عباس محمود العقاد - كتابان قيمان

سألتني مجلة (المصور) في أبان الحرب العالمية: ما هي الاتجاهات التي ستغلب على الحركة الفكرية في العالم بعد الحرب الحاضرة؟ فكان رأي أن الحركة الفكرية في العالم كله ستتجه بعد نهاية الحرب إلى وجهتين متناقضتين في الغاية متفقين في السبب، وهما النزعة الروحية الدينية، والنزعة الجنسية الحسية. وهما كما قدمت متناقضتان في الغاية ولكنهما متفقتان في السبب، لأنهما ترجعان إلى القلق الذي يعتور النفوس البشرية في أبان الزلازل العنيفة، ولم يزل من داب النفوس البشرية أن تعالج قلقها بطمأنينة الروح وثقة العقيدة، أو بإغراق الحس في المتعة الجسدية.

وندع العالم وحركاته الفكرية بعد الحرب لأنها مما يطول شرحه ولا يجزئ في بيانه مقال واحد.

ولكننا نلتفت حولنا في مصر فنرى مصداق ذلك في الوجهتين المتناقضتين معاً لهذا السبب بعينه. فأما النزعة الحسية فيكفى أن ينظر القارئ إلى الصور العارية التي تنشر في الصحف لغير مناسبة ليستدل منها على ما وراءها من النوازع النفسية، فإن شاء أن يتجاوز ذلك إلى قراءة الموضوعات التي تقترن بتلك الصور أو الروايات والأقاصيص التي تدور عليها علم أن المصدر واحد والتعبير بالحروف والكلمات يوافق العبير بالخطوط والأشكال وأما النزعة الروحية فهي واضحة في انتشار الجماعات الدينية والعناية بالبحوث التي تنصرف إلى حقائق الأديان والعقائد. وأمامنا منها الآن كتابان قيمان هما اللذان تخصهما بهذا المقال، وهما كتاب (فصوص الحكم) لابن عربي، وكتاب (الوجود) للأستاذ محمود أبو الفيض المنوفي. وكلاهما بحث عميق في حقيقة العقيدة وسر الوجود على الإجمال.

1 - فصوص الحكم:

وقد قام على تصحيح كتاب الفصوص ومراجعته والتقديم له الدكتور أبو العلا عفيفي أستاذ الفلسفة بجامعة فاروق الأول بالإسكندرية.

والدكتور أبو العلا عفيفي عالم ثبت متمكن من موضوعه. يعجب غاية الإعجاب بابن عربي صاحب الكتاب، ولكن إعجابه به لا ينسيه أمانة العرض وإقرار الحق في نصابه.

فهويذ كرما للمؤلف وما عليه، ويقدره بميزاته الصحيح فيقول (إنه فليسوف آثر أن يهمل منهج العقل الذي هو منهج التحليل والتركيب ويأخذ بمنهج التصوير العاطفي والرمز والإشارة والاعتماد على أساليب الخيال في التعبير. ولهذا لا أرى من الصواب إن نصف مذهبه بأنه مذهب فلسفي بحت إذا اعتبرنا التفكير والترابط المنطقي أخص صفات الفلسفة، ولا بأنه مذهب صوفي بحت إذا اعتبرنا الوجدان والكشف أخص ميزات التصوف، ولكنه مذهب فلسفي صوفي معاً، جمع فيه بين وحدة التفكير وقوة الوجدان) ولم ينس الأستاذ أن يشير إلى الكلام ناقديه بل مفكريه، ولا أن يشير إلى كلام المدافعين عنه والمتأولين لأحاجيه وألغازه، ولكنه كان اقرب إلى جانب الرضا منه إلى جانب السخط، ولو لم يكن كذلك لقال يه كما قال الذهبي انه (انعزل وجاع وفتح عليه بأشياء امتزجت بعالم الخيال والخطرات والفكرة وأستحكم ذلك حتى شاهد بقوة الخيال أشياء ظنها موجودة في الخارج، وسمع من طيش دماغه خطاباً اعتقده من الله. ولا وجود لذلك أبداً في الخارج).

وقد صدق الذهبي كما صدق الدكتور أبو العلا. ولكن الذهبي كان في صدقه اقرب إلى جانب السخط منه إلى جانب الرضا. ولا بد من الموازنة بين الجانبين.

ونحن مع اعتقادنا إن ابن عربي لم يكن بالفيلسوف المحض ولم يكن بالتصرف المحض، ومع إعجابنا ببعض سبحانه الروحية وشعورنا يصدق ما وصف به من طيش الدماغ - نعود فنقول إن الفلاسفة المتجردين للفلسفة في هذا الزمان لم يبلغوا فوق مبلغه من التفرقة بين اله العبادات وإله الحقيقة المجردة، وليس رأي (برادلي) الذي يعرفه الدكتور عفيفي جيد المعرفة من جملة أقواله في التفرقة بين الحقائق والمظاهر إلا صورة جديدة من رأي ابن عربي في هذا الكتاب بعينه وهو كتاب الفصوص.

ومهما يمكن شان ابن عربي بين الإعجاب والانتقاص فالحقيقة التي لا مراء فيها أن مذهبه مذهب يدرسه الباحثون ولكنه لا يصلح لجمهرة المتدينين. وحسبك أن رجلاً مثل ابن خلدون في سماحة عقله وسمة نظرة يقول بإحراق كتبه وكتب أمثاله ومحو أعيانها دفعاً للمفسدة. واحسبه لو عاد إلى مصر في هذه الأيام لما نجا من شدة المصريين في المحافظة، ولا جرم من عطف الفكاهة المصرية. فقد أوشك قديماً أن يقتل في مصر لو لم ينقذه الشيخ أبو الحسن الجائي الذي أبت عليه سليقة النكتة أن ينقذه من لذعاتها. فسأله: كيف يحبس من حل منه اللاهوت في الناسوت! فقال الرجل وهو لا يصدق بالنجاة: يا سيدي! قلت شطحات في محل السكر. ولا عتب على سكران!)

وليس العصر عصر إحراق الكتب أو تفنيدها بلغة النار والماء؛ ولكنه العصر الذي يحاسب الكاتب بحساب النقد والبرهان. ومتى حوسب ابن عربي بهذا الحساب ففيه ما يهمل إهمالا كالإحراق والإغراق، وفيه ما يفيد ويمتع العقول والقرائح. وخير ما يفيد من هذا الكتاب تفسيره لوحدة الوجود؛ لأنه اصلح من تفسيرات أخواته في هذه العقيدة ممن يقولون بتأليه الكون في جميع مظاهره المادية. فليس الوجود عنده إلا الوجود الحق الذي تحجبه هذه المظاهر المادية، وهو بهذا يقترب كل الاقتراب من عقيدة التوحيد.

2 - الوجود:

والكتاب الثاني الذي سماه السيد أبو الفيض المنوفي (بالوجود) هو الزم الكتب لمن يتوخى البحث العصري في وحدة الوجود وفي حقيقة الوجود على الإجمال.

وهو كتاب مدروس أو (مخدوم) كما يقال في اصطلاح المؤلفين. لم يصدر باللغة العربية كتاب يحوي ما حواه في هذا الموضوع، ولم يكن معول المؤلف فيه على المراجع العربية وحدها بل لعل اعتماده على مراجع الفلسفة الأوربية بين قديمها وحديثها أظهر من اعتماده على مراجعنا المعهودة. لأنه قصد فيه إلى إقناع المحدثين الذين يلهجون بفلسفة العصر وأساليبه ويعرضون عن القديم لقدمه من غير بحث فيه ولا اطلاع عليه.

وأجمل ما في الكتاب - وليس هو بالنسق النادر فيه - كلامه عن عالم العناصر الذي هو العالم البرزخي بين المادة والقوة، فمن هذا العالم البرزخي نتحقق (أن الشيء المنظور يتحول إلى غير المنظور ويصبح هو والفكر والروح في الخفاء سواسية. . . ولا نظن أنه يوجد فرق بين النور والقوة ألا في الألفاظ؛ لأن الطاقة يستوي فيها أن تكون إشعاعا أو حركة أو حرارة أو مغناطيس أو كهرباء أو غير ذلك، ولا فرق أيضا بين الحرارة والنور المنظور والنور غير المنظور ألا في طول الموجات وقصرها).

ومصدر الوجود كله على هذا النحو هو النور، ثم النور الإلهي وهو نشاط محض. ولا فرق بين الوجود والعدم ألا في خاصة (النشاط) الذي لا يقاس دائماً بمقياس المحسوسات. بل يتعداها إلى ما وراء الحس والعقل والخيال. . .

هذان الكتابان - كتاب الفصوص وكتاب الوجود - هما من مظاهر النزعة الروحية التي توازن عندنا تلك النزعة الجسدية، كما تتمثل في الصور المثيرة والأقاصيص الماجنة والشواغل الحسية، وكفى بأمثال هذه المباحث عدلا كافياً للموازنة بين النزعتين. فإنها لدليل على يقظة الجانب الرفيع من ملكات الإنسانية بين المصريين وبين قراء العربية على التعميم. وما أحوجنا اليوم إلى اليقظة في هذا الجانب الرفيع!



مجلة الرسالة - العدد 727
بتاريخ: 09 - 06 - 1947

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى