من الحارث بن سعيد بن حمدان بن حمدون، المعروف بأبي فراس الحمداني إلى صاحب نجدان
السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد
فقد بلغَتْني عنك أشياء أنكرْتُها أعظمَ الإنكار. منها أنك لا تتعبُ من بناء السجون في نجدان، وأنك ترمي فيها كلَّ من لا يَذهبُ مذهبكَ في العَروض والأوزان. ثم تزعم - ويا للعجب - أن في ذلك خيراً للبلاد وصلاحا للعباد! وأخبرَني من أثقُ به أنك ألقيتَ برجال كرام في سجن الكثيب، مع أنهم كانوا من خُلصائك بالأمس القريب، وكانوا يملأون مجلسك بالفوائد، ويروون لك الأخبار والقصائد، ويتحفونك بالدرر والقلائد. وسمعتُ أيضاً أنك لم تقنعْ بما أنزلتَ بهم من العقاب، فصرتَ تتوعدهم بضرب الرقاب.
ومما ساءني كذلك أنك كلما خطبتَ في أهل نجدان، كلْتَ الشتائمَ لبني حمْدان. كما أنك حظرتَ على معلمي المدارس أن يذكروا اسم أبي فراس الحمداني بين الشعراء، وفرضتَ عليهم أن يَحفظوا ما كان يهذي به ( دعيُّ كنْدَة)، المعروف عندكم بالمتنبي. مع أن معظم العارفين بالشعر يرون أن شعري أقرب إلى النفوس من شعر ذلك الدعيّ، وإن كنتُ أصغره بسبع عشرة سنة. إذْ كانت ولادتي أنا بمنبج، سنة 320 للهجرة، في حين كانت ولادته هو بالكوفة سنة 303 للهجرة. وقُتلتُ، أيها الطاغية، قرب حمص، سنة 357 للهجرة، وعمري لا يتجاوز سبعة وثلاثين عاما، بينما قُتل هو في دير العاقول، وعمره خمسون سنة بالتمام والكمال...
وقد كان موتي كما تمنيتُه دائما أن يكون: على صهوات الخيل، دون فراش أو وسادة. أوَ لستُ أنا القائل:
ولكنني أختارُ موتَ بني أبي = على صهوات الخيل غيرَ مُوَسَّد
ثم ألستُ أنا القائل:
وقد علمَتْ أمي بأنَّ منيّتي = بحدِّ سنان أو بحَدِّ قضيب
ووالدي أيضا قُتل بحد السيف، قتله غيلة ً ابنُ أخيه ناصر الدولة، وأنا يومئذ طفل صغير، في الثالثة من العمر. وهكذا نشأتُ في حضن ابن عمي سيف الدولة الحمداني، الذي أنزلني منزلة ابنه، وفي ذلك أقول متحدثا عنه:
ورَبّاني فَفُقْتُ به البرايا = و أنْشَأني ففُقْتُ به الأناما
وقد قلدني هذا الأمير الشجاع ولاية َ منبج، وأنا يومئذ فتى يافع، فكنتُ في مواجهة مستمرة مع جيوش الروم، وكذلك مع قبائل البدو، المتمردة باستمرار. ثم كان ما كان من وقوعي أسيرا في أيدي الروم، بعد أن أصابني سهم في فخذي، فاقتادني النصارى " الغُلْف" - أي غير المختونين - إلى خرشنة، ثم إلى القسطنطينية، فكانت تلك بداية محنة حقيقية، دامت عدة سنوات. وقد تباطأ سيف الدولة في افتدائي، لأسباب تحدث عنها المؤرخون بالكثير من التفصيل.
وفي سجن الروم، نظمتُ أجمل قصائدي، وهي القصائد التي صارت تُعرف ب( الروميات)، والتي منعتَ تدريسَها في نجدان. فمنها داليتي على الطويل، التي أقول فيها مخاطبا سيف الدولة:
أناديكَ لا أنّي أخاف من الردى = و لا أرتجي تأخيرَ يوم إلى غد
ولكنْ أنفْتُ الموتَ في دار غربة = بأيْدي النصارى الغُلْف ميتةَ أكْمَدِ
وإنك لَلمولى الذي بك أقتدي = و إنك لَلنجمُ الذي بك أهتدي
وأنتَ الذي بلَّغْتَني كلَّ رتْبة = مشيتُ إليها فوق أعناق حُسَّدي
وكان ملك الروم قد قبَل الإفراجَ عني، على أن يقوم سيف الدولة بإطلاق ابن أخت هذا الملك، غير أن أميرَ حلب لم يستجب لذلك، فبعثت إليه قصيدة طويلة، أقول فيها:
بمَنْ يثق الإنسانُ فيما ينُوبُهُ = ومنْ أين للحر الكريم صحابُ؟
ومنها:
وأبْطَأ عني والمنايا سريعة = وللموتِ ظفرٌ قد أطلَّ ونابُ
فليتَكَ تَحْلو والحياةُ مريرةٌ = وليتك ترضى والأنام غضابُ
ومن رومياتي كذلك، تلك اللامية في عتاب سيف الدولة:
يا ناعمَ الثوب ، كيف تُبْدلُهُ = ثيابُنا الصوفُ ما نُبَدِّلُها
يا راكبَ الخيل لوْ بَصُرْتَ بنا = نَحمل أقْيادَنا و نَنْقُلُها
رأيتَ في الضّرّ أوجهاً كرُمَتْ = فارقَ فيك الجمالَ أجملُها
قدْ أثَّر الدهرُ في محاسنها = تَعْرفُها تارةً و تَجْهَلُها
ومن قصائدي المشهورة أيضا قصيدة ( أراك عصيّ الدمع) التي غنَّتْها أم كلثوم.
وقد بلغني - أيها الطاغية- أن سجناءك بالكثيب لا يكفون عن قراءة رومياتي في زنازينهم، رغم تخويفك وترهيبك لهم. وإنني أستعجلك كي تطلق سراحهم ، قبل أن يأتيك بنو حمدان بجيوش لا قبَل لك بها، والسلام.
السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد
فقد بلغَتْني عنك أشياء أنكرْتُها أعظمَ الإنكار. منها أنك لا تتعبُ من بناء السجون في نجدان، وأنك ترمي فيها كلَّ من لا يَذهبُ مذهبكَ في العَروض والأوزان. ثم تزعم - ويا للعجب - أن في ذلك خيراً للبلاد وصلاحا للعباد! وأخبرَني من أثقُ به أنك ألقيتَ برجال كرام في سجن الكثيب، مع أنهم كانوا من خُلصائك بالأمس القريب، وكانوا يملأون مجلسك بالفوائد، ويروون لك الأخبار والقصائد، ويتحفونك بالدرر والقلائد. وسمعتُ أيضاً أنك لم تقنعْ بما أنزلتَ بهم من العقاب، فصرتَ تتوعدهم بضرب الرقاب.
ومما ساءني كذلك أنك كلما خطبتَ في أهل نجدان، كلْتَ الشتائمَ لبني حمْدان. كما أنك حظرتَ على معلمي المدارس أن يذكروا اسم أبي فراس الحمداني بين الشعراء، وفرضتَ عليهم أن يَحفظوا ما كان يهذي به ( دعيُّ كنْدَة)، المعروف عندكم بالمتنبي. مع أن معظم العارفين بالشعر يرون أن شعري أقرب إلى النفوس من شعر ذلك الدعيّ، وإن كنتُ أصغره بسبع عشرة سنة. إذْ كانت ولادتي أنا بمنبج، سنة 320 للهجرة، في حين كانت ولادته هو بالكوفة سنة 303 للهجرة. وقُتلتُ، أيها الطاغية، قرب حمص، سنة 357 للهجرة، وعمري لا يتجاوز سبعة وثلاثين عاما، بينما قُتل هو في دير العاقول، وعمره خمسون سنة بالتمام والكمال...
وقد كان موتي كما تمنيتُه دائما أن يكون: على صهوات الخيل، دون فراش أو وسادة. أوَ لستُ أنا القائل:
ولكنني أختارُ موتَ بني أبي = على صهوات الخيل غيرَ مُوَسَّد
ثم ألستُ أنا القائل:
وقد علمَتْ أمي بأنَّ منيّتي = بحدِّ سنان أو بحَدِّ قضيب
ووالدي أيضا قُتل بحد السيف، قتله غيلة ً ابنُ أخيه ناصر الدولة، وأنا يومئذ طفل صغير، في الثالثة من العمر. وهكذا نشأتُ في حضن ابن عمي سيف الدولة الحمداني، الذي أنزلني منزلة ابنه، وفي ذلك أقول متحدثا عنه:
ورَبّاني فَفُقْتُ به البرايا = و أنْشَأني ففُقْتُ به الأناما
وقد قلدني هذا الأمير الشجاع ولاية َ منبج، وأنا يومئذ فتى يافع، فكنتُ في مواجهة مستمرة مع جيوش الروم، وكذلك مع قبائل البدو، المتمردة باستمرار. ثم كان ما كان من وقوعي أسيرا في أيدي الروم، بعد أن أصابني سهم في فخذي، فاقتادني النصارى " الغُلْف" - أي غير المختونين - إلى خرشنة، ثم إلى القسطنطينية، فكانت تلك بداية محنة حقيقية، دامت عدة سنوات. وقد تباطأ سيف الدولة في افتدائي، لأسباب تحدث عنها المؤرخون بالكثير من التفصيل.
وفي سجن الروم، نظمتُ أجمل قصائدي، وهي القصائد التي صارت تُعرف ب( الروميات)، والتي منعتَ تدريسَها في نجدان. فمنها داليتي على الطويل، التي أقول فيها مخاطبا سيف الدولة:
أناديكَ لا أنّي أخاف من الردى = و لا أرتجي تأخيرَ يوم إلى غد
ولكنْ أنفْتُ الموتَ في دار غربة = بأيْدي النصارى الغُلْف ميتةَ أكْمَدِ
وإنك لَلمولى الذي بك أقتدي = و إنك لَلنجمُ الذي بك أهتدي
وأنتَ الذي بلَّغْتَني كلَّ رتْبة = مشيتُ إليها فوق أعناق حُسَّدي
وكان ملك الروم قد قبَل الإفراجَ عني، على أن يقوم سيف الدولة بإطلاق ابن أخت هذا الملك، غير أن أميرَ حلب لم يستجب لذلك، فبعثت إليه قصيدة طويلة، أقول فيها:
بمَنْ يثق الإنسانُ فيما ينُوبُهُ = ومنْ أين للحر الكريم صحابُ؟
ومنها:
وأبْطَأ عني والمنايا سريعة = وللموتِ ظفرٌ قد أطلَّ ونابُ
فليتَكَ تَحْلو والحياةُ مريرةٌ = وليتك ترضى والأنام غضابُ
ومن رومياتي كذلك، تلك اللامية في عتاب سيف الدولة:
يا ناعمَ الثوب ، كيف تُبْدلُهُ = ثيابُنا الصوفُ ما نُبَدِّلُها
يا راكبَ الخيل لوْ بَصُرْتَ بنا = نَحمل أقْيادَنا و نَنْقُلُها
رأيتَ في الضّرّ أوجهاً كرُمَتْ = فارقَ فيك الجمالَ أجملُها
قدْ أثَّر الدهرُ في محاسنها = تَعْرفُها تارةً و تَجْهَلُها
ومن قصائدي المشهورة أيضا قصيدة ( أراك عصيّ الدمع) التي غنَّتْها أم كلثوم.
وقد بلغني - أيها الطاغية- أن سجناءك بالكثيب لا يكفون عن قراءة رومياتي في زنازينهم، رغم تخويفك وترهيبك لهم. وإنني أستعجلك كي تطلق سراحهم ، قبل أن يأتيك بنو حمدان بجيوش لا قبَل لك بها، والسلام.