى النهضة, عبد الإله بلقزيز, مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت, ط2 2014: 16.
- من الإصلاح الى النهضة:115.
- كشف المخبا عن فنون أوربا:49.
- المصدر نفسه:146-147.
- يُراد بها (الحجر الصحي)
- تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا: 73-74.
- تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا:75.
-المصدر نفسه:84-85.
- المصدر نفسه:86.
- ينظر: المصدر نفسه:88.
- ينظر: المصدر نفسه:77.
- المصدر نفسه:81-83.
- ينظر: الرحلة المغربية في القرن التاسع عشر: 243.
- ينظر: المصدر نفسه:243.
  • Like
التفاعلات: أماني حبيب يحيى

تعليقات

كما عهدناك فكر متوقد و نقد شيق بتسليط الضوء على مواضع فريدة في الأدب وفق رؤية تحليلية تكشف بنية الخطاب، لاسيما في هذا البحث الذي اهتم بسردية عصر النهضة الذي شكل نقطة مفصلية في الأدب العربي الحديث وانفتاحه على الآخر ومحاولة فهمه.
 
كما عهدناك فكر متوقد و نقد شيق بتسليط الضوء على مواضع فريدة في الأدب وفق رؤية تحليلية تكشف بنية الخطاب، لاسيما في هذا البحث الذي اهتم بسردية عصر النهضة الذي شكل نقطة مفصلية في الأدب العربي الحديث وانفتاحه على الآخر ومحاولة فهمه.
تحياتي واعتزازي
 
أعلى