عندما التم الجمع المعتاد على قضاء سهرة الخميس في المطعم المكسيكي – دون بيبه – وضعت طاولة كبيرة في الوسط، ومن حولها طاولات رواد المطعم الآخرين، وقد شكلت هيئة أسود متحفزة للقفز .
وبينما تقاطر المدعوون إلى الطاولة الكبيرة، كانت فرقة العزف تردد ألحاناً أندلسية شجية، ومن بين المنشدين هناك وجوه تلبس أقنعة أسود، وسحرة، غير أن وجهاً نورانياً واحداً قد اختلف عن تلك الوجوه المقنّعة، فهو وجه لإله فرعوني كأنه قام للتو من قبره، وجاء بلل زينته، وحلله، وبهائه . هذا القناع كان الوحيد، وربما تميز من لبسه بالفرادة لأنه العازف الفطن، والمعذب الذي يسمع، ويرى ما لا يراه، ويسمعه الآخرون، ألا وهو العازف بيدرو .
كان بيدرو يعزف بهدوء كعادته، ربما لأنه ما زال يشعر بالنعاس، ولربما تقمص شخصية الإله الفرعوني الذي يعاني من داء المفاصل التي ما تزال تؤذيه منذ آلاف السنين.
لكن العريف ببواطن الأمور يقدّر الأمر على نحو آخر . ولأن الجو العام يوحي بالشرقية، فالألوان المكسيكية الزاهية، حارة، دافئة، والنقوش عبارة عن توليفة سومرية، بابلية، فرعونية، وإسبانية مغربية .
وقد أحس الكل بالدفء والنادلات الفيلبينيات يضفن حرارة أكبر على جو المكان، برقة تصرفهن، وأحاسيسهن المضيئة بكلمات الغزل التي تداعبهن بين لحظة، وأخرى من قبل الضيوف، عزّاب، أو متزوجين حضروا مع، أو من دون زوجاتهم . ولأن المدعو بيدرو المتقمص لدور إله الغناء الفرعوني قد أصبح الآن أكثر استثارة، وتوقد، فقد صار حماسه كبيراً، مما أثار استغراب أفراد جوقة العزف منه، وظنوا لوهلة أنهم يتعاملون مع مكسيكي عائد من عصر المايا، لكنهم تغاضوا عن خواطرهم الفردية، لعلمهم بغرابة تصرف بيدو، فما باله الآن وقد لبس القناع الفرعوني، لا بد أنه سيضفي على جو العزف تألق وانتشاء قد يرفع حرارة الجلسة، وحماس الزوار مما يشع صاحب المطعم على تمديدي عقد الفرقة لفترة إضافية، أو لمدة تعاقد جديدة . لهذا حسب أفراد الجوقة خواطرهم، وحسبوها إحدى التداعيات السخيفة . ولم يحس أحد بلا انتماء العازف بيدرو السني الطلعة، ولا بانسجامه في هوايته القديمة بعيداً عن الغناء، وهي كشف بواطن الأفراد من الجالسين على الطاولات، لهذا تتغير تعابير بيدرو بين مرة وأخرى، فيحزن، ويبتسم، ويبتئس، ويقهقه، لكن كل ذلك يمزجه بطريقته في الغناء، لكي تبدو منسجمة مع القناع الذي لبسه، ومع الحماس المطلوب لعلمه بحاجة الفرقة لعقد جديد لكي تعيش .
هاهو بيدرو ينتزع نفسه من نزعات الأفراد على الطاولات، ويحاول التخلص من هواجس الآخرين، ومن بواطن حقائقهم، وما يكنوه للآخرين في تفكيرهم الشخصي، وتداعياتهم . حوارات تعج برأس بيدرو، وتختلط فيما بينها، ورغم أن الأجناس هنا من مختلف الجنسيات، لكن التقاط التفكير ليس عسير تفكيكه، وترجمته لدى بيدرو، لهذا لا يريد أن يترجم هذه التداعيات في حوارات تطول لتملأ ملفات، ومجلدات، وروايات، يتمنى بيدرو أن يتفرغ لها عندما يغتني لصدر منها روايات سوف تجعله مشهوراً، ويعيش من خلالها في بحبوحة العيش . ويضحك بيدرو بين فينة، وأخرى لسماعه حوارات داخلية ناشزة، هي غير ما يقوله لسان الجار لجاره، مما يثير من هو قريب منه لهذا الضحك المفاجئ .
ولكن ضحك بيدرو لما يراه في المطعم شيء، وما يسمعه الآن من أمر يحدث في شقة قريبة على المطعم شيء آخر، لهذا لم يعد انتباه بيدرو يعير أهمية لما بدواخل الناس هنا، وإنما ركّز جلّ تفكير في متابعة ما يجري في الشقة، فاحتوته الأصواتـ والهواجس، وألهته عن زبائن المطعم بقوة أكبر، خصوصاً وإن ما أغراه في المتابعة هو صوت صابر الزبون المواظب على المطعم، وصديق الضيوف الذين احتلوا الطاولة الكبيرة، ولهذا تخيل بيدرو الشقة كما هي لعلم بأن الشقة قريبة من المطعم .
وتساءل البعض الآخر ممن يجلسون على طاولة العشاء من أصدقاء صابر عن سبب غيابه، واعتكافه، رغم أنهم يحتفلون في المطعم الذي تطل شقته عليه، مقابل البناية التي تقع الشقة فيها . ويسمع بيدرو من يعلل الأسباب، لكنهم في دواخلهم يتمنون له الموت، شماتةً من تعاليه . فيبين كل منهم سبباً لذلك، وعندما ينزلق المدعوون تدريجياً في تفاصيل الحفل، وقد أشعلت المارغريتا رؤوسهم، وتخدرت حركاتهم، ينسون ذكر صابر في الصالح، والطالح تماماً، وكأنه ليس بصديقهم، وقد كان لليلة أمس هو مضيفهم هنا في هذا المطعم بالذات . وفي الطاولة نفسها . إلا أن بيدرو الذي وصلته إشارة الاستغاثة التي أطلقها صابر، وما يزال، تشير إلى أن صابر في خطر، وعلى بيدرو أن ينبه أحد ما، أو أن يقوم هو نفسه بالتحذير، أو الدفاع، ولكن حدود بيدرو، ومرونته لا تسمحان أكثر من التواجد في مطعم دون بيبه المكسيكي، لا غيره .
ويعلو الحماس، وتزداد الأضواء إشراقاً، ولم يكن أحد لينتبه أبداً، أو يقدّر ما يمكن أن يحصل في شقة صابر المطلة على المطعم الذي يسهرون فيه إلى ساعات الصباح . ففوق في الطابق العاشر من الجهة المطلة على البحر حيث يقبع مطعم دون بيبه، يخاف صابر أن يُبرز رأسه أعلى من مستوى حافة النوافذ السفلية، لأنه مهدد من قِبل مجهولين بقتله مع عائلته، وينسى في ذلك الخضمّ كل ما يحيط به، لأنه يزحف على أطرافه الأربعة من أجل أن يتأكد من قفل الأبواب جيداً، ومنها باب شرفة المطبخ .
وعندما يصل صابر إلى مدخل الشقة يفاجأ بأن الخادمة الفيلبينية التي نظفت الدار، وذهبت قد تركت الباب مشرعاً بضلفتيه الاثنتين على نهايتيهما . وبارتباك كبير كما في الأحلام، يقفل صابر الباب بصعوبة، ويتأكد منه عدة مرّات، وكأنه يريد أن يطمئن بأن داره هذه سوف تصبح في النهاية مثواه الأخير مع أهله .
ولم ينس صابر أن يلقي نظرات على آخر المناظر التي تشرف عليها شقته، ومنها إضاءة المطعم المكسيكي المنعكسة في مياه لسان البحر الممتد إلى الجزيرة الصغيرة، وأنوار الزوارق الراسية في نادي السابينا، ودخان شواء متصاعد من مدخنة فندق البحار السبعة، وكثير من المارة بمختلف الجنسيات . فشرفة المطبخ هذه تتيح بعتمتها مجالاً مناسباً للرؤية . ولكن ما أن يصل صابر زاحفاً إلى شرفة المطبخ حتى يجد أن النور قد غمرها، إذ ربما تكون الضياء من تأثير الاحتفال الذي يقيمه مطعم دون بيبه المكسيكي كل أول خميس من الشهر، ويرى صابر من مكانه الطاولة الكبيرة التي أُعدت لجماعته، ويحس كأنه بينهم، لكنه يشاهدهم بعيون العازف بيدرو، ومن طائرة فوقهم، وقد جلس عليها معارفه وأصدقاءه المقربين، فذلك غزوان، وهاتان سليمة، ومريم . وتلك شهلة زوجة مسعود الذي خرج من المستشفى لتوه . ويبدو أن هذا الاحتفال هو بمناسبة شفاء مسعود نفسه، ولكن أين له من منفذ لكي يذهب، ويقوم بالواجب كعادته .
ويحس صابر بأن جماعته يستبطئون قدومه، ويرى كأنهم يشيرون إليه بأصابعهم، ويؤشرون له بالنزول، فآه لو يدرون ؟ وإن دروا فماذا بيدهم أن يفعلوا غير التأسف ؟ أو ربما الهروب، أو تبرير ما يقوم به من هدده . بل إن بعضهم سوف يؤنبه، ويلومه، وبعد الحادث سيكونون أول من يؤدي واجب التعزية لأهله، وينعونه لأهله .
وفكّر صابر بأنسب صيغة للبرقية : نشاطركم الحزن، والأسى لوفاة المغفور له ابنكم، وعائلته، ونتقدم إليكم والأهل بخالص عزائنا، ونتمنى للمرحومين الراحة الأبدية، ولكم الصبر والسلوان . وينسون تعبير فلتُشل الأيدي الأثيمة .
ولكن هؤلاء الأصدقاء منشغلون الآن بالأكل، والغناء المكسيكي عن الدنيا كلها، وقد صعدت أبخرت التكيلا، والتياماريا، والبيناكلاته، وروائحها إلى أدمغتهم، ولم يحسوا حتى بالطاولات التي حولهم، فكيف يتذكروه . فإذا قام بالاستنجاد فهل سيسمعونه من خلال صخبهم ؟ لقد سقط كرسي أحد زملائهم من تحته، وما من أحد رآه، أو أحس به، بل إن من رآه مصادفة اعتبر سقوطه نوعاً من أنواع المزاح، أو جزء من فعاليات السهرة، فكيف لهم أن يحسوا بصلي الرصاص الذي سوف يثقب جسد صابر، وجدران شقته، وهو في الطابق العاشر ؟
ورآهم صابر من بعيد يبتسمون له ثانية، وتهلل النساء فيتخيل أنهم يشيرون إليه بالنزول لمشاركتهم، بل ربما استغربوا من أمر مقاطعته للمشاركة في تهنئة المريض على شفائه .
ويسمع بيدرو رنة جرس غريبة، تشاءم لها، ولم يكن قد سمع لها إيقاع موسيقي RETHEM مناسب .
وفي الحقيقة : إن هذا ما سمعه صابر أيضاً، فقد رّن فجأة جرس الباب، فسرت رعدة رهيبة في أوصاله، انعكست على بيدرو وعزفه . وماطل صابر في فتح الباب، فهو في الواقع لا يريد أن يفتح الباب أبداً حتى لمن سوف ينقذه، ولكنه يفاجأ بقدوم عابدين أحد أصدقائه ممن يفترض أنهم جاءوا لمساعدته، وقد تركوا الجمع الساهر في مطعم دون بيبه المكسيكي، ولا يعرف صابر بأن واقعه يؤكد بأن من بالباب معه ليسوا سوى زملائه في العمل، فيذهب دون إذن ليفتح الباب .
وفجأة يرى صابر تورط زميله عابد مع عابدين، فيحاول بيأس شديد غلق الباب حالما برزت رأس رشاشة سوداء يحملها مجنّد . وتلاها جسد كالجدار بوجه مثل مظلة سوداء، تبعهما رشاشة ثانية، فثالثة .
وسرعان ما وامتلأت الشقة بفرقة الإعدام، وهاهم قد بدأوا صلي كل ما هو حي فيها، وغير حي . وبين لحظاته الأخيرة، تمنى صابر شيئين :
الأول مشاهدة شقته بعد الانفجار .
والثاني صيغة برقية التعزية التي سوف تكتب من قبل زملائه لأهله .
وقد أبرق صابر ذلك لبيدرو وهو في حالة الاحتضار، أما بيدرو فقد أصابه الصمم، وفقد كل اتصال بالعالم الخارجي، لهذا لم يستطع التنبيه، ولا التعبير عما يحصل في الشقة بعد الحادثة .
وبينما يخرج أصحاب المهمة من شقة مَن كان يدعى بصابر، يكون مطعم دون بيبه المكسيكي ما يزال محتفلاً بضيوفه، والسهرة ما تزال في أولها، من أول خميس في شهر تموز المبارك، وما يزال لدى أصدقاء صابر أمل في أن يلتحق صابر بهم في أية لحظة .
د. فاروق أوهان
*منشورة ضمن مجموعة قصص البحر يغرق عن دار مركز الحضارة العربية بالقاهرة 2000.
** نقلا عن االناقد العراقي
وبينما تقاطر المدعوون إلى الطاولة الكبيرة، كانت فرقة العزف تردد ألحاناً أندلسية شجية، ومن بين المنشدين هناك وجوه تلبس أقنعة أسود، وسحرة، غير أن وجهاً نورانياً واحداً قد اختلف عن تلك الوجوه المقنّعة، فهو وجه لإله فرعوني كأنه قام للتو من قبره، وجاء بلل زينته، وحلله، وبهائه . هذا القناع كان الوحيد، وربما تميز من لبسه بالفرادة لأنه العازف الفطن، والمعذب الذي يسمع، ويرى ما لا يراه، ويسمعه الآخرون، ألا وهو العازف بيدرو .
كان بيدرو يعزف بهدوء كعادته، ربما لأنه ما زال يشعر بالنعاس، ولربما تقمص شخصية الإله الفرعوني الذي يعاني من داء المفاصل التي ما تزال تؤذيه منذ آلاف السنين.
لكن العريف ببواطن الأمور يقدّر الأمر على نحو آخر . ولأن الجو العام يوحي بالشرقية، فالألوان المكسيكية الزاهية، حارة، دافئة، والنقوش عبارة عن توليفة سومرية، بابلية، فرعونية، وإسبانية مغربية .
وقد أحس الكل بالدفء والنادلات الفيلبينيات يضفن حرارة أكبر على جو المكان، برقة تصرفهن، وأحاسيسهن المضيئة بكلمات الغزل التي تداعبهن بين لحظة، وأخرى من قبل الضيوف، عزّاب، أو متزوجين حضروا مع، أو من دون زوجاتهم . ولأن المدعو بيدرو المتقمص لدور إله الغناء الفرعوني قد أصبح الآن أكثر استثارة، وتوقد، فقد صار حماسه كبيراً، مما أثار استغراب أفراد جوقة العزف منه، وظنوا لوهلة أنهم يتعاملون مع مكسيكي عائد من عصر المايا، لكنهم تغاضوا عن خواطرهم الفردية، لعلمهم بغرابة تصرف بيدو، فما باله الآن وقد لبس القناع الفرعوني، لا بد أنه سيضفي على جو العزف تألق وانتشاء قد يرفع حرارة الجلسة، وحماس الزوار مما يشع صاحب المطعم على تمديدي عقد الفرقة لفترة إضافية، أو لمدة تعاقد جديدة . لهذا حسب أفراد الجوقة خواطرهم، وحسبوها إحدى التداعيات السخيفة . ولم يحس أحد بلا انتماء العازف بيدرو السني الطلعة، ولا بانسجامه في هوايته القديمة بعيداً عن الغناء، وهي كشف بواطن الأفراد من الجالسين على الطاولات، لهذا تتغير تعابير بيدرو بين مرة وأخرى، فيحزن، ويبتسم، ويبتئس، ويقهقه، لكن كل ذلك يمزجه بطريقته في الغناء، لكي تبدو منسجمة مع القناع الذي لبسه، ومع الحماس المطلوب لعلمه بحاجة الفرقة لعقد جديد لكي تعيش .
هاهو بيدرو ينتزع نفسه من نزعات الأفراد على الطاولات، ويحاول التخلص من هواجس الآخرين، ومن بواطن حقائقهم، وما يكنوه للآخرين في تفكيرهم الشخصي، وتداعياتهم . حوارات تعج برأس بيدرو، وتختلط فيما بينها، ورغم أن الأجناس هنا من مختلف الجنسيات، لكن التقاط التفكير ليس عسير تفكيكه، وترجمته لدى بيدرو، لهذا لا يريد أن يترجم هذه التداعيات في حوارات تطول لتملأ ملفات، ومجلدات، وروايات، يتمنى بيدرو أن يتفرغ لها عندما يغتني لصدر منها روايات سوف تجعله مشهوراً، ويعيش من خلالها في بحبوحة العيش . ويضحك بيدرو بين فينة، وأخرى لسماعه حوارات داخلية ناشزة، هي غير ما يقوله لسان الجار لجاره، مما يثير من هو قريب منه لهذا الضحك المفاجئ .
ولكن ضحك بيدرو لما يراه في المطعم شيء، وما يسمعه الآن من أمر يحدث في شقة قريبة على المطعم شيء آخر، لهذا لم يعد انتباه بيدرو يعير أهمية لما بدواخل الناس هنا، وإنما ركّز جلّ تفكير في متابعة ما يجري في الشقة، فاحتوته الأصواتـ والهواجس، وألهته عن زبائن المطعم بقوة أكبر، خصوصاً وإن ما أغراه في المتابعة هو صوت صابر الزبون المواظب على المطعم، وصديق الضيوف الذين احتلوا الطاولة الكبيرة، ولهذا تخيل بيدرو الشقة كما هي لعلم بأن الشقة قريبة من المطعم .
وتساءل البعض الآخر ممن يجلسون على طاولة العشاء من أصدقاء صابر عن سبب غيابه، واعتكافه، رغم أنهم يحتفلون في المطعم الذي تطل شقته عليه، مقابل البناية التي تقع الشقة فيها . ويسمع بيدرو من يعلل الأسباب، لكنهم في دواخلهم يتمنون له الموت، شماتةً من تعاليه . فيبين كل منهم سبباً لذلك، وعندما ينزلق المدعوون تدريجياً في تفاصيل الحفل، وقد أشعلت المارغريتا رؤوسهم، وتخدرت حركاتهم، ينسون ذكر صابر في الصالح، والطالح تماماً، وكأنه ليس بصديقهم، وقد كان لليلة أمس هو مضيفهم هنا في هذا المطعم بالذات . وفي الطاولة نفسها . إلا أن بيدرو الذي وصلته إشارة الاستغاثة التي أطلقها صابر، وما يزال، تشير إلى أن صابر في خطر، وعلى بيدرو أن ينبه أحد ما، أو أن يقوم هو نفسه بالتحذير، أو الدفاع، ولكن حدود بيدرو، ومرونته لا تسمحان أكثر من التواجد في مطعم دون بيبه المكسيكي، لا غيره .
ويعلو الحماس، وتزداد الأضواء إشراقاً، ولم يكن أحد لينتبه أبداً، أو يقدّر ما يمكن أن يحصل في شقة صابر المطلة على المطعم الذي يسهرون فيه إلى ساعات الصباح . ففوق في الطابق العاشر من الجهة المطلة على البحر حيث يقبع مطعم دون بيبه، يخاف صابر أن يُبرز رأسه أعلى من مستوى حافة النوافذ السفلية، لأنه مهدد من قِبل مجهولين بقتله مع عائلته، وينسى في ذلك الخضمّ كل ما يحيط به، لأنه يزحف على أطرافه الأربعة من أجل أن يتأكد من قفل الأبواب جيداً، ومنها باب شرفة المطبخ .
وعندما يصل صابر إلى مدخل الشقة يفاجأ بأن الخادمة الفيلبينية التي نظفت الدار، وذهبت قد تركت الباب مشرعاً بضلفتيه الاثنتين على نهايتيهما . وبارتباك كبير كما في الأحلام، يقفل صابر الباب بصعوبة، ويتأكد منه عدة مرّات، وكأنه يريد أن يطمئن بأن داره هذه سوف تصبح في النهاية مثواه الأخير مع أهله .
ولم ينس صابر أن يلقي نظرات على آخر المناظر التي تشرف عليها شقته، ومنها إضاءة المطعم المكسيكي المنعكسة في مياه لسان البحر الممتد إلى الجزيرة الصغيرة، وأنوار الزوارق الراسية في نادي السابينا، ودخان شواء متصاعد من مدخنة فندق البحار السبعة، وكثير من المارة بمختلف الجنسيات . فشرفة المطبخ هذه تتيح بعتمتها مجالاً مناسباً للرؤية . ولكن ما أن يصل صابر زاحفاً إلى شرفة المطبخ حتى يجد أن النور قد غمرها، إذ ربما تكون الضياء من تأثير الاحتفال الذي يقيمه مطعم دون بيبه المكسيكي كل أول خميس من الشهر، ويرى صابر من مكانه الطاولة الكبيرة التي أُعدت لجماعته، ويحس كأنه بينهم، لكنه يشاهدهم بعيون العازف بيدرو، ومن طائرة فوقهم، وقد جلس عليها معارفه وأصدقاءه المقربين، فذلك غزوان، وهاتان سليمة، ومريم . وتلك شهلة زوجة مسعود الذي خرج من المستشفى لتوه . ويبدو أن هذا الاحتفال هو بمناسبة شفاء مسعود نفسه، ولكن أين له من منفذ لكي يذهب، ويقوم بالواجب كعادته .
ويحس صابر بأن جماعته يستبطئون قدومه، ويرى كأنهم يشيرون إليه بأصابعهم، ويؤشرون له بالنزول، فآه لو يدرون ؟ وإن دروا فماذا بيدهم أن يفعلوا غير التأسف ؟ أو ربما الهروب، أو تبرير ما يقوم به من هدده . بل إن بعضهم سوف يؤنبه، ويلومه، وبعد الحادث سيكونون أول من يؤدي واجب التعزية لأهله، وينعونه لأهله .
وفكّر صابر بأنسب صيغة للبرقية : نشاطركم الحزن، والأسى لوفاة المغفور له ابنكم، وعائلته، ونتقدم إليكم والأهل بخالص عزائنا، ونتمنى للمرحومين الراحة الأبدية، ولكم الصبر والسلوان . وينسون تعبير فلتُشل الأيدي الأثيمة .
ولكن هؤلاء الأصدقاء منشغلون الآن بالأكل، والغناء المكسيكي عن الدنيا كلها، وقد صعدت أبخرت التكيلا، والتياماريا، والبيناكلاته، وروائحها إلى أدمغتهم، ولم يحسوا حتى بالطاولات التي حولهم، فكيف يتذكروه . فإذا قام بالاستنجاد فهل سيسمعونه من خلال صخبهم ؟ لقد سقط كرسي أحد زملائهم من تحته، وما من أحد رآه، أو أحس به، بل إن من رآه مصادفة اعتبر سقوطه نوعاً من أنواع المزاح، أو جزء من فعاليات السهرة، فكيف لهم أن يحسوا بصلي الرصاص الذي سوف يثقب جسد صابر، وجدران شقته، وهو في الطابق العاشر ؟
ورآهم صابر من بعيد يبتسمون له ثانية، وتهلل النساء فيتخيل أنهم يشيرون إليه بالنزول لمشاركتهم، بل ربما استغربوا من أمر مقاطعته للمشاركة في تهنئة المريض على شفائه .
ويسمع بيدرو رنة جرس غريبة، تشاءم لها، ولم يكن قد سمع لها إيقاع موسيقي RETHEM مناسب .
وفي الحقيقة : إن هذا ما سمعه صابر أيضاً، فقد رّن فجأة جرس الباب، فسرت رعدة رهيبة في أوصاله، انعكست على بيدرو وعزفه . وماطل صابر في فتح الباب، فهو في الواقع لا يريد أن يفتح الباب أبداً حتى لمن سوف ينقذه، ولكنه يفاجأ بقدوم عابدين أحد أصدقائه ممن يفترض أنهم جاءوا لمساعدته، وقد تركوا الجمع الساهر في مطعم دون بيبه المكسيكي، ولا يعرف صابر بأن واقعه يؤكد بأن من بالباب معه ليسوا سوى زملائه في العمل، فيذهب دون إذن ليفتح الباب .
وفجأة يرى صابر تورط زميله عابد مع عابدين، فيحاول بيأس شديد غلق الباب حالما برزت رأس رشاشة سوداء يحملها مجنّد . وتلاها جسد كالجدار بوجه مثل مظلة سوداء، تبعهما رشاشة ثانية، فثالثة .
وسرعان ما وامتلأت الشقة بفرقة الإعدام، وهاهم قد بدأوا صلي كل ما هو حي فيها، وغير حي . وبين لحظاته الأخيرة، تمنى صابر شيئين :
الأول مشاهدة شقته بعد الانفجار .
والثاني صيغة برقية التعزية التي سوف تكتب من قبل زملائه لأهله .
وقد أبرق صابر ذلك لبيدرو وهو في حالة الاحتضار، أما بيدرو فقد أصابه الصمم، وفقد كل اتصال بالعالم الخارجي، لهذا لم يستطع التنبيه، ولا التعبير عما يحصل في الشقة بعد الحادثة .
وبينما يخرج أصحاب المهمة من شقة مَن كان يدعى بصابر، يكون مطعم دون بيبه المكسيكي ما يزال محتفلاً بضيوفه، والسهرة ما تزال في أولها، من أول خميس في شهر تموز المبارك، وما يزال لدى أصدقاء صابر أمل في أن يلتحق صابر بهم في أية لحظة .
د. فاروق أوهان
*منشورة ضمن مجموعة قصص البحر يغرق عن دار مركز الحضارة العربية بالقاهرة 2000.
** نقلا عن االناقد العراقي