- تاكسي !!
توقفت سيارة الأجرة بصرير عالٍ صدر عن إطاراتها و هي تحتك بقوة بالطريق الممهدة بالمواد الرملية الخشنة. أسرع نحوها ممسكاً بحقيبة يد صغيرة، ككنز ثمين.
- على وين يا أستاذ ؟
تساءل سائق سيارة الأجرة و هو يتفحصه من خلف زجاج نظارته الداكن.
-المغتربين يا أسطى.
تهللت أسارير سائق سيارة الأجرة، و قد أيقن أن الله قد فتحها عليه بعد ليلة طويلة لم يجنِ فيها مليماً البارحة.
- إتفضل يا أستاذ .. إتفضل.
قالها سائق سيارة الأجرة بترحيب زائد.
- أها.. تاخد كم ؟ تساءل و هو يرمق السائق بحذرٍ محملٍ بكل مخاوفه، و وصايا أهله، و أصدقائه في الغربة.
- ما بنختلف ياخ..أركب!
- لا أحسن نتفق من هسه.
- مية و خمسين.
- ليه ياخ ؟؟ كتيرة شديد !!
و بدأ بينهما فصال إنتهى بموافقته على دفع مبلغ تسعون جنيهاً فقط، قبل أن يدلف إلى السيارة و هو يحس بالإرتياح. لا عداد للمسافات هناك و لا هم يحزنون، فقط الإتفاق و الفصال هما سيدا الموقف!
تحركت السيارة القديمة ببطء وهي تتهادي عبر شوارع و أزقة أمدرمان، في طريقها إلى (المغتربين) في الخرطوم، حيث يتعين على كل مواطن يزمع السفر خارج البلاد الذهاب لدفع الضرائب و الحصول على تأشيرة الخروج، و دفع الزكاة أيضاً.. الزكاة ؟ لماذا ؟ تساءل في سره و هو يتأمل السيارة الفارهة التي توقفت بجوار سيارة الأجرة التي يستقلها، عند الإشارة الضوئية. بنظرة سريعة إستنتج أن ثمنها يعادل راتبه في الغربة لحوالي عشرة سنوات! يمتطيها شاب ناعم الوجه، تدلت أسفل ذقنه، لحية مشذبة بعناية، وقد إنساب من جهاز تشغيل الوسائط بالسيارة، صوت أحد المادحين، مصحوباً بموسيقي لأغنية معروفة.
- إذاً… هؤلاء هم! هؤلاء هم !!
ردد في سره.
- مسافر بره البلد يا أستاذ ؟ قطع صوت سائق سيارة الأجرة تأملاته.
رد بإقتضاب: أيوه.
- على وين إن شاء الله ؟
- أبو ظبي. أجابه بذات الإقتضاب.
- ربنا يسهل إن شاء الله. شكلك مقيم هناك ؟
ولم ينتظر منه السائق رداً و هو يستطرد:
- و الله أحسن حاجة عملتها إنك إتخارجت من البلد دي.. ياخ البلد دي ما معروف ماشة على وين .. تصدق كيلو اللحمة بقى بـ ….
وسرح فكره مرة أخرى في صاحب السيارة الفارهة بجواره، وهو يستمع بلا إهتمام لسائق سيارة الأجرة و هو يعدد جملةً من أثمان الأشياء و الحاجيات، و التي أضحى سعر أقلها يعادل ثروة قبل سنين قليلة مضت.. ترى هل يدري صاحب هذه السيارة أن سعر كيلو اللحم أصبح سبعون جنيهاً مما يعدون ؟ تساءل في سره.
تذكر تجربته السابقة في (المغتربين) حينما إضطر لدفع أربعمائة دولار حتى يحصل على ختم الموافقة على الخروج من البلاد! نهبوا منه أربعمائة دولاراً جمعها بعرقه و دمه، و اعطوه بدلاً عنها ورقةً زرقاء كتب عليها و بخط رديء (مساهمة + زكاة + خدمات) !! و عندما خرج من المبنى الكبير ، و عند مفترق الطريق، رأى طفلاً مقعداً يزحف كما الحشرات نحو كومة من القمامة. تحسس جيبه، فما وجد سوى خمسين جنيهاً.. أخذ منها عشرة جنيهات و مدها للصبي و إستدار يزمع مواصلة المسير..
حينها عاودته رغبة قديمة بالتحسس .. قاومها و لكنها غلبته.. فتحسس شيئاً آخر ، تحسس إنسانيته، فوجدها ممتلئة، قفل راجعاً إلى الصبي الذي كان ينظر إليه مندهشاً، تناول الأربعين جنيها المتبقية، وضعها في كفه الصغير، و واصل مسيره.
-طق طق.. طق طق !!
إنتبه على صوت طرقات متتالية على زجاج النافذة بجانبه، رفع بصره، فاصطدمت عيناه بوجه شاحب لصبية ناحلة لم تتجاوز العاشرة من العمر، تمد يدا تحمل رزمة من المناديل الورقية. أنزل زجاج النافذة، لتندفع يد الصبية، و هي تصرخ بصوت يائس مستنجد:
- المنديل بي تلاتة جنيه يا أستاذ !
- تلاتة جنيه ؟؟ مش كتير؟
وقبل أن ترد عليه رآها تنتبه للسيارة الفارهة بجواره، و تندفع نحوها مسرعة، لعلها قد رأت فيه زبونا أكثر إستعداداً للدفع. ثم رآها و هي تطرق النافذة و تشب على قدميها لتطال الزجاج المرتفع. و لكن قائد السيارة لم يعرها أدنى إنتباه، بل خيل إليه أن صوت المادح المنساب من السيارة قد ارتفع، قبل أن تندفع السيارة مسرعةً للأمام و قد تحولت الإشارة الضوئية أمامهم للون الأخضر.
- أركن على جنب يا أسطى !!
صرخ في سائق سيارة الأجرة، الذي تمكن من التوقف على جانب الطريق بصعوبة بين صرير إطارات السيارات المسرعة و لعنات السائقين! ثم التفت إليه منزعجاً:
- في حاجة يا أستاذ؟؟
- إنتظر عندك دقيقة واحدة بس.
ترجل من السيارة، و يده تتحسس شيئاً ما .. و ذهب مسرعاً إلى حيث تقف الصبية النحيلة، و هي تبحلق في السيارات التي لا تلوى على شيء.
- قلت لي المنديل بكم ؟ سألها مبتسماً
- بي تلاتة جنيه. أجابته و هي تمد يدها بأحد المناديل.
- عايز أربعة.
إنفرجت أساريرها، و ناولته المناديل، فناولها عشرين جنيها، و تلفتت حولها في حيرة و هي تقول:
- لحظة أجيب ليك الباقي.
- رد بإبتسامة: لا خلاص مافي داعي للباقي شكراً.
ردت عليه بإبتسامة واسعة أضاءت وجهها النحيل، و أضاءت جوانحه هو أيضاً.
قفل راجعاً صوب سيارة الأجرة، على الجانب الآخر من الطريق، و هو يتحسس شيئاً ما .. ويهمهم:
- لن تسلبوها منا أبداً .. أبداً.
توقفت سيارة الأجرة بصرير عالٍ صدر عن إطاراتها و هي تحتك بقوة بالطريق الممهدة بالمواد الرملية الخشنة. أسرع نحوها ممسكاً بحقيبة يد صغيرة، ككنز ثمين.
- على وين يا أستاذ ؟
تساءل سائق سيارة الأجرة و هو يتفحصه من خلف زجاج نظارته الداكن.
-المغتربين يا أسطى.
تهللت أسارير سائق سيارة الأجرة، و قد أيقن أن الله قد فتحها عليه بعد ليلة طويلة لم يجنِ فيها مليماً البارحة.
- إتفضل يا أستاذ .. إتفضل.
قالها سائق سيارة الأجرة بترحيب زائد.
- أها.. تاخد كم ؟ تساءل و هو يرمق السائق بحذرٍ محملٍ بكل مخاوفه، و وصايا أهله، و أصدقائه في الغربة.
- ما بنختلف ياخ..أركب!
- لا أحسن نتفق من هسه.
- مية و خمسين.
- ليه ياخ ؟؟ كتيرة شديد !!
و بدأ بينهما فصال إنتهى بموافقته على دفع مبلغ تسعون جنيهاً فقط، قبل أن يدلف إلى السيارة و هو يحس بالإرتياح. لا عداد للمسافات هناك و لا هم يحزنون، فقط الإتفاق و الفصال هما سيدا الموقف!
تحركت السيارة القديمة ببطء وهي تتهادي عبر شوارع و أزقة أمدرمان، في طريقها إلى (المغتربين) في الخرطوم، حيث يتعين على كل مواطن يزمع السفر خارج البلاد الذهاب لدفع الضرائب و الحصول على تأشيرة الخروج، و دفع الزكاة أيضاً.. الزكاة ؟ لماذا ؟ تساءل في سره و هو يتأمل السيارة الفارهة التي توقفت بجوار سيارة الأجرة التي يستقلها، عند الإشارة الضوئية. بنظرة سريعة إستنتج أن ثمنها يعادل راتبه في الغربة لحوالي عشرة سنوات! يمتطيها شاب ناعم الوجه، تدلت أسفل ذقنه، لحية مشذبة بعناية، وقد إنساب من جهاز تشغيل الوسائط بالسيارة، صوت أحد المادحين، مصحوباً بموسيقي لأغنية معروفة.
- إذاً… هؤلاء هم! هؤلاء هم !!
ردد في سره.
- مسافر بره البلد يا أستاذ ؟ قطع صوت سائق سيارة الأجرة تأملاته.
رد بإقتضاب: أيوه.
- على وين إن شاء الله ؟
- أبو ظبي. أجابه بذات الإقتضاب.
- ربنا يسهل إن شاء الله. شكلك مقيم هناك ؟
ولم ينتظر منه السائق رداً و هو يستطرد:
- و الله أحسن حاجة عملتها إنك إتخارجت من البلد دي.. ياخ البلد دي ما معروف ماشة على وين .. تصدق كيلو اللحمة بقى بـ ….
وسرح فكره مرة أخرى في صاحب السيارة الفارهة بجواره، وهو يستمع بلا إهتمام لسائق سيارة الأجرة و هو يعدد جملةً من أثمان الأشياء و الحاجيات، و التي أضحى سعر أقلها يعادل ثروة قبل سنين قليلة مضت.. ترى هل يدري صاحب هذه السيارة أن سعر كيلو اللحم أصبح سبعون جنيهاً مما يعدون ؟ تساءل في سره.
تذكر تجربته السابقة في (المغتربين) حينما إضطر لدفع أربعمائة دولار حتى يحصل على ختم الموافقة على الخروج من البلاد! نهبوا منه أربعمائة دولاراً جمعها بعرقه و دمه، و اعطوه بدلاً عنها ورقةً زرقاء كتب عليها و بخط رديء (مساهمة + زكاة + خدمات) !! و عندما خرج من المبنى الكبير ، و عند مفترق الطريق، رأى طفلاً مقعداً يزحف كما الحشرات نحو كومة من القمامة. تحسس جيبه، فما وجد سوى خمسين جنيهاً.. أخذ منها عشرة جنيهات و مدها للصبي و إستدار يزمع مواصلة المسير..
حينها عاودته رغبة قديمة بالتحسس .. قاومها و لكنها غلبته.. فتحسس شيئاً آخر ، تحسس إنسانيته، فوجدها ممتلئة، قفل راجعاً إلى الصبي الذي كان ينظر إليه مندهشاً، تناول الأربعين جنيها المتبقية، وضعها في كفه الصغير، و واصل مسيره.
-طق طق.. طق طق !!
إنتبه على صوت طرقات متتالية على زجاج النافذة بجانبه، رفع بصره، فاصطدمت عيناه بوجه شاحب لصبية ناحلة لم تتجاوز العاشرة من العمر، تمد يدا تحمل رزمة من المناديل الورقية. أنزل زجاج النافذة، لتندفع يد الصبية، و هي تصرخ بصوت يائس مستنجد:
- المنديل بي تلاتة جنيه يا أستاذ !
- تلاتة جنيه ؟؟ مش كتير؟
وقبل أن ترد عليه رآها تنتبه للسيارة الفارهة بجواره، و تندفع نحوها مسرعة، لعلها قد رأت فيه زبونا أكثر إستعداداً للدفع. ثم رآها و هي تطرق النافذة و تشب على قدميها لتطال الزجاج المرتفع. و لكن قائد السيارة لم يعرها أدنى إنتباه، بل خيل إليه أن صوت المادح المنساب من السيارة قد ارتفع، قبل أن تندفع السيارة مسرعةً للأمام و قد تحولت الإشارة الضوئية أمامهم للون الأخضر.
- أركن على جنب يا أسطى !!
صرخ في سائق سيارة الأجرة، الذي تمكن من التوقف على جانب الطريق بصعوبة بين صرير إطارات السيارات المسرعة و لعنات السائقين! ثم التفت إليه منزعجاً:
- في حاجة يا أستاذ؟؟
- إنتظر عندك دقيقة واحدة بس.
ترجل من السيارة، و يده تتحسس شيئاً ما .. و ذهب مسرعاً إلى حيث تقف الصبية النحيلة، و هي تبحلق في السيارات التي لا تلوى على شيء.
- قلت لي المنديل بكم ؟ سألها مبتسماً
- بي تلاتة جنيه. أجابته و هي تمد يدها بأحد المناديل.
- عايز أربعة.
إنفرجت أساريرها، و ناولته المناديل، فناولها عشرين جنيها، و تلفتت حولها في حيرة و هي تقول:
- لحظة أجيب ليك الباقي.
- رد بإبتسامة: لا خلاص مافي داعي للباقي شكراً.
ردت عليه بإبتسامة واسعة أضاءت وجهها النحيل، و أضاءت جوانحه هو أيضاً.
قفل راجعاً صوب سيارة الأجرة، على الجانب الآخر من الطريق، و هو يتحسس شيئاً ما .. ويهمهم:
- لن تسلبوها منا أبداً .. أبداً.