1.
بعينين مائيتين ودافئتين ، رَنَا الحاج إلى الخارج من النافذة ، وقال :
ـ ما الهواء الذي تفضله أن يدخل هتين الرئتين المعطوبتين ؟
أجابه الطبيب ، بعدما أزاح عن عنقه المِجسَّ الأفْعويَّ، قائلا :
ـ الهواء النقي ، الهواء الجديد و المتجدد ... المليء بجزيئات الماء ؛ لأن رئتكَ اليمنى قد شارفت على الاجتفاف.
الحاج ...
من الآن ، يجب أن تبدل اللّوك ؛ بذلة للرياضة في الطبيعة و أخرى للقاعات ، وإلا ... سيداهمُك الخبيثُ في كل لحظة ، وأنتَ في غفلة عنه.
امتقع وجه الحاج من الوجل ، واقترب من الطبيب ، متوسلا ألا يبلغ نتائج هذا الفحص للأسرة . نحنح ضاغطا على قفصه الصَّدري ...
وقال : أقصد الحاجة غيثة .
مادمت طبيبا للعائلة ، ومنذ أن امتهنتَ مهنة الطب ، فهي لا تكف عن الثناء على مجهوداتك الجبّارة تُجاهنا ، خصوصا بعدما داهمتنا الشيخوخة الظالمة على حين غِرّة . ففي مختلف المجالس ، التي تضم أفراد العائلة طبعا ، لا تتوقف عن الحديث الهادر عن مغامراتك ومعاركِك ، التي كنت فيها تَسْتَنْمِرُ على صَبَاَيا الدَّار الكبيرة في حي الزيتون .
تبسَّم الطبيبُ في تُؤدةٍ ، ورافق الحاج إلى باب العيادة .
2.
غيثة النازحة من شِعاب قبائل تِمْكْشَاد جنوب المغرب ، رافقت الحاج ، وهي لازالت فتاة نيَّفَت على العشرين سنة ، متوجِّسة و متوجِّلة من اليَبَاب الذي لحق الزرْع و الضَّرْع . في صبيحة يوم أغْبَر ، تبدل لون السماء فصار أحمرَ أرجوانيّا ، نشفت الضروع وجفت الآبار وهاجمت ، جبالَ تِمْكْشاد ، ريحُ الدَّبور الصفراءِ بصفيرها الزعيق يَشُق العَنَان ، وتغير من ملامح البيوت و المساجد ؛ فأتت على العديد من الصبايا و العجزة ، يتساقطون كأوراق الشجر التوت اليابس .
في تلك الرحلة المُريعة ، على ظهر بغل نافر، كانا يسابقان الزمن و العطش . إلى أن استوت رحلتهما ، في الأصيل ، على هلال خصيب ممتد بين أُشْنَةٍ و غِياضٍ و بئر رحيمة ؛ غدقت عليهما بالماء الرطب الزُّلال . شَِربا و اغترفا منه حتى باعد عنهما شبحَ الظمأ المقيم كسَادِِنِ المعابد القديمة .
تسرْبلت الأيّامُ و تدحرجت في ركن قصي ومُعْتم من الذاكرة ...
فما الدار الكبيرة في حي الزيتون ، سوى غبراءُ مباركةٌ معلقةٌ كتميمةٍ في صحن النور الأبدي ؛ ببنائها العتيق و طاقاتها المنيفة الواسعة والمنقوشة بالجبس البلدي العتيق . تطل على ساحة متربة ؛ معقلِ سوق أسبوعي تضج فيه الأصوات وتصدح فيه الحناجر بأرزاق العلي القدير . لالة غيثة كانت السند الحقيقي لِلُحمة نساء الدار الكبيرة ، بصوتها الخفيض الرحيم كمُزْنة تروي جراح الظمأ واليباب . لمَّة النساء لا يستقيم عودها من دون غيثة المكشادية ؛ تطوف عليهن بأكوابٍ و أباريقَ و كؤوس لامعة من الكريستال ؛ فيسْرحُ فيهن اللغوُ و يذهب بهن كل مذهب . ولا يعُدن أدراجهن إلى صحن النور ، إلا بعد شِجارٍ قوي يُكسرُ عودَ الصّبية ؛ فيقطع فتيل الحكايات و المغامرات السرْمديَّة القديمة.
3.
في غبش الفجر ...
يتسلل الحاجُ من فراش غيثة على أنامل أقدامه ، دون أن يحدث رجَّة بالبيت . يدلف الحمامَ و يرتدي بذلة الرياضة ؛ فيُعانق الهواء الرَّطب الجديدَ .
يعود المساء إلى بِطَاحِهِ ، تلوك نساءُ الدار الكبيرة أخبارا مفادُها ؛ أن الحاجَّ يَتَصَابَى وخرج عن المِلَّة
بعينين مائيتين ودافئتين ، رَنَا الحاج إلى الخارج من النافذة ، وقال :
ـ ما الهواء الذي تفضله أن يدخل هتين الرئتين المعطوبتين ؟
أجابه الطبيب ، بعدما أزاح عن عنقه المِجسَّ الأفْعويَّ، قائلا :
ـ الهواء النقي ، الهواء الجديد و المتجدد ... المليء بجزيئات الماء ؛ لأن رئتكَ اليمنى قد شارفت على الاجتفاف.
الحاج ...
من الآن ، يجب أن تبدل اللّوك ؛ بذلة للرياضة في الطبيعة و أخرى للقاعات ، وإلا ... سيداهمُك الخبيثُ في كل لحظة ، وأنتَ في غفلة عنه.
امتقع وجه الحاج من الوجل ، واقترب من الطبيب ، متوسلا ألا يبلغ نتائج هذا الفحص للأسرة . نحنح ضاغطا على قفصه الصَّدري ...
وقال : أقصد الحاجة غيثة .
مادمت طبيبا للعائلة ، ومنذ أن امتهنتَ مهنة الطب ، فهي لا تكف عن الثناء على مجهوداتك الجبّارة تُجاهنا ، خصوصا بعدما داهمتنا الشيخوخة الظالمة على حين غِرّة . ففي مختلف المجالس ، التي تضم أفراد العائلة طبعا ، لا تتوقف عن الحديث الهادر عن مغامراتك ومعاركِك ، التي كنت فيها تَسْتَنْمِرُ على صَبَاَيا الدَّار الكبيرة في حي الزيتون .
تبسَّم الطبيبُ في تُؤدةٍ ، ورافق الحاج إلى باب العيادة .
2.
غيثة النازحة من شِعاب قبائل تِمْكْشَاد جنوب المغرب ، رافقت الحاج ، وهي لازالت فتاة نيَّفَت على العشرين سنة ، متوجِّسة و متوجِّلة من اليَبَاب الذي لحق الزرْع و الضَّرْع . في صبيحة يوم أغْبَر ، تبدل لون السماء فصار أحمرَ أرجوانيّا ، نشفت الضروع وجفت الآبار وهاجمت ، جبالَ تِمْكْشاد ، ريحُ الدَّبور الصفراءِ بصفيرها الزعيق يَشُق العَنَان ، وتغير من ملامح البيوت و المساجد ؛ فأتت على العديد من الصبايا و العجزة ، يتساقطون كأوراق الشجر التوت اليابس .
في تلك الرحلة المُريعة ، على ظهر بغل نافر، كانا يسابقان الزمن و العطش . إلى أن استوت رحلتهما ، في الأصيل ، على هلال خصيب ممتد بين أُشْنَةٍ و غِياضٍ و بئر رحيمة ؛ غدقت عليهما بالماء الرطب الزُّلال . شَِربا و اغترفا منه حتى باعد عنهما شبحَ الظمأ المقيم كسَادِِنِ المعابد القديمة .
تسرْبلت الأيّامُ و تدحرجت في ركن قصي ومُعْتم من الذاكرة ...
فما الدار الكبيرة في حي الزيتون ، سوى غبراءُ مباركةٌ معلقةٌ كتميمةٍ في صحن النور الأبدي ؛ ببنائها العتيق و طاقاتها المنيفة الواسعة والمنقوشة بالجبس البلدي العتيق . تطل على ساحة متربة ؛ معقلِ سوق أسبوعي تضج فيه الأصوات وتصدح فيه الحناجر بأرزاق العلي القدير . لالة غيثة كانت السند الحقيقي لِلُحمة نساء الدار الكبيرة ، بصوتها الخفيض الرحيم كمُزْنة تروي جراح الظمأ واليباب . لمَّة النساء لا يستقيم عودها من دون غيثة المكشادية ؛ تطوف عليهن بأكوابٍ و أباريقَ و كؤوس لامعة من الكريستال ؛ فيسْرحُ فيهن اللغوُ و يذهب بهن كل مذهب . ولا يعُدن أدراجهن إلى صحن النور ، إلا بعد شِجارٍ قوي يُكسرُ عودَ الصّبية ؛ فيقطع فتيل الحكايات و المغامرات السرْمديَّة القديمة.
3.
في غبش الفجر ...
يتسلل الحاجُ من فراش غيثة على أنامل أقدامه ، دون أن يحدث رجَّة بالبيت . يدلف الحمامَ و يرتدي بذلة الرياضة ؛ فيُعانق الهواء الرَّطب الجديدَ .
يعود المساء إلى بِطَاحِهِ ، تلوك نساءُ الدار الكبيرة أخبارا مفادُها ؛ أن الحاجَّ يَتَصَابَى وخرج عن المِلَّة