أحمد بوزفور - رسالة إلى عبد القادر وساط.

صديقي العزيز. في الشعر العربي القديم موضوعة تجذبني. وهي موضوعة دقيقة يقاربها الشعراء كما يقارب الجراحون جسم المريض المحتضر... برفق وخوف، وبدقة ومهارة. ولا يكاد ينجح في هذه المقاربة إلا القليلون. تلك هي موضوعة القريب الخصم. وقد تذاكرنا منذ بعض الوقت قصيدة جليلة بنت مرة زوجة كليب بن وائل الذي قتله أخوها جساس فجرّ حرب البسوس بين بكر وأبناء عمومتهم تغلب. وأنت تعرف بعد ذلك بيت طرفة الشهير في معلقته:
( وظلم ذوي القربى أشد مضاضة = على النفس من وقع الحسام المهند )
وتعرف دون شك أبيات ذلك الحماسي الذي يقول:
( قومي هُمُ قتلوا أُميمَ أخي = فإذا رميتُ يصيبني سهمي
فلئن عفوتُ لأعفونْ جَلَلا = ولئن سطوتُ لأوهنَنْ عظمي )
ومن ذلك قول أعرابي قتل أخوه ابنَه خطاً:
( أقول للنفس تأساءً وتعزيةً = إحدى يديَّ أصابتني ولم تُردِ
كلاهما خَلَفٌ من فقد صاحبه = هذا أخي حين أدعوهُ وذا ولدي )
على أنني أحب أن أُشركك وأصدقاءنا الأعزاء في تذوق أبيات رائعة ومؤثرة من عينية للبحتري قالها في حرب جرت في أيامه بين قبائل ربيعة ( أحفاد أصحاب حرب البسوس ) حتى كاد يفني بعضهم بعضا. يقول البحتري:
( أَسِيتُ لأخوالي ربيعةَ أنْ عَفَت = مصايفُها منها وأقوت ربوعُها
بكرهيَ أنْ باتت خلاءً ديارُها = ووحشا مغانيها وشتّى جميعُها
إذا افترقوا من وقعة جمَعَتهُمُ = دماءٌ لأخرى ما يُطَلُّ نجيعُها
تَذمّ الفتاة الرودُ شيمةَ بعلها = إذا بات دون الثأر وهو ضجيعُها
حَمِيَّةُ شعبٍ جاهليّ وعزّةٌ = كُلَيبيةٌ أعيا الرجالَ خضوعُها
وفرسان هيجاءٍ تجيشُ صدورُهم = بأحقادها حتى تضيق دروعُها
تُقَتِّلُ من وِترٍ أعزَّ نفوسها = عليها بأيدٍ ما تكاد تُطيعُها
إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها = تذَكّرت القربى ففاضت دموعُها
شواجر أرماحٍ تُقطّع بينها = شواجرَ أرحامٍ ملومٍ قَطوعُها)
......
أما أنا فتفتنني هذه الصنعة الشعرية الدقيقة التي غلب عليها الموضوع حتى أخفاها وهيهات.. هل يخفى القمر؟


1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى