صديقي العزيز
شكرا لك على تذكيري بقصيدة البحتري عن الحرب بين " الإخوة " ، فقد كنت أحبها دون سائر شعره . و كان السبب في إعراضي عن باقي قصائده هو أنني كنت أجد في كتب الأدب - و أنا في مطلع الشباب- أن الرجل كان تياها معجبا بنفسه، ميالا إلى التكسب بشعره ، مبالغا في البخل ، قليل الحظ من الوفاء . و كنت في تلك الفترة من العمر أرفض الإقرار بأن الشعر العظيم يبقى شعرا عظيما و إن كان صاحبه جبْساً ، عديم الأخلاق ! ثم قُيّضَ لي أن أقرأ ما كتبه طه حسين عن شعر أبي عبادة و عن هذه القصيدة بالذات ، فأحببْتُها عندئذ و تغيرتْ نظرتي بعد ذلك إلى البحتري الشاعر ، دون أن تتغير نظرتي إلى البحتري الإنسان .
و قد نظمَ هذه القصيدة ، كما هو معلوم ، حين اختصمتْ قبيلة تغلب فيما بينها ، و انتهى بها الأمر إلى حرب شبيهة بحروب الجاهلية ، إلى أن تَدَخّلَ الخليفة العباسي المتوكل شخصيا من أجل إخماد نارها . وتبدأ القصيدة بغزل رقيق، حافل بالبديع. إثر ذلك ينتقل الشاعر إلى ذكْر الناقة ، على الطريقة التقليدية ، ثم إلى مدح الخليفة المتوكل ، قبل أن يرقى إلى مستوى فني أرفع بكثير ، حين يتحدث عن الحرب الدائرة بين الإخوة و عن الدماء الممزوجة بالدموع :
إذا احتربَتْ يوماً ففاضت دماؤها = تذكرَت القربى ففاضت دموعُها
و يُذَكرني هذا البيت، يا صديقي، بقصة القتّال الكلابي ، و كان حاربَهُ بنو عمه فقتلَ منهم و أسَر - كما يقول القدماء- ثم أنشأ قصيدتَه اللامية المشهورة، التي يقول فيها:
و نَبْكي حين نَقْتلكمْ عليكمْ = و نقْتُلكمْ كأنّا لا نُبالي
و نجد هذه اللامية في ديوان الحماسة ، منسوبة إلى " رَجُل من بني عُقَيل ". و مباشرة بعدها نجد أبياتاً منسوبة هذه المرة للقَتّال الكلابي ، قالها بعد أن قتلَ رجُلاً من بني عمه ، و منها :
فلمّا رأيتُ أنني قد قتلْتُهُ = ندمْتُ عليه أيّ ساعةِ مَنْدَمِ
و قد كان هذا القتّال من اللصوص الفتّاك ، كما لا يخفى عليك . و هناك من يزعم أنه عاش في الجاهلية و امتد به العمر حتى عهد عبدالملك بن مروان. بينما يذهب آخرون إلى أنه شاعر إسلامي ، عاش في عصر الفرزدق و جرير. و قد جمع السكري شعره في أخبار اللصوص. و هو القائل:
إذا جاع لم يفرحْ بأكلةِ ساعةٍ = و لم يبتئسْ منْ فَقْدها و هْو ساغبُ
و من شعره كذلك :
نُعَرّضُ للطّعَان إذا التقينا = وجوهاً لا تُعَرّضُ للسِّبابِ
و من شعره على البسيط :
عبدالسلام تأمّلْ هلْ تَرى ظُعُناً = إني كبرتُ و أنتَ اليومَ ذو بَصَرِ
لا يُبْعدِ اللهُ فتياناً أقول لهمْ = بالأبرق الفرْد لمّا فاتهمْ نظري
صلّى على عَمْرةَ الرحمانُ و ابنتِها = ليلى و صلّى على جاراتها الأخَرِ
و من الذين قتلوا أقاربَهم ثم ذكروهم في أشعارهم قيس بن زهير العبيسي ، الذي قال بعد أن قتل أخوين من أقاربه ، هما حذيفة بن بدر و حمَل بن بدر :
شفيتُ النفسَ منْ حَمَل بنِ بدْرٍ = و سيفي منْ حُذَيفةَ قد شفاني
فإنْ أكُ قد برَدْتُ بهمْ غليلي = فلمْ أقطعْ بهمْ إلا بَناني
أما الحماسي الذي أشرتَ إليه ، و الذي قُتل أخوه على يد قومه ،فأشاطرك الإعجاب بقصيدته الرائعة . و يزعم البعض أن اسمه الحارث بن وعْلة الذهْلي ، و هو غير الحارث بن وعلة الجرمي، أحد شعراء المفضليات.
و قد تفضلتَ صديقي فأوردتَ بيتين من ميميته ، ولكني أشعر برغبة لا تقهر في إيرادها هنا كاملةً ، بأبياتها السبعة :
قومي همُ قَتَلوا أميمَ أخي = فإذا رميتُ يصيبُني سَهْمي
و لَئنْ عفوتُ لأعْفُوَنْ جَلَلاً = و لَئنْ سطوتُ لَأوهِنَنْ عظمي
لا تأمَنَنْ قوماً ظلمْتَهُمُ = و بَدَأتَهمْ بالشتْم و الرُّغْمِ
إنْ يَأبرُوا نخْلاً لغيرهمُ = و القولُ تَحْقرُهُ و قدْ يَنْمي
و زَعَمْتُمُ أنْ لا حُلومَ لنا = إنّ العصا قُرعَتْ لذي الحِلْمِ
و وطئْتَنا وَطْأً على حَنَقٍ = وطْءَ المُقَيَّدِ نابت الهَرْمِ
و ترَكْتَنا لحماً على وضَمٍ = لو كنتَ تستبقي منَ اللحمِ
و أختم - حتى لا أطيل - بقصيدة للفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب ، يقول فيها :
مَهْلاً بني عمّنا مهْلاً موالينا = لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
لا تطمعوا أنْ تُهينونا و نُكْرمَكمْ = و أنْ نَكفَّ الأذى عنكمْ و تُؤذونا
اللهُ يعلمُ أنا لا نُحبكمُ = و لا نَلومكمُ ألا تُحبّونا
كلٌّ لهُ نيّةٌ في بُغْض صاحبهِ = بنعمة الله نَقْليكمْ و تَقْلُونا
شكرا لك على تذكيري بقصيدة البحتري عن الحرب بين " الإخوة " ، فقد كنت أحبها دون سائر شعره . و كان السبب في إعراضي عن باقي قصائده هو أنني كنت أجد في كتب الأدب - و أنا في مطلع الشباب- أن الرجل كان تياها معجبا بنفسه، ميالا إلى التكسب بشعره ، مبالغا في البخل ، قليل الحظ من الوفاء . و كنت في تلك الفترة من العمر أرفض الإقرار بأن الشعر العظيم يبقى شعرا عظيما و إن كان صاحبه جبْساً ، عديم الأخلاق ! ثم قُيّضَ لي أن أقرأ ما كتبه طه حسين عن شعر أبي عبادة و عن هذه القصيدة بالذات ، فأحببْتُها عندئذ و تغيرتْ نظرتي بعد ذلك إلى البحتري الشاعر ، دون أن تتغير نظرتي إلى البحتري الإنسان .
و قد نظمَ هذه القصيدة ، كما هو معلوم ، حين اختصمتْ قبيلة تغلب فيما بينها ، و انتهى بها الأمر إلى حرب شبيهة بحروب الجاهلية ، إلى أن تَدَخّلَ الخليفة العباسي المتوكل شخصيا من أجل إخماد نارها . وتبدأ القصيدة بغزل رقيق، حافل بالبديع. إثر ذلك ينتقل الشاعر إلى ذكْر الناقة ، على الطريقة التقليدية ، ثم إلى مدح الخليفة المتوكل ، قبل أن يرقى إلى مستوى فني أرفع بكثير ، حين يتحدث عن الحرب الدائرة بين الإخوة و عن الدماء الممزوجة بالدموع :
إذا احتربَتْ يوماً ففاضت دماؤها = تذكرَت القربى ففاضت دموعُها
و يُذَكرني هذا البيت، يا صديقي، بقصة القتّال الكلابي ، و كان حاربَهُ بنو عمه فقتلَ منهم و أسَر - كما يقول القدماء- ثم أنشأ قصيدتَه اللامية المشهورة، التي يقول فيها:
و نَبْكي حين نَقْتلكمْ عليكمْ = و نقْتُلكمْ كأنّا لا نُبالي
و نجد هذه اللامية في ديوان الحماسة ، منسوبة إلى " رَجُل من بني عُقَيل ". و مباشرة بعدها نجد أبياتاً منسوبة هذه المرة للقَتّال الكلابي ، قالها بعد أن قتلَ رجُلاً من بني عمه ، و منها :
فلمّا رأيتُ أنني قد قتلْتُهُ = ندمْتُ عليه أيّ ساعةِ مَنْدَمِ
و قد كان هذا القتّال من اللصوص الفتّاك ، كما لا يخفى عليك . و هناك من يزعم أنه عاش في الجاهلية و امتد به العمر حتى عهد عبدالملك بن مروان. بينما يذهب آخرون إلى أنه شاعر إسلامي ، عاش في عصر الفرزدق و جرير. و قد جمع السكري شعره في أخبار اللصوص. و هو القائل:
إذا جاع لم يفرحْ بأكلةِ ساعةٍ = و لم يبتئسْ منْ فَقْدها و هْو ساغبُ
و من شعره كذلك :
نُعَرّضُ للطّعَان إذا التقينا = وجوهاً لا تُعَرّضُ للسِّبابِ
و من شعره على البسيط :
عبدالسلام تأمّلْ هلْ تَرى ظُعُناً = إني كبرتُ و أنتَ اليومَ ذو بَصَرِ
لا يُبْعدِ اللهُ فتياناً أقول لهمْ = بالأبرق الفرْد لمّا فاتهمْ نظري
صلّى على عَمْرةَ الرحمانُ و ابنتِها = ليلى و صلّى على جاراتها الأخَرِ
و من الذين قتلوا أقاربَهم ثم ذكروهم في أشعارهم قيس بن زهير العبيسي ، الذي قال بعد أن قتل أخوين من أقاربه ، هما حذيفة بن بدر و حمَل بن بدر :
شفيتُ النفسَ منْ حَمَل بنِ بدْرٍ = و سيفي منْ حُذَيفةَ قد شفاني
فإنْ أكُ قد برَدْتُ بهمْ غليلي = فلمْ أقطعْ بهمْ إلا بَناني
أما الحماسي الذي أشرتَ إليه ، و الذي قُتل أخوه على يد قومه ،فأشاطرك الإعجاب بقصيدته الرائعة . و يزعم البعض أن اسمه الحارث بن وعْلة الذهْلي ، و هو غير الحارث بن وعلة الجرمي، أحد شعراء المفضليات.
و قد تفضلتَ صديقي فأوردتَ بيتين من ميميته ، ولكني أشعر برغبة لا تقهر في إيرادها هنا كاملةً ، بأبياتها السبعة :
قومي همُ قَتَلوا أميمَ أخي = فإذا رميتُ يصيبُني سَهْمي
و لَئنْ عفوتُ لأعْفُوَنْ جَلَلاً = و لَئنْ سطوتُ لَأوهِنَنْ عظمي
لا تأمَنَنْ قوماً ظلمْتَهُمُ = و بَدَأتَهمْ بالشتْم و الرُّغْمِ
إنْ يَأبرُوا نخْلاً لغيرهمُ = و القولُ تَحْقرُهُ و قدْ يَنْمي
و زَعَمْتُمُ أنْ لا حُلومَ لنا = إنّ العصا قُرعَتْ لذي الحِلْمِ
و وطئْتَنا وَطْأً على حَنَقٍ = وطْءَ المُقَيَّدِ نابت الهَرْمِ
و ترَكْتَنا لحماً على وضَمٍ = لو كنتَ تستبقي منَ اللحمِ
و أختم - حتى لا أطيل - بقصيدة للفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب ، يقول فيها :
مَهْلاً بني عمّنا مهْلاً موالينا = لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
لا تطمعوا أنْ تُهينونا و نُكْرمَكمْ = و أنْ نَكفَّ الأذى عنكمْ و تُؤذونا
اللهُ يعلمُ أنا لا نُحبكمُ = و لا نَلومكمُ ألا تُحبّونا
كلٌّ لهُ نيّةٌ في بُغْض صاحبهِ = بنعمة الله نَقْليكمْ و تَقْلُونا