عبد الرحيم جيران - من وحي كتاب "علبة السرد"

إن أخطر ما صنعته البشرية هو الغد، هذا المفهوم الذي له صلة بتولد الزمن، وظهور الهم من حيث هو قلق، بما يصطحبه معه من انتظار وتوقعات. ربما كان نصيبٌ وافر من المشكلة النفسية واجدًا علته في المسافة التي تفصل بين الحدود التي يتحرك بينها الغد. وحين أفكر في الغد على هذا النحو فلكي أفهم من جهة الحياة في كثافتها، وومن جهة ثانية ما يحكى عنها في هيئة مرويات مختلفة، وما يحف بهذه الحكايات من توتر بين التصور والتحقق. ولا أقصد بالتصور وجهه العقلي، وإنما ما يتعلق بالإرادة من حيث هي تطلع. فكلنا نحدد لأنفسنا تطلعات معينة نسعى إلى تحقيقها في الحياة، ويكون الغد زمن الحكم عليها، وذلك بموجب معيار حجم تحققها. ولا نستطيع البتة القول بكون التحقق من صنف التطلع، أو هو مرتهن بما يتضمنه هذا الأخير من ضمانات تفكرية أو أنطولوجية أو حتى أخلاقية، لأن صيرورة معقدة من الحوافز والعوامل تتدخل غب التحقق، فتشرط ما صدقة، وتجريبيته. وخطورة الغد تكمن في تخييبه التطلعَ، وبخاصة لما يكون هذا الأخير مرتبطا بهويتنا، وبتصنيفنا داخل سلم الاصطفاء الاجتماعي. ولا شك أن رضة نفسية قوية (وقد تكون مدمرة) تعقب الخيبة التي تنجم عن عدم ملاءمة التحقق لحجم التطلع وطبيعته. وقد لا نصدق أن الغد قد خاننا، وأسفر عن نتاج مخيب ومروع، فنأبى قبول الواقعي، ونستبدل الإنكار به، وقد يتخذ هذا الإنكار هيئة أزمة نفسية وذهنية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى