جاء في كتاب " إتحاف الخلان بأخبار طاغية نجدان":
أخبرنا سفيان بن أبي عتبة، قال: أخبرنا العباس عن بكار الحلبي، قال: حدثنا شيخنا أبو الفضل النجداني، قال:
شهدتُ يوما مجلس الطاغية، وفيه الوزراء والأكابر والأعيان والشعراء واللغويون، فجرى ذكْرُ الكثيب وسجنائه، فقال الطاغية:
- أمّا سجناء الكثيب فلا تخاطبوني فيهم أبداً. واعلموا أني سأحْسمهمْ قريبا، بتوفيق من الله سبحانه.
ثم إنه سكت قليلا، وعاد يتأمل وجوه الحاضرين بشيء من الاستغراب وقال:
- كأني بكم أيها الشيوخ الأجلاء غير مرتاحين لقولي " سأحْسمهم ". ولعلكم كنتم تفضلون أن أقول " سأحْسم أمرهم"... فلنستمع أولاً لرأي شيخنا إسحاق الجوهري اللغوي، ما دام حاضرا معنا اليوم... هات ما لديك أيها الشيخ...
فبهت و الله الشيخ الجوهري عند سماعه كلام صاحب نجدان ، و لكنه تمالك نفسه وقال:
- أيها الطاغية الهمام، إن العرَبَ تقول: حَسَمَ فلان القومَ ، بمعنى أفناهم و لم يُبْق منهم أحداً. والحسم في اللغة هو القطع بالاستئصال، و منه سُمي السيفُ حُساماً... وقد قال الله تعالى في سورة الحاقة ( سَخَّرَها عليهمْ سبْعَ ليالٍ و ثمانية َ أيامٍ حُسوماً) والمعنى أنها حسمتْ أهلَ الكفر فلم تُبق منهم أحدا...
قال الطاغية:
- رحم الله عبدالعزيز بن زرارة الكلابي الذي قال:
( ففَرّقَ بينَ بينهمُ زمانٌ = تتابع فيه أعوام حُسومُ )
أما عن الآية الكريمة فأنت تعلم، يا شيخنا الجوهري، أن ابن مسعود يرى أن ( حسوماً) تعني ( متتابعات ) . أما عكرمة فيرى أن معناها هو ( مشائيم )...
إثر ذلك، أومأ الطاغية إلى مسْلمة التنوخي، وزير الداء والدواء في حكومة نجدان، وسأله قائلاً:
- وأنت أيها الشيخ الوزير، ما تقول في معنى الحسم؟
فأجاب مسلمة:
- الحسْمُ يا مولانا الطاغية هو القطْع، ونحن نقول: حسمَ الطبيبُ العِرْق بمعنى قطعَه ثم كواه لئلا يسيل دمُه. ونقول كذلك: حسمَ الطبيبُ الداء أي كوى صاحبَه، وفي الحديث " عليكم بالصوم فإنه محسمة للعرْق و مذهبة للأشر." كما أن الطفل المحسوم، يا مولانا الطاغية، هو الذي حُسم رضاعه أي فُطم.
ثم إن الطاغية أمرَ الشيخ أبا روق الأزلي، وزير الشعر، أن يتكلم بما يراه، فقال الشيخ:
- أيها الطاغية، رحم الله أبا الطيب ابمتنبي الذي قال:
( حسمَ الصلحُ ما اشتهتْهُ الأعادي = و أذاعَتْهُ ألسنُ الحُسادِ)
فقاطعه صاحبُ نجدان بقوله:
- و كم يعجبني قوله في هذه الدالية:
( و ملوكاً كأمْس في القُرْب منا = و كطَسْمٍ و أخْتِها في البعادِ)
فقال وزير الشعر:
- نعم، أيها المستبد بالله. وفي هذه القصيدة بيت كأنما وصفَ به أبو الطيب دولة نجدان، حين قال:
( هذه دولةُ المكارمِ و الرّأ = فَةِ و المجد و الندى و الأيادي)
قال الطاغية:
- فلنعد إلى ما نحن فيه من حديث عن الحسم. فقد درسنا في المعهد اللغوي ونحن صغار أن الحَيْسُمان هو الرجل الضخم. ودرسنا كذلك أن هناك مواضع كثيرة تستمد اسمها من هذا الجذر اللغوي، وهي مواضع ذكرها الشعراء القدامى في قصائدهم، فأين وزيرنا في الجغرافيا الشعرية، كي يفيدنا في هذا المضمار؟
قال الشيخ أبو الفضل:
فلم يكد الطاغية ينطق بعبارته تلك حتى وقف الشيخ الميلي المعازيلي، وهو الوزير المنتدب لدى وزير الشعر ، المكلف بالمواضع الواردة أسماؤها في قصائد العرَب، وقال:
- أصلح الله مولانا الطاغية، هناك الموضع المعروف بذي حُسُم ، و قد ذكره مهلهل بن ربيعة في رائيته الأصمعية حين قال:
( ألَيْلتَنا بذي حُسُمٍ أنيري = إذا أنتِ انقضيتِ فلا تَحُوري )
وهناك حِسْمىٰ، التي قال عنها ياقوت:
( هي أرض ببادية الشام ، بينها وبين وادي القرى ليلتان )
وفيها جبال شواهق لا يكاد القتام يفارقها، وقد مرّ بها المتنبي حين كان هاربا من الفسطاط في طريقه إلى الكوفة، وذكرها في قصيدته المشهورة:
( ألا كلّ ماشية الخيزلى = فدى كل ماشية الهيذبى)
إذْ قال متحدثا عن إبله:
( و هبّتْ بحسْمىٰ هبوبَ الدَّبُور = مستقبلات مهبّ الصبا)
قال الطاغية:
- وحسمى هذه ذكرها الشاعر كُثَيّر أيضاً في شعره، فقال:
( سيأتي أمير المؤمنين و دونه = جماهيرُ حسْمى قورها و حزونها )
كما أن ابن بطوطة وصفها في رحلته دون أن يذكرها بالاسم. وأما عن رحلة المتنبي من الفسطاط إلى الكوفة، والأماكن التي مر بها و ذكرها في مقصورته التي تحدث عنها الشيخ المعازيلي، فاعلموا أني سأرسل بعد أيام وفدا من علمائنا الأفاضل إلى تلك الديار، كي يرسموا لنا خريطة مفصلة للطريق التي سلكها أبو الطيب في رحلته تلك.
قال الشيخ أبو الفضل:
فلما انتهى الطاغية من كلامه أشار إلينا بالانصراف، فانصرفنا في الحين وما فينا إلا متوجس من تعيينه ضمن الوفد المذكور.
أخبرنا سفيان بن أبي عتبة، قال: أخبرنا العباس عن بكار الحلبي، قال: حدثنا شيخنا أبو الفضل النجداني، قال:
شهدتُ يوما مجلس الطاغية، وفيه الوزراء والأكابر والأعيان والشعراء واللغويون، فجرى ذكْرُ الكثيب وسجنائه، فقال الطاغية:
- أمّا سجناء الكثيب فلا تخاطبوني فيهم أبداً. واعلموا أني سأحْسمهمْ قريبا، بتوفيق من الله سبحانه.
ثم إنه سكت قليلا، وعاد يتأمل وجوه الحاضرين بشيء من الاستغراب وقال:
- كأني بكم أيها الشيوخ الأجلاء غير مرتاحين لقولي " سأحْسمهم ". ولعلكم كنتم تفضلون أن أقول " سأحْسم أمرهم"... فلنستمع أولاً لرأي شيخنا إسحاق الجوهري اللغوي، ما دام حاضرا معنا اليوم... هات ما لديك أيها الشيخ...
فبهت و الله الشيخ الجوهري عند سماعه كلام صاحب نجدان ، و لكنه تمالك نفسه وقال:
- أيها الطاغية الهمام، إن العرَبَ تقول: حَسَمَ فلان القومَ ، بمعنى أفناهم و لم يُبْق منهم أحداً. والحسم في اللغة هو القطع بالاستئصال، و منه سُمي السيفُ حُساماً... وقد قال الله تعالى في سورة الحاقة ( سَخَّرَها عليهمْ سبْعَ ليالٍ و ثمانية َ أيامٍ حُسوماً) والمعنى أنها حسمتْ أهلَ الكفر فلم تُبق منهم أحدا...
قال الطاغية:
- رحم الله عبدالعزيز بن زرارة الكلابي الذي قال:
( ففَرّقَ بينَ بينهمُ زمانٌ = تتابع فيه أعوام حُسومُ )
أما عن الآية الكريمة فأنت تعلم، يا شيخنا الجوهري، أن ابن مسعود يرى أن ( حسوماً) تعني ( متتابعات ) . أما عكرمة فيرى أن معناها هو ( مشائيم )...
إثر ذلك، أومأ الطاغية إلى مسْلمة التنوخي، وزير الداء والدواء في حكومة نجدان، وسأله قائلاً:
- وأنت أيها الشيخ الوزير، ما تقول في معنى الحسم؟
فأجاب مسلمة:
- الحسْمُ يا مولانا الطاغية هو القطْع، ونحن نقول: حسمَ الطبيبُ العِرْق بمعنى قطعَه ثم كواه لئلا يسيل دمُه. ونقول كذلك: حسمَ الطبيبُ الداء أي كوى صاحبَه، وفي الحديث " عليكم بالصوم فإنه محسمة للعرْق و مذهبة للأشر." كما أن الطفل المحسوم، يا مولانا الطاغية، هو الذي حُسم رضاعه أي فُطم.
ثم إن الطاغية أمرَ الشيخ أبا روق الأزلي، وزير الشعر، أن يتكلم بما يراه، فقال الشيخ:
- أيها الطاغية، رحم الله أبا الطيب ابمتنبي الذي قال:
( حسمَ الصلحُ ما اشتهتْهُ الأعادي = و أذاعَتْهُ ألسنُ الحُسادِ)
فقاطعه صاحبُ نجدان بقوله:
- و كم يعجبني قوله في هذه الدالية:
( و ملوكاً كأمْس في القُرْب منا = و كطَسْمٍ و أخْتِها في البعادِ)
فقال وزير الشعر:
- نعم، أيها المستبد بالله. وفي هذه القصيدة بيت كأنما وصفَ به أبو الطيب دولة نجدان، حين قال:
( هذه دولةُ المكارمِ و الرّأ = فَةِ و المجد و الندى و الأيادي)
قال الطاغية:
- فلنعد إلى ما نحن فيه من حديث عن الحسم. فقد درسنا في المعهد اللغوي ونحن صغار أن الحَيْسُمان هو الرجل الضخم. ودرسنا كذلك أن هناك مواضع كثيرة تستمد اسمها من هذا الجذر اللغوي، وهي مواضع ذكرها الشعراء القدامى في قصائدهم، فأين وزيرنا في الجغرافيا الشعرية، كي يفيدنا في هذا المضمار؟
قال الشيخ أبو الفضل:
فلم يكد الطاغية ينطق بعبارته تلك حتى وقف الشيخ الميلي المعازيلي، وهو الوزير المنتدب لدى وزير الشعر ، المكلف بالمواضع الواردة أسماؤها في قصائد العرَب، وقال:
- أصلح الله مولانا الطاغية، هناك الموضع المعروف بذي حُسُم ، و قد ذكره مهلهل بن ربيعة في رائيته الأصمعية حين قال:
( ألَيْلتَنا بذي حُسُمٍ أنيري = إذا أنتِ انقضيتِ فلا تَحُوري )
وهناك حِسْمىٰ، التي قال عنها ياقوت:
( هي أرض ببادية الشام ، بينها وبين وادي القرى ليلتان )
وفيها جبال شواهق لا يكاد القتام يفارقها، وقد مرّ بها المتنبي حين كان هاربا من الفسطاط في طريقه إلى الكوفة، وذكرها في قصيدته المشهورة:
( ألا كلّ ماشية الخيزلى = فدى كل ماشية الهيذبى)
إذْ قال متحدثا عن إبله:
( و هبّتْ بحسْمىٰ هبوبَ الدَّبُور = مستقبلات مهبّ الصبا)
قال الطاغية:
- وحسمى هذه ذكرها الشاعر كُثَيّر أيضاً في شعره، فقال:
( سيأتي أمير المؤمنين و دونه = جماهيرُ حسْمى قورها و حزونها )
كما أن ابن بطوطة وصفها في رحلته دون أن يذكرها بالاسم. وأما عن رحلة المتنبي من الفسطاط إلى الكوفة، والأماكن التي مر بها و ذكرها في مقصورته التي تحدث عنها الشيخ المعازيلي، فاعلموا أني سأرسل بعد أيام وفدا من علمائنا الأفاضل إلى تلك الديار، كي يرسموا لنا خريطة مفصلة للطريق التي سلكها أبو الطيب في رحلته تلك.
قال الشيخ أبو الفضل:
فلما انتهى الطاغية من كلامه أشار إلينا بالانصراف، فانصرفنا في الحين وما فينا إلا متوجس من تعيينه ضمن الوفد المذكور.