لا أريد الحديث عن الذكريات، ولا يهمني ذلك الإحساس الذي نشعر به حينما نمارس فعل التذكر، إن ذاكرة المرء بطبيعتها خائنة، مضللة، وكثيرة التعرض للإصابة بالعطب، والاتكاء إليها يمثل بالنسبة لي كالاتكاء على جدار مائل أو رؤية سراب في صحراء قاحلة، ومع ذلك سأتذكر، وسأتحدث عن الماضي، ولكن بطريقتي، وبحسب ما يخطر على ذهني وأنا أكتب هذه الخواطر..
كنت فيما مضى شخصا قاسيا على كل من حولي، ومن عادتي تجنب الاختلاط بالناس، أصدقائي قلة، وأكثرهم من أيام الدراسة، أما فيما يتعلق بعلاقاتي مع الأقارب، فكانت غير واضحة، ولو سجل شخصا ما ملاحظات على مزاجي من خلال أقوالهم سيفشل بلا ريب في تكوين ترسيم ممتاز لشخصيتي، قد ينعتني بعضهم بالنرجسية والحمق وسوء التصرف، والبعض الآخر قد ينظر إلي باعتباري شخصا ودودا، مثقفا، يعرف متى يصمت، وفي أي وقت يبادر بالحديث، وفي كلتا الحالتين، فمن طبيعتي ألا أعير اهتماما بما يقوله الناس بصفة عامة، فما بالك فيما يقولونه عني أو عن انطباعاتي.
أعترف بأني أخطأت كثيرا في حياتي، أخطأت أكثر مما أخطأ القديس أوغسطينوس، وكنت أسعد بزهو حينما لا يلومني أحد على شيء، وطالما أقنعت نفسي بأننا نحن الذين نخطئ لا علاقة لنا بفعل الخطأ، بل طبيعة ما داخلنا هي التي تفعل ذلك، لذا لم أفكر يوما في معرفة الباعث الذي أوجد الشر، وبما أن الخطأ أو الذنب هو مقدار سلبي للممارسة العملية كما يقول كانط، فإننا لا نحتاج إلى تفصيل أو فتح باب الماضي للتأكيد على خرق القاعدة أو الإساءة بالغير، فالذنب في الأساس مجرد تجربة تلتصق كثيرا بتاريخ الرغبة.
من المحال سرد الأخطاء التي اُرتكبت في حقي أو التي ارتكبتها في حق الناس، فالنفس لا تحتمل استدعاء الألم دفعة واحدة، ولا يمكن أن نقنع أنفسنا بفكرة النسيان أو نلجأ إلى الحظ العاثر الذي يريحنا في حالات الفشل. إن طبيعة الذنب تتمثل في مقدار الإساءة، فكلما كبر الخطأ تزداد العقوبة وتقل نسبة التسامح، هذه مسلمة يعرفها جميع الناس.
راهنت منذ الطفولة على طموحي، كنت أعتقد بأني أذكى طفل في المدرسة، وكسبت الرهان في بعض الأحوال، وأخفقت في أحوال كثيرة، أما أثناء مرحلة المراهقة، كنت شغوفا بالاستماع إلى الموسيقى، وحاولت أكثر من مرة تعلم اللعب على البيانو، وحينما فشلت لجأت إلى التمثيل، أول عمل قمت به كانت مسرحية (تاجر البندقية(، لقد راق لي كثيرا دور التاجر اليهودي (شايلوك)، كم شعرت بالفرحة حينما كنتُ أطالب ذلك المسكين"أنطونيو"، خاصة في ذلك المشهد الذي هددتُه بقطع رطل من لحمه مقابل الأموال التي اقترضها مني، ومع أن علامات الغضب كانت واضحة في وجوه المشاهدين، إلا أنني لم أكترث بمشاعرهم، كنتُ أتلذذ بكل شغف بعبارات النص الجميل الذي كتبه الممثل المسرحي الكبير وليم شكسبير.
أما فيما يتعلق بمرحلة النضج، وأقصد تلك الفترة التي تجاوز فيها عمري سن الأربعين، كنت أستمتع بقراءة الشعر والتاريخ والروايات المترجمة، وفي أيام الأعياد، أذهب إلى المتاحف، لقد كانت زيارة الأماكن الأثرية عادة لا يمكن الاستغناء عنها، ولا أخفي سرا، أن أكبر ذنب ارتكبته في حياتي هو دراسة علم الأحياء! وأخيرا، وبعد مرور أكثر من عقدين من الزمن، أدركتُ بأنه كان من المفترض علي الاهتمام بدراسة الأموات بدلا من دراسة الكائنات الحية. فلا وجود لعلم -كما يقول دانتي- دون أن يحتفظ المرء بما يستمتع.
لا يمكن التساهل مع الأخطاء أو الذنوب الكبيرة، هذا ما قاله أحد قساوسة العصور الوسطي، حينما أتُهم الكاتب اللاتيني " أبوليوس" بالسحر الأسود وحيازة مرآة مقعرة في بيته، كذلك فمن غير المعقول أن يتساهل المرء حينما يرتكب خطأ في حق نفسه، مهما كان حجمه واتساعه، هذا ما سأعترف به هنا، لقد كان ذنبي هو احترام الآخرين ومساعدتهم أثناء الدراسة ثم أثناء عملي بالتدريس، وكان كل ذلك على حساب طاقتي ووقتي، وعلى حساب مستقبلي أيضا، وللأسف لم أجد في المقابل سوى عبارات القدح ونكران الجميل، فالناس إن سالمتهم حاربوك، وإن صادقتهم عادوك.. نعم! الجحود شيء فظيع. كان علي الالتزام بما قاله صاحب كتاب " الأمير" إن من يسعى إلى مساعدة غيره، يحكم على نفسه بالخراب والفشل.
بكل تأكيد، قد يقال بأن مساعدة الناس والعطف عليهم لا يعد ذنبا يستوجب فيه الندم، كما أن من الحمق وصف الأعمال النبيلة بالذنوب، فهذا الشيء حينما نتأمله من الخارج نجد فيه ضربا من الأنانية ودعوة للنشاط السلبي بين الناس، لكن حينما نتأمل الحال بحيادية، سنكتشف بأن اعتماد الآخرين على أعمالنا أشد من الأنانية، بل إنه دعوة صريحة للانتهازية والكسل. والأمثلة على ذلك كثيرة سنجدها حتما حينما نقرر البحث عنها بجدية.
كنت فيما مضى شخصا قاسيا على كل من حولي، ومن عادتي تجنب الاختلاط بالناس، أصدقائي قلة، وأكثرهم من أيام الدراسة، أما فيما يتعلق بعلاقاتي مع الأقارب، فكانت غير واضحة، ولو سجل شخصا ما ملاحظات على مزاجي من خلال أقوالهم سيفشل بلا ريب في تكوين ترسيم ممتاز لشخصيتي، قد ينعتني بعضهم بالنرجسية والحمق وسوء التصرف، والبعض الآخر قد ينظر إلي باعتباري شخصا ودودا، مثقفا، يعرف متى يصمت، وفي أي وقت يبادر بالحديث، وفي كلتا الحالتين، فمن طبيعتي ألا أعير اهتماما بما يقوله الناس بصفة عامة، فما بالك فيما يقولونه عني أو عن انطباعاتي.
أعترف بأني أخطأت كثيرا في حياتي، أخطأت أكثر مما أخطأ القديس أوغسطينوس، وكنت أسعد بزهو حينما لا يلومني أحد على شيء، وطالما أقنعت نفسي بأننا نحن الذين نخطئ لا علاقة لنا بفعل الخطأ، بل طبيعة ما داخلنا هي التي تفعل ذلك، لذا لم أفكر يوما في معرفة الباعث الذي أوجد الشر، وبما أن الخطأ أو الذنب هو مقدار سلبي للممارسة العملية كما يقول كانط، فإننا لا نحتاج إلى تفصيل أو فتح باب الماضي للتأكيد على خرق القاعدة أو الإساءة بالغير، فالذنب في الأساس مجرد تجربة تلتصق كثيرا بتاريخ الرغبة.
من المحال سرد الأخطاء التي اُرتكبت في حقي أو التي ارتكبتها في حق الناس، فالنفس لا تحتمل استدعاء الألم دفعة واحدة، ولا يمكن أن نقنع أنفسنا بفكرة النسيان أو نلجأ إلى الحظ العاثر الذي يريحنا في حالات الفشل. إن طبيعة الذنب تتمثل في مقدار الإساءة، فكلما كبر الخطأ تزداد العقوبة وتقل نسبة التسامح، هذه مسلمة يعرفها جميع الناس.
راهنت منذ الطفولة على طموحي، كنت أعتقد بأني أذكى طفل في المدرسة، وكسبت الرهان في بعض الأحوال، وأخفقت في أحوال كثيرة، أما أثناء مرحلة المراهقة، كنت شغوفا بالاستماع إلى الموسيقى، وحاولت أكثر من مرة تعلم اللعب على البيانو، وحينما فشلت لجأت إلى التمثيل، أول عمل قمت به كانت مسرحية (تاجر البندقية(، لقد راق لي كثيرا دور التاجر اليهودي (شايلوك)، كم شعرت بالفرحة حينما كنتُ أطالب ذلك المسكين"أنطونيو"، خاصة في ذلك المشهد الذي هددتُه بقطع رطل من لحمه مقابل الأموال التي اقترضها مني، ومع أن علامات الغضب كانت واضحة في وجوه المشاهدين، إلا أنني لم أكترث بمشاعرهم، كنتُ أتلذذ بكل شغف بعبارات النص الجميل الذي كتبه الممثل المسرحي الكبير وليم شكسبير.
أما فيما يتعلق بمرحلة النضج، وأقصد تلك الفترة التي تجاوز فيها عمري سن الأربعين، كنت أستمتع بقراءة الشعر والتاريخ والروايات المترجمة، وفي أيام الأعياد، أذهب إلى المتاحف، لقد كانت زيارة الأماكن الأثرية عادة لا يمكن الاستغناء عنها، ولا أخفي سرا، أن أكبر ذنب ارتكبته في حياتي هو دراسة علم الأحياء! وأخيرا، وبعد مرور أكثر من عقدين من الزمن، أدركتُ بأنه كان من المفترض علي الاهتمام بدراسة الأموات بدلا من دراسة الكائنات الحية. فلا وجود لعلم -كما يقول دانتي- دون أن يحتفظ المرء بما يستمتع.
لا يمكن التساهل مع الأخطاء أو الذنوب الكبيرة، هذا ما قاله أحد قساوسة العصور الوسطي، حينما أتُهم الكاتب اللاتيني " أبوليوس" بالسحر الأسود وحيازة مرآة مقعرة في بيته، كذلك فمن غير المعقول أن يتساهل المرء حينما يرتكب خطأ في حق نفسه، مهما كان حجمه واتساعه، هذا ما سأعترف به هنا، لقد كان ذنبي هو احترام الآخرين ومساعدتهم أثناء الدراسة ثم أثناء عملي بالتدريس، وكان كل ذلك على حساب طاقتي ووقتي، وعلى حساب مستقبلي أيضا، وللأسف لم أجد في المقابل سوى عبارات القدح ونكران الجميل، فالناس إن سالمتهم حاربوك، وإن صادقتهم عادوك.. نعم! الجحود شيء فظيع. كان علي الالتزام بما قاله صاحب كتاب " الأمير" إن من يسعى إلى مساعدة غيره، يحكم على نفسه بالخراب والفشل.
بكل تأكيد، قد يقال بأن مساعدة الناس والعطف عليهم لا يعد ذنبا يستوجب فيه الندم، كما أن من الحمق وصف الأعمال النبيلة بالذنوب، فهذا الشيء حينما نتأمله من الخارج نجد فيه ضربا من الأنانية ودعوة للنشاط السلبي بين الناس، لكن حينما نتأمل الحال بحيادية، سنكتشف بأن اعتماد الآخرين على أعمالنا أشد من الأنانية، بل إنه دعوة صريحة للانتهازية والكسل. والأمثلة على ذلك كثيرة سنجدها حتما حينما نقرر البحث عنها بجدية.