في الثالث من يناير 2002، بعد ثلاثة أيام من دخول اليورو، قررت بالتشاور مع صديقي الهولندي مايكل أن أزور قبر اسبينوزا في منطقة "اودر كيرك" (التي تعنى الكنسية القديمة) جنوب غربي امستردام حيث أعيش منذ ثلاث سنوات. لا أذكر متى سمعت بإسبينوزا لأول مرة أو متى قرأت له شيئاً في اطلاعي اليسير على الفلسفة، كل ما اذكره الآن هو إنني أُعجبت به منذ وقت طويل، وعملت ما بوسعي على البحث على كل ما يعزز تقديري الشديد لإيمانه العميق بتساوي البشر ودفاعه العقلاني السديد عن فكرته وثباته الشجاع عليها وعثرت على الكثير منه.
وصلنا الى اودر كيرك مشياً على الأقدام خلال ثلاث ساعات قطعنا خلالها حوالي ستة عشر كيلومترا بمحاذاة نهر امستل الذي ينحنى خمسة انحناءات نصف دائرية في تلك المسافة القصيرة نسبياً. خيل لي ونحن نسيرعلى الثلج المتيبس فوق الاعشاب في برودة وصلت الي ستة درجات مئوية تحت الصفر، أنا القادم من رمال الصحراء المغلية، خيل لي أننا نسير في دائرة نعود فيها لحيث بدأنا كل مرة، ضحك مايكل لهذه الخاطرة التي أفصحت عنها وقال: "الأنهار الدائرية لم تُخترع بعد .. يبدو أنك تعبت"، " لم أتعب"، قلت، "لكن أصابعي توشك أن تتجمد". "أنا أيضاً"، قال لي، وأخرج من حقيبته التي لا تفارق ظهره قفازين صوفيين لبس أحدهما في يده اليسرى وناولني الآخر فلبسته في يسراي أيضا لأني أستعين باليمنى على التدخين.
ـ بقيت حوالي ثلاثة كيلومترات فقط،
قال مايكل بعد أن تأمل واحدة من الخرائط التي نادراً ما تجده لا يحمل احداها وأضاف:
- لم يكن مسموحاً بدفن اليهود في امستردام في القرن السابع عشر، كان عليهم أن ينقلوا موتاهم إلى هذه المسافة البعيدة في القوارب عبر المستنقعات والأوحال قبل أن يسلموا للراحة الأبدية.
في طريق العودة استدعيت زيارتي الأولى إلى ضريح الشيخ عبد الله في قرية فرص شمالي قريتنا دبيرة على ضفة النيل الشرقية قرب الحدود المصرية انزعجت لفكرة العودة الي نقطة ما في الماضي كلما اصطدمت بشىء جديد. لا يمكنني الفكاك من هذا العالم المنفصم وهذه المقارنة المضنية منذ أن قدمت إلى هذه البلاد، انقسم العالم بطريقة ما إلى عالمين... هنا وهناك، الى ماكان وما هو كائن، الى مكان كنت فيه وأحلم به الآن ومكان كنت أحلم به وصرت فيه الآن دون أن يرتوي ظمأي من شيء، وأحلم الآن بالذهاب أو العودة لبلاد بعيدة وانا متيقن من خيبتي فيها لن تكون أقل من خيبتي الراهنة.
بنفس هذه الطريقة عدت مساء اليوم الي ضريح الشيخ عبد الله الذي زرته برفقة أمي وجيراننا وأنا في السابعة من العمر، لم أسمع بالشيخ عبد الله قبلها ولا بعدها ولا أعرف ماذا حدث له بعد الطوفان العظيم الذي حل بأهلي بعد ذلك بعام واحد.. فقط أعرف أنني تذوقت هناك أشهي قطعة مانجو لأول مرة في حياتي وحضرت أول حولية و ليلة ذكر، لم أفهم المدائح ولم استسغها لكنني استمتعت بالليلة وظلت تراودني كحلم ولم تفارق ذاكرتي حتى اليوم وأنا في منتصف الاربعينات من العمر في هذه الليلة الباردة وانا أنتظر البص مع مايكل خارج قرية اودر كيرك.
منذ أكثر من عام وأنا أتمشى في الطبيعة خارج المدينة مرة كل شهر مع عدد من الأصدقاء الهولنديين ليوم كامل، أصبحت استمتع بهذه العادة الدخيلة علي، بالرغم من اننا لا نمشي هناك مثل هذه المسافات إلا لمقتضيات الضرورة القصوى.
في النزهة الرياضية السابقة وعقب حوار طويل عن أوربا عصر التنوير، اقترح مايكل، المختص في الفلسفة، أن نتمشى المرة القادمة إلى نواحي اودر كيرك لنختتم جولتنا بالذهاب الي مقبرة اسبينوزا ووافت بسرور.
عند احدى المنحنيات رأينا قرب ضفة النهر واحدة من حيوانات البوني مربوطة بحبل إلى وتد حديدي وقد أزال من الجليد دائرة نصف قطرها طول الحبل بحثاً عن العشب الاخضر تحتها، لا أعرف ماذا يدعى البوني بالعربية، تكاسلت عن البحث في القاموس وهو على أية حال حيوان يشبه الحصان تماماً غير أن ارتفاعه لا يتجاوز المتر. خيل لي أنه حصان ممسوخ أو قزم "بعيو" كما نقول بالعامية السودانية. رأينا أيضا سرباً من البط الأسود متعثراً على سطح النهر المتجمد كمرآة أسطورية تلمع تحت شمس الشتاء التي لا حول لها ولا قوة. ورأينا حظائر أبقار تشبه مخازن محالج القطن، لا بد انها تكتظ بعشرات الأبقار. قلت لمايكل
ـ ماذا يطعمونها في هذا الطقس البارد، قال لي:
ـ من الواضح انها لا تتضور جوعاً، لا تقلق بشأنها، يستطيع الذين حولوها الى آلات تدر مئات اللترات من اللبن يومياً أن يتدبروا أمر إطعامها.
وحكى أنه حدث قبل سنوات أن استخدم نوع من نباتات الأعلاف المعالجة وراثياً لتغذية الأبقار سبب لها اضطرابات هضمية جماعية تمثلت في غازات فظيعة وأن بعضاً من مكونات هذه الغازات كانت قابلة للاشتعال وأحدثت انفجارات مدوية في حظائر دخل اليها فلاحون حمقي بغلايينهم المشتعلة. ضحكت وصدقت مايكل، الذي غالبا ما يشير الى مصادره بدقة حتى لو روى طرفة كهذه، لكنني قلت لنفسي انها قد تكون من مبالغات أنصار البيئة الذين يشنون حملات متعصبة ولا هوادة فيها ضد كل ما هو معالج وراثياً.
حدثني مايكل بعد ذلك عن انه يعتقد أن اسبينوزا هو أنجب تلاميذ محيي الدين بن عربي وتأثيرات الصوفية اليهودية على مجمل الفكر الصوفي بما في ذلك التصوف العلماني الحديث. أسرعنا في المشي وقد بدأت ملامح القرية تتضح قليلا تتوسطها الكنيسة الضخمة بقرميد سقفها الأحمر الغامق وطرقاتها المقوسة وسألنا أحد المارة عن الطريق إلى المقبرة اليهودية وتهيأت لها بذاكرة متحفزة وحب استطلاع ورثته منذ أن خرجنا من الصف الثاني في المرحلة الأولية حاملين خارطة قريتنا بحثا عن الكنز الذي دفنه المعلم في الليلة السابقة والزيارات الأولي إلى المعالم المجاورة لقريتنا التي ترقد الآن تحت آلاف الأطنان من الطمي أسفل بحيرة النوبة.
دخلنا المقبرة من بابها الخلفي الذي يعلوه لافتة قديمة مرفوعة على عمودين مستقلين /مقبرة الجالية اليهودية البرتغالية بأمستردام/ مشينا بين صفين من القبور الأسمنتية التي ترتفع عن الارض بمقدار نصف متر تقريباً وهي جميعاً مسطحة وليس عليها شواهد عمودية كما توقعت، معظمها في الناحية التي كنا نسير فيها مغطاة بأغطية قماشية مقواة بالبلاستك لا ينفذ منها الماء، قدرت انها لحماية نقوش المقابر أما الموتى أنفسهم فسيحميهم الله. كنت أتساءل كيف سنتعرف على قبر اسبينوزا في زحام هؤلاء الموتى، فكرت في طرح السؤال بلهجة مرحة لكنني امتنعت فجأة. للمقابر، في آخر الأمر، جلالها ورهبتها حتى في مثل هذه الزيارات. صحيح إننا خرجنا للرياضة والنزهة لكنه يبدو ان نهايتها في قبر اسبينوزا أكسبها طابعاً طقسياً شبه ديني، وها نحن نقترب من فليسوف علماني عقلاني بهذه الطريقة الطقوسية كثيفة الدلالة.
في الطريق كان مايكل قد سألني: كثيراً ما أشعر بان هناك قدراً من الدين مخبأَ في مكان ما داخلي ... ماذا عنك؟
قلت له بعد صمت لم أتوصل خلاله إلى رد جيد: "ربما كنت مثلك ...، لكنني لست متديناً ولم أعد شديد الحماس لأية قضية ولم أفكر في نفسي إلا كإنسان والسلام ... علي أية حال فإنني احتمي بالعقلانية بشكل ديني أيضاً.. وأتفادى، ما أمكن، كل ما يمكن أن يمسني فيها ... أفرغ طاقاتي اللاعقلانية في الشعر والفكاهة وهما يكفيانني.
ضحك لفكرة الطاقات اللاعقلانية وتماحكنا فيها قليلا ...
وصلنا إلى فاصل خشبي قليل الارتفاع يفصل جزءً آخر من المقبرة التي تحتل حوالي ثلاثة أفدنة من الأرض، ثمة بوابة خشبية عليها لافتة صغيرة تقرأ /غير مسموح بدخول الكوهانيم/
- من هم الكوهانيم يا مايكل ؟
- لا أدري ... لكننا سندخل.. أستطيع أن افترض اننا لسنا كوهانيم
- لماذا ..؟
- مجرد حدس .. اظن اننا لا نبدو كالكوهانيم... ثم اننا لسنا اتقياء للحد الذي نطيع فيه مثل هذه الأوامر.
دخلنا إلى هذا الجزء الذي كان مخبأ وسط صف طويل من الأشجار العالية المستقيمة الجذوع التي طالما حسدت الأوربيين عليها، وهو الجزء الحديث من المقبرة كما علمت فيما بعد من الخارطة المعلقة عند البوابة الرئيسية. القبور هنا معظمها مغطاة بالرخام الاسود الفاتح ومكتوب عليها بالهولندية والعبرية او اليديشية وهى مرتفعة قليلاً عند احد الطرفين، افترضت انها جهة الرأس، لكن يبدو ان سبب الارتفاع عملي ودنيوي هو تسهيل ازالة الثلج منها. ضربت أقربها مني ضربتين بقدمي ضحك مايكل وسألني
- هل تختبر قوتها؟
- لا ... انفض الثلج عن حذائي .. اشعر بالبرد في أصابع قدمي.
وقفت عند مقبرة نعيم عزرا، خمسة أسطر بالانجليزية تقول / الزوج الوفي والأب الكريم والجد العطوف، العراق 1921 – 1975 ، هولندا 1975 – 1980/، خمس سنوات فقط في هولندا ربما لذلك كانت الكتابة على قبره بالانجليزية وليست بالهولندية لغة البلاد ولا العبرية (اليديشية) لغة اللاهوت اليهودي ولا البرتغالية لغة أصحاب المقبرة الأصليين ولا العربية التي تحدثها معظم سنى عمره، لا يهم الرب يتحدث جميع اللغات والانجليزية مفهومة لمعظم الزوار.
مضينا منه الي نصب أكبر وأكثر فخامة مكرس نصب لضحايا سنوات الاحتلال الألماني من اليهود دون تفصيلات إضافية أخرى. كان من العبث البحث في كل هذه المقابر واحدة تلو الأخرى وبدأت نذر عاصفة ثلجية تلوح في الأفق، فقررنا المغادرة بالباب الرئيسي الذي يقع على الطرف الآخر. عند منتصف الناحية الغربية، مررنا على معبد أو مكان للصلاة يتكون من غرفة كبيرة وأخرى صغيرة جداً تلاصقها. الغرفة الكبيرة معدة للصلاة بكنبات خشبية طويلة وصلدة تشبة مقاعد قطارات الدرجة الرابعة القديمة في السودان. تتدلى من سقفها شمعدانة زجاجية صغيرة نسج عليها عنكبوت جريء.
المفاجأة الكبيرة انتظرتنا قرب الباب حيث اللافتات التوضيحية الكبيرة أكبرها وأقدمها يقول / هذه المقبرة ملك للجالية الاسرائيلية البرتغالية في أمستردام افتتحت في 29 مايو 1614/ وأخرى متوسطة تقرأ /نذكر بعرفان مساهمات المؤسسات التالية في الحفاظ على هذه المقبرة، بلدية امستردام، مؤسسة الأمير برنارد الثقافية، صندوق المعاشات بشمال هولندا، جمعية حماية التراث الثقافي الخ ../ وتالثة أصغر قليلاً وأكثر أهمية تنص بخط أصغر على/ هذه المقبرة مشهورة على نطاق العالم بنقوشها الجميلة على الرخام وتضم رفات العديد من المشاهير منهم سفراء العائلتين المالكتين في السويد وتركيا، وأطباء و أصدقاء الرسام المعروف رامبرانت وأخيراً وليس آخراً والدَي الفيلسوف المشهور باروخ اسبينوزا/
اكمل مايك ترجمة اللافتة من الهولندية الي الانجليزية ... اشعل سيجارة وقال بابتسامة خفيفة
- اذن اسبينوزا ليس مدفونا هنا ... هنا رفات والديه فقط
لم أجد ما أقول شعرت بدهشة ومفارقة، بدا لي أن مايكل شعر بخيبة أمل ما، قلت
- استمتعنا بجولتنا على طول النهر ودخلنا إلي المقبرة كمعلم ثقافي كما أراد له الذين يشرفون عليه، ماذا كان سيتغير اذا كان مدفونا هنا ...
- كان علينا ان ندرك ذلك من البداية
- ندرك ماذا
- انه من غير المعقول ان يدفن هنا
- لماذا ؟
- لقد طرد من الكنيسة اليهودية بتهمة الهرطقة لارائه ... أعتقد انه مات مطرودا من الديانة
- يالها من مفارقة الهاربون من الاضطهاد الديني في البرتغال الي هولندا يضطهدون واحداً من أميز فلاسفة التسامح من أبناء جلدتهم.
مضينا الي محطة الباص صامتين ... باروخ اسبينوزا رددت الاسم في سري عدة مرات ... رن جرس داخلي .. الاسم الأول... باروخ ... نفس اسم الشخص الذي قتل عشرات المصلين في المسجد الاقصى قبل سنوات قليلة ... ترى هل سماه أبوه تيمنا بنبي التسامح اسبينوزا .. تذكرت ان أحد أعز أصدقائي أيضا يسمى أسامة.
وصل البص.
وصلنا الى اودر كيرك مشياً على الأقدام خلال ثلاث ساعات قطعنا خلالها حوالي ستة عشر كيلومترا بمحاذاة نهر امستل الذي ينحنى خمسة انحناءات نصف دائرية في تلك المسافة القصيرة نسبياً. خيل لي ونحن نسيرعلى الثلج المتيبس فوق الاعشاب في برودة وصلت الي ستة درجات مئوية تحت الصفر، أنا القادم من رمال الصحراء المغلية، خيل لي أننا نسير في دائرة نعود فيها لحيث بدأنا كل مرة، ضحك مايكل لهذه الخاطرة التي أفصحت عنها وقال: "الأنهار الدائرية لم تُخترع بعد .. يبدو أنك تعبت"، " لم أتعب"، قلت، "لكن أصابعي توشك أن تتجمد". "أنا أيضاً"، قال لي، وأخرج من حقيبته التي لا تفارق ظهره قفازين صوفيين لبس أحدهما في يده اليسرى وناولني الآخر فلبسته في يسراي أيضا لأني أستعين باليمنى على التدخين.
ـ بقيت حوالي ثلاثة كيلومترات فقط،
قال مايكل بعد أن تأمل واحدة من الخرائط التي نادراً ما تجده لا يحمل احداها وأضاف:
- لم يكن مسموحاً بدفن اليهود في امستردام في القرن السابع عشر، كان عليهم أن ينقلوا موتاهم إلى هذه المسافة البعيدة في القوارب عبر المستنقعات والأوحال قبل أن يسلموا للراحة الأبدية.
في طريق العودة استدعيت زيارتي الأولى إلى ضريح الشيخ عبد الله في قرية فرص شمالي قريتنا دبيرة على ضفة النيل الشرقية قرب الحدود المصرية انزعجت لفكرة العودة الي نقطة ما في الماضي كلما اصطدمت بشىء جديد. لا يمكنني الفكاك من هذا العالم المنفصم وهذه المقارنة المضنية منذ أن قدمت إلى هذه البلاد، انقسم العالم بطريقة ما إلى عالمين... هنا وهناك، الى ماكان وما هو كائن، الى مكان كنت فيه وأحلم به الآن ومكان كنت أحلم به وصرت فيه الآن دون أن يرتوي ظمأي من شيء، وأحلم الآن بالذهاب أو العودة لبلاد بعيدة وانا متيقن من خيبتي فيها لن تكون أقل من خيبتي الراهنة.
بنفس هذه الطريقة عدت مساء اليوم الي ضريح الشيخ عبد الله الذي زرته برفقة أمي وجيراننا وأنا في السابعة من العمر، لم أسمع بالشيخ عبد الله قبلها ولا بعدها ولا أعرف ماذا حدث له بعد الطوفان العظيم الذي حل بأهلي بعد ذلك بعام واحد.. فقط أعرف أنني تذوقت هناك أشهي قطعة مانجو لأول مرة في حياتي وحضرت أول حولية و ليلة ذكر، لم أفهم المدائح ولم استسغها لكنني استمتعت بالليلة وظلت تراودني كحلم ولم تفارق ذاكرتي حتى اليوم وأنا في منتصف الاربعينات من العمر في هذه الليلة الباردة وانا أنتظر البص مع مايكل خارج قرية اودر كيرك.
منذ أكثر من عام وأنا أتمشى في الطبيعة خارج المدينة مرة كل شهر مع عدد من الأصدقاء الهولنديين ليوم كامل، أصبحت استمتع بهذه العادة الدخيلة علي، بالرغم من اننا لا نمشي هناك مثل هذه المسافات إلا لمقتضيات الضرورة القصوى.
في النزهة الرياضية السابقة وعقب حوار طويل عن أوربا عصر التنوير، اقترح مايكل، المختص في الفلسفة، أن نتمشى المرة القادمة إلى نواحي اودر كيرك لنختتم جولتنا بالذهاب الي مقبرة اسبينوزا ووافت بسرور.
عند احدى المنحنيات رأينا قرب ضفة النهر واحدة من حيوانات البوني مربوطة بحبل إلى وتد حديدي وقد أزال من الجليد دائرة نصف قطرها طول الحبل بحثاً عن العشب الاخضر تحتها، لا أعرف ماذا يدعى البوني بالعربية، تكاسلت عن البحث في القاموس وهو على أية حال حيوان يشبه الحصان تماماً غير أن ارتفاعه لا يتجاوز المتر. خيل لي أنه حصان ممسوخ أو قزم "بعيو" كما نقول بالعامية السودانية. رأينا أيضا سرباً من البط الأسود متعثراً على سطح النهر المتجمد كمرآة أسطورية تلمع تحت شمس الشتاء التي لا حول لها ولا قوة. ورأينا حظائر أبقار تشبه مخازن محالج القطن، لا بد انها تكتظ بعشرات الأبقار. قلت لمايكل
ـ ماذا يطعمونها في هذا الطقس البارد، قال لي:
ـ من الواضح انها لا تتضور جوعاً، لا تقلق بشأنها، يستطيع الذين حولوها الى آلات تدر مئات اللترات من اللبن يومياً أن يتدبروا أمر إطعامها.
وحكى أنه حدث قبل سنوات أن استخدم نوع من نباتات الأعلاف المعالجة وراثياً لتغذية الأبقار سبب لها اضطرابات هضمية جماعية تمثلت في غازات فظيعة وأن بعضاً من مكونات هذه الغازات كانت قابلة للاشتعال وأحدثت انفجارات مدوية في حظائر دخل اليها فلاحون حمقي بغلايينهم المشتعلة. ضحكت وصدقت مايكل، الذي غالبا ما يشير الى مصادره بدقة حتى لو روى طرفة كهذه، لكنني قلت لنفسي انها قد تكون من مبالغات أنصار البيئة الذين يشنون حملات متعصبة ولا هوادة فيها ضد كل ما هو معالج وراثياً.
حدثني مايكل بعد ذلك عن انه يعتقد أن اسبينوزا هو أنجب تلاميذ محيي الدين بن عربي وتأثيرات الصوفية اليهودية على مجمل الفكر الصوفي بما في ذلك التصوف العلماني الحديث. أسرعنا في المشي وقد بدأت ملامح القرية تتضح قليلا تتوسطها الكنيسة الضخمة بقرميد سقفها الأحمر الغامق وطرقاتها المقوسة وسألنا أحد المارة عن الطريق إلى المقبرة اليهودية وتهيأت لها بذاكرة متحفزة وحب استطلاع ورثته منذ أن خرجنا من الصف الثاني في المرحلة الأولية حاملين خارطة قريتنا بحثا عن الكنز الذي دفنه المعلم في الليلة السابقة والزيارات الأولي إلى المعالم المجاورة لقريتنا التي ترقد الآن تحت آلاف الأطنان من الطمي أسفل بحيرة النوبة.
دخلنا المقبرة من بابها الخلفي الذي يعلوه لافتة قديمة مرفوعة على عمودين مستقلين /مقبرة الجالية اليهودية البرتغالية بأمستردام/ مشينا بين صفين من القبور الأسمنتية التي ترتفع عن الارض بمقدار نصف متر تقريباً وهي جميعاً مسطحة وليس عليها شواهد عمودية كما توقعت، معظمها في الناحية التي كنا نسير فيها مغطاة بأغطية قماشية مقواة بالبلاستك لا ينفذ منها الماء، قدرت انها لحماية نقوش المقابر أما الموتى أنفسهم فسيحميهم الله. كنت أتساءل كيف سنتعرف على قبر اسبينوزا في زحام هؤلاء الموتى، فكرت في طرح السؤال بلهجة مرحة لكنني امتنعت فجأة. للمقابر، في آخر الأمر، جلالها ورهبتها حتى في مثل هذه الزيارات. صحيح إننا خرجنا للرياضة والنزهة لكنه يبدو ان نهايتها في قبر اسبينوزا أكسبها طابعاً طقسياً شبه ديني، وها نحن نقترب من فليسوف علماني عقلاني بهذه الطريقة الطقوسية كثيفة الدلالة.
في الطريق كان مايكل قد سألني: كثيراً ما أشعر بان هناك قدراً من الدين مخبأَ في مكان ما داخلي ... ماذا عنك؟
قلت له بعد صمت لم أتوصل خلاله إلى رد جيد: "ربما كنت مثلك ...، لكنني لست متديناً ولم أعد شديد الحماس لأية قضية ولم أفكر في نفسي إلا كإنسان والسلام ... علي أية حال فإنني احتمي بالعقلانية بشكل ديني أيضاً.. وأتفادى، ما أمكن، كل ما يمكن أن يمسني فيها ... أفرغ طاقاتي اللاعقلانية في الشعر والفكاهة وهما يكفيانني.
ضحك لفكرة الطاقات اللاعقلانية وتماحكنا فيها قليلا ...
وصلنا إلى فاصل خشبي قليل الارتفاع يفصل جزءً آخر من المقبرة التي تحتل حوالي ثلاثة أفدنة من الأرض، ثمة بوابة خشبية عليها لافتة صغيرة تقرأ /غير مسموح بدخول الكوهانيم/
- من هم الكوهانيم يا مايكل ؟
- لا أدري ... لكننا سندخل.. أستطيع أن افترض اننا لسنا كوهانيم
- لماذا ..؟
- مجرد حدس .. اظن اننا لا نبدو كالكوهانيم... ثم اننا لسنا اتقياء للحد الذي نطيع فيه مثل هذه الأوامر.
دخلنا إلى هذا الجزء الذي كان مخبأ وسط صف طويل من الأشجار العالية المستقيمة الجذوع التي طالما حسدت الأوربيين عليها، وهو الجزء الحديث من المقبرة كما علمت فيما بعد من الخارطة المعلقة عند البوابة الرئيسية. القبور هنا معظمها مغطاة بالرخام الاسود الفاتح ومكتوب عليها بالهولندية والعبرية او اليديشية وهى مرتفعة قليلاً عند احد الطرفين، افترضت انها جهة الرأس، لكن يبدو ان سبب الارتفاع عملي ودنيوي هو تسهيل ازالة الثلج منها. ضربت أقربها مني ضربتين بقدمي ضحك مايكل وسألني
- هل تختبر قوتها؟
- لا ... انفض الثلج عن حذائي .. اشعر بالبرد في أصابع قدمي.
وقفت عند مقبرة نعيم عزرا، خمسة أسطر بالانجليزية تقول / الزوج الوفي والأب الكريم والجد العطوف، العراق 1921 – 1975 ، هولندا 1975 – 1980/، خمس سنوات فقط في هولندا ربما لذلك كانت الكتابة على قبره بالانجليزية وليست بالهولندية لغة البلاد ولا العبرية (اليديشية) لغة اللاهوت اليهودي ولا البرتغالية لغة أصحاب المقبرة الأصليين ولا العربية التي تحدثها معظم سنى عمره، لا يهم الرب يتحدث جميع اللغات والانجليزية مفهومة لمعظم الزوار.
مضينا منه الي نصب أكبر وأكثر فخامة مكرس نصب لضحايا سنوات الاحتلال الألماني من اليهود دون تفصيلات إضافية أخرى. كان من العبث البحث في كل هذه المقابر واحدة تلو الأخرى وبدأت نذر عاصفة ثلجية تلوح في الأفق، فقررنا المغادرة بالباب الرئيسي الذي يقع على الطرف الآخر. عند منتصف الناحية الغربية، مررنا على معبد أو مكان للصلاة يتكون من غرفة كبيرة وأخرى صغيرة جداً تلاصقها. الغرفة الكبيرة معدة للصلاة بكنبات خشبية طويلة وصلدة تشبة مقاعد قطارات الدرجة الرابعة القديمة في السودان. تتدلى من سقفها شمعدانة زجاجية صغيرة نسج عليها عنكبوت جريء.
المفاجأة الكبيرة انتظرتنا قرب الباب حيث اللافتات التوضيحية الكبيرة أكبرها وأقدمها يقول / هذه المقبرة ملك للجالية الاسرائيلية البرتغالية في أمستردام افتتحت في 29 مايو 1614/ وأخرى متوسطة تقرأ /نذكر بعرفان مساهمات المؤسسات التالية في الحفاظ على هذه المقبرة، بلدية امستردام، مؤسسة الأمير برنارد الثقافية، صندوق المعاشات بشمال هولندا، جمعية حماية التراث الثقافي الخ ../ وتالثة أصغر قليلاً وأكثر أهمية تنص بخط أصغر على/ هذه المقبرة مشهورة على نطاق العالم بنقوشها الجميلة على الرخام وتضم رفات العديد من المشاهير منهم سفراء العائلتين المالكتين في السويد وتركيا، وأطباء و أصدقاء الرسام المعروف رامبرانت وأخيراً وليس آخراً والدَي الفيلسوف المشهور باروخ اسبينوزا/
اكمل مايك ترجمة اللافتة من الهولندية الي الانجليزية ... اشعل سيجارة وقال بابتسامة خفيفة
- اذن اسبينوزا ليس مدفونا هنا ... هنا رفات والديه فقط
لم أجد ما أقول شعرت بدهشة ومفارقة، بدا لي أن مايكل شعر بخيبة أمل ما، قلت
- استمتعنا بجولتنا على طول النهر ودخلنا إلي المقبرة كمعلم ثقافي كما أراد له الذين يشرفون عليه، ماذا كان سيتغير اذا كان مدفونا هنا ...
- كان علينا ان ندرك ذلك من البداية
- ندرك ماذا
- انه من غير المعقول ان يدفن هنا
- لماذا ؟
- لقد طرد من الكنيسة اليهودية بتهمة الهرطقة لارائه ... أعتقد انه مات مطرودا من الديانة
- يالها من مفارقة الهاربون من الاضطهاد الديني في البرتغال الي هولندا يضطهدون واحداً من أميز فلاسفة التسامح من أبناء جلدتهم.
مضينا الي محطة الباص صامتين ... باروخ اسبينوزا رددت الاسم في سري عدة مرات ... رن جرس داخلي .. الاسم الأول... باروخ ... نفس اسم الشخص الذي قتل عشرات المصلين في المسجد الاقصى قبل سنوات قليلة ... ترى هل سماه أبوه تيمنا بنبي التسامح اسبينوزا .. تذكرت ان أحد أعز أصدقائي أيضا يسمى أسامة.
وصل البص.