(إلى صاحب القلب الكبير الذي كتب (من وراء الأبد). . .
إلى صديقي الأستاذ أنور المعداوي أهدي هذه القصة).
عزيزي. . .
حين تصلك رسالتي أكون قد غادرت أرض الكنانة ميمماً شطر وطني. . . وبين جوانحي قلب مضطرب، ونفس مغممة بشتى الأحاسيس. . . قلب جريح تجرع كؤوس الأسى مترعة، ونفس عصفت بها رياح صارمة فخلفت أرض مصر زهوراً. ذابلة هي ذكريات ليال وأيام؛ ستظل رؤى مرة في فكري لا يطردها النور، وجذوة مستمرة في قلبي لا يخمدها تقاوم العهد، وتطاول الأيام.
كنت تسألني كثيراً والابتسامة على شفتيك عن سبب سكناي في مصر الجديدة، والشقة بعيدة بينها وبين جامعتي، فأقابل ابتسامتك بابتسامة، ويظل سؤالك من غير جواب.
وأراني الآن مدفوعاً بقوة صارمة صادرة من أعماقي إلى أن أقص عليك طرفاً من تاريخ قلبي، علك تشاركني آلامه، وأشجان دنياي.
لست أدري السر في أن الإنسان يستطيع أن يكتم كل شيء إلا الحب والبغض، حتى أصبح هذان الأمران محورين أساسيين للانسانية: الحب يبني، والبغض يهدم.
فلا جناح عليّ - إذن - في أن أقول لك: إنني أحببت. . . نعم أحببت حباً امتزج بدمي، وطوق روحي، وشغلني عن كل شيء، فظللت أهيم في زورقي، والأمل سد أقطار الحقيقة عني، ومنافذ النور عن بصيرتي، ورحت أدنو إلى الشاطئ الثاني، والضباب قائم من حولي، وفي أغواري الظلمة واليأس المرير.
إنني لأذكر أول لقاء لي بها في أحد تلك المقاهي المخضلة الأضواء وقد عرفني بها ضابط مصري عشت معه في دار واحدة زمناً طويلاً. . . وقد كانت شعلة من إغراء، وقد بدت لي صغيرة. . . صغيرة جداً حتى عبق في وجهي عطر الطفولة الآسر. . وكانت الابتسامة بين شفتيها كأنها تشجع القلب المحروم على أن يحب. . .
. . . فتاة في العشرين من عمرها أجمل ما فيها عيناها السوداوان المتألقتان كنجمتين في سماء غسلتها دموع الملائكة.
وقد تحدثنا كثيراً، وكان حديثها عذباً، حلو النبرات، وشعرت بأن عينيها تحدثاني فأنصت إلى الإيقاع الروحي الصادر من الأعماق. . . وبان لي إنها متذمرة كأنها تعيش في سجن، خائفة كأنها تتوقع شيئاً مؤلماً، وكانت ثقافتها الفرنسية ذات اثر عظيم على نفسها، بذرت فيها بذور الانطلاق، ونسجت حول مخيلتها العوالم تخلقها قصص الحب. . . والعاطفة الملتهبة.
ولما رجعت إلى بيتي لم أكن وحيداً. . . فقد كان خيالها لا يبرح مخيلتي، وما زلت أشم عطرها الآسر، وألمح ابتسامتها الجميلة. . . وكانت معي أحلامي المجنحة. . . يا عجباً أبهذه السرعة تنبت. . . فأشعر بظلالها تعمر فكري؟
ورحت أنتظر صديقي والنوم هجر أجفاني، والرؤى ملأت عالمي. . . ولما سمعت وقع أقدامه قفزت من فراشي، وطفقت أتطلع إلى شفتيه المنفرجتين عن ابتسامة ماكرة.
قال:
- أتعرف ماذا تقول عنك. . . إنك في نظرها طفل غرير. بالمكر المرأة يا صديقي. . . هل أحست بنظراتي تضرعاً، وباختلاج شفتي ظمأ لرحمة؟!
ثم قال: ولكنها تريد مقابلتك مرة ثانية.
فقفزت فرحاً كأنني أبرهن على صحة نظرها. . . وقلت:
رحماك يا صاح حدثني عنها. . . أقصص على أخبارها. . . أي نوع من النساء هي؟ فصاح صاحبي.
- يالك من طفل. . . أتعلقت بها من أول لقاء؟
لا. . . لا. . . لم أتعلق بها. . . ولكني أحس بظمأ يحرف روحي إلى أن التقي بها وأنظر إليها. وأتحدث معها. . . وأتملى سحر وجهها. . . وأتحدث إلى عينيها الساحرتين. . . وأغمر قلبي في وجهها العاطر.!!
وفي اليوم الثاني ذهبت إليها.
وجلسنا في أحد مقاهي مصر الجديدة، والأنوار في ألوانها المختلفة تخلق لنا في آفاق مخيلتنا عوالم غريبة. . . والجو الساجي يرهق أعصابنا، والنسيم المنبعث من وراء الأشجار الخضر نديُّ كأنه يداعب أحلامنا، ويشرق في عالمنا بأطياف جميلة. . . ومن خلف عالمنا السحري تتألق النجوم من بعيد كأنها أشباح لدينا مسحورة مختفية في ضمير الأبد.
جلست إليها وهي أمامي ساحرة مشرقة القسمات، وجفناها مسبلان بدلال على عينيها السوداوين، وأنا أرتشف من كؤوس نشوتي. . . ولاحت لي الأيام الماضية طلولا ينعق فيها غراب الوحدة، وتصرخ في جنباتها ريح اليأس المرير. . . وحرقت ذكرياتي كلها في نار وجدي، وهمت في الأجواء البعيدة التي تخلقها حواء. . . أنا المحروم من. . . العائش في ضباب، المسحور بتهاويل الأحلام.
وطال صمتنا ونطقت حواء أخيراً:
- ما بالك يا صاحبي ساهماً كأنك تفكر في المستحيل؟
ولمعت عيناها، ووقفت أمام سؤالها حائراً. . . وأردت أن أصرخ في وجهها:
- أقسم لك إنها هذا حق. . . فأنا في رحاب المستحيل.
ولكنني آثرت الصمت، وانطلقت من شفتي ابتسامة هاربة كأنها جواب مبهم.
قالت: - إن الشباب دائماً يفكر في المستحيل. . . أتخالفني بعيدة عن عالمك الغامض؟
- ولكن أية قوة قادتك إلى تلك الأبراج الشاهقة؟!
- القوة التي تدفع الشباب إلى المستحيل. . . ولكن لست أدري لم يهيم الشباب بالمستحيل؟
- لأنه كثير الآمال. . . وكل أمل يخبو يزيد حياته ظلمة، وينقلب في سفر أيامه إلى ذكرى إخفاق. . . مؤلم.
الآن بدأت أعرف لم يلف عمري سحاب من الأحزان. . . إن أشياء كثيرة تحزنني هي جراح أحلامي. . . إن عمري يذبل من غير غاية. . . فأنا الآن في العشرين من عمري ولم يتحقق حلمي الجميل.
وأشفقت على حلمها الجميل الذي لم يتحقق وشعرت بيد من حديد تصهر قلبي وأردت أن أقول لها.
أيتها الهائمة في الصحراء تفتشين عن حلمط الجميل. . . أيتها الفراشة التي أصلتها نار الحرمان، قلبي المحروم يناديك. . . أتسمعين نداءه؟. . إنه يدعوك إلى أن تتنكبي عن الماضي ومآسيه، وتدخلي في الجنة التي خلقتها عيناك له. . . جنة أحلامه وأمانيه.
وافترقنا على ميعاد. . . وظللنا ندلف إلى عرائش أحلامنا مدة طويلة.
وجئت إليها مرة وفي قلبي همس. . . قلت
- اسمعي يا (نادية) في ضميري سر يعذبني قد تكون اختلاجاتي نمت عليه. . . إنني أحبك!. . من أعماق نفسي، وإنك قد دخلت دائرة حياتي، ولا يمكنني أن أخرجك منها. ولا يمكنني أن أنساك. . . إن آلامك آلامي، وآمالك آمالي، وقلبي يدعوك إلى أن نسير جنباً إلى جنب في طريق الحياة.
فضغطت يدي وابتسمت عيناها. . . ثم شفتاها. . . وقالت:
كأنك تقرأ أفكاري. . . فأنا أخاف من طريق حياتي هذا المقفر.
. . . وعندما رجعت إلى بيتي كنت إنساناً جديداً
أقسم لك يا عزيزي لقد تغيرت نظرتي إلى الحياة. . . فقد تخيلتها إلى جنبي ملكاً حلالاً لي. . . أنا وحدي. . . أنا الذي قطعت حياتي في صحراء الوحدة. . . أنا الذي أذبل قلبي الحرمان والظمأ القاتل إلى الحنان. . . إلى الصدر العامر بحبي والإخلاص لي. إلى القلب الذي يضمد جراحي. . . إلى الروح التي تنشلني من الأوحال. . . دنياي المظلمة القاتمة المضطربة التي لا تستقر على قرار.
وبنيت في مخيلتي بيتي المنتظر. . . بيتاً بسيطاً لاثنين. . وتخيلتها إلى جنبي زهرة تمدني بالعطر، وتملأ حياتي حبوراً، وروحي قوة وحيوية، وترد لي سعادتي الضائعة مع الأوهام.
كانت الدنيا في عيني جميلة بهيجة، حتى لقد أسفت على عمر قضيت شطراً منه في عمى وجداني من غير شعور ببهجة الدنيا وجمالها. . . وشعرت بأن الناس يشاركونني أفراحي فقد رنت في أذني ضحكاتهم، وابتسامتهم الحلوة، وانطلاق أساريرهم، وولائل السعادة في محياهم. . . ووددت أن تكون معي لتشاركني بما أشعر به من سعادة.
. . . ووصلت إلى البيت فرأيت بطاقة من صديقي الضابط يقول: إنه سافر إلى الأسكندرية لعمل هام يتطلب منه أن يغيب عشرة أيام. . . أو أكثر.
ولم أعر الخبر شيئاً من اهتمام لعلمي بما تقتضيه الحياة العسكرية من تنقل فجائي. . . وفي أصيل اليوم ذاته سمعت أن (نادية) سافرت إلى (رأس البر) لقضاء أسبوع مع أقاربها. وقد تركت لي رسالة تخبرني بذلك.
وظللت حائراً أمام هذه المصادفة العجيبة. . . ورأيتني فجأة وحيداً إلا من وساوسي وخيالاتي، وأشواقي المضطرمة.
أنت تعرف - يا عزيزي - أن الوحدة لدى الإنسان العادي جحيم لا يطاق. . . فكيف بوحدة الإنسان الممتلئ بالظنون، المتأرجح في الأجواء، تتلاقفه الأهواء، وتستبد به الخيالات، ويحس بشوق إلى أكتناه حجب المستقبل.
لقد تعذبت كثيراً وتحطمت أعصابي تحب أعباء الظنون القاسية، وهزت نفسي هزات من القنوط، وصرت صريع دياجير من أفكاري وتصوراتي.
وأخيراً رجع صاحبي. . . ومعه زوجته
لست أعرف السر في إخفاء خبر زواجه عني أنا الصديق المقرب له.
وبعد يومين رجعت نادية. . . وفي مساء اليوم ذاته ألتقيت بها. . . وكانت معي (دبلة) تختفي في حياء إحدى زوايا جيوبي.
ولكن رأيتها صورة ثانية. . . كأنني لم أرها قبل عشر سنوات
ولمحت على وجهها اكتئاباً عميقاً، وفي عينيها شروداً وغموضاً، وفي اختلاج صورتها رنة من العبرات المحبوسة.
تكلمت في مواضيع مختلفة، ولكنها لم تتطرق إلى موضوع زواجنا. . . أنسيته أم تناسته، أم ندمت على ما قالته؟. . . لست أدري فقد بلغ الغيظ مني مبلغاً عظيماً وأحسست بأن الأرض من تحتي تتحول إلى رمال هشة، وتحاول أن تبلعني.
قلت لها:
- أنسيت ما عاهدتني عليه؟
أي عهد؟
- أي عهد؟! أنسيت أحلامنا وأمانينا؟
سكتت وشردت بصرها أثر النجوم التي تطل على عالمنا ساخرة كأنها تضحك من مآسينا.
ورأيتها تمسك يدي وتقول: فلان. . . أنت عزيز علي. . . إنني أشفق على حياتك أن تتحطم، وعلى روحك أن يعصف بها إعصار. . . لهذا فأنا لا أوافق على الخطبة!!
. . . عزيزي الأستاذ لقد حدثتك عن الأحلام التي كانت تعمر فكري. . . وعجبت من سرعة إزدهارها. لقد ذبلت اليوم بسرعة أيضاً. . . وها أنا أحس بقسوتها وضراوتها في فكري
قالت:
- أنت الآن في نظري صديق عزيز أثق بقلبه، وأطمئن إلى إنسانيته. . . لهذا سأقص عليك سراً كتمته عن جميع أصدقائي وأوثق الناس بي صلة. . . الماثلة أمامك فتاة تجرعت صاب الخديعة، ولقيت جزاء سذاجتها وبراءتها، وطيبة قلبها. . . لقد كنت أتصور الدنيا خالية إلا من الحب والطيبة فأوغلت في دروبها منقادة بانطلاقي حتى تعرفت على رجل! صورته ليالي سهادي ملاكاً يمثل القدسية على وجه الأرض، وانجرفت مع تيار تصوراتي إلى شاطئه، فأحببته من صميم قلبي، حباً جارفاً مجنوناً عاصفاً حتى رحت أهرع إلى صدره حين يستبد بي الضجر، وتزرع الدنيا بذور الأحزان في قلبي. . . لقد كنت أقرأ كثيراً مما يكتبه الفرنسيون المصابون بهستريا الحب، فأنصاع إلى آرائهم وأدخل في جنائن مخيلاتهم، وأهيم في الأودية التي تخلقها أفكارهم. . . وأمتص رحيق الحب المحرق من شفتي محبوبي!!. كان صاحبي يعدني بالزواج، ويمنيني بالأماني العذاب، ويطفئ ظمئي بالتعلات. . . ولكنني والحمد لله ما زلت محتفظة بجوهرتي الغالية على رغم إغرائه وتوسله، وخوري أمام قوته الجارفة!!
ولكن الأيام والليالي تسير مسرعة غير متوانية. . . وصاحبي صامت إلا من إحراق أزهار أحلامي، حتى رأيت حبه لي يتحول إلى فتور، وشوقه ينقلب إلى نفور، وأراني وحيدة إلا من حب يائس لم تصبه الأيام المضنية بوهن. . . تلك الأيام التي قضيتها في ظلال هجرانه لي، وتتكية عني، ونفوره مني.
وذات يوم سمعت أنه سافر إلى الإسكندرية للزواج من فتاة من أسرة محترمة. . . وتوهج الحب في قلبي، وانقلب إلى شواظ من نار. . . وقام في نفسي ميل شديد إلى الانتقام ممن سلبني قلبي، وربطني معه، ثم ولى هارباً إلى الوجهة التي ليست وجهتي. فسافرت إلى الإسكندرية، وعرفت البيت الذي سيظلل حبيبي، فذهبت إليه، ورأيت صاحبي مع عروسة يتألق ويفيض سعادة، وتشرق الابتسامة في فمه في الجهة المنيرة من الحياة كأنه نسي أن هناك قلباً يلهج بحبه، ويتعذب فيشقى في هوة سحيقة في الجهة المظلمة العابسة من الحياة. . . وأحسست بالعبرة تخنقني، وبكياني ينهار كأنه جدار خاو، وعدت أدراجي من البيت الذي سرق مصباح حياتي وتركني أهيم في الدجى وحدي. . . إنه نكث عهده، ولكنني ما زلت أحبه حباً عميقاً وأنا عارفة أنه سبب شقائي، ولكنني لن أتنكب عنه. . . أما أنت فلا أريدك تتعذب بسببي، ولا تتجرع كأس الأسى معي. . . وسأظل مخلصة لحبي اليائس حتى يضع الله حداً لحياتي التعسة.
وطفقت تبكي بدموع لم أتبين حقيقتها. . . ثم قالت: - أعرفته؟. . فأجبت: - لست غبياً إلى هذه الدرجة. . . وامتلأ صدري بالحقد على تلك العلائق التي تربط الإنسانية.
قلت: أتذكرين عندما التقينا ثاني مرة في هذا المقهى، وقلت: مالك ساهماً كأنك تفكر في المستحيل؟. . . لقد أردت أن أصرخ في وجهك: هذا حق. . . فأنا الآن في رحاب المستحيل. ذلك لأنني سمعت هاجساً يهجس بي أن حبك لي مستحيل. . . لأن القوة التي صاغت حياتي كانت قاسية كتبت عليّ أن أسير وحيداً في طريق عامر بالأشواك.
ومددت يدي في جيبي وأمسكت بالدبلة وحطمتها بين أصابعي بقوة. . . ثم رميت حطامها بعيداً. . . ومعها أحلام قلب محروم.
غائب طعمة فرمان
إلى صديقي الأستاذ أنور المعداوي أهدي هذه القصة).
عزيزي. . .
حين تصلك رسالتي أكون قد غادرت أرض الكنانة ميمماً شطر وطني. . . وبين جوانحي قلب مضطرب، ونفس مغممة بشتى الأحاسيس. . . قلب جريح تجرع كؤوس الأسى مترعة، ونفس عصفت بها رياح صارمة فخلفت أرض مصر زهوراً. ذابلة هي ذكريات ليال وأيام؛ ستظل رؤى مرة في فكري لا يطردها النور، وجذوة مستمرة في قلبي لا يخمدها تقاوم العهد، وتطاول الأيام.
كنت تسألني كثيراً والابتسامة على شفتيك عن سبب سكناي في مصر الجديدة، والشقة بعيدة بينها وبين جامعتي، فأقابل ابتسامتك بابتسامة، ويظل سؤالك من غير جواب.
وأراني الآن مدفوعاً بقوة صارمة صادرة من أعماقي إلى أن أقص عليك طرفاً من تاريخ قلبي، علك تشاركني آلامه، وأشجان دنياي.
لست أدري السر في أن الإنسان يستطيع أن يكتم كل شيء إلا الحب والبغض، حتى أصبح هذان الأمران محورين أساسيين للانسانية: الحب يبني، والبغض يهدم.
فلا جناح عليّ - إذن - في أن أقول لك: إنني أحببت. . . نعم أحببت حباً امتزج بدمي، وطوق روحي، وشغلني عن كل شيء، فظللت أهيم في زورقي، والأمل سد أقطار الحقيقة عني، ومنافذ النور عن بصيرتي، ورحت أدنو إلى الشاطئ الثاني، والضباب قائم من حولي، وفي أغواري الظلمة واليأس المرير.
إنني لأذكر أول لقاء لي بها في أحد تلك المقاهي المخضلة الأضواء وقد عرفني بها ضابط مصري عشت معه في دار واحدة زمناً طويلاً. . . وقد كانت شعلة من إغراء، وقد بدت لي صغيرة. . . صغيرة جداً حتى عبق في وجهي عطر الطفولة الآسر. . وكانت الابتسامة بين شفتيها كأنها تشجع القلب المحروم على أن يحب. . .
. . . فتاة في العشرين من عمرها أجمل ما فيها عيناها السوداوان المتألقتان كنجمتين في سماء غسلتها دموع الملائكة.
وقد تحدثنا كثيراً، وكان حديثها عذباً، حلو النبرات، وشعرت بأن عينيها تحدثاني فأنصت إلى الإيقاع الروحي الصادر من الأعماق. . . وبان لي إنها متذمرة كأنها تعيش في سجن، خائفة كأنها تتوقع شيئاً مؤلماً، وكانت ثقافتها الفرنسية ذات اثر عظيم على نفسها، بذرت فيها بذور الانطلاق، ونسجت حول مخيلتها العوالم تخلقها قصص الحب. . . والعاطفة الملتهبة.
ولما رجعت إلى بيتي لم أكن وحيداً. . . فقد كان خيالها لا يبرح مخيلتي، وما زلت أشم عطرها الآسر، وألمح ابتسامتها الجميلة. . . وكانت معي أحلامي المجنحة. . . يا عجباً أبهذه السرعة تنبت. . . فأشعر بظلالها تعمر فكري؟
ورحت أنتظر صديقي والنوم هجر أجفاني، والرؤى ملأت عالمي. . . ولما سمعت وقع أقدامه قفزت من فراشي، وطفقت أتطلع إلى شفتيه المنفرجتين عن ابتسامة ماكرة.
قال:
- أتعرف ماذا تقول عنك. . . إنك في نظرها طفل غرير. بالمكر المرأة يا صديقي. . . هل أحست بنظراتي تضرعاً، وباختلاج شفتي ظمأ لرحمة؟!
ثم قال: ولكنها تريد مقابلتك مرة ثانية.
فقفزت فرحاً كأنني أبرهن على صحة نظرها. . . وقلت:
رحماك يا صاح حدثني عنها. . . أقصص على أخبارها. . . أي نوع من النساء هي؟ فصاح صاحبي.
- يالك من طفل. . . أتعلقت بها من أول لقاء؟
لا. . . لا. . . لم أتعلق بها. . . ولكني أحس بظمأ يحرف روحي إلى أن التقي بها وأنظر إليها. وأتحدث معها. . . وأتملى سحر وجهها. . . وأتحدث إلى عينيها الساحرتين. . . وأغمر قلبي في وجهها العاطر.!!
وفي اليوم الثاني ذهبت إليها.
وجلسنا في أحد مقاهي مصر الجديدة، والأنوار في ألوانها المختلفة تخلق لنا في آفاق مخيلتنا عوالم غريبة. . . والجو الساجي يرهق أعصابنا، والنسيم المنبعث من وراء الأشجار الخضر نديُّ كأنه يداعب أحلامنا، ويشرق في عالمنا بأطياف جميلة. . . ومن خلف عالمنا السحري تتألق النجوم من بعيد كأنها أشباح لدينا مسحورة مختفية في ضمير الأبد.
جلست إليها وهي أمامي ساحرة مشرقة القسمات، وجفناها مسبلان بدلال على عينيها السوداوين، وأنا أرتشف من كؤوس نشوتي. . . ولاحت لي الأيام الماضية طلولا ينعق فيها غراب الوحدة، وتصرخ في جنباتها ريح اليأس المرير. . . وحرقت ذكرياتي كلها في نار وجدي، وهمت في الأجواء البعيدة التي تخلقها حواء. . . أنا المحروم من. . . العائش في ضباب، المسحور بتهاويل الأحلام.
وطال صمتنا ونطقت حواء أخيراً:
- ما بالك يا صاحبي ساهماً كأنك تفكر في المستحيل؟
ولمعت عيناها، ووقفت أمام سؤالها حائراً. . . وأردت أن أصرخ في وجهها:
- أقسم لك إنها هذا حق. . . فأنا في رحاب المستحيل.
ولكنني آثرت الصمت، وانطلقت من شفتي ابتسامة هاربة كأنها جواب مبهم.
قالت: - إن الشباب دائماً يفكر في المستحيل. . . أتخالفني بعيدة عن عالمك الغامض؟
- ولكن أية قوة قادتك إلى تلك الأبراج الشاهقة؟!
- القوة التي تدفع الشباب إلى المستحيل. . . ولكن لست أدري لم يهيم الشباب بالمستحيل؟
- لأنه كثير الآمال. . . وكل أمل يخبو يزيد حياته ظلمة، وينقلب في سفر أيامه إلى ذكرى إخفاق. . . مؤلم.
الآن بدأت أعرف لم يلف عمري سحاب من الأحزان. . . إن أشياء كثيرة تحزنني هي جراح أحلامي. . . إن عمري يذبل من غير غاية. . . فأنا الآن في العشرين من عمري ولم يتحقق حلمي الجميل.
وأشفقت على حلمها الجميل الذي لم يتحقق وشعرت بيد من حديد تصهر قلبي وأردت أن أقول لها.
أيتها الهائمة في الصحراء تفتشين عن حلمط الجميل. . . أيتها الفراشة التي أصلتها نار الحرمان، قلبي المحروم يناديك. . . أتسمعين نداءه؟. . إنه يدعوك إلى أن تتنكبي عن الماضي ومآسيه، وتدخلي في الجنة التي خلقتها عيناك له. . . جنة أحلامه وأمانيه.
وافترقنا على ميعاد. . . وظللنا ندلف إلى عرائش أحلامنا مدة طويلة.
وجئت إليها مرة وفي قلبي همس. . . قلت
- اسمعي يا (نادية) في ضميري سر يعذبني قد تكون اختلاجاتي نمت عليه. . . إنني أحبك!. . من أعماق نفسي، وإنك قد دخلت دائرة حياتي، ولا يمكنني أن أخرجك منها. ولا يمكنني أن أنساك. . . إن آلامك آلامي، وآمالك آمالي، وقلبي يدعوك إلى أن نسير جنباً إلى جنب في طريق الحياة.
فضغطت يدي وابتسمت عيناها. . . ثم شفتاها. . . وقالت:
كأنك تقرأ أفكاري. . . فأنا أخاف من طريق حياتي هذا المقفر.
. . . وعندما رجعت إلى بيتي كنت إنساناً جديداً
أقسم لك يا عزيزي لقد تغيرت نظرتي إلى الحياة. . . فقد تخيلتها إلى جنبي ملكاً حلالاً لي. . . أنا وحدي. . . أنا الذي قطعت حياتي في صحراء الوحدة. . . أنا الذي أذبل قلبي الحرمان والظمأ القاتل إلى الحنان. . . إلى الصدر العامر بحبي والإخلاص لي. إلى القلب الذي يضمد جراحي. . . إلى الروح التي تنشلني من الأوحال. . . دنياي المظلمة القاتمة المضطربة التي لا تستقر على قرار.
وبنيت في مخيلتي بيتي المنتظر. . . بيتاً بسيطاً لاثنين. . وتخيلتها إلى جنبي زهرة تمدني بالعطر، وتملأ حياتي حبوراً، وروحي قوة وحيوية، وترد لي سعادتي الضائعة مع الأوهام.
كانت الدنيا في عيني جميلة بهيجة، حتى لقد أسفت على عمر قضيت شطراً منه في عمى وجداني من غير شعور ببهجة الدنيا وجمالها. . . وشعرت بأن الناس يشاركونني أفراحي فقد رنت في أذني ضحكاتهم، وابتسامتهم الحلوة، وانطلاق أساريرهم، وولائل السعادة في محياهم. . . ووددت أن تكون معي لتشاركني بما أشعر به من سعادة.
. . . ووصلت إلى البيت فرأيت بطاقة من صديقي الضابط يقول: إنه سافر إلى الأسكندرية لعمل هام يتطلب منه أن يغيب عشرة أيام. . . أو أكثر.
ولم أعر الخبر شيئاً من اهتمام لعلمي بما تقتضيه الحياة العسكرية من تنقل فجائي. . . وفي أصيل اليوم ذاته سمعت أن (نادية) سافرت إلى (رأس البر) لقضاء أسبوع مع أقاربها. وقد تركت لي رسالة تخبرني بذلك.
وظللت حائراً أمام هذه المصادفة العجيبة. . . ورأيتني فجأة وحيداً إلا من وساوسي وخيالاتي، وأشواقي المضطرمة.
أنت تعرف - يا عزيزي - أن الوحدة لدى الإنسان العادي جحيم لا يطاق. . . فكيف بوحدة الإنسان الممتلئ بالظنون، المتأرجح في الأجواء، تتلاقفه الأهواء، وتستبد به الخيالات، ويحس بشوق إلى أكتناه حجب المستقبل.
لقد تعذبت كثيراً وتحطمت أعصابي تحب أعباء الظنون القاسية، وهزت نفسي هزات من القنوط، وصرت صريع دياجير من أفكاري وتصوراتي.
وأخيراً رجع صاحبي. . . ومعه زوجته
لست أعرف السر في إخفاء خبر زواجه عني أنا الصديق المقرب له.
وبعد يومين رجعت نادية. . . وفي مساء اليوم ذاته ألتقيت بها. . . وكانت معي (دبلة) تختفي في حياء إحدى زوايا جيوبي.
ولكن رأيتها صورة ثانية. . . كأنني لم أرها قبل عشر سنوات
ولمحت على وجهها اكتئاباً عميقاً، وفي عينيها شروداً وغموضاً، وفي اختلاج صورتها رنة من العبرات المحبوسة.
تكلمت في مواضيع مختلفة، ولكنها لم تتطرق إلى موضوع زواجنا. . . أنسيته أم تناسته، أم ندمت على ما قالته؟. . . لست أدري فقد بلغ الغيظ مني مبلغاً عظيماً وأحسست بأن الأرض من تحتي تتحول إلى رمال هشة، وتحاول أن تبلعني.
قلت لها:
- أنسيت ما عاهدتني عليه؟
أي عهد؟
- أي عهد؟! أنسيت أحلامنا وأمانينا؟
سكتت وشردت بصرها أثر النجوم التي تطل على عالمنا ساخرة كأنها تضحك من مآسينا.
ورأيتها تمسك يدي وتقول: فلان. . . أنت عزيز علي. . . إنني أشفق على حياتك أن تتحطم، وعلى روحك أن يعصف بها إعصار. . . لهذا فأنا لا أوافق على الخطبة!!
. . . عزيزي الأستاذ لقد حدثتك عن الأحلام التي كانت تعمر فكري. . . وعجبت من سرعة إزدهارها. لقد ذبلت اليوم بسرعة أيضاً. . . وها أنا أحس بقسوتها وضراوتها في فكري
قالت:
- أنت الآن في نظري صديق عزيز أثق بقلبه، وأطمئن إلى إنسانيته. . . لهذا سأقص عليك سراً كتمته عن جميع أصدقائي وأوثق الناس بي صلة. . . الماثلة أمامك فتاة تجرعت صاب الخديعة، ولقيت جزاء سذاجتها وبراءتها، وطيبة قلبها. . . لقد كنت أتصور الدنيا خالية إلا من الحب والطيبة فأوغلت في دروبها منقادة بانطلاقي حتى تعرفت على رجل! صورته ليالي سهادي ملاكاً يمثل القدسية على وجه الأرض، وانجرفت مع تيار تصوراتي إلى شاطئه، فأحببته من صميم قلبي، حباً جارفاً مجنوناً عاصفاً حتى رحت أهرع إلى صدره حين يستبد بي الضجر، وتزرع الدنيا بذور الأحزان في قلبي. . . لقد كنت أقرأ كثيراً مما يكتبه الفرنسيون المصابون بهستريا الحب، فأنصاع إلى آرائهم وأدخل في جنائن مخيلاتهم، وأهيم في الأودية التي تخلقها أفكارهم. . . وأمتص رحيق الحب المحرق من شفتي محبوبي!!. كان صاحبي يعدني بالزواج، ويمنيني بالأماني العذاب، ويطفئ ظمئي بالتعلات. . . ولكنني والحمد لله ما زلت محتفظة بجوهرتي الغالية على رغم إغرائه وتوسله، وخوري أمام قوته الجارفة!!
ولكن الأيام والليالي تسير مسرعة غير متوانية. . . وصاحبي صامت إلا من إحراق أزهار أحلامي، حتى رأيت حبه لي يتحول إلى فتور، وشوقه ينقلب إلى نفور، وأراني وحيدة إلا من حب يائس لم تصبه الأيام المضنية بوهن. . . تلك الأيام التي قضيتها في ظلال هجرانه لي، وتتكية عني، ونفوره مني.
وذات يوم سمعت أنه سافر إلى الإسكندرية للزواج من فتاة من أسرة محترمة. . . وتوهج الحب في قلبي، وانقلب إلى شواظ من نار. . . وقام في نفسي ميل شديد إلى الانتقام ممن سلبني قلبي، وربطني معه، ثم ولى هارباً إلى الوجهة التي ليست وجهتي. فسافرت إلى الإسكندرية، وعرفت البيت الذي سيظلل حبيبي، فذهبت إليه، ورأيت صاحبي مع عروسة يتألق ويفيض سعادة، وتشرق الابتسامة في فمه في الجهة المنيرة من الحياة كأنه نسي أن هناك قلباً يلهج بحبه، ويتعذب فيشقى في هوة سحيقة في الجهة المظلمة العابسة من الحياة. . . وأحسست بالعبرة تخنقني، وبكياني ينهار كأنه جدار خاو، وعدت أدراجي من البيت الذي سرق مصباح حياتي وتركني أهيم في الدجى وحدي. . . إنه نكث عهده، ولكنني ما زلت أحبه حباً عميقاً وأنا عارفة أنه سبب شقائي، ولكنني لن أتنكب عنه. . . أما أنت فلا أريدك تتعذب بسببي، ولا تتجرع كأس الأسى معي. . . وسأظل مخلصة لحبي اليائس حتى يضع الله حداً لحياتي التعسة.
وطفقت تبكي بدموع لم أتبين حقيقتها. . . ثم قالت: - أعرفته؟. . فأجبت: - لست غبياً إلى هذه الدرجة. . . وامتلأ صدري بالحقد على تلك العلائق التي تربط الإنسانية.
قلت: أتذكرين عندما التقينا ثاني مرة في هذا المقهى، وقلت: مالك ساهماً كأنك تفكر في المستحيل؟. . . لقد أردت أن أصرخ في وجهك: هذا حق. . . فأنا الآن في رحاب المستحيل. ذلك لأنني سمعت هاجساً يهجس بي أن حبك لي مستحيل. . . لأن القوة التي صاغت حياتي كانت قاسية كتبت عليّ أن أسير وحيداً في طريق عامر بالأشواك.
ومددت يدي في جيبي وأمسكت بالدبلة وحطمتها بين أصابعي بقوة. . . ثم رميت حطامها بعيداً. . . ومعها أحلام قلب محروم.
غائب طعمة فرمان