دريني خشبة - هل تدين الإغريق

لا نحسب أن أمة من الأمم شذت عن قانون التدين فلم تتخذ آلهة تعبدها وتعنو لها، وتلتمس منها البركات، أو على الأقل، إلها تفزع إليه كلما مسها ضر، أو حز بها أمر. والإغريق، ككل الأمم، كانت لهم آلهتهم ومعابدهم وقديسوهم. وقد لا نستطيع أن نحصر الأقوال المتضاربة في حقيقة تدينهم، وهل كانوا، كالأمم السامية مثلا، يستغرقهم هذا التدين، ويغمر أفكارهم وأعمالهم؟

فالمشهور عن الأجناس الآرية أنهم قوم آداب رفيعة وفلسفة، وبذلك امتازوا من الساميين المتدينين، ومن المغول وآربي الهنود المتقشفين. على أن الإغريق، من وجهة الدين، ينقسمون إلى فئتين، إن لم يكن أكثر؛ فهذه الطبقة المستنيرة المثقفة، التي ورثتنا تلك الثروة الطيبة من الشعر والأدب والفلسفة والتاريخ والفنون، قد كان لها وجهة نظرها الخاصة بالنسبة إلى الدين.

فلم يكن هوميروس مثلا يعتقد في آلهة اليونان مثل ما يعتقد هسيود؛ ولم يكن بندار كذلك، يعتقد ما يعتقده أرفيوس أو تؤمن به الشاعرة سافو. وقد أثبت البحث أن هوميروس كان ينظر إلى هذه الجمهرة من أرباب اليونان، ورباتهم، كما ننظر نحن إلى أشخاص درامية ازدحمت بها المثيولوجيا اليونانية، وقدسها الشعب، فرأى أن يستمد منها هذا الخيال الحلو الساذج، ليكون منه مادة ملاحمه، وليضفي من هذا الخلود السماوي، على فناء تلك البشريات الهالكة؛ ولم يثبت أنه آمن بشيء منها. وذلك عكس ما ثبت من إيمان هسيود، واحترامه الشديد لجميع الأرباب اليونانية. نقرأ ذلك في مواضع كثيرة من قصيدته الخالدة (الأرجا ومن درته العجيبة (الثيوجونية بل إن من الإغريق من أنكر هذا التهريج الميثولوجي، وكفر بكل الثيوجونية اليونانية؛ وهذا يوربيبيديز فخر أدباء اليونان وشيخ شعرائها، قد كان من أشد الملحدين سخرية بمعتقدات الناس الدينية قاطبة

والشاعر الدرامي أسخيلوس قد حاول في إحدى روائعه المدهشة (برومثيوس المصفد) أن ينقد هذا الكمال المطلق الذي يضفيه قومه على كبير الآلهة زيوس؛ بل هو يتهمه بالقسوة والوحشية وعدم الميل إلى ما ينفع العالم؛ ويضرب لذلك أمثالا طريفة مما جاء ف الأساطير القديمة، كأسطورة باندورا ويو. ثم هذا صولون العظيم يلحد بزيوس ويجدف فيه تجديفا يشبه السباب، فيقول في الجزء الأول (ص32): (إن الله حقود حسود، وهو مشغوف أيما شغف بإرباك الناس وترويعهم!)

على أننا محاولون هنا أن نثبت المعتقدات الشائعة بين العامة، وهي الفئة الثانية، في هيلاس (اليونان) قبل القرن السادس (ق. م). تلك المعتقدات التي مهما قيل فيها، لم تخرج عن كونها ألوانا من الديانات البدائية الساذجة، التي تشبه كثيرا مما دانت به الأمم الجاهلية

ولقد دلت الأستقراءات التاريخية على أن قدماء اليونان كانوا قوما خابتين، يخشون الآلهة، ويرقبونها في كل أعمالهم، وكانت الظواهر الطبيعية توحي إليهم بأحلام لاهوتية لا يستطيعون الإفلات من ربقتها، فكانوا يقيمون الهياكل الضخمة باسم القوى التي يزخر بها الكون من رياح وشمس وقمر ونجوم وبحار. . . وكانوا يقيمون التماثيل الرائعة لآلهتهم في تلك الهياكل، ويوكلون بها كهنة يؤدون الشعائر الخاصة بكل منها، ويتقبلون القرابين والضحايا لتي يتقدم بها الشعب المتدين البريء في كثير من المناسبات

ومن الأغاني والتراتيل الدينية التي تركها لنا الشاعر الغنائي أرفيوس، نعلم أن عبادة ديونيزوس كانت ذات شان كبير بين الغالبة العظمى من قبائل الإغريق. وديونيزوس هو إله النماء والخضرة، وموسمه حين تنظر الحقول، وتكتسي سندس القمح، وتزدهر البساتين فتتفتح عن أفواف الورد، كان موسم الرخاء والمرح، وعيد الخير عند سائر اليونانيين؛ لذلك تواضع المؤرخون على تسمية هذا اللون من ألوان العبادات (بعبادة القمح)، ولما كان الثابت أن أحدا من الهيلانيين لم يعبد القمح بالذات فنرى أن هذه التسمية مجازية، وأن من الخير للتاريخ أن نعرفها باسمها الحقيقي، الذي هو (عبادة ديونيزوس). وقد نشأت هذه العبادة، أول ما نشأت، في (إليزيس) إحدى قرى (أتيكا)، حيث كانوا يعتقدون أن أم القمح (أي حبة القمح!) وابنها (أي ساق القمح!) يتفضلان على الناس كل شتاء، فيخرجان من بطن الأرض ليعم الرخاء وينتشر الخير. . .

وقد انتقلت عبادة باخوس، إله الخمر، من تراقيا إلى الجنوب، ثم ما برحت تنتشر وتستفيض، حتى تمازجت على مر الأيام بعبادة ديونيزوس. وصارت هذه (التثنية) ذات اعتبار كبير ولا سيما بين العامة. وصار هذا الإله المركب: (ديونيزوس - باخوس!) هو رب القمح. . . والخمر. وإله الحقل. . . والكرم!

ومن دراسة الأدب الإغريقي في الإسكندرية ورومة، نعلم أن ديونيزوس - باخوس كان ذا شهرة مستفيضة في المهاجر اليونانية

أرفيوس ومذهبه: (الأرفزم)

ويسوقنا البحث في ديانة الإغريق إلى الكلام عن أرفيوس الشاعر الديني، الذي تعتبر تراتيله في الشعر اليوناني كمزامير داود في العهد القديم، ولأرفيوس ضريب قديم يدعى موسيوس قد يكون أشعر منه، وأعلى في دولة الآداب كعبا، ولكن - للأسف - لم يصلنا من آثاره ما نستطيع به الكشف عن شخصيته، ولذا نشير إليه، دون أن نعرض له بشيء. وحسبنا أن نذكر أن مؤرخي الأدب اليوناني يختلفون أشد الاختلاف حول أشعار أرفيوس، وأكثرهم يرجح أن طائفة كبيرة من هذه الأشعار هي لموسيوس، ونرجو أن يوفق الكاشفون من رجال الآثار إلى شيء يلقي النور على هذه الناحية المعتمة من تاريخ الأدب اليوناني

ولقد كادت ملاحم هوميروس وهسيود تكسف هذه التراتيل الدينية وتغمرها، بل كادت تفقدها هذه القدسية التي يكنها العابد المتزمت لكل ماله علاقة بأربابه. وزاد الطين بلة، تلك الفلسفة الخبيثة التي حملها الايونيون معهم حين غزوا بلاد الإغريق. فهي قد جرأت الكثيرين على التشكيك في صحة معتقداتهم، وغلا البعض فركن إلى العقل والعلم في النظر إلى الحياة والكون، وما يزدحمان به من ظاهرات

بيد أنه حدث خلال القرن السادس قبل الميلاد، من الأحداث اليونانية داخل البلاد وخارجها، ما شجع الشعور الديني، وقوى الأواصر بين الشعب وآلهته، بعد إذ كادت تنحل وتتفكك على أيدي هؤلاء الملاحدة من شيعة الفلسفة الأيونييه. ذلك أن الحروب المستمرة التي مزقت أوصال البلاد، وسقوط مدينة الترف وبلهنية العيش (سيباريس) أغنى المدن الإغريقية على خليج تارنتوم الإيطالي، وإفلات مدينة نينوى من أيدي اليونانيين. . . كل ذلك حفز الشعور الديني، وابتعث المعتقدات القديمة في صدور الدهماء العامة، فذكروا آلهتهم، وخيل لهم أن ما حل بهم من ضنك، إنما سببه إعراضهم عنها، وانشغالهم بما هو أدنى!؟

ومن ثمة، عمرت الهياكل، وارتفعت فيها الأصوات بتراتيل أرفيوس، ولهج الشعب المهيض بهذه المزامير يلتمس فيها عزاء وتسلية. وسرعان ما أنتشر مذهب جديد أطلق عليه مذهب (الأرفزم) - نسبة إلى أرفيوس - وهو لون طريف من عبادة ديونيزوس يؤمن أتباعه بالثواب والعقاب في الدار الآخرة، وأس إيمانهم هو الاعتقاد بتجسد التثنية المركبة من الإلهين (ديونيزوس - زجريوس). وزجريوس هذا هو ابن زيوس من البتول (!) كوريه؛ وقد حدث أن التيتان قد حنقوا على زجريوس فقتلوه، فغيض أبوه (زيوس) وسلط عليهم الصواعق حتى أبادهم؛ وعاد فاستولده من إحدى بنات حواء (سيميليه) فعاش كما يعيش الناس؛ وإن يكن قد بلغ مرتبة الإلهة وهو بينهم، ثم رفعه أبوه إلى السماء، حيث صار فيها السيد الصمد، والإله الأوحد

ولقد ظل (ديونيزوس - زجريوس) صاحب الشأن الأعظم في الديانة اليونانية، وتنوسي رب الخمر باخوس، أو على الأقل، تضاءلت أهميته، لما كان يشاع عن عباده في تراقيا من الفضائح المخزية، والموبقات التي كانت تنخر كالسوس في أخلاق الشعب، وتصدع آدابه. ذلك أن كل فرد من عباد باخوس كان لزاما عليه كطقس من الطقوس هذه العبادة الخمرية، أن يستبيح عرض واحدة من عابداته، آلائي كن يطلق عليهن لقب (ميناد) فإذا كان الليل، وبدأت الحفلات الدينية، انطلقت الشهوات المكبوتة، وتدفق دم الدعارة حارا في عروق هؤلاء وهؤلاء، وراحوا يمارسون أحط ألوان البغاء باسم الشعائر الدينية؛ وكثيرا ما كان يعتدى على أعراض الحرائر، فلا يستطيع الزوج أو الأب أو الأخ دفع المنكر عن عرضه، لأن ذلك صميم شريعة باخوس!!

لهذا، اعتبرت شريعة ديونيزوس - زجريوس، منبع الطهر الروحي، والتهذيب الصوفي الجميل، وحافظت على مكانتها، كديانة عامة لليونان، منذ قبيل القرن السادس (ق. م) إلى ما بعد القرن الرابع. وكان لها قديسوها وعلماؤها، بل وأنبياؤها أيضا، إن صح أن نطلق هذه التسمية في تاريخ الديانة اليونانية؛ ولقد كانت الغالبية - حتى من العلماء والأدباء - تتناول أبحاثها في الأرفزم بكل تأدب واحتشام. وشذ أفلاطون وحده، عندما ثار ضد ما كانت تبيحه هذه الشريعة - أو قل هذا المذهب - من الغفران وقبول التوب، لمجرد طقوس تافهة يقوم بها أحد العصاة الآثمين

وكما يطلق العامة في العالم الإسلامي لقب (واصل) أو (صاحب سر) على من زكت نفسه، وطابت سريرته؛ وصفا ما بينه وبين الله، من المسلمين؛ وكما يفعل مثل ذلك أخواتنا النصارى؛ وكما يذهب إلى هذا النحو ربيون من اليهود وأحبار، فكذلك كانت سنة اليونانيين؛ فكل من تعمق في عبادة ديونيزوس، واستبحر في تحصيل شريعته، وكان مع ذلك تام التقى، شامل الورع، ارتفع إلى طبقة باكيس كما يرتفع المخلصون من نساك الهند إلى مرتبة (مهاتما). ويبدو أن هذه تقاليد قديمة تغلغلت في المذاهب الحديثة التي نشأت في هيلاس بعد القرن السادس (ق. م). آية ذلك أن كل من كان يستبحر في عبادة باخوس يصبح باخس وكل من كان يخبت للإله (كيبيب) إله فرجيا، يصير كيبيبس وقد انتقلت هذه السنة إلى أتباع مذهب الأفرزم، فأصبح كل من حوارييه يحمل لقب أرفيوس. . .

وبمثل ما تدر إخلاف الرزق، السهل الميسر، على (واصل) المسلمين، وأحبار اليهود؛ فكذلك كانت القرابين والضحايا والزكوات تقدم بكثرة هائلة، ومن جميع طبقات الشعب، إلى الباكيس والباخس والكيبيبس والأرفيوس من رجال الكهنوت اليوناني. وكانت هذه الأعطيات والمنح، تقدم في مناسبات غربية، لا تختلف عما هو شائع بيننا اليوم. فهذا يريد الاستفسار عن حلم رآه، وذلك يطلب وصف دواء لعلة استعصت على نطس الأطباء، وثالث يطلب نبوءة عما تنتهي إليه شدة حلت به، إلى آخر هذه العلل والأسباب

وإلمامة عجل بأشعار ما قبل التاريخ، في الأدب اليوناني، تشعر بمدى ما كنت متأثرة به من شتى المذاهب الدينية، وصنوف العبادات الساذجة التي تفعم هذا الأدب القديم. وأثارة الأرفزم شديدة الوضوح في هذه الأشعار؛ وأشعار أرفيوس خاصة، تشبه عندنا أشعار عمر بن الفارض، وهي ترتيلات كان يرسلها الناظم إلى أربابه سلاما في سلام، اسمع إليه يتناجى:

(أدعوك يا هيكاتيه يا ربة الطرق

(يا حامية مفترق الشعاب

(يا باعثة الأمن من ديجور الظلام

(أيتها المسيطرة على السموات والأرضين والبحار

(يا مؤنسة الموتى في قبورهم، مياسة في الوشائح المعصفرة

(وأنت يا برسييه، أضرع إليك (يا من تؤثرين الهدوء والسكون

(أيتها المليكة التي تقبض على مفاتيح الدنيا

(ألا هلمي، وكوني معنا، إذ نسبح باسمك

(كيما تطهر نفوسنا، وتنتقي قلوبنا

(باركينا يا برسييه، وأفيضي علينا مما فاض به قلبك الكريم من محبة. . . .

ويشك بعض المؤرخين في انتشار مذهب الأرفزم قبل القرن السادس (ق. م). غير أن الأناشيد القديمة تثبت أنه كان لهذا المذهب أشياع كثيرون ومريدون، بل لقد كانت الآداب تتأثر به غير صقع من أصقاع اليونان. وهذا نشيد (الأليميونيس دليل على ذلك؛ فلقد ظهر فيه اهتمام الشاعر الذي أنشده بطقوس التطهير، وشدة حرصه على إيراد ما كان أهل التقى يؤدونه من مراسم دينية، تستلزمه عملية (تنقية القلب) من الأدران الدنيا، بالضراعة إلى زجريوس، رب الأرباب، المشرف من عليائه على الكون! والتطهير ومراسمه لب لباب الأرفزام

وقد أثبتت دراسات الأساتذة الألمان كارل مللر ونوك وكنكل وغيرهم أن شاعر كورنثه فيما قبل التاريخ (يوميلوس) كان يدين بالأفرفزم؛ وأنه تبتل إلى ديونيزوس في نشيده الجميل (يورويبا) تبتلا؛ وقد أثبتت في هذا النشيد ما كان في الأزل من اعتداء التيتان على زجريوس وقتلهم إياه، وتعرض أيضا للرؤى والأحلام، وخاض في ذكر هيدز (الدار الآخرة)

أما أثر الأرفزم في الألف سنة التي تبدأ بالقرن السادس ق. م فواضح أشد الوضوح، وهو على أتمه في بندار وهيرودوتس وصولون، ولا يخلو شيخ الملحدين يوربيبيديز من أثارة منه، وقد تأثر به كل من سوفوكلس، وإسخيلوس، وتأثرت به الإسكندرية كذلك

أما هذه الكثرة المدهشة من إلهة اليونان، فقد سلسلها لنا الشاعر هسيود في منظومته الرائعة (الثيوجونيه)، وهي بكلمة خاصة أولى

دريني خشبة

مجلة الرسالة - العدد 92
بتاريخ: 08 - 04 - 1935

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى