رأيتُ فيما يرى النائم أني في مطبعة عتيقة، بإحدى دور النشر البلجيكية القديمة. وهذه المطبعة، التي كان يملكها شخص يدعى جاك بوت Jacques Poot، هي التي أخرجَتْ إلى الوجود عملَ رامبو الشهير " فصل في الجحيم " Une saison en enfer . ولما دلفتُ إلى الداخل، عبر ممر طويل فوجئتُ بأن النسخ الخمسمائة التي تم سحبها من هذا العمل الأدبي الفريد لا تزال مكدسة هناك، لم يمسسها أحد، باستثناء عشرين نسخة، كان رامبو قد أخذها كي يهديها لأصدقائه. ويبدو أن الشاعر عجز عن الوفاء بالتزاماته المادية تُجاه الناشر، فترك النسخ المتبقية هناك، ولم يعد للسؤال عنها!
إثر ذلك، تغيرَ المشهد بكيفية مفاجئة، ورأيتُني بأحد المقاهي، بمدينة بروكسيل، مع الفنان والكاتب الثوري المصري رمسيس يونان، الذي سبق له أن قام بترجمة " فصل في الجحيم" إلى العربية. وعنّ لي أن أعابث هذا الثائر المصري، الذي كان يثور حتى على الثورة، وأنتقدَ ترجمته للعبارات الأولى من " فصل في الجحيم":
( وفي سالف الأيام، ما لم تخني الذاكرة، كانت حياتي وليمة تتفتح فيها كل القلوب وتسيل كل الخمور
وذات مساء، أقعدتُ الجمال على ركبتي - فألفيته مرا - فهجوتُه، وتسلحتُ ضد العدالة..)
و سرعان ما تقدمَ نحونا شاب فرنسي، يرتدي ثيابا هي بالأسمال أشبه، وحيانا بعبارة غامضة ومبهمة ( هل هي تحية يا تُرى؟) ثم جلسَ إلى طاولتنا، فأدركْنا في الحال أنه آرثور رامبو، بلحمه ودمه... ولاحظنا عليه شيئا من الارتباك، فسأله رمسيس يونان عن سبب ذلك، فأجابه بعفوية عجيبة:
- سيأتي صديقي الشاعر ڤرلين، بعد قليل، وسيطلق علي الرصاص من مسدسه... لن يقتلني، ولكنه سيصيبني بجراح...
وانحنيتُ أنا على رمسيس يونان، وقلتُ له:
- يا صديقي، إن مشهد إطلاق النار لا ينبغي أن يحدث في هذا المكان الذي نحن فيه الآن، حسب ما هو مدون في سيرة رامبو وڤرلين...
وبدا لي كأن رامبو فهمَ ما قلتُه بالعربية، إذْ إنه التفتَ إلي وقال:
- ليس هناك منطق في الأحلام، يا سيدي...
وسكت قليلا، ثم أضاف بصوت خافت:
- أنسيتَ أنني مبتكرُ عبارة " الحرية الحرة"؟ فلنمارس هذا النوع من الحرية في الحلم كذلك... فأنا أريد التعجيل بمشهد إطلاق النار...
وبعد دقائق من الصمت، طلبنا منه - رمسيس يونان و أنا - أن يقرأ لنا مقطعا من " فصل في الجحيم "، فابتسم ثم قال:
- بل يقرأه علينا رمسيس يونان مترجَماً إلى العربية...
وعندئذ تهللت أسارير صديقي المصري، وشرع دون إبطاء في قراءة المقطع التالي، على خلفية موسيقية ناعمة:
( الرصاص! اقذفوني بالرصاص، هنا! وإلا استسلمتُ- يا للجبناء!- سأقتل نفسي!
سألقي بنفسي تحت سنابك الخيل....)
وما كاد رمسيس يونان ينهي قراءة هذا المقطع، حتى كان الرصاص يدوي بالفعل... كان ڤرلين قد أحكم التسديد، فأصاب رامبو، ولم يصب أحدا منا نحن الاثنين.
ثم رأيتُني بعد ذلك مع رامبو في بلاط مينليك، ملك الحبشة، حيث يرغب الشاعر الفرنسي في عقد صفقة سلاح. كان صاحب " فصل في الجحيم " مكفهر الملامح وهو يقول لي بعربية فصيحة:
- والله مسألة مضحكة... كيف يترجمون قصيدتي soldes بــ ( بيع تصفية)؟ هل كانت كلمة soldes في زمني أنا تعني ( بيع تصفية)؟.. كلا وألف كلا، يا سيدي... كلا وألف كلا!
وقد حاولتُ تهدئتَه فقلت له:
-ينبغي أن نلتمس العذر لهذا المترجم... فقد قام بعمل ضخم، ولم يكن بوسعه أن يدقق جميع الكلمات...
ولكن رامبو كان يبدو كمن يحدث نفسه وهو يردد قائلا:
- والله عجيبة العجائب... بيع تصفية !
وفي الأخير، غادرتُ بلاط ملك الحبشة، بينما بقي هو هناك في انتظار استقباله من طرف الملك. وعند باب القصر، سمعتُ صوتا نسويا جميلا، يتغنى بالأبيات التالية للشاعرة إيتيل عدنان:
قلتُ لها : أحب رامبو
فقالت: أتحبين تاجرَ أسلحة؟
قلت: اسكتي و إلا عاجلتك بقبضتي هذه.
إثر ذلك، تغيرَ المشهد بكيفية مفاجئة، ورأيتُني بأحد المقاهي، بمدينة بروكسيل، مع الفنان والكاتب الثوري المصري رمسيس يونان، الذي سبق له أن قام بترجمة " فصل في الجحيم" إلى العربية. وعنّ لي أن أعابث هذا الثائر المصري، الذي كان يثور حتى على الثورة، وأنتقدَ ترجمته للعبارات الأولى من " فصل في الجحيم":
( وفي سالف الأيام، ما لم تخني الذاكرة، كانت حياتي وليمة تتفتح فيها كل القلوب وتسيل كل الخمور
وذات مساء، أقعدتُ الجمال على ركبتي - فألفيته مرا - فهجوتُه، وتسلحتُ ضد العدالة..)
و سرعان ما تقدمَ نحونا شاب فرنسي، يرتدي ثيابا هي بالأسمال أشبه، وحيانا بعبارة غامضة ومبهمة ( هل هي تحية يا تُرى؟) ثم جلسَ إلى طاولتنا، فأدركْنا في الحال أنه آرثور رامبو، بلحمه ودمه... ولاحظنا عليه شيئا من الارتباك، فسأله رمسيس يونان عن سبب ذلك، فأجابه بعفوية عجيبة:
- سيأتي صديقي الشاعر ڤرلين، بعد قليل، وسيطلق علي الرصاص من مسدسه... لن يقتلني، ولكنه سيصيبني بجراح...
وانحنيتُ أنا على رمسيس يونان، وقلتُ له:
- يا صديقي، إن مشهد إطلاق النار لا ينبغي أن يحدث في هذا المكان الذي نحن فيه الآن، حسب ما هو مدون في سيرة رامبو وڤرلين...
وبدا لي كأن رامبو فهمَ ما قلتُه بالعربية، إذْ إنه التفتَ إلي وقال:
- ليس هناك منطق في الأحلام، يا سيدي...
وسكت قليلا، ثم أضاف بصوت خافت:
- أنسيتَ أنني مبتكرُ عبارة " الحرية الحرة"؟ فلنمارس هذا النوع من الحرية في الحلم كذلك... فأنا أريد التعجيل بمشهد إطلاق النار...
وبعد دقائق من الصمت، طلبنا منه - رمسيس يونان و أنا - أن يقرأ لنا مقطعا من " فصل في الجحيم "، فابتسم ثم قال:
- بل يقرأه علينا رمسيس يونان مترجَماً إلى العربية...
وعندئذ تهللت أسارير صديقي المصري، وشرع دون إبطاء في قراءة المقطع التالي، على خلفية موسيقية ناعمة:
( الرصاص! اقذفوني بالرصاص، هنا! وإلا استسلمتُ- يا للجبناء!- سأقتل نفسي!
سألقي بنفسي تحت سنابك الخيل....)
وما كاد رمسيس يونان ينهي قراءة هذا المقطع، حتى كان الرصاص يدوي بالفعل... كان ڤرلين قد أحكم التسديد، فأصاب رامبو، ولم يصب أحدا منا نحن الاثنين.
ثم رأيتُني بعد ذلك مع رامبو في بلاط مينليك، ملك الحبشة، حيث يرغب الشاعر الفرنسي في عقد صفقة سلاح. كان صاحب " فصل في الجحيم " مكفهر الملامح وهو يقول لي بعربية فصيحة:
- والله مسألة مضحكة... كيف يترجمون قصيدتي soldes بــ ( بيع تصفية)؟ هل كانت كلمة soldes في زمني أنا تعني ( بيع تصفية)؟.. كلا وألف كلا، يا سيدي... كلا وألف كلا!
وقد حاولتُ تهدئتَه فقلت له:
-ينبغي أن نلتمس العذر لهذا المترجم... فقد قام بعمل ضخم، ولم يكن بوسعه أن يدقق جميع الكلمات...
ولكن رامبو كان يبدو كمن يحدث نفسه وهو يردد قائلا:
- والله عجيبة العجائب... بيع تصفية !
وفي الأخير، غادرتُ بلاط ملك الحبشة، بينما بقي هو هناك في انتظار استقباله من طرف الملك. وعند باب القصر، سمعتُ صوتا نسويا جميلا، يتغنى بالأبيات التالية للشاعرة إيتيل عدنان:
قلتُ لها : أحب رامبو
فقالت: أتحبين تاجرَ أسلحة؟
قلت: اسكتي و إلا عاجلتك بقبضتي هذه.