حسن العاصي - منطق بلا منطق

ماذا يحدث إذا ما انقلبت المقاييس فجأة , فتحررت الحيوانات المسجونة في أقفاصها الباردة لتفسح المجال أمام الإنسان , لتحل الحدائق الخاصة به وبأجناسه محل " حديقة الحيوانات " يأتي المتفرجون إليها ليرموا إلى القاطنين الجدد بحبات الفستق وقشر الموز والأرغفة اليابسة .
رؤية سريالية طريفة لمعت في ذهني ذات يوم حين كنت أمثل دور السائح في حديقة الحيوان الضخمة بعاصمة دولة قريبة من مكان إقامتي , فور دخولي إليها تحاصرني أصوات الحيوانات في الأقفاص .
لا تستغربوا كثيرا , فعلماء اللغة ويشاطرهم الرأي النفسانيين والألسنيون يؤكدون حقيقة أن الإنسان حيوان ناطق , رغم شيوع هذه الفكرة إلا أني أرى أن الإنسان حيوان مثل باقي الحيوانات , وهو مختلف عن الأرنب مثلما تختلف البطة عن الفيل كاختلاف الجمل عن الذئب , لكنه قطعا لا يتميز عن سائر الحيوانات بالنطق , ذلك لأن كل الحيوانات ناطقة ولا يعني عدم فهمنا وإدراكنا لما تقوله أنها غير ناطقة , فالذئب حين يعوي يقول شيئا يفهمه باقي القطيع , وكذلك سائر حيوانات الله .
وأنا هنا لا أدعي أنني عبقري لغات غير أني لست مقتنعا بأن النطق شيء يتميز به ابن آدم عن سائر المخلوقات , والحقيقة أن لهذه القناعة أسبابا منها أننا أصبحنا كالقردة لا نرى ولا نسمع ولا نتكلم , بل ابتدعنا قردا رابعا لا يتحرك وقردا خامسا لا يحس ولا يشعر وسادسا لا يستفز , والحبل على الجرار .
نلتفت حولنا فنجد أطفالا يأكل الذباب عيونهم , يذهبون إلى المدارس نصف جائعين ونصف عراة , تتلقفهم أسواق العمالة الرخيصة وهم في سن اللعب والتشكل , لدى المراهقة يشيخون ويبتلعهم الزحام في عصر العولمة , ولا نسمع صوتا لأحد ينطق .
جيلا كاملا في العالم العربي يعيش فراغا مريرا , فراغا في الأيديولوجيا , فراغا في القيم , فراغا في الفكر , فراغا في تقاليد الحرية , فراغا نمى واتسع حتى احتل ضمائرنا , ولا من ينطق .
مكابدة المواطن العربي لتبعات الجوع والفقر وضنك الحياة والتهميش ونسب الأمية المرتفعة , وضعف الرعاية الصحية والاجتماعية وازدياد التفاوت الطبقي والحضري بين أبناء القطر الواحد , ويزداد الوضع سوءا حين تغيب الحريات العامة وتغيب الديمقراطية السياسية والاجتماعية في مؤسسات المجتمع العربي , وتسود قوانين الطوارئ باسم الدفاع عن الأوطان , ويمارس القمع والإرهاب وتكميم الأفواه واغتيال الكلمة الجريئة , ويتحول العلام إلى أداة لتمجيد النظام , ولا نرى أحدا يحرك ساكنا ولا نسمع نطقا .
شعب كامل في فلسطين يذبح بيد أبناء مجتمع مريض يصفق لمثال شارون وينتخبه زعيما بصورة ديمقراطية , فيما قياداتنا أسكرتها نشوة المناصب والامتيازات وتتجرأ بمد يدها إلى جلا دها , وتساوم على دماء الشهداء , والصمت هو العنوان .
أمة عربية تعيش حالة الهزيمة الشاملة وأوطان تصادر وتسرق , عجز رسمي عربي لم تعد تغطيه لا ورقة التوت ولاحتى إبرة صنوبر تخزه , وعجز غير مبرر من القوى الشعبية ومن الأحزاب العربية المكثرة من المؤتمرات والبيانات دون أي فعل حقيقي يحشر الأنظمة في ركن الحقيقة , بينما المرجعيات السياسية العربية ما تزال تغمض أعينها عن الحقائق , بعضها يكابر وبعضها يتآمر , ولا أحدا ينطق .
ومن هنا وهناك تتداعى الأعمدة ويكبر الحطام , ولا أحدا يجرؤ على الأنين , فقد سلمنا بأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا , فهانت علينا انهياراتنا وهزائمنا , وبتنا لا نسأله رد القضاء بل اللطف فيه .
ولما كان ذاك غير ذلك , فالإنسان لا يتميز عن الحيوان بالنطق , لكن يا ترى هل يتميز عنه بالكتابة ؟ سؤال وجيه , وهل نستطيع القول أن الإنسان حيوان يكتب ؟ أنا شخصيا أعرف حيوانات كثيرة امتهنت الكتابة .
أمام هذه اللوحة السريالية تذكرت هواجس صديق لي فوجئت به ذات يوم شاحب الوجه أمام دكان لبيع الدجاج المشوي , بدون طول مقدمات بدأ يشرح لي أسباب اضطرابه الخيالي الذي جعله يتصور نقمة الفراريج على البشر وهم يشاهدون الناس تقبل على التهام الطيور المسكينة دون شفقة أو رحمة , واستبدت الهواجس بصديقي إلى درجة أنه تخيل تلك الدجاجات التي تنتظر دورها في القفص لتزين الشواية بعد حين بلونها البرونزي الشهي , وقد شقت عصا الطاعة فغادرت القفص وانهالت علينا نقرا بمناقيرها الحادة انتقاما لما يفعله البشر بأبناء جلدتها منذ الأزل .
وعبثا حاولت إقناع صديقي بهشاشة هواجسه , وذكرته بصديق آخر لنا يعشق أكل الدجاج المشوي كل مساء , ولو أن الدجاج كان قادرا على الانتقام لكان هو خصمها الأول ما غيره , والذي ما يزال رغم فتكه بدجاج العالم , حيا يأكل الدجاج كل ليلة .
غير أن صاحبي مقتنع بفداحة ما ارتكبته أسنانه في حق الدجاج المسكين , لذلك قرر التوبة لعله يكًفر عن جرائمه السابقة بحق الدجاج , هذه التوبة أوصلته إلى فلسفة مفادها أن الحيوانات مخلوقات أرقى من البشر , ودعًم رأيه وموقفه بالحجج والبراهين فقال : دلني على حيوان غزا أرض حيوان آخر فطرده , دلني على حيوان لا يدير ظهره للطعام عندما يشبع , بل أين هو الحيوان الذي يستأثر بمؤونة رفاقه ولا يقيم لوجودهم وزنا , ثم استطرد في التعداد .
دون أن يدري , ينتهي صديقي إلى حيث كنت قد بدأت , فيتصور انقلابا في المقاييس آت لا محالة , ذلك أن الحيوانات لن تحتمل هذه الإجحاف الذي يصيبها من وحشية البشر , لذلك فإنها ستتمرد عاجلا أم آجلا , لتنتقم لنفسها وتضع الإنسان في أقفاص باردة وتحشره فيها , ثم تأتى لتتفرج عليه وهي ترتدي النظارات وربطات العنق , وتحمل الكاميرات وتطلق ضحكات فرحة .
غدا إذا ما وقفت مسرورا أمام أحد الأقفاص في أي حديقة حيوان , تذكر جيدا أن المقاييس قد تنقلب فجأة , وتذكر أن أناس كثيرون في هذا العالم لا يختلفون عن المخلوقات التي نتفرج عليها , إذ أنهم حولوا بجنونهم وقسوتهم أماكن كثيرة في هذا العالم إلى حديقة حيوانات .
فماذا لو أننا نخجل قليلا .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى