شكرا سي عبد القادر على إتحافنا بدرر ( الإتحاف ).. وقد وقفت طويلا أمام لقب وزير أسماء الشوارع الشيخ أبي زكرياء الغلابي وهو ( جمر الغضا )، فلم أفهم له معنى، فرجعت إلى كتاب ( فتق الهيمان عن ألقاب وزراء نجدان )، فوجدت ما يلي: ( الغضا شجر من الأثل كثيف ملتف وخشبه صلب جدا، يبقى جمره زمنا طويلا لا ينطفئ. ويكثر هذا الشجر في نجد بشمال جزيرة العرب، ويضرب العرب المثل بجمره في شدة الحر ( هو أحر من جمر الغضا ) وفي النور والإشراق أيضا، فيشبهون به صدور النساء لصفائها وإشراقها، وربما أيضا لصعوبة الوصول إلى هذه الصدور، ولحر العذاب الذي يلاقيه عشاقها. قال الملك الضليل:
( كأن على لبّاتها جمرَ مُصطلٍ/ أصاب غضا جزلا وكُفَّ بأجذالِ )
وقال سُحيم عبد بني الحسحاس:
( كأن الثريا عُلقت فوق نحرها/ وجمرَغضا هبّت له الريحُ ذاكيا )
فسبحان من جمع الملك والعبد حول هذا الجمر يصْطَليان أو يَصْلَيان. وفي الغضا يقول مالك بن الريب في مطلع قصيدته الشهيرة:
( ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً/ بجنب الغضا أُزجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركبُ عرضَه/ وليت الغضا ماشى الركابَ لياليا
لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا/ مزارٌ، ولكن الغضا ليس دانيا .. )
وعلى ما نعرفه من بعد مالك عن نجد حين قال هذه القصيدة وحنينه إليها، وعلى ما يقوله النقاد عن التكرير وولع الشعراء به في مقام الحب ( ومن أحب شيئا أكثر من ذكره )، فإنني لا أقرأ هذه الأبيات إلا تذكرتُ حكاية الأصمعي مع ذلك الشاعر الذي كان ينشده شعره ليعرف رأيه فيه، فلما بلغ الشاعرُ إلى قوله
( فما للنوى؟ جُذَّ النوى، قُطع النوى/ كذاك النوى قطَّاعةٌ لوصالِ )
قاطعه الأصمعي قائلا: ( سلّط الله على هذا النوى شاةً تأكله وتريحنا منه )..
وفي جمر الغضا يقول المتنبي
( حشاي على جمر ذكي من الغضا/ وعيناي في روض من الحسن ترتع )
وقد عيب عليه قوله ( عيناي ترتع ) بدل الصواب ( عيناي ترتعان )
ولكن العرب تقول ذلك أحيانا. قال امرؤ القيس:
( لمن زحلوقة زلُّ/ بها العينان تنهلُّ )
وقذ أخذ المتنبي هذا المعنى من أبي تمام الذي يقول:
( أفي الحق أن يُضحي بقلبيَ مأتمٌ/ من الشوق والبلوى وعيناي في عرس؟ )
وأصل المعنى من قول علقمة في الجاهلية:
( للماء والنار في قلبي وفي كبدي/ من قسمة الشوق ساعورٌ وناعورُ )
أما لماذا لقب الطاغية وزيره لأسماء الشوارع ب ( جمر الغضا )، فأغلب الظن أنه أراد تخويف العامة به، والطاغية مولع بالشعر العربي القديم وألفاظه ويحب ان يرددها ويمتحن بها من حوله. والله أعلم وأكرم. )
أما عن سيد الغضا الذي ذكره طرفة، فالسيد هو الذئب والذئبة سِيدة . ( هل كان ابنُ سِيدةَ ابنَ ذئبة؟ ). وقال ابن جني:( سيدانة ). ومنذ قال طرفة هذا البيت والشعراء يشبهون الفرس بالسيد. قال طفيل الغنوي وهو أمهر شعراء الجاهلية في وصف الخيل حتى ليقال له ( طفيل الخيل ) في وصف فرس:
( كسيد الغضا الغادي أضل جراءه/ على شرف مستقبل الريح يلحب )
ويلحب هنا بمعنى يسرع، ومستقبل الريح، لأن الريح هي حاسة الذئب السادسة وهو يعول عليها في الاستخبار، قال الراجز:
( يستخبر الريح إذا لم يسمعِ/ بمثل مقراع الصفا الموقّع )
وشبه خرطومه بالمعول الذي يقطع به الصفا ( الحجر ). وقال الحصين بن الحُمام المرّي في وصف حصان وفرس:
( وأجرد كالسرحان يضربه الندى/ ومحبوكة كالسيد شقّاء صلدما )
وقال مزرّد بن ضرار الذبياني عن فرسه
( تقول إذا أبصرته وهو قائم/ خباء على نشْز أو السيدُ ماثلُ )
وذئب الغضا هو أخبث الذئاب وأضراها ولذلك يشبهون به فرس الحرب لا فرس النزهة والصيد. ويضرب المثل بذئب الغضا في الخبث والتحايل والمكر. قال مغلس بن لقيط يخاطب أقرباءه الذين يدارونه ولا يصرّحون:
( فمالكمُ طُلْسا إليّ كأنكم/ ذئابُ الغضا والذئب بالليل أطلسُ )
والطُّلسةُ لون هو الغُبرة في سواد قال الراجز في وصف الذئب:
( أطلسُ يُخفي شخصَه غبارٌه/ في شِدقه شفرتُهُ ونارُه )
وقريب منها الوُرقة وهي سواد في غبرة وتوصف بها الذئاب أيضا. على أن أخبث ما يوصف به الذئب هو أنه يأكل أخاه إذا جُرح قال الشاعر:
( إني رأيتكِ كالورقاء يوحشُها/ قربُ الأليف وتغشاه إذا نُحرا )
أي كالذئبة تنفر من الأليف وهو صحيح فإذا نحر غشيته لتأكله. وقال رؤبة:
( فلا تكوني يابنة الأشمِّ/ ورقاءَ دَمَّى ذئبَها المُدَمِّي )
وقال الفرزدق:
( وكنت كذئب السوء لما رأى دما/ بصاحبه يوما أحال على الدم )
وأنت تعرف ياصديقي أننا نستطيع أن نستخرج من الشعر العربي القديم ديوانا كاملا يمكن أن نطلق عليه ( ديوان الذئب )
وربما كانت عينية حميد بن ثور أروع ما قيل في وصف الذئب وهي طويلة أذكر منها بيته الشهير:
( إذا ما غدا يوما رأيتَ غَيابةً/ من الطير ينظرن الذي هو صانعُ )
وينظرن هنا بمعنى: ينتظرن. وبيته الأشهر:
( ينام بإحدى مقلتيه ويتقي/ بأخرى المنايا فهو يقظانُ هاجعُ )
ويحكون أن الرشيد قال للمفضل الضبي: ما أحسنُ ما قيل في الذئب؟ قال: بيت حُمَيد: ينام بإحدى مقلتيه... البيت. وأبيات الفرزدق في الذئب غنية عن التعريف، على أنني أطرب إلى أبيات لشاعر غير معروف رواها ابن الشجري في حماسته، تقول:
( وماء كلون الغِسل قد عاد آجنا/ قليلٌ به الأصواتُ في بلد محلِ
وجدتُ عليه الذئبَ يعوي كأنه/ خليع خلا من كل ماء ومن أهل
فقلتُ له ياذئبُ هل لك في فتى/ يواسي بلا منٍّ عليك ولا بخل
فقال هداك الله للرشد إنما/ دعوتَ لما لم يأته سَبُعٌ قبلي
فلستُ بآتيه ولا أستطيعه/ ولاكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
فقلتُ عليك الحوضَ إني تركتُهُ/ وفي صفوه فضلُ القَلوص من السَّجْل )
ففيها حوار مع الذئب يتكلم فيه الذئب كما تكلمت ناقة المثقب العبدي. ويحكي الثعالبي في كتابه ( ثمار القلوب ) حكاية أُهبان بن أوس السلمي، وكان في غنم له، فشد الذئب على شاة منها، فصاح به أُهبان، فأقعى الذئب وقال له: ( أتنزع مني رزقا رزقنيه الله؟ ). قال أُهبان : فصفقتُ بيدي تعجبا وقلت: والله ما رأيتُ ولا سمعتُ أعجب من هذا، فقال الذئب: أتعجب من هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين هذه النخلات.. يحدث بما كان ويكون، ويدعو إلى الله وعبادته؟. قال أهبان: فجئتُ إلى النبي وأخبرته بالقصة وأسلمت. فكان يقال لأهبان: مكلم الذئب، ولولده: بنو مكلم الذئب. وقال رزين العروضي يهجو بعض ولده:
( فكيف لو كلّم الليثَ الهصورَ إذن/ تركتمُ الناس مأكولا ومشروبا
هذا السنيدي لا تُخشى معرّتُهُ/ يكلّم الفيل تصعيدا وتصويبا )
وقال الجاحظ في نقد شعر رزين هذا: لو كان ولد أُهبان ادّعوا أن أباهم كلَّمَ الذئبَ كانوا مجانين، وإنما ادعوا أن الذئب كلّم أباهم حتى سُمّي مُكَلَّمَ الذئب.. والفيل لس الذي يكلم السندي، ولم يدّع ذلك سندي قط، وإنما السندي هو المكلّم له، فذهب رزين العروضي من الغلط كل مذهب.
( كأن على لبّاتها جمرَ مُصطلٍ/ أصاب غضا جزلا وكُفَّ بأجذالِ )
وقال سُحيم عبد بني الحسحاس:
( كأن الثريا عُلقت فوق نحرها/ وجمرَغضا هبّت له الريحُ ذاكيا )
فسبحان من جمع الملك والعبد حول هذا الجمر يصْطَليان أو يَصْلَيان. وفي الغضا يقول مالك بن الريب في مطلع قصيدته الشهيرة:
( ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً/ بجنب الغضا أُزجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركبُ عرضَه/ وليت الغضا ماشى الركابَ لياليا
لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا/ مزارٌ، ولكن الغضا ليس دانيا .. )
وعلى ما نعرفه من بعد مالك عن نجد حين قال هذه القصيدة وحنينه إليها، وعلى ما يقوله النقاد عن التكرير وولع الشعراء به في مقام الحب ( ومن أحب شيئا أكثر من ذكره )، فإنني لا أقرأ هذه الأبيات إلا تذكرتُ حكاية الأصمعي مع ذلك الشاعر الذي كان ينشده شعره ليعرف رأيه فيه، فلما بلغ الشاعرُ إلى قوله
( فما للنوى؟ جُذَّ النوى، قُطع النوى/ كذاك النوى قطَّاعةٌ لوصالِ )
قاطعه الأصمعي قائلا: ( سلّط الله على هذا النوى شاةً تأكله وتريحنا منه )..
وفي جمر الغضا يقول المتنبي
( حشاي على جمر ذكي من الغضا/ وعيناي في روض من الحسن ترتع )
وقد عيب عليه قوله ( عيناي ترتع ) بدل الصواب ( عيناي ترتعان )
ولكن العرب تقول ذلك أحيانا. قال امرؤ القيس:
( لمن زحلوقة زلُّ/ بها العينان تنهلُّ )
وقذ أخذ المتنبي هذا المعنى من أبي تمام الذي يقول:
( أفي الحق أن يُضحي بقلبيَ مأتمٌ/ من الشوق والبلوى وعيناي في عرس؟ )
وأصل المعنى من قول علقمة في الجاهلية:
( للماء والنار في قلبي وفي كبدي/ من قسمة الشوق ساعورٌ وناعورُ )
أما لماذا لقب الطاغية وزيره لأسماء الشوارع ب ( جمر الغضا )، فأغلب الظن أنه أراد تخويف العامة به، والطاغية مولع بالشعر العربي القديم وألفاظه ويحب ان يرددها ويمتحن بها من حوله. والله أعلم وأكرم. )
أما عن سيد الغضا الذي ذكره طرفة، فالسيد هو الذئب والذئبة سِيدة . ( هل كان ابنُ سِيدةَ ابنَ ذئبة؟ ). وقال ابن جني:( سيدانة ). ومنذ قال طرفة هذا البيت والشعراء يشبهون الفرس بالسيد. قال طفيل الغنوي وهو أمهر شعراء الجاهلية في وصف الخيل حتى ليقال له ( طفيل الخيل ) في وصف فرس:
( كسيد الغضا الغادي أضل جراءه/ على شرف مستقبل الريح يلحب )
ويلحب هنا بمعنى يسرع، ومستقبل الريح، لأن الريح هي حاسة الذئب السادسة وهو يعول عليها في الاستخبار، قال الراجز:
( يستخبر الريح إذا لم يسمعِ/ بمثل مقراع الصفا الموقّع )
وشبه خرطومه بالمعول الذي يقطع به الصفا ( الحجر ). وقال الحصين بن الحُمام المرّي في وصف حصان وفرس:
( وأجرد كالسرحان يضربه الندى/ ومحبوكة كالسيد شقّاء صلدما )
وقال مزرّد بن ضرار الذبياني عن فرسه
( تقول إذا أبصرته وهو قائم/ خباء على نشْز أو السيدُ ماثلُ )
وذئب الغضا هو أخبث الذئاب وأضراها ولذلك يشبهون به فرس الحرب لا فرس النزهة والصيد. ويضرب المثل بذئب الغضا في الخبث والتحايل والمكر. قال مغلس بن لقيط يخاطب أقرباءه الذين يدارونه ولا يصرّحون:
( فمالكمُ طُلْسا إليّ كأنكم/ ذئابُ الغضا والذئب بالليل أطلسُ )
والطُّلسةُ لون هو الغُبرة في سواد قال الراجز في وصف الذئب:
( أطلسُ يُخفي شخصَه غبارٌه/ في شِدقه شفرتُهُ ونارُه )
وقريب منها الوُرقة وهي سواد في غبرة وتوصف بها الذئاب أيضا. على أن أخبث ما يوصف به الذئب هو أنه يأكل أخاه إذا جُرح قال الشاعر:
( إني رأيتكِ كالورقاء يوحشُها/ قربُ الأليف وتغشاه إذا نُحرا )
أي كالذئبة تنفر من الأليف وهو صحيح فإذا نحر غشيته لتأكله. وقال رؤبة:
( فلا تكوني يابنة الأشمِّ/ ورقاءَ دَمَّى ذئبَها المُدَمِّي )
وقال الفرزدق:
( وكنت كذئب السوء لما رأى دما/ بصاحبه يوما أحال على الدم )
وأنت تعرف ياصديقي أننا نستطيع أن نستخرج من الشعر العربي القديم ديوانا كاملا يمكن أن نطلق عليه ( ديوان الذئب )
وربما كانت عينية حميد بن ثور أروع ما قيل في وصف الذئب وهي طويلة أذكر منها بيته الشهير:
( إذا ما غدا يوما رأيتَ غَيابةً/ من الطير ينظرن الذي هو صانعُ )
وينظرن هنا بمعنى: ينتظرن. وبيته الأشهر:
( ينام بإحدى مقلتيه ويتقي/ بأخرى المنايا فهو يقظانُ هاجعُ )
ويحكون أن الرشيد قال للمفضل الضبي: ما أحسنُ ما قيل في الذئب؟ قال: بيت حُمَيد: ينام بإحدى مقلتيه... البيت. وأبيات الفرزدق في الذئب غنية عن التعريف، على أنني أطرب إلى أبيات لشاعر غير معروف رواها ابن الشجري في حماسته، تقول:
( وماء كلون الغِسل قد عاد آجنا/ قليلٌ به الأصواتُ في بلد محلِ
وجدتُ عليه الذئبَ يعوي كأنه/ خليع خلا من كل ماء ومن أهل
فقلتُ له ياذئبُ هل لك في فتى/ يواسي بلا منٍّ عليك ولا بخل
فقال هداك الله للرشد إنما/ دعوتَ لما لم يأته سَبُعٌ قبلي
فلستُ بآتيه ولا أستطيعه/ ولاكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
فقلتُ عليك الحوضَ إني تركتُهُ/ وفي صفوه فضلُ القَلوص من السَّجْل )
ففيها حوار مع الذئب يتكلم فيه الذئب كما تكلمت ناقة المثقب العبدي. ويحكي الثعالبي في كتابه ( ثمار القلوب ) حكاية أُهبان بن أوس السلمي، وكان في غنم له، فشد الذئب على شاة منها، فصاح به أُهبان، فأقعى الذئب وقال له: ( أتنزع مني رزقا رزقنيه الله؟ ). قال أُهبان : فصفقتُ بيدي تعجبا وقلت: والله ما رأيتُ ولا سمعتُ أعجب من هذا، فقال الذئب: أتعجب من هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين هذه النخلات.. يحدث بما كان ويكون، ويدعو إلى الله وعبادته؟. قال أهبان: فجئتُ إلى النبي وأخبرته بالقصة وأسلمت. فكان يقال لأهبان: مكلم الذئب، ولولده: بنو مكلم الذئب. وقال رزين العروضي يهجو بعض ولده:
( فكيف لو كلّم الليثَ الهصورَ إذن/ تركتمُ الناس مأكولا ومشروبا
هذا السنيدي لا تُخشى معرّتُهُ/ يكلّم الفيل تصعيدا وتصويبا )
وقال الجاحظ في نقد شعر رزين هذا: لو كان ولد أُهبان ادّعوا أن أباهم كلَّمَ الذئبَ كانوا مجانين، وإنما ادعوا أن الذئب كلّم أباهم حتى سُمّي مُكَلَّمَ الذئب.. والفيل لس الذي يكلم السندي، ولم يدّع ذلك سندي قط، وإنما السندي هو المكلّم له، فذهب رزين العروضي من الغلط كل مذهب.