(( تعال يا قطي الجميل وأرقد فوق قلبي العاشق
واطو مخالب أقدامك
ودعني أسبح في عيونك الجميلة
المشربة بمعدن وعقيق ))
تردد سيدتي فرجينيا هذه الكلمات قبل أن ننام بسلام ، وتقول لي وهي تمسد ذيلي : إنها لبودلير يا حبيبي .
في السابعة يخيم على بيتنا خمول عجيب ، بداية الليل تبعث على الكآبة حقا ً ، لم أنتظر طويلا ً، بقفزة واثقة صعدت على الأريكة الحمراء التي أعتدت على التكور فوقها . لا تتصورون كم أشعر بالفخر حينما يتحدثون عن سلالتي التي تنتمي إلى القطط الفارسية المحبة للعب . نعم ، يحبني الجميع ، ما يميزني هو شعري البني الكثيف والطويل ، ولامتلاكي مزاجا ً معتدلا ً .
حرارة المدفئة في صالة الضيوف ، حفزتني على التثاؤب ، خاصة ً بعد أن سمعت سيدتي فرجينيا تقول بنبرة حاسمة : همنغواي ، يا قطي الجميل، العشاء لم يحن بعد . لكني غفوت
في تلك الليلة بالذات ، كان المطر مدرارا ً ، وبما أني أخاف من البلل والبرد وكذلك من الأطفال المشاكسين والأشرار ، لذلك وجدت نفسي مصادفة ً أنزلق صوب تلك التجربة ، التي ولدت في عتمة الوعي وضحالة الإدراك .
إنه لأمر سيء أن نجد أنفسنا نتجول بين السيارات وبلا أي هدف ، كيف لي أن أتفادى قسوة هذه الليلة الباردة ، كنت مهزوما ً وجائعا ً حين رأيت مدام (جانيت) ذات البشرة السوداء ، والتي نزلت من سيارتها من دون أن تركلني بقدمها كما فعل الآخرون ، توقفت لتقول بأسى :
ـ يا لك من قط مسكين !
حال خروجها من السيارة ، سحبت حقيبتها ، وبدأت تفتش فيها ، صمتت وهي تنظر لي ، بدأت المواء خلفها، استدارت وتطلعت في وجهي وبنبرة حانية :
ـ ماذا تريد ؟ ليس معي ما يؤكل .
حدست أن مدام جانيت المكورة العجيزة مستعدة لَتَتبَنى قطا ً ضامر البطن مثلي وبوجه طعن بالكدمات كحالي . يا إلهي ، ماذا لو لم يعجبها أنفي الصغير والعريض ؟ ، لا اعتقد سيروق لها فرائي الطويل المتسخ ، ولا نظراتي المركزة ، التي أثارت حفيظتها حتما ً وربما أخافتها عيوني العسلية الشرهة .
سرت خلفها ، متوسلا ً ، لكنها واصلت طريقها ودخلت تلك البناية التي أغلق بابها قبل أن أتمكن من المرور .
للمرة الأولى أتذكر أن موت سيدتي فرجينيا هو السبب في مأساتي ، لكني أتذكر دائما ًأنها مشيئة الله .
أبنها الوحيد لم يعد يحتمل وجودي في البيت ، لذلك طردني ثلاث مرات ، على الرغم من علمه باني كنت قط أمه المدلل ، لذا كنت أصر على دخول البيت بشتى السبل .
بعدها سمعته يصرخ كالمجنون ، وأدهشني حين أمرني زاعقا ً : أن عاودت إزعاجي أيها الأحمق ، سأقتلك بحبيبات الزرنيخ .
هكذا ، بين ليلة وضحاها فقدت أريكتي الحمراء والبيت الآمن ، وبدأت اقتنع تدريجيا ً أن الناس المحترمين في هذه المدينة لا يتعاطفون مع قط ملوث برائحة المزابل .
بحثت طويلا ً، ولم اعثر على منزل جديد يؤويني ، حتى إنني في اليوم الثالث فقدت الأمل ، بعد أن سألت اغلب القطط التي تترك منازلها الدافئة بحثا ً عن هواء الحرية .
لأول مرة في حياتي أجد أن انتظاري سيحمل لي فرجا ً ما ، معتقدا ً أن مدام جانيت ستخرج حتما ، وتبادر بسؤالي : هل تبحث عن مأوى أم عن وجبة أكل دسمة ؟
ما كان أمامي من حل إلا أن أنتظر ، فرب ساعتين من الانتظار قد تثمر عن راحة لعدت سنوات ، بعدها سأموت أو تموت تلك السوداء التي غزى الشيب رأسها .
يا لي ّ من قط سيء الحظ ، كوني لم أتمكن من التخلص من عاداتي القديمة ، فطوال سنوات عمري الخمس ما كان ليروق لي سوى النوم فوق الأريكة الملاصقة للمدفئة .
كنت بحق كطفل مدلل ، سيدتي قبل إفطارها ، تفتح علبة اللحم التي أحبها وتضعها لي في صحن السيراميك ، وتناديني بأعلى صوتها : قم أيها الكسول ـ عليك أن لا تترك الفئران تغزو البيت .
أمام غريزة الجوع قررت ليلة أمس ، أن أستيقظ مبكرا ً، وأبدأ البحث عما أحتاجه في أكداس القمامة ، ولم يدر بخلدي أن أجد قطا ً صوماليا ً وآخر من بورما .
طبعا ً ، ذلك لم يرق لي في اللحظات الأولى ، لذلك فضلت الصوم خلال الأيام الثلاثة الأولى ، كبحت رغبتي لأني لم أتصور أو أحتمل فكرة الصراع مع القطط الجرباء من اجل لقمة عفنة .
لكن مشيئة الله ، حولتني فجأة إلى قط غير محترم ، أسرق فضلات الطعام وأخبؤها بعيدا ، خشية أن يعثر عليها أصدقائي الفضوليون .
ومنذ الأيام الأولى لنزولي إلى الشارع ، عرفت أن أناس هذه المدينة لا يشغلهم أمري ، بل على العكس كان أغلبهم يتقززون مني ويحملقون بي صارخين :
ـ ليأخذك الرب ، أن رائحتك تذكرنا بالموت…..
يا له من نهار ، استيقظت على أثر سماعي ذلك الشحاذ الذي ينزف انفه ، كان نحيلا ً ووسخا ً مثلي ، والذي ما ان رآني حتى بصق دما ًعلى الأرض ليقول لي بمزاج حزين :
ـ يجب نسيان الماضي ، أشعر أنه الوقت المناسب لنتحرك كي لا نموت .
يا للهول ، هكذا أذن البرد والسكون سوف يودي بنا إلى تلك النهاية التعيسة ، قررت أن اركض ، هرعت مذعورا ً ، ولم أتوقف حتى وصلت منهكا ً إلى ذلك المكان الذي وجدت فيه فرصتي الذهبية ، لو لم استيقظ باكرا ً ذلك النهار ، لاستحال لقائي بالسيدة السوداء ، حقا ً، المصادفات تحتاج إلى مبادرات طيبة .
ما أن خرجت حتى وجدتني انتظر قرب سيارتها البيضاء ، تساءلت في خلدي : هل سيأخذ الله بيدي ؟
لا اعرف أي شجاعة حفزتني ، ما أن رأيتها تفتح باب السيارة ، حتى قفزت في داخلها ، كنت قلقا ً ، وتوقعت أنها ستطردني ، لكنها نظرت لي مطولا ً . بماذا فكرت ؟ لست أدري ، ربما برميي من النافذة . لكنها ابتسمت ، فرأيت في ذلك فالا ً حسنا ً ، كنت سعيدا ً جدا ً ، إذ رأيتها تطيل النظر وتتطلع حولها ، وحين لم تر من أحد ، تفوهت بتلك الكلمات التي أنقذتني مما أنا فيه :
ـ هل تريد أن تأتي معي ؟
مشيئة الله منحتني بركات أمل جديد ، ومكانا ً أنام فيه كما أريد ومتى أشاء .
نعم ، أحسست أنها تمتلك قلبا ً طيبا ً ، وحال وصولنا فتحت باب دارها ، وتبعتها لأجد بيتا ً تفوح منه روائح متنوعة ، بدأت أتأمل صور قط جميل ، تم تعليقها في كل مكان ، عقدت الدهشة لساني ، وضحت لي بوجع كيف إني سآخذ مكان هذا القط ، الذي قضى نحبه دون اختيار منه . عادت الابتسامة على وجهي . لكني رفضت بامتعاض فكرة أن احمل نفس أسم القط الذي أحبته كطفلها ، نعم أني قط في منتصف العمر ، لذلك اعتقد أن تناسخ الأسماء خلل قاتل .
وبما إننا نعيش في الريف ، بعيدا ً عن الضوضاء والقطط السائبة ، لذا لم احصل إلا على وجبة واحدة من الأكل ، وهذا ما شجعني أن اكتشف مواهبي بصيد العصافير والفئران ، مزهوا ً بانتصاراتي .
على الرغم من كل ذلك ، فثمة أمران أزعجاني ما أن دخلت هذا المنزل الكبير ، أولهما هو وجود ذلك الكلب الرمادي ، الذي صار يترصد حركاتي ، وثانيهما وجود ذلك الخنزير الصغير الذي لا اعرف مزاحه من جده . وبما أن سيدتي الجديدة ليس لها سوانا ، لذلك كانت تجمعنا وتبدأ اللعب معنا ، فرحة بهذا الصخب ، آملة أن تنقذنا من الضجر.
بعد ثلاثة أشهر ، اكتشفت المكان على نحو أفضل ، وصار لي صديق ، انه القط فولتير المنتسب لقطط الغابة النرويجية ، والذي أتخذ له ملجئا ً تحت سقيفة الصفيح في زاوية الحديقة التابعة إلى مسيو أبراهام .
اقترحتُ ذات يوم على صديقي فولتير أن يأتي إلى بيتنا حيث الموسيقى والراحة ، لكنه كان حازما وقال لي ما لم أتوقعه :
ـ بالله عليك لا تحدثني بذلك ، أن حريتي فوق كل اعتبار .
كلما كانت السيدة جانيت تغادر البيت ، كنت اخرج واذهب بعيدا ً مثل فولتير ، باحثا ً عن الحرية ، متنعما ً بالربيع ، مرددا ً : كم حياة الريف جميلة .
رويدا رويدا ً صرت أتنعم بالشمس وهي تبعث الدفء في الشارع الذي أمام البيت ، هنالك كنت أتمدد وأغمض عيني واحلم بالحرية التي لم تمنحني إياها فرجينيا . نعم ، يجب أن نشكر الله على ما يهبنا من نعم جديدة ولو كانت مزيفة .
في الحقيقة ، حين كنت أتمدد على أسفلت الشارع ، لم يخطر ببالي أن السيارات المسرعة من المكن أن تؤذيني .
لكن فعلي هذا ، كان يغيض سيدتي جانيت، التي ما أن تخرج وتراني أتنعم بدفء الإسفلت ، حتى يجن جنونها ، لا اعلم لماذا تنهرني حينا ً وتنصحني بعدم تجاوز حدود الحديقة حينا آخر . في المرة الأخيرة ، كان وجهها عابسا ً وركلتني على مؤخرتي ، قائلة :
ـ يا لك من غبي ، لا اغفر لك حماقاتك في المرة القادمة .
من الواضح أنها حدست أن الطريق بأنحنائتيه التين تشكلان هلالين متعاكسين سيتسبب في لحظة كارثية ويسحق عظامي .
الأمور بدأت تزداد سوءا ً ، كنت عنيدا ً ، صار دفء الإسفلت يوازي حريتي .
في أحد الأيام ، مر طفلان مشاكسان لا يعرفان الله ، شعري الناعم أغرى أحدهما فتجرأ بحرق ذيلي لتنبعث منه رائحة كريهة . لكن تلك العقوبة لم تمنعني من التخلي عن حريتي .
بعد هذه الحادثة بأسبوعين ، فتحت عيني ما أن سمعت ذلك الإيقاع الغريب ، أراد لي الله أن أرى تلك العجوز الهرمة التي تنقل خطواتها بحذر ، توقفت ، رأيت عكازها ، ساورني الشك ، نعم ، خفت أن تحطم رأسي بضربة واحدة .
لكنها ابتسمت وتجاوزتني ، وعادت لتقول لي بحزن : كيف لا تعرف أنك ستموت !
لم أفهم ما تقوله هذه ألخرفه . لكن في المساء ساورتني أمور منها : بمشيئة الله نولد ، أما عن الموت فأننا لا يمكن أن نرجئه إلى زمن آخر ، انه يحدث كالصاعقة أو هكذا يحدث دائما ً وبأمر رباني .
شعرت بالملل ، وأنا انظر إلى السيدة المنشغلة بتنظيف القراد من فراء كلبها ، وبما أن ذلك قد ترافق مع نغمات الموسيقى الحزينة التي افقدني راحة البال ، لذلك قررت أن أخرج والعب في الحديقة مع الخنزير ، اكتشفت انه أكثر بلادة من سيدته ، تفوح منه رائحة البراز ، يا له من مسكين ، فهو لا يعلم أن حياته ستنتهي إلى شرائح مملحة وأفخاذ معلقة في المدخنة .
بخطوات وقفزات متعاقبة وصلت حديقة أبراهام ، بحثت وناديت على فولتير ، لكني لم أجده ، في بعض الأحيان اشعر أن اللعب مع القطط يساعدني على قبول الحياة كما رسمها الله لنا ، بخيرها وشرها، لا كما يريدها الآخرون .
مكثت انتظر في مخدع فولتير ، سيعود حتما ً، هذا ما مر ببالي ، لا اعرف لماذا سرحت مفكرا ً بسيدتي فرجينيا ، اذكر في احد الأيام وقبل أن يرمى بي في الشارع ، كان بيتنا القديم حزينا ً ، وفي الفترة الأخيرة صار يزورنا رجل وقور. قالوا لي : أهجع فإن الطبيب لا يحب المواء ، لكن انفي شم رائحة الخطر ، تعاقبت زيارات الطبيب ، الذي أغرورقت عيناه بالدموع في آخر زيارة ، ولم يتردد حين قال لها : مدام فرجينيا ، يؤسفني ان أخبرك أن العلمَ عاجز على شفائك .
بعد يومين ، حدث ما لم أتوقعه ، وضعوها في كيس ، وحملوها وهم يرددون : نامي بسلام ، واغفري لنا ، لأننا نحبك ولا ننساك .
كان الابن الوحيد لمدام فرجينيا صديقا ً لي ، لكن فجأة ً تحول إلى شخص جاحد ونذل ، لم أتوقع أبدا ً أن يضعني في الصندوق الخاص بنقل القطط ، بعد ساعتين من المشي الحثيث ، لم أخمن ما ينوي فعله ولا النية التي عزم عليها ، كل توقعي إننا سنزور صديقا ً أو سنذهب للتسلية في حديقة ما ، لكنه ما أن وصل إلى النافورة التي في مركز المدينة ، حتى فتح باب القفص ، وباستغراب سمعته يقول تلك الكلمات التي وقعت على راسي كالصاعقة :
ـ ما أجمل أن تكتشف نبض الحياة معتمدا ً على قدراتك الذاتية .
لم افهم بسهوله ماذا كان يعني ب ( نبض الحياة ) . لكن مشيئة الله حفزتني صوب تجربتي ، والتي قادتني شيئا ً فشيئا ً إلى نبض حريتي المفقودة .
كانت سيدتي جانيت تبكي هذا الصباح ، وشعرت أنها تمنحني الحب كله حين مسدت على ظهري عدة مرات وهي تقول بحزن : بالله عليك لا تخرج اليوم .
هي تعرف كل شيء عني ، لكني متأكد أنها لا تخمن بما أؤمن، وكيف أن الله يقدر مصائر مخلوقاته . لذلك ما أن انصرفت حتى تسللت إلى الحديقة ومنها إلى دفء إسفلت الشارع ، من يراني يتوقع أن طبيعتي بدأت تميل صوب العناد ، لا ، في الحقيقة ، كنت أهرب من الرائحة المنبعثة من الكلب والخنزير .
كنت يقظا ً ، منتبها ً لصوت أية سيارة قادمة ، متنعما ً بذلك الدفء ، ممعنا ً النظر إلى السماء البعيدة ، ومندهشا ً بالفراشات التي تملأ الحقل المجاور ، حلاوة الشمس وسقوط أشعتها دفعاني أن أغلق حواسي لثوانِ ، كم لذيذ أن نعيش لحظة الخدر هذه .
فجأة ً ، وما أن سمعت مكابح السيارة ، حتى انتبهت لما حدث ، وما قدر الله لي .
يا لها من لحظة ، رؤيتي للموت أفزعتني وأجحظت عيني ، التي فتحتها لأفهم ما يجري ، نظرت حولي مذهولا ً مما حدث ، فجأة ً رأيت كتب مدام فرجينيا ، وعلى اليسار التحف الفخارية المدهشة ، بعد جهد جهيد اكتشفت وتأكدت بأني لم ابرح الأريكة الحمراء .حينها أطمأن قلبي وعاد شعري المنفوش إلى سابق عهده ، وشكرت الله لأنه كتب لي عمرا ً جديدا ً .
رأيت سيدتي فرجينيا تدخل الصالة ، من دون أن تعرف أو تتوقع بأني ما أن قفزت عن الإسفلت حتى قذفت في تلك الساقية ، وتلوث فرائي بالمياه الأسنة والأعشاب ، ولكن كيف لي أن أشرح لها بأني قد مت ورجعت إلى الحياة .
ولجت سيدتي صالة الضيوف ، بدأت تتأمل العصافير مرددة ً ما قال بودلير ، بعدها أومأت لي بصحن السيراميك وهي تقول :
ـ تعال يا حبيبي ، علبه السردين لك
وصمتت ، ثم أردفت وهي تضحك
ـ همنغواي ، السمك يقوي الذاكرة يا عزيزي .
28 /7 /2013
نقلا عن موقع الحوار المتمدن
واطو مخالب أقدامك
ودعني أسبح في عيونك الجميلة
المشربة بمعدن وعقيق ))
تردد سيدتي فرجينيا هذه الكلمات قبل أن ننام بسلام ، وتقول لي وهي تمسد ذيلي : إنها لبودلير يا حبيبي .
في السابعة يخيم على بيتنا خمول عجيب ، بداية الليل تبعث على الكآبة حقا ً ، لم أنتظر طويلا ً، بقفزة واثقة صعدت على الأريكة الحمراء التي أعتدت على التكور فوقها . لا تتصورون كم أشعر بالفخر حينما يتحدثون عن سلالتي التي تنتمي إلى القطط الفارسية المحبة للعب . نعم ، يحبني الجميع ، ما يميزني هو شعري البني الكثيف والطويل ، ولامتلاكي مزاجا ً معتدلا ً .
حرارة المدفئة في صالة الضيوف ، حفزتني على التثاؤب ، خاصة ً بعد أن سمعت سيدتي فرجينيا تقول بنبرة حاسمة : همنغواي ، يا قطي الجميل، العشاء لم يحن بعد . لكني غفوت
في تلك الليلة بالذات ، كان المطر مدرارا ً ، وبما أني أخاف من البلل والبرد وكذلك من الأطفال المشاكسين والأشرار ، لذلك وجدت نفسي مصادفة ً أنزلق صوب تلك التجربة ، التي ولدت في عتمة الوعي وضحالة الإدراك .
إنه لأمر سيء أن نجد أنفسنا نتجول بين السيارات وبلا أي هدف ، كيف لي أن أتفادى قسوة هذه الليلة الباردة ، كنت مهزوما ً وجائعا ً حين رأيت مدام (جانيت) ذات البشرة السوداء ، والتي نزلت من سيارتها من دون أن تركلني بقدمها كما فعل الآخرون ، توقفت لتقول بأسى :
ـ يا لك من قط مسكين !
حال خروجها من السيارة ، سحبت حقيبتها ، وبدأت تفتش فيها ، صمتت وهي تنظر لي ، بدأت المواء خلفها، استدارت وتطلعت في وجهي وبنبرة حانية :
ـ ماذا تريد ؟ ليس معي ما يؤكل .
حدست أن مدام جانيت المكورة العجيزة مستعدة لَتَتبَنى قطا ً ضامر البطن مثلي وبوجه طعن بالكدمات كحالي . يا إلهي ، ماذا لو لم يعجبها أنفي الصغير والعريض ؟ ، لا اعتقد سيروق لها فرائي الطويل المتسخ ، ولا نظراتي المركزة ، التي أثارت حفيظتها حتما ً وربما أخافتها عيوني العسلية الشرهة .
سرت خلفها ، متوسلا ً ، لكنها واصلت طريقها ودخلت تلك البناية التي أغلق بابها قبل أن أتمكن من المرور .
للمرة الأولى أتذكر أن موت سيدتي فرجينيا هو السبب في مأساتي ، لكني أتذكر دائما ًأنها مشيئة الله .
أبنها الوحيد لم يعد يحتمل وجودي في البيت ، لذلك طردني ثلاث مرات ، على الرغم من علمه باني كنت قط أمه المدلل ، لذا كنت أصر على دخول البيت بشتى السبل .
بعدها سمعته يصرخ كالمجنون ، وأدهشني حين أمرني زاعقا ً : أن عاودت إزعاجي أيها الأحمق ، سأقتلك بحبيبات الزرنيخ .
هكذا ، بين ليلة وضحاها فقدت أريكتي الحمراء والبيت الآمن ، وبدأت اقتنع تدريجيا ً أن الناس المحترمين في هذه المدينة لا يتعاطفون مع قط ملوث برائحة المزابل .
بحثت طويلا ً، ولم اعثر على منزل جديد يؤويني ، حتى إنني في اليوم الثالث فقدت الأمل ، بعد أن سألت اغلب القطط التي تترك منازلها الدافئة بحثا ً عن هواء الحرية .
لأول مرة في حياتي أجد أن انتظاري سيحمل لي فرجا ً ما ، معتقدا ً أن مدام جانيت ستخرج حتما ، وتبادر بسؤالي : هل تبحث عن مأوى أم عن وجبة أكل دسمة ؟
ما كان أمامي من حل إلا أن أنتظر ، فرب ساعتين من الانتظار قد تثمر عن راحة لعدت سنوات ، بعدها سأموت أو تموت تلك السوداء التي غزى الشيب رأسها .
يا لي ّ من قط سيء الحظ ، كوني لم أتمكن من التخلص من عاداتي القديمة ، فطوال سنوات عمري الخمس ما كان ليروق لي سوى النوم فوق الأريكة الملاصقة للمدفئة .
كنت بحق كطفل مدلل ، سيدتي قبل إفطارها ، تفتح علبة اللحم التي أحبها وتضعها لي في صحن السيراميك ، وتناديني بأعلى صوتها : قم أيها الكسول ـ عليك أن لا تترك الفئران تغزو البيت .
أمام غريزة الجوع قررت ليلة أمس ، أن أستيقظ مبكرا ً، وأبدأ البحث عما أحتاجه في أكداس القمامة ، ولم يدر بخلدي أن أجد قطا ً صوماليا ً وآخر من بورما .
طبعا ً ، ذلك لم يرق لي في اللحظات الأولى ، لذلك فضلت الصوم خلال الأيام الثلاثة الأولى ، كبحت رغبتي لأني لم أتصور أو أحتمل فكرة الصراع مع القطط الجرباء من اجل لقمة عفنة .
لكن مشيئة الله ، حولتني فجأة إلى قط غير محترم ، أسرق فضلات الطعام وأخبؤها بعيدا ، خشية أن يعثر عليها أصدقائي الفضوليون .
ومنذ الأيام الأولى لنزولي إلى الشارع ، عرفت أن أناس هذه المدينة لا يشغلهم أمري ، بل على العكس كان أغلبهم يتقززون مني ويحملقون بي صارخين :
ـ ليأخذك الرب ، أن رائحتك تذكرنا بالموت…..
يا له من نهار ، استيقظت على أثر سماعي ذلك الشحاذ الذي ينزف انفه ، كان نحيلا ً ووسخا ً مثلي ، والذي ما ان رآني حتى بصق دما ًعلى الأرض ليقول لي بمزاج حزين :
ـ يجب نسيان الماضي ، أشعر أنه الوقت المناسب لنتحرك كي لا نموت .
يا للهول ، هكذا أذن البرد والسكون سوف يودي بنا إلى تلك النهاية التعيسة ، قررت أن اركض ، هرعت مذعورا ً ، ولم أتوقف حتى وصلت منهكا ً إلى ذلك المكان الذي وجدت فيه فرصتي الذهبية ، لو لم استيقظ باكرا ً ذلك النهار ، لاستحال لقائي بالسيدة السوداء ، حقا ً، المصادفات تحتاج إلى مبادرات طيبة .
ما أن خرجت حتى وجدتني انتظر قرب سيارتها البيضاء ، تساءلت في خلدي : هل سيأخذ الله بيدي ؟
لا اعرف أي شجاعة حفزتني ، ما أن رأيتها تفتح باب السيارة ، حتى قفزت في داخلها ، كنت قلقا ً ، وتوقعت أنها ستطردني ، لكنها نظرت لي مطولا ً . بماذا فكرت ؟ لست أدري ، ربما برميي من النافذة . لكنها ابتسمت ، فرأيت في ذلك فالا ً حسنا ً ، كنت سعيدا ً جدا ً ، إذ رأيتها تطيل النظر وتتطلع حولها ، وحين لم تر من أحد ، تفوهت بتلك الكلمات التي أنقذتني مما أنا فيه :
ـ هل تريد أن تأتي معي ؟
مشيئة الله منحتني بركات أمل جديد ، ومكانا ً أنام فيه كما أريد ومتى أشاء .
نعم ، أحسست أنها تمتلك قلبا ً طيبا ً ، وحال وصولنا فتحت باب دارها ، وتبعتها لأجد بيتا ً تفوح منه روائح متنوعة ، بدأت أتأمل صور قط جميل ، تم تعليقها في كل مكان ، عقدت الدهشة لساني ، وضحت لي بوجع كيف إني سآخذ مكان هذا القط ، الذي قضى نحبه دون اختيار منه . عادت الابتسامة على وجهي . لكني رفضت بامتعاض فكرة أن احمل نفس أسم القط الذي أحبته كطفلها ، نعم أني قط في منتصف العمر ، لذلك اعتقد أن تناسخ الأسماء خلل قاتل .
وبما إننا نعيش في الريف ، بعيدا ً عن الضوضاء والقطط السائبة ، لذا لم احصل إلا على وجبة واحدة من الأكل ، وهذا ما شجعني أن اكتشف مواهبي بصيد العصافير والفئران ، مزهوا ً بانتصاراتي .
على الرغم من كل ذلك ، فثمة أمران أزعجاني ما أن دخلت هذا المنزل الكبير ، أولهما هو وجود ذلك الكلب الرمادي ، الذي صار يترصد حركاتي ، وثانيهما وجود ذلك الخنزير الصغير الذي لا اعرف مزاحه من جده . وبما أن سيدتي الجديدة ليس لها سوانا ، لذلك كانت تجمعنا وتبدأ اللعب معنا ، فرحة بهذا الصخب ، آملة أن تنقذنا من الضجر.
بعد ثلاثة أشهر ، اكتشفت المكان على نحو أفضل ، وصار لي صديق ، انه القط فولتير المنتسب لقطط الغابة النرويجية ، والذي أتخذ له ملجئا ً تحت سقيفة الصفيح في زاوية الحديقة التابعة إلى مسيو أبراهام .
اقترحتُ ذات يوم على صديقي فولتير أن يأتي إلى بيتنا حيث الموسيقى والراحة ، لكنه كان حازما وقال لي ما لم أتوقعه :
ـ بالله عليك لا تحدثني بذلك ، أن حريتي فوق كل اعتبار .
كلما كانت السيدة جانيت تغادر البيت ، كنت اخرج واذهب بعيدا ً مثل فولتير ، باحثا ً عن الحرية ، متنعما ً بالربيع ، مرددا ً : كم حياة الريف جميلة .
رويدا رويدا ً صرت أتنعم بالشمس وهي تبعث الدفء في الشارع الذي أمام البيت ، هنالك كنت أتمدد وأغمض عيني واحلم بالحرية التي لم تمنحني إياها فرجينيا . نعم ، يجب أن نشكر الله على ما يهبنا من نعم جديدة ولو كانت مزيفة .
في الحقيقة ، حين كنت أتمدد على أسفلت الشارع ، لم يخطر ببالي أن السيارات المسرعة من المكن أن تؤذيني .
لكن فعلي هذا ، كان يغيض سيدتي جانيت، التي ما أن تخرج وتراني أتنعم بدفء الإسفلت ، حتى يجن جنونها ، لا اعلم لماذا تنهرني حينا ً وتنصحني بعدم تجاوز حدود الحديقة حينا آخر . في المرة الأخيرة ، كان وجهها عابسا ً وركلتني على مؤخرتي ، قائلة :
ـ يا لك من غبي ، لا اغفر لك حماقاتك في المرة القادمة .
من الواضح أنها حدست أن الطريق بأنحنائتيه التين تشكلان هلالين متعاكسين سيتسبب في لحظة كارثية ويسحق عظامي .
الأمور بدأت تزداد سوءا ً ، كنت عنيدا ً ، صار دفء الإسفلت يوازي حريتي .
في أحد الأيام ، مر طفلان مشاكسان لا يعرفان الله ، شعري الناعم أغرى أحدهما فتجرأ بحرق ذيلي لتنبعث منه رائحة كريهة . لكن تلك العقوبة لم تمنعني من التخلي عن حريتي .
بعد هذه الحادثة بأسبوعين ، فتحت عيني ما أن سمعت ذلك الإيقاع الغريب ، أراد لي الله أن أرى تلك العجوز الهرمة التي تنقل خطواتها بحذر ، توقفت ، رأيت عكازها ، ساورني الشك ، نعم ، خفت أن تحطم رأسي بضربة واحدة .
لكنها ابتسمت وتجاوزتني ، وعادت لتقول لي بحزن : كيف لا تعرف أنك ستموت !
لم أفهم ما تقوله هذه ألخرفه . لكن في المساء ساورتني أمور منها : بمشيئة الله نولد ، أما عن الموت فأننا لا يمكن أن نرجئه إلى زمن آخر ، انه يحدث كالصاعقة أو هكذا يحدث دائما ً وبأمر رباني .
شعرت بالملل ، وأنا انظر إلى السيدة المنشغلة بتنظيف القراد من فراء كلبها ، وبما أن ذلك قد ترافق مع نغمات الموسيقى الحزينة التي افقدني راحة البال ، لذلك قررت أن أخرج والعب في الحديقة مع الخنزير ، اكتشفت انه أكثر بلادة من سيدته ، تفوح منه رائحة البراز ، يا له من مسكين ، فهو لا يعلم أن حياته ستنتهي إلى شرائح مملحة وأفخاذ معلقة في المدخنة .
بخطوات وقفزات متعاقبة وصلت حديقة أبراهام ، بحثت وناديت على فولتير ، لكني لم أجده ، في بعض الأحيان اشعر أن اللعب مع القطط يساعدني على قبول الحياة كما رسمها الله لنا ، بخيرها وشرها، لا كما يريدها الآخرون .
مكثت انتظر في مخدع فولتير ، سيعود حتما ً، هذا ما مر ببالي ، لا اعرف لماذا سرحت مفكرا ً بسيدتي فرجينيا ، اذكر في احد الأيام وقبل أن يرمى بي في الشارع ، كان بيتنا القديم حزينا ً ، وفي الفترة الأخيرة صار يزورنا رجل وقور. قالوا لي : أهجع فإن الطبيب لا يحب المواء ، لكن انفي شم رائحة الخطر ، تعاقبت زيارات الطبيب ، الذي أغرورقت عيناه بالدموع في آخر زيارة ، ولم يتردد حين قال لها : مدام فرجينيا ، يؤسفني ان أخبرك أن العلمَ عاجز على شفائك .
بعد يومين ، حدث ما لم أتوقعه ، وضعوها في كيس ، وحملوها وهم يرددون : نامي بسلام ، واغفري لنا ، لأننا نحبك ولا ننساك .
كان الابن الوحيد لمدام فرجينيا صديقا ً لي ، لكن فجأة ً تحول إلى شخص جاحد ونذل ، لم أتوقع أبدا ً أن يضعني في الصندوق الخاص بنقل القطط ، بعد ساعتين من المشي الحثيث ، لم أخمن ما ينوي فعله ولا النية التي عزم عليها ، كل توقعي إننا سنزور صديقا ً أو سنذهب للتسلية في حديقة ما ، لكنه ما أن وصل إلى النافورة التي في مركز المدينة ، حتى فتح باب القفص ، وباستغراب سمعته يقول تلك الكلمات التي وقعت على راسي كالصاعقة :
ـ ما أجمل أن تكتشف نبض الحياة معتمدا ً على قدراتك الذاتية .
لم افهم بسهوله ماذا كان يعني ب ( نبض الحياة ) . لكن مشيئة الله حفزتني صوب تجربتي ، والتي قادتني شيئا ً فشيئا ً إلى نبض حريتي المفقودة .
كانت سيدتي جانيت تبكي هذا الصباح ، وشعرت أنها تمنحني الحب كله حين مسدت على ظهري عدة مرات وهي تقول بحزن : بالله عليك لا تخرج اليوم .
هي تعرف كل شيء عني ، لكني متأكد أنها لا تخمن بما أؤمن، وكيف أن الله يقدر مصائر مخلوقاته . لذلك ما أن انصرفت حتى تسللت إلى الحديقة ومنها إلى دفء إسفلت الشارع ، من يراني يتوقع أن طبيعتي بدأت تميل صوب العناد ، لا ، في الحقيقة ، كنت أهرب من الرائحة المنبعثة من الكلب والخنزير .
كنت يقظا ً ، منتبها ً لصوت أية سيارة قادمة ، متنعما ً بذلك الدفء ، ممعنا ً النظر إلى السماء البعيدة ، ومندهشا ً بالفراشات التي تملأ الحقل المجاور ، حلاوة الشمس وسقوط أشعتها دفعاني أن أغلق حواسي لثوانِ ، كم لذيذ أن نعيش لحظة الخدر هذه .
فجأة ً ، وما أن سمعت مكابح السيارة ، حتى انتبهت لما حدث ، وما قدر الله لي .
يا لها من لحظة ، رؤيتي للموت أفزعتني وأجحظت عيني ، التي فتحتها لأفهم ما يجري ، نظرت حولي مذهولا ً مما حدث ، فجأة ً رأيت كتب مدام فرجينيا ، وعلى اليسار التحف الفخارية المدهشة ، بعد جهد جهيد اكتشفت وتأكدت بأني لم ابرح الأريكة الحمراء .حينها أطمأن قلبي وعاد شعري المنفوش إلى سابق عهده ، وشكرت الله لأنه كتب لي عمرا ً جديدا ً .
رأيت سيدتي فرجينيا تدخل الصالة ، من دون أن تعرف أو تتوقع بأني ما أن قفزت عن الإسفلت حتى قذفت في تلك الساقية ، وتلوث فرائي بالمياه الأسنة والأعشاب ، ولكن كيف لي أن أشرح لها بأني قد مت ورجعت إلى الحياة .
ولجت سيدتي صالة الضيوف ، بدأت تتأمل العصافير مرددة ً ما قال بودلير ، بعدها أومأت لي بصحن السيراميك وهي تقول :
ـ تعال يا حبيبي ، علبه السردين لك
وصمتت ، ثم أردفت وهي تضحك
ـ همنغواي ، السمك يقوي الذاكرة يا عزيزي .
28 /7 /2013
نقلا عن موقع الحوار المتمدن