في الخامس من تشرين، كتبَ طاغيةُ نجدان إلى وزيره في الشعر، يأمره بأن يعتقل جميع الشعراء الموسوسين، في أرض نجدان الشاسعة، وبأن يبعثهم إليه، قبل رؤية السّماك. فكان أول شاعر اعتُقل، في تلك الفترة العصيبة، هو أبوحية النميري. فلما جيء به وهو يرسف في الأغلال، نظرَ إليه الطاغية مستغربا، ثم قال له:
- كنت أظنك سمينا ممتلئا = ولكنني أراك هزيلاً ضامراً...
فأجابه أبو حية:
- لستُ هزيلا يا صاحبَ نجدان، وإنما أنا نَحيفٌ ضَرْب، والقدماء يقولون رجُلٌ ضَرْب، أي خفيف اللحم، سريع الحركة. وقد قال طرفة بن العبد في معلقته:
أنا الرَّجُلُ الضَّرْبُ الذي تَعْرفونه = خَشاشٌ كرأس الحية المتوقِّدِ
قال الطاغية: :
- هذه رواية الأصمعي لبيت طرفة. أما ابن الأنباري فيروي ( أنا الرجُلُ الجَعْدُ الذي تَعرفونه)... والجَعْدُ من الرجال هو الخفيف...
ثم إنه سأله قائلا:
- يا أبا حية، اعلم أني أمرتُ باعتقالك لأنك رجل موسوس، ولأنك تتحدث كثيراً إلى الجن . وقد قال عنك أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، في كتاب البيان والتبيين: " وأما أبو حية النميري، فإنه كان أَجَنَّ من جُعَيفران الموسوس، وكان يَزعم أنه يُفاوضُ الجنّ... ولكنه كان أشعرَ الناس، وهو الذي يقول:
ألَا حَيِّ أطلالَ الرسوم البواليا = لبسْنَ البلى ممّا لبسْنَ اللياليا
فسكت أبوحية، كأنه يحاول أن يتذكرشيئا ما، ثم قال:
- لئن كان الجاحظ قد نَعَتني بالجنون، أيها الطاغية، فإنه وصفني بأنني أشعرُ الناس... فهذا بذاك، كما نقول في زمننا...
قال ابن علي:
- وكنتَ كذلك كثير الكذب. فهذا ابن قتيبة، يقول عنك في كتاب الشعر والشعراء: " كان أبو حية النميري كذاباً، وقد قال لجلسائه يوما (رميتُ - والله - ظبيةً بسهم، فلما نفذ السهمُ عن القوس، ذكرتُ بالظبية حبيبةً لي، فعدوتُ وراء السهم حتى أمسكتُه! )
فاعترض أبو حية على ذلك الكلام و قال:
- أيها الطاغية، أنا لم أقل " حتى أمسكته " بل قلتُ : " حتى قبضتُ على قُذَذه" ، أي على ريشه...
قال صاحب نجدان:
- فأنتَ تجادل إذن في الألفاظ لا في صحة الخبر...
ثم إن الطاغية سكتَ قليلا وبقي يتفرس في الشاعر، قبل أن يقول له:
- ولستَ موسوسا وكذابا فحسب، ولكنك رعديد جبان كذلك. وقد حكى عنك صاحبُ الشعر والشعراء أنه كان لك سيف ليس بينه وبين الخشبة فرْق، وكنتَ مع ذلك تطلق عليه اسما مخيفا...
ضحك أبو حية النميري بنوع من اللامبالاة، ثم قال:
- نعم، أذكرُ جيدا ذلك السيف... وقد كنتُ أسميه لُعاب المنية... وظننتُ يوما أن لصا دخلَ بيتي، فانتضيتُ لُعاب المنية ذاك، ووقفتُ أمام البيت وخاطبتُ اللص بقولي: " أيها المُغْتَرُّ بنا، المُجْتَرئُ علينا، بئس والله ما اخترتَ لنفسك، خيرٌ قليل وسيف صقيل، لُعاب المنية الذي سمعتَ به، مشهورة ضرْبَتُه ولا تُخاف نَبْوتُه، فاخرجْ بالعفو عنك، قبل أن أدخلَ بالعقوبة عليك..." ثم إني فتحتُ الباب فإذا كلب قد خرج فقلتُ: " الحمد لله الذي مسخك كلْباً وكفاني حرباً."
كان أبو حية يبدو صادقا تماما في حديثه، رغم اشتهاره بالكذب. ولما انتهى من حكايته تلك ، خاطبه الطاغية بقوله:
- و إني لأعجب كيف تكون أنتَ صاحب هذا البيت البديع، الذي تَذكره كتبُ التراث:
( ألا رُبَّ يوم لو رَمَتْني رميْتُها = و لكنَّ عَهْدي بالنضال قَديمُ )
ومعنى النضال في بيتك هذا يختلف عن معناه في زمننا نحن ...
قال أبوحية:
- النضال في زمننا نحن هو الرمي بالسهام.. فما الذي يعنيه يا تُرى في زمنكم أنتم، أيها الطاغية الهمام؟
فابتسمَ صاحب نجدان من كلام أبي حية، ثم قال له:
- سيتم تسييرك بعد قليل إلى سجن الكثيب. وستجد هناك سجناء يعرفون جيدا معنى النضال في زمننا نحن، فلا تتردد في سؤالهم عنه....
- كنت أظنك سمينا ممتلئا = ولكنني أراك هزيلاً ضامراً...
فأجابه أبو حية:
- لستُ هزيلا يا صاحبَ نجدان، وإنما أنا نَحيفٌ ضَرْب، والقدماء يقولون رجُلٌ ضَرْب، أي خفيف اللحم، سريع الحركة. وقد قال طرفة بن العبد في معلقته:
أنا الرَّجُلُ الضَّرْبُ الذي تَعْرفونه = خَشاشٌ كرأس الحية المتوقِّدِ
قال الطاغية: :
- هذه رواية الأصمعي لبيت طرفة. أما ابن الأنباري فيروي ( أنا الرجُلُ الجَعْدُ الذي تَعرفونه)... والجَعْدُ من الرجال هو الخفيف...
ثم إنه سأله قائلا:
- يا أبا حية، اعلم أني أمرتُ باعتقالك لأنك رجل موسوس، ولأنك تتحدث كثيراً إلى الجن . وقد قال عنك أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، في كتاب البيان والتبيين: " وأما أبو حية النميري، فإنه كان أَجَنَّ من جُعَيفران الموسوس، وكان يَزعم أنه يُفاوضُ الجنّ... ولكنه كان أشعرَ الناس، وهو الذي يقول:
ألَا حَيِّ أطلالَ الرسوم البواليا = لبسْنَ البلى ممّا لبسْنَ اللياليا
فسكت أبوحية، كأنه يحاول أن يتذكرشيئا ما، ثم قال:
- لئن كان الجاحظ قد نَعَتني بالجنون، أيها الطاغية، فإنه وصفني بأنني أشعرُ الناس... فهذا بذاك، كما نقول في زمننا...
قال ابن علي:
- وكنتَ كذلك كثير الكذب. فهذا ابن قتيبة، يقول عنك في كتاب الشعر والشعراء: " كان أبو حية النميري كذاباً، وقد قال لجلسائه يوما (رميتُ - والله - ظبيةً بسهم، فلما نفذ السهمُ عن القوس، ذكرتُ بالظبية حبيبةً لي، فعدوتُ وراء السهم حتى أمسكتُه! )
فاعترض أبو حية على ذلك الكلام و قال:
- أيها الطاغية، أنا لم أقل " حتى أمسكته " بل قلتُ : " حتى قبضتُ على قُذَذه" ، أي على ريشه...
قال صاحب نجدان:
- فأنتَ تجادل إذن في الألفاظ لا في صحة الخبر...
ثم إن الطاغية سكتَ قليلا وبقي يتفرس في الشاعر، قبل أن يقول له:
- ولستَ موسوسا وكذابا فحسب، ولكنك رعديد جبان كذلك. وقد حكى عنك صاحبُ الشعر والشعراء أنه كان لك سيف ليس بينه وبين الخشبة فرْق، وكنتَ مع ذلك تطلق عليه اسما مخيفا...
ضحك أبو حية النميري بنوع من اللامبالاة، ثم قال:
- نعم، أذكرُ جيدا ذلك السيف... وقد كنتُ أسميه لُعاب المنية... وظننتُ يوما أن لصا دخلَ بيتي، فانتضيتُ لُعاب المنية ذاك، ووقفتُ أمام البيت وخاطبتُ اللص بقولي: " أيها المُغْتَرُّ بنا، المُجْتَرئُ علينا، بئس والله ما اخترتَ لنفسك، خيرٌ قليل وسيف صقيل، لُعاب المنية الذي سمعتَ به، مشهورة ضرْبَتُه ولا تُخاف نَبْوتُه، فاخرجْ بالعفو عنك، قبل أن أدخلَ بالعقوبة عليك..." ثم إني فتحتُ الباب فإذا كلب قد خرج فقلتُ: " الحمد لله الذي مسخك كلْباً وكفاني حرباً."
كان أبو حية يبدو صادقا تماما في حديثه، رغم اشتهاره بالكذب. ولما انتهى من حكايته تلك ، خاطبه الطاغية بقوله:
- و إني لأعجب كيف تكون أنتَ صاحب هذا البيت البديع، الذي تَذكره كتبُ التراث:
( ألا رُبَّ يوم لو رَمَتْني رميْتُها = و لكنَّ عَهْدي بالنضال قَديمُ )
ومعنى النضال في بيتك هذا يختلف عن معناه في زمننا نحن ...
قال أبوحية:
- النضال في زمننا نحن هو الرمي بالسهام.. فما الذي يعنيه يا تُرى في زمنكم أنتم، أيها الطاغية الهمام؟
فابتسمَ صاحب نجدان من كلام أبي حية، ثم قال له:
- سيتم تسييرك بعد قليل إلى سجن الكثيب. وستجد هناك سجناء يعرفون جيدا معنى النضال في زمننا نحن، فلا تتردد في سؤالهم عنه....