السلام عليك ورحمة الله تعالى وبعد،
أنا الخَيْتَعور، وكُنْيتي أبو هَدْرَش، من بني الشّيْصَبان، من سلالة الجن الذين كانوا يَسكنون الأرض قبل وَلَد آدم عليه السلام. وقد تحدث المعري - في رسالة الغفران - عن لقائي بالشيخ ابنِ القارح، وذلك في جنة العفاريت، حيث يوجد الجن المؤمنون، الذين ذُكروا في ( الأحقاف) وفي ( سورة الجن)، وهم خَلْقٌ كثير. وكما ذكرَ شيخُ المعرة، فإن عفاريت الجنة يقيمون في مدائن ليست كباقي مدائن الجنة، ولا عليها النور الشّعْشَعاني.
واعلمْ، أيها الطاغية، أني دخلتُ الجنة بإيماني. وكنتُ - قبل أن يمنّ عليّ الله بالإيمان - أتصور في أية صورة شئت، لأصرعَ فتيات الإنس. إذْ أظهرُ في صورة حية رقشاء أو عَضَل - أي جُرَذ - ثم أصير ريحاً هفّافة أو غير ذلك. وقد لقيتُ من بني آدم شرّاً ولَقوا مني كذلك. ولم أزل على عداوتي لهم حتى رزقَ اللهُ الإنابة َ. فلما تاب عليّ، امتنعتُ عن تلك الأفعال. ولي أشعار كثيرة، روى أبو العلاء المعري قسماً منها في رسالة الغفران.فمنها رائية على البسيط، أصفُ فيها كيف كنتُ أملأ قلوب المخلوقات بالرعب:
و لا أمرُّ بوحشيٍّ و لا بَشَرٍ = إلّا و غادرْتُهُ ولْهانَ مذعورا
فتارةً أنا صلٌّ في نَكارَته = و ربما أبصَرَتْني العينُ عُصْفُورا
ولم أكن أميز بين هذا الجنس وذاك، بل كنتُ أتربص بمختلف الأجناس من زنج وروم وتُرْك وسقْلاب وغُور:
أرَوّعُ الزنجَ إلماماً بنسْوَتها = و الرومَ و التركَ و السّقْلابَ و الغُورا
وأذكر في قصيدتي هذه أني موجود منذ القدَم، وأني عاصرتُ طوفانَ نوح:
و طرتُ في زمن الطوفان معتلياً = في الجَوِّ حتى رأيتُ الماءَ محسورا
أما عن توبتي وفوزي بنعيم الخلد فأقول:
ثم اتّعَظتُ و صارتْ توبتي مثلاً = منْ بعْد ما عشْتُ بالعصيان مشهورا
أماتَني اللهُ شيئاً ثم أيقظني = لمَبْعَثي فرُزقْتُ الخلْدَ مبرورا
ولي كذلك - أيها الطاغية - قصيدة سينية على السريع، أورَدَها شيخُ المعرة كاملة في رسالته. وأنا أصف في مطلعها كيف أقْوَتْ مكة ( أي فرغَتْ وأقفرَتْ، كما لا يخفى عليك )، في زمن النبوة، من بني الدردبيس، أي من الجنّ، فلم يعد يُسمع لهم فيها صوت أو حسٌّ:
مكّة ُ أقْوَتْ منْ بني الدّرْدَبيسْ = فما لجنيٍّ بها منْ حَسيسْ
وفي هذه السينية، أصف ما كنا نقوم به - نحن الجِنّة -من أفعال الشر، قبل أن يمنّ الله علينا بالإيمان، بعد البعثة. فقد كنا، في زمن الجاهلية، نركب خيلاً لها أجنحة:
تَحملنا في الليل خيلٌ لها = أجنحةٌ ، ليستْ كخيل الأنيسْ
ولم نكن نفرق بين أيام الأسبوع ، لأننا لم نكن نؤمن بما يوجب ذلك :
فالأحَدُ الأعظمُ و السبْتُ كالْ = إثْنَين و الجُمْعَةُ مثل الخميسْ
لا مُجُسٌ نحْن و لا هُوَّدٌ = و لا نصارى يَبْتَغون الكَنيسْ
ثم أحكي في هذه القصيدة السينية الطويلة، كيف آمنْتُ بعد ذلك وكيف جاهدتُ في بدْر وحاميتُ في أحُد وفي الخندق، وامتنعتُ عن التعرض بالأذى لفتيات الإنس، فلم تعد تخشاني العانس ولا الكعاب ولا من اسمها زينب ولا من تُدعى لميس:
فلمْ تَهَبْني حرّةٌ عانسٌ = و لا كَعابٌ ذاتُ حسْنٍ رسيسْ
و أيقنَتْ زينبُ مني التُّقى = و لم تخفْ منْ سَطَواتي لَميسْ
و قلتُ للجنّ : ألَا يا اسجدوا = لله و انقادوا انقيادَ الخسيسْ
وعلى أية حال، فللجنّ أشعار كثيرة. وقد زعمَ الإنسي المعروف بالمرزباني أنه جمعَ من أشعارنا قطعة صالحة، وإنما ذلك ضرب من الهذيان، لا معتمَد عليه، كما قلتُ للشيخ ابن القارح في رسالة الغفران. وهل يعرف البشرُ من الشعر إلا كما تعرف البقرُ من علم الهيئة ومساحة الأرض؟ وأنتم، معاشر الإنس، حين تُدرككم حُرفةُ الأدب، تنظمون الشعر على خمسة عشر بحراً، لا يَعْدوها أحد منكم. أما نحن فلنا آلاف الأوزان التي ما سمعتم بها قط. ولقد نظمتُ أنا الرجزَ والقصيد قبل أن يَخلق الله آدم بكَوْرٍ أو كَوْرَين.
كما أننا نحفظ من الأشعار ما لا تستطيعون حفظه. لأننا لسنا مثلكم، يغلب علينا النسيان والرطوبة. فأنتم خلقتم من حمإ مسنون، وخُلقنا نحن من مارج من نار. وليس عندنا عرَبٌ لا يفهمون عن الروم ورُوم لا يفهمون عن العرب، كما نجد في أجيال الإنس، لأننا نحن أهل ذكاء وفطَن، ولا بد لأحدنا أن يكون عارفا بجميع الألسُن الإنسية. ولنا بعد ذلك لسان لا يفهمه الأنيس.
واعلم أيها الطاغية، في الختام، أني ارتأيتُ مكاتبتَك بعد أن بلغني أنك عازم على اعتقال جماعة من شعراء الجن، وتسييرهم إلى سجن الكثيب، فإن رأيتَ أن تعدل عن قرارك هذا فعلتَ إن شاء الله.
أنا الخَيْتَعور، وكُنْيتي أبو هَدْرَش، من بني الشّيْصَبان، من سلالة الجن الذين كانوا يَسكنون الأرض قبل وَلَد آدم عليه السلام. وقد تحدث المعري - في رسالة الغفران - عن لقائي بالشيخ ابنِ القارح، وذلك في جنة العفاريت، حيث يوجد الجن المؤمنون، الذين ذُكروا في ( الأحقاف) وفي ( سورة الجن)، وهم خَلْقٌ كثير. وكما ذكرَ شيخُ المعرة، فإن عفاريت الجنة يقيمون في مدائن ليست كباقي مدائن الجنة، ولا عليها النور الشّعْشَعاني.
واعلمْ، أيها الطاغية، أني دخلتُ الجنة بإيماني. وكنتُ - قبل أن يمنّ عليّ الله بالإيمان - أتصور في أية صورة شئت، لأصرعَ فتيات الإنس. إذْ أظهرُ في صورة حية رقشاء أو عَضَل - أي جُرَذ - ثم أصير ريحاً هفّافة أو غير ذلك. وقد لقيتُ من بني آدم شرّاً ولَقوا مني كذلك. ولم أزل على عداوتي لهم حتى رزقَ اللهُ الإنابة َ. فلما تاب عليّ، امتنعتُ عن تلك الأفعال. ولي أشعار كثيرة، روى أبو العلاء المعري قسماً منها في رسالة الغفران.فمنها رائية على البسيط، أصفُ فيها كيف كنتُ أملأ قلوب المخلوقات بالرعب:
و لا أمرُّ بوحشيٍّ و لا بَشَرٍ = إلّا و غادرْتُهُ ولْهانَ مذعورا
فتارةً أنا صلٌّ في نَكارَته = و ربما أبصَرَتْني العينُ عُصْفُورا
ولم أكن أميز بين هذا الجنس وذاك، بل كنتُ أتربص بمختلف الأجناس من زنج وروم وتُرْك وسقْلاب وغُور:
أرَوّعُ الزنجَ إلماماً بنسْوَتها = و الرومَ و التركَ و السّقْلابَ و الغُورا
وأذكر في قصيدتي هذه أني موجود منذ القدَم، وأني عاصرتُ طوفانَ نوح:
و طرتُ في زمن الطوفان معتلياً = في الجَوِّ حتى رأيتُ الماءَ محسورا
أما عن توبتي وفوزي بنعيم الخلد فأقول:
ثم اتّعَظتُ و صارتْ توبتي مثلاً = منْ بعْد ما عشْتُ بالعصيان مشهورا
أماتَني اللهُ شيئاً ثم أيقظني = لمَبْعَثي فرُزقْتُ الخلْدَ مبرورا
ولي كذلك - أيها الطاغية - قصيدة سينية على السريع، أورَدَها شيخُ المعرة كاملة في رسالته. وأنا أصف في مطلعها كيف أقْوَتْ مكة ( أي فرغَتْ وأقفرَتْ، كما لا يخفى عليك )، في زمن النبوة، من بني الدردبيس، أي من الجنّ، فلم يعد يُسمع لهم فيها صوت أو حسٌّ:
مكّة ُ أقْوَتْ منْ بني الدّرْدَبيسْ = فما لجنيٍّ بها منْ حَسيسْ
وفي هذه السينية، أصف ما كنا نقوم به - نحن الجِنّة -من أفعال الشر، قبل أن يمنّ الله علينا بالإيمان، بعد البعثة. فقد كنا، في زمن الجاهلية، نركب خيلاً لها أجنحة:
تَحملنا في الليل خيلٌ لها = أجنحةٌ ، ليستْ كخيل الأنيسْ
ولم نكن نفرق بين أيام الأسبوع ، لأننا لم نكن نؤمن بما يوجب ذلك :
فالأحَدُ الأعظمُ و السبْتُ كالْ = إثْنَين و الجُمْعَةُ مثل الخميسْ
لا مُجُسٌ نحْن و لا هُوَّدٌ = و لا نصارى يَبْتَغون الكَنيسْ
ثم أحكي في هذه القصيدة السينية الطويلة، كيف آمنْتُ بعد ذلك وكيف جاهدتُ في بدْر وحاميتُ في أحُد وفي الخندق، وامتنعتُ عن التعرض بالأذى لفتيات الإنس، فلم تعد تخشاني العانس ولا الكعاب ولا من اسمها زينب ولا من تُدعى لميس:
فلمْ تَهَبْني حرّةٌ عانسٌ = و لا كَعابٌ ذاتُ حسْنٍ رسيسْ
و أيقنَتْ زينبُ مني التُّقى = و لم تخفْ منْ سَطَواتي لَميسْ
و قلتُ للجنّ : ألَا يا اسجدوا = لله و انقادوا انقيادَ الخسيسْ
وعلى أية حال، فللجنّ أشعار كثيرة. وقد زعمَ الإنسي المعروف بالمرزباني أنه جمعَ من أشعارنا قطعة صالحة، وإنما ذلك ضرب من الهذيان، لا معتمَد عليه، كما قلتُ للشيخ ابن القارح في رسالة الغفران. وهل يعرف البشرُ من الشعر إلا كما تعرف البقرُ من علم الهيئة ومساحة الأرض؟ وأنتم، معاشر الإنس، حين تُدرككم حُرفةُ الأدب، تنظمون الشعر على خمسة عشر بحراً، لا يَعْدوها أحد منكم. أما نحن فلنا آلاف الأوزان التي ما سمعتم بها قط. ولقد نظمتُ أنا الرجزَ والقصيد قبل أن يَخلق الله آدم بكَوْرٍ أو كَوْرَين.
كما أننا نحفظ من الأشعار ما لا تستطيعون حفظه. لأننا لسنا مثلكم، يغلب علينا النسيان والرطوبة. فأنتم خلقتم من حمإ مسنون، وخُلقنا نحن من مارج من نار. وليس عندنا عرَبٌ لا يفهمون عن الروم ورُوم لا يفهمون عن العرب، كما نجد في أجيال الإنس، لأننا نحن أهل ذكاء وفطَن، ولا بد لأحدنا أن يكون عارفا بجميع الألسُن الإنسية. ولنا بعد ذلك لسان لا يفهمه الأنيس.
واعلم أيها الطاغية، في الختام، أني ارتأيتُ مكاتبتَك بعد أن بلغني أنك عازم على اعتقال جماعة من شعراء الجن، وتسييرهم إلى سجن الكثيب، فإن رأيتَ أن تعدل عن قرارك هذا فعلتَ إن شاء الله.